عندما يكون الصيد رقصًا (بعض من أساطير السان)
مائويَّة كلود لفي-ستروس
رجائي موسى
بمثابة مقدمة
- 1 -
يحتلُّ مفهوم الأسطورة في أعمال كلود ليفي ستروس
Claude
Lévi-Strauss
موقع الصدارة، وقد تمكَّن من تخليص الأسطورة من
تراثها السابق. هذا التراث الذي لا يرى في الأسطورة إلا أنها تعبير عن
المشاعر العميقة في الجماعة، أو تعليل للظواهر الغريبة سواء الفلكية أو
الكونية، أو تنفيس عن مشاعر ترزح تحت وطأة الكبت، بينما يذهب ستروس نحو
التأكيد على طابع الأسطورة الشفاهي، فالأسطورة تشكل جزءًا لا يتجزّأ من
اللغة، "وهي خطاب له بنية لسانية، تتكوَّن من وحدات هي الجمل"[1].
هذه الجمل هي أصغر وحدات أسطورية، هي الميثيمات
mythemes
وهو ما يقابل الفونيم
phoneme
عند ياكوبسون. والميثيم
mytheme
لا تتمثَّل وظيفته التحليلية أو قدرته التحليلية
إلا في علاقته بالميثيمات الأخرى وبفضل العلاقات الداخلية التي تمثل
حزمًا
bundles.
هذه الحزم هي مجموعة من الترابطات التي تقف في علاقات تعارضية أو
تقابلية مع بعضها البعض عبر معايير مختلفة وتراكيب مغايرة، وعندئذ
سيكون المعنى البنيوي متولِّدًا من العلاقات ومجموع التقابلات.
بالإضافة إلى طابع الأسطورة البنيوي، وربما لأنها كذلك يتأسَّس عليها
أن تشتمل على الزمن القابل للإعادة والزمن غير القابل للإعادة
irreversible
وهذا يتوفِّر لها عبر خاصِّيتي التزامن والتتابع
اللتين أكَّد عليهما دوسوسير. ويمكن تمثيل زمن الأسطورة على النحو
التالي:
-
الزمن القابل للإعادة = الزمن البنيوي = اللغة (وفقًا لإحداث التزامن)
-
والزمن غير القابل للإعادة = الزمن الاحصائي = الكلام (وفقًا لإحداث
التتابع)
والأسطورة تتضمَّن هذين الزمنين وهاتين الخاصيتين المتقابلتين، فكلُّ
أسطورة يمكن أن يوجد زمنها الخاص على بعد التزامن–التتابع[2].
ورغم تشديد ليفي ستروس على البعد اللغوي أو الجانب اللغوي في الأسطورة
وطابعها البنيوي إلا أنه لا يتجاهل محتوى الأسطورة اللاشعوري أو
اللاواعي ولكن هذا المحتوى ليس هو المحتوى الليبيدي عند فرويد، أو
المحتوى الانفعالي كما هو عند كارل يونغ ومالينوفسكي، ولكنه يشير فقط
إلى شكل، أو تجمُّع من الأشكال، خال من أيِّ محتوى، ووظيفته هي أن يفرض
القوانين البنائية على المحتوى النفسي الذي يكون هو في حدِّ ذاته غير
متشكَّل ويتحرَّك بشكل عشوائي، "فالمحتوى النفسي يكون هو المعجم قبل
اللاشعوري، وهذا المعجم السيكولوجي يصبح دالاً فقط عندما يتحوَّل إلى
لغة، أي عندما يكتسب أشكاله الخاصة من خلال اللاشعور[3].
وبمناسبة مرور مائة عام على ميلاد كلود ليفي ستروس، المولود في 1908،
نقدِّم هنا بعضًا من أساطير بعض جماعات السان (البوشمن) الذين يعيشون
في جنوب القارة الإفريقية، وهذه النصوص تنشر لأول مرَّة باللغة
العربية، وسوف نعمل على تحليل الأسطورة التأسيسية لهذه الجماعات وفقًا
لمنهج ليفي ستروس البنائي وذلك في حلقات متتالية.
- 2 -
لا أحد يعرف من أين جاء البوشمن، أو من أيِّ عرقٍ أتوا، أو متى وصلوا
إلى هنا، إلى أفريقيا... لقد عاش البوشمن هنا ومعهم الهتنتوت، وذلك قبل
مجيء البانتو بزمن طويل. وكأنَّ البوشمن كانوا ينتجون أرضهم لمجيء
الأقوياء الجدد... لقد قتل معظمهم، واستعبد من استعبد، ورحل من رحل إلى
أرضٍ بعيدةٍ[4].
إنهم السان
San،
وهى لفظة بانتوية تعنى الناس، أو كما أطلق عليهم الأوروبيون، البوشمن
Bushman
أي رجال الأدغال. كان السان هنا، مرُّوا بشمال
إفريقيا، ليبيا والجزائر، لا زالت الصحراء الكبرى تحفظ رائحتهم وأثر
أقدام حيواناتهم، لقد تركوا نقوشهم في تاسيلي، وآثارهم في جبل أغود
Ighoud
بالمغرب، وعبروا جنوب السودان إلى تنجانيقا
وإثيوبيا، حتى وصلوا إلى الكيب تاون، جنوب القارة، ثم اتَّجهوا نحو
الداخل، نحو كلهاري، أقسى صحارى العالم، وتفرقوا إلى ناميبيا، وانجولا،
وبتسوانا. السان هم أكثر الجماعات تشتُّتًا وتمزُّقًا في القارة، هكذا
يخاطب رجل السان الرجل الأبيض:
كلُّ شيء كان رائعًا، لم تكن هناك أسيجة، فقط مسارات البوشمن، ووقع
أقدامهم، ثم جاء المزارعون... الآن كل شيء أغلق علينا، لا أرض لنا، ولا
ماء، ولا صيد، ولا يوجد مكان لراحتنا[5].
هذا التشتت يصيب الأسطورة أيضًا، فالتمزُّق الإيكولوجي يظهر في
الأسطورة تصدُّعًا أنطولوجيًا، وتشتتًا في المثيمmythem
. الأسطورة تظهر مثل أثر قدم في الرمال، غائرة، وزائلة، تظهر مثل ظلف
حيوان، إنها كلام المانتس
Mantis
(هو فرس النبيِّ وMantis
كلمة يونانية تعنى العرَّاف أو الكاهن، ويسمى
kaggen
تكاجان)، روح إله السان، والمانتس هو إله مخادع
trickster-deity،
كثير التحوُّل وهو أيضًا إله متقلُّب
protean-deity.
الأسطورة أيضًا هي عباءة
Karross
العلند المقدَّس، الحيوان العظيم، رسول المانتس إلى
الناس، الذي يبعثه المانتس لكي يقتل وذلك من أجل حياة السان/الناس. هنا
على هذه الأرض، عليك أن تطارد الأسطورة مثلما تطارد فريسة. أن تشمَّ
رائحة الدم. عليك أن تصير حيوانًا، وأن تجيد الرقص. الأسطورة هنا شهوة
لا تنتهي إلى الدم والرقص والجنس. فـ
عندما تتعقَّب الحيوان يجب عليك أن تصير هذا الحيوان.
التعقُّب/تتبُّع الأثر مثل الرقص، لأنَّ جسدك سيكون
مبتهجًا، يمكنك أن تشعر بذلك حين ترقص، وقتئذٍ، ستعرف كيف تصطاد جيدًا.
وعندما تفعل ذلك فأنت تتكلَّم مع الله
Nqate
Xqamxebe،
1998".
هل نحن في حاجة إلى مانتس كي يرشدنا نحو قفير أساطير السان؟ ولكننا لا
نثق كثيرًا في هذا المانتس، هكذا تقول الأساطير، فهو مخادع ومضلل، ولكن
الأسطورة أيضًا لها نفس السمت، مخادعة ومضللة، لا تكذب ولكنها تنحني
وتلتوي بشكل مستمر. يقول المانتس بأنه روح إله السان الأعظم
≠Gao
N!a،
وهو أيضًا يأتي على رأس عائلة، الزوجة هي
Dassie
أو
Coti
وهى أرنبة برية، والابن هو العلند
Eland،
وابنته بالتبني وهي
Porcupine،
متزوجة من حيوان التكوامانجا
Kwammang-a،
وهو يعنى قوس القزح، وأبوها الحقيقي حيوان مفترس. إنَّ أسطورة المانتس
والعلند والميركاتس تعدُّ أسطورة تأسيسية في كوزمولوجيا السان، وتأتي
بعدها أساطير أخرى من طائفة الأساطير الوظيفية، وهى التي من شأنها أن
تفسر بعض الظواهر الطبيعية مثل البرق والرعد والمطر... الخ، وطائفة
أخرى من الأساطير وهى تروى سير الشامانات والأسلاف. وهذه بعض أساطير
السان التي يمكن لها أن تقودنا نحو قفير السان في كهوف متفرقة من
أنجولا وناميبيا وبتسوانا، أو تزرعنا فجأة كشجرة في وسط معسكر للبوشمن
في صحراء كلهارى الملتهبة.
*
أسطورة المانتس والعلند والميركاتس[6]
The Mantis, the Eland and the Meerkats
الأسطورة التأسيسية
ذات يوم سرق المانتس
Mantis
حذاء التكوامانجا
Kwammang-a
ووضعه في حفرة الماء. وعندما شعر التكوامانجا بفقد
حذائه سأل زوجته الشيهم
Porcupine
- وهي ابنة المانتس المتبناة - عن الحذاء. فقالت
له: لا أعرف شيئًا عن هذا الأمر.
وفيما بعد، وعند حفرة الماء قام المانتس بصنع العلند
Eland
من الحذاء وأطعمه من العسل الذي كان يجب عليه أن
يأخذه للبيت من أجل أسرته. كان التكوامانجا
Kwammang-a
غاضبًا لضياع حذائه، فأخبر ابنه الصغير اشنيومون
Ichneumon
بأن يراقب المانتس ويرى ماذا يفعل بالعسل. في اليوم
التالي، رافق الأشنيومون المانتس، وفيما هو (الأشنيومون) يتظاهر بالنوم
داخل الكاروس[7]
Karross
رأى المانتس ينادى العلند بأن يخرج من حفرة الماء،
عندئذ خرج العلند من الحفرة وجاء للمانتس، وفيما هو يقفز نحوه بلَّل
شعر الحيوانات بالماء ومسَّده بالعسل. عندما رأى الأشنيومون ذلك بدأ
يقفز ويصيح:
-
هذا هو الحيوان الذي يأكل العسل.
-
العلند هو الذي يشرب العسل.
هنا هرب العلند نحو الأحراش، ورجعا المانتس ومعه الأشنيومون إلى
بيتيهما.
في البيت أخبر الأشنيومون والده التكوامانجا بما رآه عند حفرة الماء
وقال له: يجب أن تجمع العسل وتأخذه إلى حفرة الماء وهناك تنثر بعضًا
منه حول الحفرة، وتنظر العلند ماذا يفعل؟ فعل التكوامانجا ما اقترحه
عليه ابنه، وعند حفرة الماء بدأ ينادى مقلدًا صوت المانتس:
-
يا كعب حذاء التكوامانجا. يا كعب حذاء التكوامانجا.
فخرج العلند وهو يقفز من الأحراش، وهرول مسرعًا نحو التكوامانجا. فقال
له التكوامانجا:
-
أنت الذي شربت العسل والماء.
وصوَّب نحوه السهم، ففرَّ العلند هاربًا، مبتعدًا إلى الخلف، وصار يعدو
بعيدًا ليموت هناك.
فيما بعد... ذهب المانتس إلى حفرة الماء، وهناك رأى قطرات دم حول حفرة
الماء، فأدرك أنَّ العلند لم يعد موجودًا مكانه، في الداخل، فصار
يبكيه، وعاد إلى منزله. أثناء ذلك ذهب التكوامانجا إلى
Ki-Ya-Koe[8]
والميركاتس
Meerkats
وفيما هم يسيرون معًا في الدرب وجدوا العلند ميتًا.
فنزع التكوامانجا سهمه من جثة العلند ورجعوا به إلى البيت. وعندما كانت
الميركاتس تقطِّع جثَّة العلند تسلَّل المانتس وشقَّ كبد العلند فغضبت
الميركاتس وتشاجرت معه ورمت به فوق قرون العلند ولكن المانتس تحاشى
السقوط فوق قرني العلند وفرَّ من أمامها. وفي البيت أصاب المانتس صداع
شديد فسقط على الأرض، وكان جسمه يرتجف ويرتعش والشجرة التي كانت
الميركاتس قد وضعت عليها ملابسهم ولحم العلند نمت وتسامقت نحو السماء،
ثم عادت بفروعها عند رأس العلند فبدت كأنَّها حجاب له. وفى طريق عودة
الميركاتس إلى منازلهم، وهم مجرَّدون من الملابس، سألتهم النساء:
-
لماذا حضرتم إلى البيت بدون لحم العلند وبدون كنانتكم؟
*
أسطورة أول البوشمن
The first Bushman
كانت هناك نحلة تحمل المانتس عبر الظلمة المضطربة والمياه الهائجة.
وعندما كانت تشعر بالتعب أو البرد، أو تحسُّ بأنَّ المانتس أصبح ثقيلاً
فوق ظهرها كانت تبحث عن مكان لتستريح فيه. كانت تطير ببطء، تغوص، تهبط
مع المياه، وتعلو ثانية. تهبط وتعلو، وفى النهاية رأت وردة بيضاء كبيرة
تنتظر أشعة الشمس الأولى، فوضعت المانتس في قلب هذه الزهرة، وغرست
بداخله الأصل الأول للوجود البشري. وهنا ماتت النحلة. ولكن عندما أشرقت
الشمس، واستدفأت الزهرة، استيقظ المانتس ثانية. ومن البذرة التي خلفتها
النحلة بقلب الزهرة وُلِدَ أول البوشمن.
*
أسطورة الساحر هيسيب
ذات يوم خرج الساحر هيسيب ومعه زوجته وابنه الصغير إلى الصيد من أجل
الطعام، وكان الجفاف يعمُّ المكان، والأرض قاحلة، وهم يعانون من الجوع.
وفجأة وجدوا أنفسهم أمام شجرة موسوقة بالتوت الأحمر، والحبات تتساقط
على الأرض، فأسرع الولد ليلتقط بعضا منها، فقام أبوه بتوبيخه وتعنيفه
بشدَّة على جشعه، قائلاً له: لا، هذه الثمار من أجل الناس فقط وليست من
أجل الأطفال الجشعين. راح الولد يبكى بشدَّة لأنه كان جائعًا جدًا،
وسقط على الأرض وتظاهر بالموت، فقرر والده بأنه لا يجب أن يترك الميت
هكذا بل لا بدَّ من دفنه، فقام ودفنه. ولكن الابن لم يكن ميتًا بالفعل،
فقام وخرج سرًا من القبر. وفى يوم، عندما خرجت أمه إلى القبر، رأت
القبر فارغًا، فأدركت أنَّ ابنها لم يعد موجودًا هنا، فجلست عند القبر
تنتظره. وعندما رأته قادمًا فرحت به جدًا وأخذته إلى البيت. وعندما
دخلا إلى البيت، قال هيسيب: اعتقدت أنَّ ابني قد مات لذلك قمت بدفنه،
والآن يبدو لي أنه مازال حيًا ومع ذلك سيبقى الموت هو الموت، وقام وقتل
ابنه. ومنذ ذلك اليوم والبوشمن يقولون: إنَّ الإنسان ميت لا محالة، ولا
يوجد داخل القبر سوى الموت.
*
أسطورة المانتس والنعامة والنار
بالإضافة إلى الحياة التي جلبها المانتس، فهو أيضًا الذي أتى بالنار
للناس، فقبلاً كان البشر يأكلون طعامهم نيئًا مثلهم مثل الفهود
والأسود، وكانوا ينامون في ظلمة حالكة دون أدنى بريق، دون رفقة أيِّ
ضوء لإنارة الساعات المظلمة الطويلة. لقد رأى المانتس أنَّ طعام
النعامة مختلف ولذيذ، فقرَّر أن يراقبها، فوجدها تأخذ بعضًا من النار
المخبأة تحت جناحيها، ثم تدسُّ طعامها فيهما، وعندما ينضج الطعام تعيد
جناحيها إلى مكانهما. عرف المانتس أنَّ النعامة لن تمنحه أيَّة نار،
فقرَّر أن يقوم بخطة. وفى يوم ذهب إلى زيارة النعامة وقال لها: تعالي
لقد وجدت شجرة برقوق، تحمل ثمرًا أصفر لذيذًا، فذهبت معه النعامة.
وهناك عند الشجرة قال لها: إنَّ أجمل الثمار توجد في أعلى الشجرة،
فمدَّت النعامة جسدها، وبسطت جناحيها لكي تتوازن، عندئذ، قام المانتس
بسرقة بعض النار وهرب، وبهذه الطريقة منح المانتس البوشمن النار. ومنذ
هذه اللحظة والنعامة لم تحلِّق أبدًا لكي تحفظ ما تبقَّى لها من نارٍ.
*
كيف فقدت الحيوانات القدرة على الكلام
إنَّ أسلاف السان البعيدين قد جاءوا من فتحة عظيمة أسفل جذع شجرة
عملاقة، وانتشروا في مساحات واسعة على امتداد هذا البلد، ثم خرجت جميع
الحيوانات متدافعة وراء الناس مباشرة. خرجت بشكل ثنائي وثلاثي ورباعي
وبشكل أحادي، أو على شكل قطعان كبيرة؛ متدافعة ومتصادمة ببعضها البعض.
وكانت أعدادها عظيمة جدًا. ظلَّت قطعان الحيوانات تندفع من فتحات
الجذور حتى غروب الشمس، عندئذ، توقفت الحيوانات عن الظهور، ومكثت حول
فتحة الشجرة العظيمة تتمتع بهدوء وسكينة وقت الراحة. ومثلها مثل الناس
منحت لهم القدرة على الكلام. عندما جاء الليل، أحسَّ الناس بالبرد
فأرادوا إشعال النار لكي يستدفئوا ولكنهم في ذات اللحظة سمعوا صوتًا
إلهيًا يخبرهم بألا يشعلوا النار وعليهم الانتظار حتى طلوع الشمس،
عندها يحصلون على الدفء. انتظر الناس على هذه الحالة عدَّة ساعات،
بينما كانت الحيوانات من حولهم تغطُّ في النوم. وعندما طال الليل
وتكثَّف ظلامه واشتدَّت برودته لم يقدر الناس على الانتظار أكثر من
ذلك، ورغم التحذير الذي تلقُّوه إلا أنهم نجحوا في صنع النار. وعندما
تصاعدت ألسنة اللهب وتراقصت خيالاتها في الظلام انتاب الحيوانات الخوف
والذعر ففرَّت مرتبكة نحو الغابات والجبال، ومن شدَّة الرعب فقدت
القدرة على الكلام، وصارت تشعر بعدم اطمئنان في وجود الناس، ما عدا
حيوانات قليلة ظلت قابعة بجوار النار فأخذها الإنسان واحتفظ بها وذلك
من أجل الاستفادة منها. ولكن القسم الأعظم من الحيوانات فقد علاقته
بالناس. ولن تعود هذه العلاقة إلى سابق عهدها قبل إشعال النار أبدًا.
*
أسطورة المطر/المرأة (الأسطورة الوظيفية)
كان المطر امرأة جميلة تعيش وحيدة في السماء. كانت تلبس حزام قوس القزح
على خصرها. وتزوَّجت المرأة المطر من الرجل الذي خلق الأرض وأنجبت منه
ثلاث بنات جميلات. وفى يوم ما خرجت المطر للتنزُّه ومعها البنات
الثلاث، فأرادت الابنة الكبرى أن تترك البيت وتزور الأرض الزرقاء، فسمح
لها والداها بالخروج. وهناك شعرت بالحبِّ تزوَّجت من صياد بارع. وفى
طريق عودتها ولدت أمَّها المطر طفلاً جميلاً وكان ولدًا فسمتهSon-eib.
عندما وصل
Son-eib
إلى سنِّ كاف توسَّلت أخواته الثلاث أبويهم أن
يتركا ابنهما
Son-eib
مثلهن ليسافر ويرى العالم. ولكن الأم - المطر كانت
خائفة من أن تفقدهم جميعًا فرفضت توسلاتهنَّ. ذات مرة تطلَّع ذئب،
بالصدفة، إلى أعلى نحو البنتين فوجدهما غايةً في الجمال والوسامة لذلك
تنكَّر بقلب شرير وخاطب ودَّ والدهم قائلاً: أتوسَّل إليك أن تتركهم
ليذهبوا. لابدَّ لهم أن يتعلَّموا، لأنهم طيِّبون جدًا. وأنا بنفسي سوف
اتبعهم لكي أرى ذلك وأطمأنك عليهم.
عندئذ أذن لهم والدهم بالخروج رغم حزن زوجته الشديد. فذهبوا جميعًا،
وحدث ما حدث.
عندما نزلوا إلى الأرض، دخلوا قرية حيث يعيش معًا الطيب والخبيث من
الناس. مرت امرأة وحدَّقت بشدة نحو
Son-eib
وقالت له: كيف يمكنك أن تفعل هذا؟ هذا الولد سيأخذ
عقل أمِّي. وفى البيت قدَّمت له طعامًا مثلما تقدِّم قربانًا لإله.
ولكن الذئب لم يعط
Son-eib
شيئًا من الطعام. وقال للمرأة: هذا ليس بشخص، إنه
مجرَّد شيء. غضب
Son-eib
وحول وجهه عنهم بسرعة. بينما أخواته البنات الثلاث
يأكلن من الطعام. وفيما يجلس
Son-eib
مع نفسه فوق العشب رأى عصفورًا أحمر جميلاً يرفرف
حوله فقبض عليه وخبَّأه في معطفه الجلدي.
وفى الليل والمرأة مفتونة تقدِّم نفسها للضيف الذي حلَّ بمنزلها قالت:
أنت لا تقدر أن تتمدَّد في الظلام. تعال في كوخي. فالبنات قد ذهبن مع
أمِّي.
إلا أنَّ الذئب لم يرغب في ترك الولد داخل الكوخ بل أراده أن يتمدَّد
وحيدًا في كوخ صغير. وفى جنح الليل ذهب الذئب إلى القرية وأحضر معه بعض
الأشرار، فأضرموا النيران وأحرقوا الكوخ والولد بداخله. وفيما السقف
يتساقط طار العصفور المحبوب داخل الليل ورفرف بعيدًا نحو أمِّ الولد،
المطر، وصار يغنِّي:
-
Son-eib
قد مات، أهلكته النيران.
Son-eib
مات دون أن تعرف أخواته.
سمعت الأم هذا الغناء، الذي يتغنَّى به الطائر. فقالت لزوجها: هل تسمع
ما يغنيه الطائر. يا من اسمك من نار؟ ماذا أنت فاعل الآن بمن قتلوا
ابننا؟
وبعد وقت قصير رأى الناس، طيِّبين وأشرارًا، جميع من كانوا في القرية
عاصفة سحاب سوداء تنتشر بسرعة حولهم وفى وسطها يبزغ قوس قزح. وفجأة
أبرقت السماء ورعدت. وضرب البرق الذئب ومن معه من الأشرار الذين أغراهم
بالقتل. ومن وسط هذه السحابة سمعوا صوتًا عظيمًا يزأر: لا تقتلوا أطفال
السماء. ومنذ هذا الوقت والبوشمن يخافون قوس القزح.
*** *** ***
الأوان،
الأحد 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008