بيني وبينك
د. اسكندر لوقا
الحياة، كلمة من أربعة حروف. ولكن، متى كانت الكلمات أو الحروف قادرة
على الإحاطة بالوجود؟ الحياة هي بكل كما فيها من نبض الحركة ومن صمت
الجماد، هي مسألة المسائل التي ولدها الإعجاز ومع ذلك ما استعصت على
مدارك العقل البشري. ترى: أي عقل هذا الذي لا يعجز عن تفهم المسائل
الصعبة لا مجرد فهمها في الوجود؟ في اعتقادنا أنه العقل القادر على
النفاذ إلى جوهر القضايا، وفي مقدمها الحياة باعتبارها القضية الجوهر
في الوجود الإنساني على الأرض منذ البدء وحتى الأزل.
***
إن تاريخ البشرية كان وسيبقى مدينًا للذين كانوا مفاصل التغيير نحو
الأحسن والأرقى، ولم تكن أهدافهم يومًا عيش لحظات التغيير فقط بل ترجمة
وترسيخ هواجسهم على أرض الواقع وعلى مدى سنوات حياتهم. هؤلاء اقتحموا
خطوط التحدي ليقينهم بأن الغد ليس غد الفرد بل هو غد أبناء البشرية
كافة من بعدهم. وقد نجد في بطون الكتب عدد ضحايا مثل هذا الاقتحام لا
يزيد على عدد أصابع اليدين، ومع ذلك تبقى بصمات أيديهم تشهد لهم بأنهم
كانوا قناديل أضاءت دروب السائرين على هدي أحلامهم الوردية.
***
عندما نردد في أدبياتنا الدارجة أن حركة التاريخ لا ترجع إلى الوراء،
لا بد أن نتساءل، في الوقت نفسه عن هدف الإنسان في حياته، لأن الحياة
من دون هدف ستكون أشبه باللحظات الخاطفة التي يقضيها راكب قطار مسرع
ويكاد يميز بين المعالم التي يمر بها. الهدف، في نهاية المطاف، كما
يستوعبه العقل بعيدًا عن دوافع الغريزة العمياء هو الغاية. ومن هنا
ينجح الإنسان العاقل في تصور الطريق الذي يقوده إلى هدفه ولا يضل
الطريق.
***
عواطف الإنسان قد تتركز، في بعض الأوقات، حول رغبة منشودة. وقد تتركز
حول نقطة ما تكمن وراء مساحة الرؤية المتاحة أمامه. هذه الحالة لا تقع
ضمن معادلة اللامعقول في حياتنا كأفراد، ومع هذا يجب ألا نصرف أنظارنا
عن أبعاد قد لا نراها بالعين المجردة كالوهم وخداع الذات وسوى ذلك مما
يندرج في العالم المتخيَّل بمعنى العيش مع اللحظة الهاربة من بين
أيدينا. من هنا وجوب البقاء في إطار الواقع الممكن، وبالتالي مع عدم
إسقاط نقاط التفاؤل والأمل من حساباتنا اليومية وبشكل عقلاني ما أمكن.
***
إذا ما عدنا إلى التاريخ البعيد نسبيًا، فسوف نجد أنفسنا أمام عدد لا
نهاية له من المنعطفات التي تجاوز الكبار من رجالات الوطن خطر الانزلاق
أمامها. إنها منعطفات كثيرة أريد لها، أكثر من مرة، أن تكون نهاية
التاريخ في بلدنا، بدءًا من أول غزوة استعمارية قبل قرنين أو أكثر قبل
الميلاد وصولاً إلى آخر الغزوات التي خبرتها سورية وتعايش تبعاتها حتى
اليوم. ولأن الحياة لا تسمى حياة إذا فصل الإنسان نفسه عن مجريات تفرض
عليه التزامات المواطنة، فإنه يكون قد شق دربه نحو الحفرة التي حفرها
بإرادته وبوعيه. الإنسان، كما نقدِّر، لا يقوى على هزم المصاعب التي
يتعرض لها إلا إذا تغلب على نوازع ذاته في حالة الضعف أو الاستكانة وهي
عديدة وأكثر من أن تحصى على الدرب.
***
من البديهيات القول بأن الإنسان هو العامل الحاسم في كل معركة تفرض
عليه في مجالات الحياة المختلفة. وإذا نحن أدركنا كم هو فاعل في سياق
السعي كي ينتصر على واقعه حين يكون في حاجة إلى تغيير أو إصلاح، بمعنى
ساعة الحسم، نقدر كم هو ثقل العبء على عاتق من يشارك في مثل هذا المسعى
ولا يقف كما الراغب في قطاف ثمار شجرة وينتظر ساعة نضجها. قد يكون
مفيدًا التذكير بأن الحياة لا تسير كما يرغب أحدنا دائمًا، ولكن مع هذا
لا يجب أن نحمِّل من سيخلفنا أوزارًا سلبية لأننا مع استطاعتنا فعل شيء
نافع، لم نفعله.
***
تبقى الحرية، كقيمة عليا في حياة الأفراد والمجتمعات على حد سواء، تبقى
محور المطالب كافة التي تجسِّد احتياجات البشرية، بدءًا من تكوِّن
الخلية الحيَّة وانتهاء بفنائها، ذلك لأن الحرية هي أولى النسمات التي
تنعش الإنسان، ولأنها أيضًا غاية الحياة في سياق ارتقائها من مستوى
الكائنات السديمية إلى مستوى الكائنات التي تدرِك بالعقل وتحيا به.
الحرية هي الحاجة التي يؤدي فقدانها إلى انتقال الإنسان من حالة
التكوُّن إلى حالة التفسخ في نسيجه ذلك لأنه، في حريته، تكمن هويته
وفيها أيضًا تتجلى إنسانيته بوضوح. إنها، بالتالي، القيمة التي إذا
فقدت لا تعوض.
*** *** ***