الصفحة السابقة             الصفحة التالية

غاندي المتمرد 8: الهدنة

 

جان-ماري مولِّر

 

بتاريخ 11 تشرين الأول/أكتوبر 1930، غادر جواهرْلال نِهْرو سجنَ نيني Naini بعد أنْ قضى فيه فترةَ حُكْمِه. فسيستغل بضعةَ أيام من الحرية ستعطيها السلطةُ له في فتح جبهة مقاومة جديدة. فهو يعي ضرورةَ إعادة إعطاء ديناميكية جديدة لعمل العصيان المدني. ولأجل هذا، يريد السعيَ لتعبئة جماهير الفلاحين. فالإضراب على الضرائب كان قد بدأ أصلاً في غوجارات Gujarat. وكان نهرو يريد تنظيمَه في الأقاليم الاتِّحادية. مع ذلك، كان هناك صعوبة: ففي هذه المنطقة لم يكن الفلاَّحون يدفعون الضريبةَ مباشرةً للدولة، بل لكبار المَلاَّكين الذين كانوا يقومون بدَور الجُباة. ولمحاولة تفادي هذه الصعوبة، قرَّرَ نِهْرو وقادةُ حزب المؤتمر المحليين أنْ يطلقوا دعوةً للإضراب على الضرائب بحيث تكون هذه الدعوةُ موجَّهةً للفلاحين وللمَلاَّكين في آن واحد. فدَعوا بهذا الشأن إلى عقد مؤتمر لممثلي فلاحي المنطقة. حيث جرى بتاريخ 19 تشرين الأول/أكتوبر. وبكل حماسٍ قرَّر المندوبون الحاضرون الذين بلغَ عددهم السِّـتَّـمِئةَ والألف الإضرابَ على الضرائب. واعتُقِلَ نهرو من جديد عند خروجه من المؤتمر وسيقَ ثانيةً إلى سجن نيني. وجرت محاكمتُه بتاريخ 24 تشرين الأول/أكتوبر وحُكِمَ عليه بالسجن لمدة سنتين حكمًا مشدَّدًا لقاءَ تُهمتَينِ هما إثارةُ الفتنة وخَرْقُ قانونِ المِلْح. غيرَ أنَّ سجن نِهْرو أثارَ تعبئةً شعبيةً قوية للفلاحين وأعطى على نطاق واسع دفعًا جديدًا لحركة العصيان المدني. ففي يوم ميلاده الذي يصادف تاريخَ 14 تشرين الثاني/نوفمبر نُظِّمَت لقاءاتٌ في جميع أنحاء الهند واعتُقِلَ في ذلك اليوم ما يقاربُ 5000 شخص.

وكما توقَّعَ قادةُ حزب المؤتمر فقد دفعَ أغلبُ الملاَّكين ضرائبَهم، لكن المزارعين الذين اتَّبعوا تعاليمَ الإضراب كانوا كثيرين[1].

خلال ذلك الوقت، حقَّقَت مقاطعةُ البضائع البريطانية نجاحًا واسعًا. فقد قرَّر معظمُ أصحاب المتاجر من تلقاء أنفسهم عدمَ شراء السِّلَع المستورَدة من بريطانيا العظمى. ففي خريف عام 1930، تراجعَت وارداتُ القماش القطني بنسبة أكثر من الثلثين مقارنةً بأشهُر السنة الماضية. وازداد إنتاجُ القماش المغزول والمنسوج يدوياً بنسبة 70%.

وفي الأشهر الأخيرة من عام 1930، يرى تيرا شاند Tira Chand أنَّ "الحركة نجحَت نجاحًا كبيرًا في بلوغ هدفين في آن واحد هما رفع المكانة المعنوية للشعب والقضاء على النفوذ السياسي للحكومة[2]".

اجتمعَ المؤتمرُ الأول للطاولة المستديرة في لندن بتاريخ 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1930. حيث لم يشاركْ فيه أيُّ ممثل من حزب المؤتمر وسيطرَ على الوفد الهندي الأمراءُ والأعيانُ المستعِدُّون للتفاوض على تسوية مع بريطانيا العظمى. فيما يخصُّ الوضعَ الدستوري المستقبلي للهند، توصَّلَ المندوبون إلى اتفاق على ضرورة قيام اتِّحاد يضمُّ جميعَ المناطق وعلى إدراج نظام محدود للمسؤولية الحكومية، ولكنْ أيضًا على المحافظة على بعض السيطرة الإنكليزية[3]. خلال الجلسة الختامية التي عُقِدَت بتاريخ 19 كانون الثاني/يناير 1931، صرَّحَ رئيسُ الوزراء العضو في حزب العمال، رامساي ماكدونالد Ramsay MacDonald، قائلاً: "إذا كان هناك على المدى المتوسط استجابةٌ للنداء الذي وجَّهَه نائبُ الملك إلى المنخرطين اليومَ في العصيان المدني وإذا رغبَ آخرون التعاونَ على أساس الخطوط العامة لهذا التصريح فهناك ترتيباتٌ ستُتَّخَذ للتأكد من تعاونهم[4]."

لا شك في أن نتائج مؤتمر الطاولة المستديرة لم تأخذْ في الحسبان مطلبَ حزب المؤتمر القاضي باستقلال الهند التام. مع ذلك، فقد اعترفَت النتائجُ بمبدأ الاستقلالية الحكومية فشكَّلَت انفتاحًا في هذه النقطة. بتاريخ 21 كانون الثاني/يناير 1931، عنْوَنَت جريدةُ جنيڤ افتتاحيَّتَها كما يلي: "نجاح الطاولة المستديرة". وترى أن أحد العوامل التي ساعدَت على هذا "النجاح" كان حضور عدة نساء في الوفد الهندي كنَّ سفيراتِ الحركة التي يديرها غاندي لدى الرأي العام البريطاني على الرغم من أنهنَّ لم يكنَّ أعضاءً في حزب المؤتمر. فهنَّ بصورة خاصة اللواتي لا بد أنْ يكنَّ قد أثَّرْنَ على القائد المحافظ اللورد ريدينغ Lord Reading الذي كان هو نفسُه نائبَ الملك لبلاد الهند منذ عام 1921 حتى 1926 كي يتخلَّى عن عدائيته تجاه أية سياسة تحررية:

لقد قيل إنَّ "اللورد ريدينغ قد دُهِشَ بصورة خاصة بالخطابات التي ألقَتها بعضُ النساء الشابات في الطاولة المستديرة. مثلُ هذه الواقعة التي لا بد أنها كانت تفوق التصورَ في ذاك العصر قد أوحت إلى اللورد ريدينغ ضرورةَ اتِّخاذ سياسة جديدة. (...)

هؤلاء «الأميرات» الهندوسياتُ قد غزَونَ بسحرهنَّ مجتمعَ لندن الأكثر محافظةً. وجعلْنَ من الطاولة المستديرة حدثَ المجتمع. عندما رأى الناسُ هؤلاء النساءَ المتوشِّحاتِ بجلابيبَ رائعةٍ والمزينات بالحِلِيِّ رأوهنَّ في الصالونات التي كانت تتخاطفهنَّ وعندما سمعوهنَّ يحكون عن إخْوتهنَّ أو أخَواتهنَّ الذين سُجنوا لخرقهم ضريبةَ المِلْح أو لجلوسهم على قارعة الطرقات لإيقاف حركة السير، عند ذلك فهِمَ الناسُ في لندن أنَّ الوطنية الهندوسية لم تكنْ، كما ظنوها لفترة طويلة، مجرَّدَ اضطراب شيوعي.

كذلك أوضحَ، على الأقل بصورة جزئية، المقالُ الطريفُ جدًا لصحيفة التايمز Times الذي قال منذ فترة قريبة للمحافظين: «لديكم مخاوفُ وارتباكاتٌ؟ وكذلك نحن أيضًا. ومَن الذي ليس لديه مخاوفُ وارتباكاتٌ؟ لكنَّ المخاوفَ والارتباكاتِ في ظروف كهذه تُعَدُّ إخفاقًا وليست سياسةً؛ يجب معرفةُ تحَمُّـل المسؤوليات.»

كانت أحاديثُ رئيس الوزراء البريطاني خلال الجلسة الختامية لمؤتمر الطاولة المستديرة تشكِّل دعوةً لحزب المؤتمر للمشاركة في تتمة أعمال المؤتمر. في الواقع، أدركَت حكومةُ لندن أنها غير قادرة على السيطرة على الوضع بدون أنْ تقبلَ بالتفاوض مباشرةً مع قادة حزب المؤتمر فطلبَت إلى نائب الملك أنْ يطلقَ سراحَهم. بتاريخ 26 كانون الثاني/يناير 1931، قرَّر اللورد إيروين إطلاقَ سراح غاندي وأعضاء لجنة حزب المؤتمر التنفيذية. حيث أكَّد إذْ ذاك في بلاغ صحفي قائلاً:

لا تضع حكومتي أيَّ شرط لهذا الإفراج عن السجناء، لأننا نعتقد أن الأمل في إحلال السلام يقوم بصورة أساسية على إمكانية إجراء مناقشات مع المَعْنيِّين ضمن شروط حرية تامة. وقد اتُّخِذَ قرارُنا برغبة صادقة في المساهمة في خَلْق شروط تُشجِّع السلامَ. (...) فلا أطلب إلاَّ الوثوقَ بالذين سيكونون مَعْنِيِّينَ بقرارنا لكي يعملوا بالروح نفسها روحِ مَن أوحى بالقرار. وأنا واثق من أنهم سيعترفون بأهمية ضمان نقاش هادئ وبدون انفعال لدراسة هذه المسائل الخطيرة[5].

بتاريخ 26 كانون الثاني/يناير، غادر غاندي سجنَ ييراﭭـدا Yeravda وركب القطارَ من محطة ﭙـونا Poona متَّجهًا إلى مومباي [بومباي] حيث وصل إليها بتاريخ 27 في الساعة 5.45 صباحًا. واستقبلَه فيها حشودٌ قد هتفوا له. وعندما توجَّه إلى الصحفيين تحاشى أنْ يهتفَ بالنصر في حين السلطة البريطانية قد قدَّمَت منذ قليلٍ أكبرَ تنازل بالإفراج عن قادة تمرُّد مفتوح إفراجًا غير مشروط. بل على العكس أراد الإشارةَ إلى وجود مشاكلَ عديدةٍ مازالت تعترض طريقَ السِّلْم المدني:

حيث أعلنَ قائلاً:

أعتقد شخصيًا أنَّ الإفراج فقط عن أعضاء اللجنة التنفيذية يخلق وضعًا صعبًا إلى أبعد حد ويجعل كل عمل من جهتهم شبه مستحيل إنْ لم يكنْ مستحيلاً.

من الجلِيِّ أنَّ السلطاتِ لم تدركْ بعدُ أنَّ الحركة وصلَت إلى درجة مِن الأهمية عند جماهير الناس بحيث سيصبح القادةُ، مهما علا شأنُهم، عاجزين تمامًا عن أنْ يُمْـلُوا على الجماهير الاتِّجاهَ الذي ينبغي عليهم أنْ يعملوا فيه.

وهذا، برأيي، وضعٌ سليم جدًا، لأنَّ استقلال الفكر هو الجوهر نفسُه لروح الديمقراطية. لذلك فإنَّ آلاف الأشخاص الموجودين في مختلف سجون الهند أكثر قدرةً على معرفة ما ينبغي فعلُه من جميع القادة المُفرَج عنهم والمجتمعين.

وبالتالي، في رأيي، إذا أرادوا أنْ يكون للإفراج عن القادة نتيجةٌ فإنه ينبغي الإفراجُ عن جميع المقاومين المدنيين السجناء، وهذا الإفراجُ سيكون بدَورِه بلا نتيجة إذا لم يتوقَّف القمعُ كليًا. (...)

تصنيع المِلْح ومقاطعةُ القماشِ الأجنبي والكحولِ ليس هدفُها التعبيرَ عن مقاومة الأمة للإدارة السيئة للبلاد، بل هدفها بلوغُ ثلاثة أهداف بصورة نهائية. ما من إرادةٍ طيِّبة في العلاقات بين بريطانيا العظمى وبين الهند، على حد عِلْمي، تسمح للشعب الهندي بقبول مصيبة الكحول أو مصيبة القماش الأجنبي أو منع تصنيع المِلْح. أتكلَّم بالنيابة عن نفسي وأقول إنني أرغب رغبةً شديدةً في السلام إذا كان بالإمكان بلوغُه بشرف؛ ولكنْ حتى إنْ بقيتُ وحدي لا يمكنني قبولُ سلام لا يحلُّ بطريقة مُرْضية المشاكلَ الثلاث التي ذكرْتُها آنفًا[6].

في اليوم نفسِه، غادر بومبايَ ذاهبًا إلى الاهاباد Allahabad حيث وصل إليها في وقت متأخر من الليل. ولحِقَه قادةُ حزب المؤتمر وحاولوا تحليلَ الوضع الجديد الذي هم فيه. ورأوا بأغلبية ساحقة أنَّ أنهم لا يمتلكون ضماناتٍ كافيةً لكي يقرِّروا إنهاءَ حملة العصيان المدني. فقرروا عندئذٍ مواصلتَها حتى يُبرَمَ اتِّفاقٌ مع الحكومة، بينما تُطالبُ الحكومةُ أولاً بوضع حد للعصيان حتى قبل البدء بالمفاوضات. ولا يمكن لاختبار القوى إلاَّ أنْ يتواصل.

في الأول من شباط/فبراير 1931، كتبَ غاندي رسالةً إلى نائب الملك يطلبُ إليه إنشاءَ لجنة تحقيق في التجاوزات التي ارتكبها موظفو الشرطة:

صديقي العزيز،

أطلقْتم دعوةً عامةً لي كي أتعاون مع الأعمال المستقبلية للمؤتمر الذي عُقِدَ مؤخَّرًا في لندن وقد أعطيتموني شعورًا بالثقة في الوعود والتصريحات البريطانية. أتمنَّى أنْ أتمكَّنَ من تأكيد زعمكم. قلْتُ لكم بتاريخ 23 كانون الأول/ديسمبر 1929 أنني لاحظْتُ مع أسفي الشديد، عدا استثناءات جديرة بالاحترام، أنَّ التصريحاتِ والوعودَ البريطانيةَ كانت عن سوء نية. ولو أنني لم ألاحظْ ذلك لما توقَّفَ أبدًا التعاونُ الإرادي والفعَّال الذي قدَّمْتُه للموظفين البريطانيين في الهند وخارجها.

لكنني أؤكد لكم أنني أنتظر ببساطةٍ مؤشرًا يتيح الاستجابةَ لدعوتكم. (...)

وبالتالي أُطالبكم بتشكيل لجنة تحقيق غير منحازة وتمثيلية بحيث يقبلها حزبُ المؤتمر وذلك بهدف دراسة الادِّعاءات المتعلِّقة بالتجاوزات التي ارتكبها بعضُ الموظفين في مختلف أنحاء الهند منذ إطلاق حملة العصيان المدني. إذا تشكَّـلَت مثلُ هذه اللجنة فإنني متأكد من أن حزب المؤتمر سيقدِّم لها الدليلَ على أن سلوك الموظفين في حالات عديدة كان مخالفًا للآمال التي ذكرَتْها مقدماتُ قراراتكم وتصريحاتُكم المتكررة[7].

وأبلغَ اللورد إيروين ردَّه إلى غاندي برسالة سكرتيره الخاص ج. كونيغهام G. Cunnigham المؤرخة في 4 شباط/فبراير. وكان الردُّ بالرفض، لكنه قُدِّمَ بطريقة بارعة جدًا:

يأسف سعادتُه لعدم تمكُّنِه من قبول اقتراحكم. كما من شأنه أنْ يرفض الموافقةَ على اقتراح مماثل بالمبادرة إلى إجراء تحقيق عام حول المسؤولية عن التجاوزات التي ارتكبها أعضاءُ حركة العصيان المدني. وبالتالي فإنَّ سعادته لا يرى أيةَ فائدة في إجراء تَحَرٍّ عام عن الاتِّهامات والاتِّهامات المضادَّة. كما أنه لا يعتقد أنَّ ذلك من شأنه أنْ يساعدَ في إتمام ما يَـعُـدُّه في الوقت الراهن أهمَّ واجب ألا وهو إعطاء الفرصة لجميع المستعِدِّين للانضمام إلى العمل البَـنَّاء الذي يتيح بلوغَ الهدف الذي حدَّده رئيسُ الوزراء بوضوح[8].

ليس لغاندي إذًا من خيار آخر غير مواصلة النضال. فأعلنَ بتاريخ 5 شباط/فبراير 1931 لصحيفة ﭙـايونير Pioneer ما يلي:

أنا رجل سلام، لكنَّ الظروف جعلَت من حياتي نضالاً. ومع ذلك، سأقلب السماءَ والأرضَ لبلوغ السلام[9].

وعاد القائدان المعتدلان، السِّير باهادور ساﭙرو Sir Bahadur Sapru والسيد جاياكار Mr. Jayakar، إلى الاهاباد Allahabad قادمَينِ من لندن حيث شاركا في مؤتمر الطاولة المستديرة، عادا للتحادث مع غاندي وأعضاء لجنة حزب المؤتمر التنفيذية. وسمحَ قادةُ حزب المؤتمر لغاندي بتاريخ 14 شباط/فبراير بـ "التفاوض على اتفاق مع نائب الملك". فكتبَ غاندي إلى اللورد إيروين واقترح عليه أنْ يلتقيَ به بأقرب وقت ممكن لمناقشة الصعوبات التي ينبغي التغلُّبُ عليها قبلَ أنْ يتمكَّنَ من إيقاف حركة العصيان المدني. فقال: "أودُّ أنْ التقيَ بالإنسان الذي هو أنتم أكثر من أنْ ألتقيَ بنائب الملك[10]." وعندما وافقَ اللورد إيروين غادرَ غاندي الاهاباد Allahabad بتاريخ 16 شباط/فبراير 1931 متوجِّهًا إلى دلهي حيث نزل عند الدكتور أنصاري، أحد أعضاء حزب المؤتمر من المسلمين. وفي اليوم التالي، وصل الساعة 14.30 إلى قصر نائب الملك للتباحث مع اللورد إيروين. إنَّ هذا اللقاء على قدم المساواة بين قائد المقاومة الهندية وبين ممثِّل السلطة البريطانية يرمز أصلاً إلى الاعتراف باستقلال الهند. وسيكون، كما كتبَ مؤلِّفُ سيرة إيروين، "اللقاءَ الأكثر حرَجًا في كل التاريخ القلِق للسيطرة البريطانية[11]". وقد أشارَ كلٌّ من دومينيك لاﭙـيير Dominique Lapierre ولاري كولينز Larry Collins في كتابهما الحرية هذه الليلةَ Cette nuit la liberté إلى هذا اللقاء بهذه الكلمات: "لم يكنِْ الذي مثُلَ أمامَ نائب المَلِك متسوِّلاً جاء يستجدي الهِباتِ – كان الهندَ بذاتها[12]." وتشرتشل، على طريقته، لم يخطئْ في فهم المغزى التاريخي للحدث. إذْ صرَّح قائلاً:

إنه لمشهد مروِّع ومثير للاشمئزاز أنْ نرى غاندي، ذلك المحامي المتمرِّد الذي يلعب الآنَ دَورَ الدرويش fakir [الفقير]، يصعد وهو نِصفُ عارٍ درجاتِ قصر نائب الملك ليتفاوض على قدم المساواة مع ممثِّل الإمبراطورية، في حين أنه يواصل تحَدِّيَه لنا بتنظيمه وقيادته حملةً للعصيان المدني[13].

وروى غاندي في اليوم التالي قائلاً:

كلَّمَني اللورد أيروين بلهجة ودِّية وأقرَّ صراحةً أنَّ الخطأَ خَطَؤه في عدم لقائنا حتى الآن. وكان الأمرُ الثاني الذي أقرَّ به هو أنَّ الرأي العام الإنكليزي قد تأثَّرَ تأثُّرًا بالغًا بحركتي. يُظهِرُ مِثلُ هذه الموقف من طرفه أنه يريد صُنْعَ السلام. وهو يرغب في السلام لأنه تأثَّرَ بكفاحنا. ويتساءل كم من الوقت يمكنه أنْ يتساهل بأنْ يستمرَّ الكفاحُ ولديه الإحساسُ بأنه سيصبح مضطرًا لِئلاَّ يُعَوِّلَ إلاَّ على المدفع canon[14].

كتبَت الصحيفةُ الأسبوعية الباريسية لو ميروار دي موند Le Miroir du monde [مرآة العالَم] في عددها المؤرَّخ في 28 شباط/فبراير 1931 مُعلِّقةً على الأحداث الأخيرة التي جرت في الهند:

ماذا يمكن أنْ تكونَ نتيجةُ المقابلة بين اللورد إيروين، نائبِ الملك، وبين غاندي، «المَلِك غيرِ المتوَّج»؟ (...) يبدو أنه ليس هناك من اتفاق ممكن. (...) اللهمَّ إلاَّ إذا كانت هناك محاولة للمساومة، والتي بمناسبتها يمكن الدخول في مفاوضات ضيقة جدًا.

على كل حال، إنَّ الإفراجَ عن غاندي بعد اعتقال دام ثمانيةَ أشهر ونصف الشهر ودخولَه كمنتصر إلى بومباي ومحادثاتِه المهمةَ مع المندوبين الهنود في مؤتمر الطاولة المستديرة ومقابلتَه المؤثِّرةَ مع اللورد إيروين تشكِّلُ جميعًا رموزًا مثيرة. وظهَرَ غاندي مرةً أخرى على أنه روح الهند صوفيًا أكثرَ منه سياسيًا. وحتى في نظر الإنكليز، كان يُـعَـدُّ، بحسب تعبير الـ مورنينغ ﭙـوست Morning Post، الشخصَ الأكثر بِرًّا أنْ لم يكنِ الأكثر لِيْنًا مِن بينِ جميع القادة الهندوس. وهذا يشكِّل تكريمًا حسنًا لأخطر خصم يَظهَر بمظهر ناسك صادفَتْه الإمبراطوريةُ البريطانيةُ منذ زمن طويل.

خلال هذه المقابلة الأولى، طرحَ غاندي على الفور ستةَ شروط على نائب الملك بهدف الوصول إلى اتفاق: [1] عفو عام، [2] إيقاف مباشر للقمع، [3] إعادة جميع الممتلكات المصادَرة، [4] إعادة جميع موظفي الحكومة المعاقَبين لأسباب سياسية إلى مناصبهم، [5] حرية تصنيع المِلْح وتنظيم جماعات مراقَبة تحثُّ على مقاطعة الكحول والقماش الأجنبي، [6] إجراء تحقيق حول التجاوزات التي ارتكبَتْها الشرطةُ. في اليوم التالي، التقى الرجُلان من جديد لمدة ثلاث ساعات. وفي نهاية اللقاء، اتُّفِقَ على تعليق المباحثات ريثما يتمكَّن نائبُ الملك من التشاور مع رئيس الوزراء البريطاني وريثما يتمكَّن غاندي من التشاور مع اللجنة التنفيذية لحزب المؤتمر.

بتاريخ 19 شباط/فبراير، طلب اللورد يروين من غاندي أنْ يأتيَ لمقابلته مرةً أخرى. ولم تدم المقابلةُ بينهما سوى نصف ساعة. ثم مرَّت الأيامُ دون أنْ يظهرَ نائبُ الملك على الملأ. وظنَّ أعضاءُ اللجنة التنفيذية عدمَ إمكانية حصول أي اتفاق بعد الآن فاستعدُّوا للذهاب كلُّ واحد منهم إلى إقليمه لاستئناف الكفاح. لكنَّ اللورد إيروين دعا غاندي بتاريخ 27 شباط/فبراير للمجيء بهدف التحادث معه. وأبلغَه برغبته في مواصلة المفاوضات، لكنْ لا يمكن إبرامُ أي اتفاق. والتقى الرجُلان من جديد بتاريخ الأول من آذار/مارس من الساعة 14.30 إلى الساعة 18، إلاَّ أنَّ مواقفَهما بقيَت غيرَ متوافقة في ثلاث نِقاط: [1] تنظيم مقاطعة المنتجات الأجنبية، [2] التحقيق حول إساءات الشرطة، [3] قانون المِلْح. ونظرًا لخطورة هذه المسائل، بدَت المفاوضاتُ تدخل في طريق مسدود. ومع ذلك، ذهبَ غاندي مرةً أخرى في حوالي الساعة 21 إلى قصر نائب الملك وسلَّمَ اللورد إيروين نصًا يحدِّد مطالبَ اللجنة التنفيذية. وبعد منتصف الليل بقليل، عاد إلى مقرِّ إقامة الدكتور أنصاري وتشاورَ مع أصحابه.

في لندن، حاول وِنستون تشرتشل الضغطَ على الحكومة كي لا تقبل أيَّ اتفاق مع قائد المتمرِّدين، حيث أكَّد قائلاً:

ستكون خسارتُنا للهند ضررًا فادحًا لنا. ولا بد على الأغلب من أنْ تشكِّلَ [هذه الخسارةُ] جزءًا من عملية من شأنها أنْ تحطَّنا إلى مستوى قوة صغرى[15].

بتاريخ 3 آذار/مارس، التقى غاندي وإيروين من جديد وتوصَّلا إلى التغلُّب على الصعوبات الرئيسية. وفي اليوم التالي، عند منتصف الليل، استأنفا محادثاتِهما حتى الساعة 1.30 صباحًا ونجحا أخيرًا في إيجاد صيغة اتفاق. عندئذٍ التقى غاندي بأعضاء اللجنة التنفيذية الذين انضمُّوا إلى موقفه على الرغم من بعض التحفُّظات.

بتاريخ 5 آذار/مارس، وعند منتصف النهار، قام غاندي وإيروين، بعد أنِ التقيا ثماني مرات وتباحثا معًا خلال أربع وعشرين ساعةً، بتوقيع ما سُمِّيَ فيما بعد بـ"ميثاق دلهي". كانت الأجواء هادئةً جدًا. وتَمازحَ الرجلان حول حديث وِنْستون تشرتشل الذي وصفَ غاندي بـ"الدرويش fakir [الفقير] نصف العاري". وعندما همَّ غاندي بالخروج نسيَ وِشاحَه châle. فأعطاه إياه نائبُ الملك لافتًا انتباهَه إلى أنه لا يلبسُ لباسًا كافيًا يمكِّنه من ترك الوشاح لنائب الملك...

يُلَخِّصُ نصُّ هذا الميثاق جوهرَ الاتفاق الذي حصل بين الطرفين بهذه الكلمات: "العصيان المدني سيتوقَّف فعليًا وستقوم الحكومةُ بفعل متبادل." يقول الميثاقُ حرفيًا: "Civil disobedience will be effectively discontinued.". فالعصيانُ المدني إذًا بالمعنى الحَرْفي "متوقِّف" "discontinuée" [منقطع]؛ المقصود إذًا هو توَقُّف، أيْ تعليق وليس وقفًا نهائيًا بلا قيد ولا شرط.

فيما يخصُّ دستورَ الهند المستقبلي، مِن المفروضِ معالجةُ هذه المسألة بناءً على المشروع الذي سيُعَـدُّ في مؤتمر الطاولة المستديرة. يشير الميثاقُ إلى أنَّ هذا المشروع "ولمصلحة الهند" ينصُّ على بعض "الاحتياطات أو الضمانات" التي تحدُّ من سلطة الحكومة الهندية وخاصةً في مجالات الدفاع والشؤون الخارجية والمالية ومسألة الأقليات. وكما تمنَّى رئيسُ الوزراء، ستُـتَّخَذ إجراءاتٌ لإتاحة الفرصة لممثلين من حزب المؤتمر للمشاركة في الدورة القادمة لمؤتمر الطاولة المستديرة.

وزعمَت الحكومةُ أنها عاجزةٌ، نظرًا للظروف المالية الحالية للبلاد، عن "إدخال تعديلات جوهرية على قوانين المِلْح". بوضوح، لمْ تُلْغَ هذه القوانينُ. مع ذلك، سمحَت الحكومةُ لسكان القرى الواقعة مباشرةً على مقربة من الأمكنة التي يمكن منها جمعُ المِلْح أو تصنيعُه سمحَت لهم بذلك بغرض استهلاكهم الخاص. كما يمكنهم بيعَه داخلَ هذه القرى، لكنْ لا يمكنهم القيام بأية متاجرة مع أشخاص لا يسكنون هذه القرى. ويبقى أنَّ الهدف الرئيسي من حملة العصيان المدني هو إلغاء قوانين المِلْح بلا قيد ولا شرط وأنَّ هذه التسوية التي رضيَ بها غاندي تبدو أكبرَ تنازُل.

وفيما يخصُّ مقاطعةَ المنتجات الأجنبية، يوضح الميثاقُ موقفَ الحكومة على هذا النحو:

تؤيد الحكومةُ تشجيعَ الصناعات الهندية نظرًا لكونها تشكِّل جزءًا من النشاطات الاقتصادية والصناعية الهادفة إلى تحسين الظروف المادية للهند، ولا ترغب في شجب طُرُق الدعاية أو الإقناع أو الإعلان التي تُستخدَم لهذا الغرض، والتي لا تتداخل مع حرية عمل الأفراد والتي لا تُخِلُّ باحترام القانون وبالمحافظة على النظام. لكنَّ مقاطعة المنتجات غير الهندية (باستثناء مقاطعة القماش التي طُبِّـقَت على جميع الأقمشة الأجنبية) كانت قد وُجِّهَت بصورة رئيسية، إنْ لم يكنْ بصورة حصرية، خلال حركة العصيان المدني، ضد المنتجات البريطانية، وبشأن هذه الأخيرة، فقد استُخدِمَت المقاطعةُ بوضوح لممارسة ضغط لغايات سياسية.

وعليه فإنَّ من الواضح أنَّ إيقاف حركة العصيان المدني ينطوي على وقْف نهائي للجوء إلى مقاطعة البضائع الإنكليزية كـ"سلاح سياسي"، حيث إنَّ ممارسةً كهذه تتعارض مع مشاركة ممثلين من حزب المؤتمر في "نقاش صريح وودي" مع ممثلي الحكومة البريطانية حول المسائل المتعلقة بوضع الهند الدستوري. وبالتالي فإنَّ "بيع المنتجات البريطانية أو شراءها يجب أنْ يظلَّ حرًا". إذًا، يُسمَح بتنظيم مجموعات رقابية على مقاطعة المنتجات الأجنبية أو الكحول بشرط ألاَّ تتضمَّنَ أيةَ وسيلة إكراه أو تخويف وألاَّ تؤدِّيَ إلى أي اضطراب في النظام العام. وإلاَّ ستكون هذه المجموعات الرقابية ممنوعة.

ويذكر نصُّ الاتفاق أنَّ غاندي قد طلبَ فتحَ تحقيقٍ عام حول بعض إساءات الشرطة، ولكنَّ الحكومة ارتأت أنَّ مثل هذه المبادرة في الظروف الحالية من شأنها أنْ تؤخِّرَ إحلال السِّلْم العام. وأوضحَ نصُّ الاتفاق أنَّ غاندي، مراعاةً لهذا الاعتبار، لم يرَ وجوبَ الإصرار على هذه النقطة.

لقد أُلغيَت القراراتُ التي اتُّخِذَت بشأن حركة العصيان المدني. وكانت تسقط الملاحقاتُ القضائيةُ الجارية في حال كانت مرتبطةً بحركة العصيان المدني وفي حال كانت متعلِّقةً بجُنَح لا تنطوي على أي عنف ولا على أي تحريض على العنف. وبذلك كان يُفرَج عن السجناء الذين اعتُقِلوا نتيجةَ مثلِ هذه الملاحقات. مع ذلك، أشيرَ إلى ما يلي: "الجنود وعناصرُ الشرطة المقتنعون بارتكاب جُنَح عصيان مدني – في الحالات النادرة جدًا التي يمكن أنْ يحصل فيها ذلك – لا يشملهم العفوُ." وهو ما يعني بصورة خاصة أنَّ جنود فرقة المشاة غارواليس Garhwalis، الذين حُكِموا لرفضهم في شهر نيسان/أبريل 1930 استخدامَ أسلحتهم لقمع مظاهرة نُظِّمَت في مدينة بيشاوَر Peshawar، قد تُرِكوا يواجهون مصيرَهم. إنَّ تخلِّيَ غاندي عن هؤلاء الجنود المتمرِّدين الذين لم يفعلوا شيئًا سوى أنهم استجابوا لنداءاته إلى العصيان المدني كان أمرًا مفاجئًا جدًا وقد استنكر كثيرٌ من الهنود ذلك. لا شكَّ أنَّ مِن ضِمْنِ منطقِ الدولةِ أنْ تَـعُـدَّ أنَّ العصيانَ يكونُ أخطرَ بكثيرٍ عندما يتعلق بالعسكريين منه عندما يتعلق بـ"مجرَّد مواطنين"، لكنْ أما كان يُفترَض من غاندي أنْ يرفضَ الدخولَ في هذا المنطق؟ ألمْ يكنْ مِن منطقه الخاص عدمُ قبول فصل "المقاومين العسكريين" عن المقاومين المدنيين بهدف معاملتهم بمزيد من القسوة؟ عندما كان غاندي يُستجوَبُ حول هذه النقطة كان يجيب بأنَّ حالة غارواليس يمكن أنْ تُحَلَّ عندما تكونُ قد طُبِّقَت جميعُ أحكام ميثاق دلهي. لكنْ لا بد من الاعتراف بأنَّ ذلك، على هذا النحو، لم يكن مقنعًا كثيرًا.

لن يطالَب بالغرامات غير المدفوعة، لكنَّ المدفوعةَ منها لن تُسترَدَّ.

الممتلكات التي صودِرَت وكان لمصادرتها علاقةٌ بحركة العصيان المدني تعاد إلى أصحابها إذا كانت ما تزال في حوزة الحكومة. أمَّا الممتلكات التي بيعت لطرف ثالث فلا تعاد إلى صاحبها الأصلي. كان غاندي يعي أنَّ هذا البندَ الأخير مِن الصعبِ القبولُ به، وخاصةً فيما يتعلَّق بالأراضي التي صودِرَت من الفلاحين. فحاولَ الاعتراضَ عليه لكنه اصطدم بتشدُّد اللورد إيروين الذي وافقَ فقط على إضافة ملاحظة في نص الميثاق تشير إلى أنَّ غاندي قد لفتَ نظرَ الحكومة إلى أنَّ بعض الأراضي كانت قد بيعت بطريقة غير قانونية وجائرة، لكنْ تشير الملاحظةُ أيضًا إلى أنَّ الحكومة لم تتمكَّن من أخذ هذا الاعتراض بالحسبان.

في اليوم نفسه الذي وُقِّع فيه الاتفاقُ، نشرَ غاندي بلاغًا للصحافة حيث صرَّحَ فيه بصورة خاصة وبعد أنْ أثنى ثناءً كبيرًا على اللورد أيروين على إرادته الطيبة التي أظهرها طيلةَ فترة المفاوضات فقال:

بخصوص اتفاق من هذا النوع، ليس من الممكن ولا من الحكمة القولُ بأنَّ هناك طرفًا منتصرًا. إذا كان هناك انتصار فسأقول بأنه يعود للطرفين. (...)

وبالتالي آمل من ملايين الأشخاص الذين شاركوا في كفاح المعاناة هذا خلال الاثني عشر شهرًا الأخيرة أنْ يُظهِروا الآنَ، خلال هذه الفترة من التشاور والبناء، الإرادةَ الطيبة نفسَها والتلاحمَ نفسَه والتصميمَ نفسَه والحكمةَ نفسَها التي كانوا قد أظهروها وبدرجة راقية وذلك خلال ما سأصفه بالفترة البطولية في تاريخ الهند الحديث.

إلاَّ أنني أعلم أنه إذا كان هناك رجال ونساء سيتحمَّسون لهذا الاتفاق فإنَّ هناك آخرين سيُحبَطون أو أنهم محبَطون بشدة. (...) سأقول لهم: «انتظِروا وراقِبوا وصَلُّوا وليكنْ لديكم أمل.»

للمعاناةِ حدودٌ مُـعَـيَّنة. ويمكن أنْ تكونَ المعاناةُ مقبولةً أو لا تكون، فعندما تبلغ الحدَّ فإنَّ إطالتها قد تصبح حمقًا، لا بل أكثر من ذلك، قد تصبح قمةَ الجنون.

قد يكون من الجنون مواصلةُ المعاناة عندما يُسَـهِّل لكم الخصمُ الدخولَ في نقاش معه يتوافق مع تطلُّعاتكم. إذا كان هناك انفراج حقيقي فمن واجبكم الاستفادةُ منه، وإنَّ الاتفاق، بحسب رأيي المتواضع، خلقَ انفراجًا حقيقيًا[16].

يرى العديد من الهنود أنَّ غاندي أظهرَ تساهلاً مفرطًا مع نائب الملك. ربما لم يكونوا مخطئين؛ ففي الحقيقة كانت حملةُ العصيان المدني قد وضعَت غاندي في موضع القوة وربما كان قادرًا على الحصول على تنازلات أكثر من خصمه. خاصةً وإنَّ "الاحتياطات والضمانات" التي تحدُّ من سيادة الحكومة المستقبلية للهند تبدو غيرَ مقبولة عند جواهرلال نِهْرو، لكنه لا يمكنه على الأغلب أنْ يعارض قرارَ غاندي. ما الذي كان يمكن قولُه؟ تساءل عندئذٍ. "كان الأمرُ قد حصل؛ وكان قائدُنا قد التزم. وحتى وإنْ لم نكنْ على اتفاق معه فماذا كان عسانا أنْ نفعلَ؟ عزله؟ القطيعة؟ نشر خلافنا؟ ثم ماذا؟ كان العصيان المدني ينتهي، في هذه اللحظة على الأقل[17]."

يرى غاندي من جهته أنَّ بنودَ الاتفاق الذي تم التوصلُ إليه تشكِّلُ تسويةً جيدة، على الرغم من أنه يعترف بأنَّ الميثاق الذي أبرمه مع الحكومة ليس ناتجًا عن "تغيُّـر جوهري" لدى القادة البريطانيين. فإذا لم يحصلوا بعدُ على الاستقلال فإنه يرى بأنه في إمكانه أنْ يؤكِّدَ أنَّ بابًا جديدًا قد انفتحَ الآن نحو الحرية. وردًا على الذين يعترضون على غاندي بأنَّ هناك هوةً بين قرار حزب المؤتمر في لاهور القاضي باستقلال الهند التام وبين ميثاق دلهي، كان غاندي يجيب بأنَّ المسيرة الطويلة للهند نحو استقلالها لم تنتهِ في الواقع، ولكنَّ مرحلةً مهمةً قد قُطِعَت. فصرَّحَ بتاريخ 12 آذار/مارس قائلاً:

ليس هذا الاتفاقُ نهايةَ الكفاح. فالنهايةُ لن تأتيَ إلاَّ عندما نكون قد حصلْنا على الاستقلال. (...) والاتفاقُ الذي أُبرِمَ الآنَ هو خطوةٌ إلى الأمام في رحلتنا نحو الاستقلال. لقد أُبرِمَ هذا الاتفاقُ على أمل أنَّ الذي يجب الحصولُ عليه الآنَ سنحصل عليه من خلال المحادثات والمباحثات والمفاوضات[18].

مع ذلك، تبقى القضيةُ كلُّها في أنْ نعرِفَ هل ستكونُ السلطةُ البريطانية، مادامت أنها لن تكون بعدُ خاضعةً للضغط الناتج عن العمل، مستعدةً غدًا لمنح ما لم تكنْ تريد أنْ تعطيَه البارحة.

بتاريخ 5 آذار/مارس 1930، تحتفل صحيفةُ التايمز The Times بـ"الانتصار الشخصي الكبير للُّورد إيروين":

الآن وقد صرنا على أبواب السلام، ربما لن يفيدَ في شيء أنْ نخفيَ أنْ تكتيك اللورد إيروين الذي قام على لقاء السيد غاندي وجهًا لوجه قد لاقى انتقادًا لدى خُـلَّص أصدقائه. فوصفوا التكتيكَ بالسرِّي وبالفردي وحتى باللادستوري؛ غيْرَ أنه فهِمَ هو أكثرَ من أغلب الناس إلى أية درجة كان وجودُ حركة حزب المؤتمر يتوقَّف على شخصية الرجل الصغير الغريب (the strange little man) الذي سيحدِّد المستقبلُ مكانتَه في التاريخ، وبالتالي فهِمَ أنَّ الطريقة الوحيدة للمقاربة هي أنْ يُجريَ في محاولة جريئة اتصالاً معه.

بتاريخ 6 آذار/مارس، حلَّلَ مراسلُ جريدة جنيـﭪ في لندن ردودَ أفعال الأوساط السياسية الإنكليزية كما يلي:

يكيل اليومَ المحافظون الإنكليزُ وصحافتُهم الإداناتِ بحق نائب الملك متَّهمين إياه بموافقته على التفاوض مع الرجل «شبه العاري»، الذي هو روح الحركة المناوئة لبريطانيا، ويتَّهمونه بأنه يكون بذلك قد كافأ التمرُّدَ والعصيان. وتُرعبُهم فكرةُ أنَّ غاندي والوطنيين، بعد أنْ جرَّدوا السلطةَ الإنكليزيةَ من هيبتها بانتزاع تنازلات منها تتعلَّق بالمِلْح والمقاطعة، سيحاولون أنْ يكونوا أكثرَ جرأةً من أي وقت مضى وأنْ يزيدوا مطالبَهم باستمرار.

كما تحاملوا أيضًا على حكومة لندن متَّهمين إياها بدعم اللورد إيروين وبإتاحة الفرصة لهذا النصر النفسي من الطراز الأول لغاندي ولحزب المؤتمر. (...)

على العكس من ذلك فقد فرِحَ الليبراليون وأعضاءُ حزب العمال فرحًا حقيقيًا بإبرام [اتفاق] السلام، أو على الأقل بتوقيع هدنة ستعمل على تهدئة النفوس وتُشجِّع استئنافَ التجارة مع الهند. فالنصر في نظرهم نصرٌ للُّورد إيروين ولغاندي على حد سواء.

كانت جريدةُ الأومانيتيه L'Humanité وفيةً لخطِّها السياسي الذي انتهجَتْه منذ بداية إطلاق حملة العصيان المدني فقد استنكرَت بهذه الكلمات التي لا لَبْسَ فيها "ميثاقَ الظلم" الذي وقَّعه غاندي، إذْ يمكننا أنْ نقرأَ في العدد الصادر بتاريخ 6 آذار/مارس 1931:

ينصُّ الاتفاقُ الذي وقَّعه الخائنُ غاندي ونائبُ الملك يومَ الأربعاء الساعة 18 على خضوع الهنود التام لإرادة المدينة la Cité. (...) هذا الاتفاق، كما يبدو، هو عملٌ هائل من النفاق والخيانة والرياء البشع.

وأشارت جريدةُ بروكسلَ اليوميةُ لوسوار Le Soir، بتاريخ 8 آذار/مارس 1931، إلى أهمية ميثاق دلهي الذي ترى أنَّ غاندي هو المستفيد الرئيسي منه:

إنَّ الاتفاق المبدئي الذي حصل بين نائب الملك وبين رسول الوطنية غاندي هو حدث يتجاوز بالتأكيد نطاقَ الإمبراطورية البريطانية بانعكاساته المحتملة على التطور العام لشعوب آسيا. فقد اهتمَّ به الرأيُ العام الفرنسي على وجه الخصوص اهتمامًا شديدًا نظرًا للتأثير الذي يمكن أنْ يُحدِثَه الوضعُ في الهند على الوضع في الهند الصينية [شبه الجزيرة الهندية الصينية]. (...)

إذا أردنا ألاَّ ننظرَ إلاَّ إلى شروط هذا الاتفاق فإنه من المؤكد أنه في مصلحة غاندي تمامًا. (...) وكأنَّ ذلك كلّه يشبه إلى حد كبير استسلامًا من جهة السلطة الإمبراطورية أمام غاندي الذي حصل، بحركته «اللاتعاونية»، على أكثر مما حصل عليه جميعُ مثيري الشغب الذين حاولوا قبله مساندةَ النضال ضد سلطة نائب الملك. ما يُخشى هو أنْ تأخذَ القوميةُ الهندوسيةُ بذلك قوةً جديدةً وأنْ يصبحَ من اللازم أنْ تتَّفقَ معه كلما مرت في موقف صعب.

يُعلِّقُ مارسيال باتاي Martial Bataille، في صحيفة الفيغارو بتاريخ 9 آذار/مارس 1931 على توقيع ميثاق دلهي كما يلي:

إذا أدَّى الاتفاقُ الذي وُقِّعَ مؤخَّرًا في دلهي بين اللورد إيروين، نائب ملك الهند، وبين المهاتما غاندي إلى مرحلة من الهدوء والازدهار في الهند فلا بد أنْ يفرحَ الجميعُ بذلك. ونعني بالجميع كلَّ الحريصين على النظام والسلام. فإذا ما غرقَت الهندُ في الفوضى وانعدام السلطة [الأناركية] وأصبحَت بذلك مرتعًا للبَلْشفية فسيكون ذلك بدايةَ النهاية للإمبراطورية البريطانية، لا بل سيكون ذلك كارثةً عالمية. (...)

مِنَ المؤكَّدِ أنَّ اتفاقَ دلهي ما كان ليوقَّعَ لولا التنازلاتُ البريطانية. لكنْ لم يكنْ أمامَ بريطانيا العظمى إلاَّ الخيار بين نظام قمع أو نظام تنازلات. وكلاهما على حد سواء يمكن أنْ يؤدِّيَ إلى خسارة حكومة لندن للهند. ولا مفرَّ من الخيار. فالمستقبل سيحكم على عمل اللورد إيروين. (...)

ويدقُّ السيد ونستون تشرتشل، وزيرُ المالية السابق، ناقوسَ الخطر. ففي خطاب ألقاه مؤخرًا في إدنبرة Édimbourg، يرى بأن مجلس العموم الذي أخذ يفقد هيبتَه شيئًا فشيئًا عاجز عن مواجهة مشاكل اللحظة الراهنة. إذْ قال: «إذا لم تعد الأمورُ إلى نصابها مباشرةً فإن الجيل الحالي سيعيش حتى يشهد خسارةَ إرث عظيم حصلَ عليه من الأجيال السابقة.» تنبؤ سوداوي وربما مبالَغ فيه، ولكنْ لا يمكن التفكير فيه إلى هذا الحد. السلام في العالَم مرتبط بمصير الإمبراطورية البريطانية.

في نهاية القرن العشرين هذه، ألمْ يحِن الوقتُ لإدراك أنَّ «العنف انتحار»؟

بعيدًا عن كل حُكْم إيديولوجي، ما هو الحُكْم السياسي الذي ينبغي أنْ نعطيَه لميثاق دلهي؟ إنه يشكِّل في حد ذاته وبما لا يقبل الجدلَ انتصارًا لحملة العصيان المدني التي بدأت بمسيرة المِلْح. لكنْ لا مفرَّ من الاعتراف بأنَّ حجمَ التنازلات التي وافقَ عليها غاندي تُقلِّصُ من مدى هذا النصر. وماذا كان عساه أنْ يحصلَ فيما لو رفضَ هذه التنازلاتِ، أيُظهِر مزيدًا من التصلُّب ويقرِّر في نهاية المطاف مواصلةَ اختبار القوة؟ من الصعب جدًا التنبؤ بذلك، لأنه عندئذٍ يجب امتلاك القدرة على كتابة التاريخ من جديد.

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] حول هذه المسألة المتعلقة بالإضراب على الضرائب في الأقاليم الاتِّحادية، راجِعْ: الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجني]، سبقَ ذِكْرُه، ص 204 وما يليها.

[2] تارا شاند Tara Chand، History of Freedom Movement in India [تاريخ حركة التحرُّر في الهند]، سبق ذِكْرُه، ص 159.

[3] راجِعْ: جورج فيشر Georges Fischer، Le Parti travailliste et la décolonisation de l'Inde [حزب العمال وإنهاء استعمار الهند باريس، فرانسوا مَسـﭙـبيرو François Maspero، 1966، ص 172.

[4] ذكرَه د. ج. تيندولكار D. G. Tendulkar، Mahatma… [المهاتما...سبق ذكره، المجلَّد الثالث، ص 48.

[5] المجلد 45، ص 427.

[6] المجلد 45، ص 127-128.

[7] المجلد 45، ص 136-138.

[8] المجلد 45، ص 138.

[9] المجلد 45، ص 151.

[10] المجلد 45، ص 175-176.

[11] ذكرَه فيشر Fischer، La vie du Mahatma Gandhi [حياة المهاتما غانديسبقَ ذِكْرُه، ص 257.

[12] دومينيك لاﭙـيير Dominique Lapierre ولاري كولينز Larry Collins، Cette nuit la liberté [الحرية هذه الليلةَ]، باريس، روبير لافون Robert Laffont، 1975، ص 75.

[13] ذكرَه د. ج. تيندولكار D. G. Tendulkar، Mahatma [المهاتماسبق ذِكْرُه، المجلَّد الثالث، ص 53.

[14] المجلد 45، ص 188.

[15] ذكرَه د. ج. تيندولكار D. G. Tendulkar، سبق ذِكْرُه، المجلَّد الثالث، ص 54.

[16] المجلد 45، ص 251.

[17] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجنيسبقَ ذِكْرُه، ص 225.

[18] المجلد 45، ص 285.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود