ثقافة المجازر في سوريا: ألبومات للموتى

 

روزا ياسين حسن

 

في الثالث عشر من شهر آب 2012 وقعت مجزرة أخرى بحقِّ مدنيين في ريف دمشق. اصطفت رقمًا متسلسلاً في قائمة متطاولة تكاد لا تعرف الختام، ككابوس ممتد. فأمام حاجز لقوات النظام السوري، على الطريق الواصل إلى مدينة "جديدة عرطوز"، قُتل تسعة شبان يستقلون الحافلة التي تأخذهم باتجاه دمشق. أجبروا على النزول من الحافلة، وقُتلوا على مرأى من الناس بسبب هوياتهم الشخصية التي تحمل أسماء عائلاتهم كنبوءة للنهاية. ثم أُخذت جثثهم من أمام الحاجز، وتم رميها كنفايات عند مدخل مدينة "جديدة عرطوز"، تحت قوس البداية تمامًا!! كان منهم ثلاثة شبان من المدينة نفسها، والباقون من المناطق المجاورة مثل "جديدة الفضل" و"المعضمية" وغيرهما.

شهداء "جديدة عرطوز" دفنوا على الفور. البقية ممن لم يستطع أحد التعرُّف إليهم، أو لم يقدر ذووهم على القدوم لأخذهم، بسبب من انقطاع الطرق والاتصالات، فقد التقط لهم أحد شباب "جديدة عرطوز" صورًا بكاميرا هاتفه المحمول، واحتفظ بالصور لديه في ألبوم خاص، أسماه: "ألبوم شهداء القوس"، نسبة إلى مدخل المدينة كقوس حجري، قبل أن تُدفن الجثث المرشَّحة للتحلُّل، بسبب انقطاع الكهرباء والحرِّ الشديد، على عجل.

إلى الهاتف المحمول لذلك الشاب راح أهالي المفقودين يتوافدون. يدلُّهم كل من يُسأل، فقد أضحت الحادثة معروفة للصغير والكبير. كل من اختفى ابنه يأتي ليلقي نظرات على صور القتلى: شهداء القوس. والشاب يعرض الصور بشكل تلقائي كأنه يقوم، مخلصًا، بوظيفته في أرشيف وزارة. لمن تعذَّر عليه التدقيق في صور القتلى كان الشاب يساعده في تذكر لون ملابسهم أو أحذيتهم أو ساعاتهم أو علامات أخرى. في إحدى المرات لم تعرف أم أحد الشهداء، القادمة من "جديدة الفضل"، ابنها.

-       "يبدو وجه الموتى غريبًا حتى عن أحبابهم!!".

علَّق الشاب. لكنه عرف ابنها القتيل من فوره حين ألقى نظرة على صورته حيًا، صورة مخبَّأة في صدر أمه بين طيات ملابسها، وبمقارنة سريعة تأكد بأنه ابنها المفقود، هو ذاك القتيل الذي تهشَّم نصف وجهه برصاصة قريبة، وكان يرتدي بنطال جينز وتي شيرت بلون السماء.

مثل هذه الحالة ستصادفها كثيرًا في سوريا اليوم، بتمظهرات مختلفة وتفاصيل متباينة. ربما هي محاولات للوقوف في وجه النسيان! أن نوثِّق الموت كأنه جزء رئيسي من حياتنا، نحفره في ذاكرتنا، أو في أي ذاكرة بديلة كذاكرة هاتف محمول!! لكن هذه الذاكرة المقيمة ضد النسيان، الذي نخشاه، تتحوَّل إلى ذاكرة معتادة مع الزمن، كمن يعلِّق صورة متوفى في غرفته فيتآلف مع وجودها، ويتحوَّل المتوفَّى ليغدو صورته. اعتياد الموت يجعلنا نتحوَّل إلى موتى أحياء.

في سوريا اليوم، ينتشل شباب المناطق المقصوفة الجثث يوميًا كمن يحمل أكياس قمح. بالحماسة ذاتها والاعتياد ذاته. هذا لا يعني أن الألم انتفى، أبدًا، ولكنه أضحى ألمًا معتادًا، نتعايش معه. يرتكسون تجاه العثور على المجازر كإرتكاساتهم تجاه الهول اليومي الذي يعيشونه: اعتياد. قبل مدة ليست بطويلة التقيت بشاب من مدينة داريا، وهي مدينة في ريف دمشق، حدَّثني عن برَّاد كبير لنقل الفواكه والخضار وجدوه بجانب الفرن الآلي في المدينة، كان متروكًا إلى جانب الطريق كهدية من الشيطان بعد المجزرة الفظيعة التي حدثت هناك بين 20 و27 آب المنصرم. كان لهفًا وهو يحدثني عن اكتشاف ما فيه: "34 جثة، منها 28 جثة لرجال و3 نساء و3 أطفال، منهم طفلة بدون ساق ورضيع عمره أشهر وطفل لا يتجاوز عمره 11 سنة من مختلف أنحاء داريا". ثم أردف بنبرة تجمع الاعتداد بالألم والخوف:

-       "كنت ممن حمل جثثهم ونقلها... وانظري هذا هو الفيديو...".

وحالما أنهيت مشاهدة الفيديو نقلني إلى فيديو آخر يُظهر جثثًا مصطفة بجانب بعضها البعض يكاد لا يظهر آخرها، ورجل يحمل خرطوم مياه ويغسل الدماء وآثار الحرق وتراكم الموت عنها.

-       "لم يعد ثمة متسع من الوقت لنغسل كل جثة على حدة، صرنا نغسلهم مجتمعين... تعرفين 750 شهيدًا في داريا خلال أسبوع... رقم مهول".

ولدهشتي فقد شاهدت الفيديوهات كلها وأنا متماسكة. كما شاهدت فيديوهات لمقتل عواينية وشبيحة في الحجر الأسود بالتماسك ذاته، ولم أخفِ ارتياحي. إذًا من حيث أراد النظام أن يقمع الثورة بالعنف الشديد، راحت الثورة تنتج عنفها المضاد، وهذا أمر متوقع. وهذا العنف تبدى بالدرجة الأولى في دواخلنا نحن السوريين: اعتياد المجازر، ودخول الموت في تفاصيل الحياة اليومية كثقافة متراكمة. فهذا الشاب الديراني كان يدرس في الجامعة حين بدأت الثورة، ولأنه لم يحمل السلاح، ككثير من ثوار داريا السلميين، تحوَّل مع الوقت إلى منتشل جثث، وموثِّق للقتلى والمجازر وذاكرة الفظاعة في المنطقة. كان يُري الفيديو ذاك لكل قادم. ويحرص على نشر كل ما يصوِّره، ورفاقه، على المواقع الإلكترونية. في النهاية أبدى حزنه وانزعاجه لأن ذاك الحساب الإلكتروني تم حظره من إدارة الفيسبوك بسبب ما نشره عن جثث محروقة مشوَّهة في داريا!!

هل هي محاولات لاواعية للتكيُّف مع موتنا اليومي!! أم محاولات للاستمرار وسط الجحيم! أم هي بوادر لتبلُّد إحساسنا بالموت كما حصل مع أوروبيي الحرب العالمية، وهم يرمقون الجثث المشلوحة في الشوارع ويكملون طريقهم. وربما كانت محاولات للبقاء على قيد الفاعلية بالنسبة إلى مدنيي الثورة، فالتصالح مع الموت، وتقديم ما يمكننا له، جزء من طقوس العمل في ثورة سوريا التي تدفع كل يوم مئات المدنيين كقرابين.

قبل شهور قليلة حصلت حادثة لا أعتقد أن من السهل نسيانها، فقد قُتل شاب من مدينة سقبا في مدينة جرمانا، وهما مدينتان في ريف دمشق، ردًا على قتل أحد رجال اللجان الشعبية هناك بيد رجل من سقبا (حسب الرواية المتداولة). ووسط سعار العنف الذي يسود ألقى بعض المجرمين القبض على شاب سقباوي، لا علاقة له بالجريمة ألَّلهم إلا أنه من بلد القاتل، وتم قتله في الساحة الرئيسية في مدينة جرمانا. درزت بطنه بالطلقات واندلقت أحشاؤه على الإسفلت أمام المارة. وكان للحادثة وقع الصاعقة في مدينة مازالت بمنأى، نوعًا ما، عن أعمال العنف الشديدة من قبل النظام، قبل أن تبدأ سلسلة التفجيرات المتتالية فيها.

تلك الجريمة التي حصلت تحت الشمس، على مسمع ومرأى رجال الأمن، ليست بيت القصيد هنا، بل بيت القصيد هو أن الفيديو المصوَّر عن الجريمة، بحذافيرها، انتشر خلال ساعات في عموم المدينة، وانتقل من ثم إلى خارجها. وبقي الناس أيامًا قادمة يقدِّمون الفيديو للزائر مع القهوة، ويتساءلون بعد إلقاء السلام إن كان قد رأى الفيديو! فإن كان جوابه النفي يقحمون الهاتف الخليوي في وجهه ليراه مرفقًا بنظرة يشوبها الفخر.

هل هو نوع من معرفة المعلومة وسط غياب لمصداقية الخبر ما جعل أهل جرمانا يفعلون ذلك، وضياع بين إعلام السلطة وإعلام معارضة؟! أو هو نوع من توثيق للحقيقة لن توثق إلا بفيديوهات تتحرَّك فوق أجساد يحتلها الموت؟!

إنه حال خطير ينبغي أن نفكر فيه بجدية. هل تصالح السوريون مع الموت، اعتادوه وأصبح جزءًا من حياتهم اليومية. هل أضحى العنف تفصيلاً طبيعيًا من تفاصيل حياتنا؟! لا نستهجنه، لا نشمئز منه، ونسوِّغه في بعض الأحيان، وكأن النظام السوري استطاع أن ينقل لنا جزءًا من عنفه الشرس الذي يطبقه منذ سنة ونصف على أرواحنا.. هل كل هذا ما جعل ابني يأتي إلى البيت يومًا وهو يحمل مجموعة من فوارغ الرصاص التي راح ورفاقه يلعبون بها بدل الدحاحل. كان قادمًا وفي وجهه فخر مضمر لأنه استطاع أن يربح كمية إضافية من فوارغ الرصاص الجديدة!! أما الدحاحل الملونة المستديرة بلطف فقد أضحت طيَّ النسيان! وينظر إليها نظرة استخفاف وشفقة!!

ملاحظة لابد منها: كتابتي هذه جزء لا يتجزأ من ثقافة المجازر التي أتكلَّم عنها، اعتياد الكتابة عن الموت كاعتياد رائحة الجثث وحملها وغسلها وتكفينها. ثقافة واحدة تلك التي تؤسس في دواخلنا اليوم نحن السوريون، وكم سنبذل من جهود كي نظف أرواح أطفالنا منها، كي يستطيعوا بناء سوريا الجديدة تلك التي يحلم الجميع بها.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود