اللاعنف في التربية: مقدمة
جان-ماري
مولِّر
نهنئ صديقنا الفيلسوف الفرنسي جان-ماري مولِّــر لحصوله على الجائزة
الدولية للمؤسسة الهندية "جَـــمنَـــلال باجاج" لعام 2013، على
التزامه المتحمِّس لتنمية ثقافة اللاعنف وتعزيز قيم غاندي خارج الهند.
حيث قدَّمَ له اليومَ [15 تشرين الثاني 2013] هذه الجائزةَ في مومباي
رئيسُ جمهورية الهند.
Nous
félicitons
notre ami le philosophe français Jean-Marie MULLER pour
avoir reçu le
Prix international de la fondation indienne « Jamnalal
Bajaj » pour
l’année 2013, pour son engagement passionné en faveur du
développement
de la culture de non-violence et de la promotion des
valeurs de
Gandhi en dehors de l’Inde.
مقدمة:
في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1998، "أعلنت الجمعيةُ العامة
للأمم المتحدة فترةَ 2001–2010 عقدًا دوليًا لتشجيع ثقافةٍ للسلام
واللاعنف لصالح أطفال العالم" (القرار 53/25). وفي حيثيات القرار،
تَعتبر الجمعيةُ العامة "أنَّ ثقافةً للسلام واللاعنف تدعو إلى احترام
حياة كل إنسان وكرامتِه دون تعصب ولا تمييز أيًا كان نوعه". فضلاً عن
ذلك، تعترف بأن
للتربية دورًا ينبغي أن تلعبه في بناء صرح ثقافةٍ للسلام واللاعنف
وخصوصًا من خلال تعليم الأطفال ممارسةَ اللاعنف والسلام، مما يساهم في
تحقيق الأهداف والمبادئ الواردة في ميثاق الأمم المتحدة.
بالإضافة إلى ذلك،
تدعو الجمعيةُ العامة الدولَ الأعضاء إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة
لتعليم ممارسة اللاعنف والسلام على جميع المستويات في مجتمع كل منها،
بما في ذلك المؤسسات التعليمية.
إن ما يدعو للسرور هو أنْ يصوِّتَ ممثلو الدول المجتمعة في نيويورك على
مثل هذا القرار، في حين أن اللاعنف ما يزال غريبًا عن الثقافة التي
ورثناها. فالمفاهيم التي ينتظم حولها فكرُنا ويتهيكل لا تترك حيِّزًا
يُذكَر لمفهوم اللاعنف، في حين أن العنف يشكِّل جزءًا مكملاً من عالمنا
الفكري ومن سلوكنا. ويأتي اللاعنف ليقلب نقاطَ ارتكازنا رأسًا على عقب.
إن مفهوم اللاعنف نفسَه يواجه صعوباتٍ في أذهاننا تجعلنا نسعى غالبًا
إلى الطعن في جدواه. ما يزال هناك، إذَنْ، عملٌ تربوي كامل ينبغي
القيام به لكي لا يبقى قرارُ الأمم المتحدة حبرًا على ورق، ولكي
تغيِّرَ "ثقافةُ اللاعنف والسلام" هذه، والتي يتكلم عنها القرارُ،
عقلياتِ المدرسين والأطفالِ على حدٍّ سواء تغييرًا حقيقيًا.
في أيار/مايو 1985، وفي "توصية إلى الدول الأعضاء"، كان المجلس
الأوروبي قد دافع أصلاً لصالح التربية على الحل اللاعنفي للنزاعات:
تؤكد هذه التوصية على أنه
يمكن وينبغي تمثُّل المفاهيم المرتبطة بحقوق الإنسان منذ نعومة
الأظفار. على سبيل المثال، يمكن أصلاً للأطفال قبل المدرسة أو في
المرحلة الابتدائية أن يختبروا ضمن إطار الصف التسويةَ اللاعنفية
للنزاعات واحترامَ الآخرين. [...] إن الكفاءاتِ المطلوبةَ لفهم حقوق
الإنسان والدفاع عنها هي على وجه الخصوص: [...] تعلُّم الاعتراف
بالاختلافات وقبولها، إقامة علاقات بنَّاءة غير قمعية مع الآخرين، حلّ
النزاعات بطريقة لاعنفية[1].
واجب التربية على اللاعنف:
يقول الفيلسوف كارل بوبر
[2]
Karl Popper:
"ترتكز الحضارةُ أساسًا على تقليص العنف"[3].
وهذا، في رأيه، هو الهدف الرئيسي الذي ينبغي أن تسعى إليه
الديموقراطية. ويشير إلى أنَّ حرية الأشخاص غير مضمونة في المجتمع إلا
بقدر ما يتخلى جميعُ الأشخاص عن استخدام العنف: "تتطلب دولةُ القانون
اللاعنفَ الذي هو نواتُها الأساسية"[4].
فإذا ما لجأ أحد الأفراد إلى العنف تجاه الآخرين، فمن الضروري عندئذٍ
أن تتدخل الحكومة لتعيد الأمن العام والسِّلْم الاجتماعي. إلا أن دولة
القانون، في رأي كارل ﭙوﭙر، ينبغي ألا تتأسس جوهريًا على قمع الحكومة
بل على حس المواطَنة لدى الأفراد والذي من خلاله يتخلَّون من تلقاء
أنفسهم عن العنف. ومن أجل ذلك، ينبغي تطوير ثقافة لاعنف لدى المواطنين،
وينبغي البدء بتربية الأطفال على اللاعنف. ويؤكد ﭙوﭙر أنه كلما أُهمِل
"واجبُ التربية على اللاعنف"[5]
رجحَتْ ثقافةُ العنف في المجتمع، ووجبَ على الحكومة اللجوءُ إلى تدابير
إكراه وقمع. فالتربية "لا ترتكز على تعليم أفعال فحسب، بل على إظهار
مدى أهمية إلغاء العنف على وجه الخصوص"[6].
المسألة، في المحصلة، هي تربية الأطفال على اللاعنف، ولكنَّ الشرط
الأول لتحقيق ذلك هو أن تستقي التربيةُ نفسُها من مبادئ اللاعنف
وقواعده ومناهجه: تبدأ التربية على اللاعنف من لاعنف التربية.
فاستنادًا إلى كلام جورج غوسدورف
Georges Gusdorf
الذي يقول عن اللاعنف إنه: "أشبه بضربة ممنوعة ضد أخلاقيات الفلسفة"[7]،
يَعتبِر أيريك ﭙريرا
Éric Prairat
العنفَ "أشبه بضربة ممنوعة ضد أخلاقيات التربية"[8].
ينبغي أولاً أن يحترم الكبارُ عالمَ الطفل فلا يجتاحونه ولا يحتلونه
احتلالاً عنيفًا بفرض قوانينهم وإيديولوجياتهم. لقد أوضح يَنوش كورتشك
Janusz Korczak،
أحدُ رواد تربيةٍ ترتكز على احترام الطفل، أوضح علاقةَ التبعية التي
يفرضها الكبار على الطفل، إذْ كتب في عام 1929:
نحن نعرف دروب النجاح ونُمطِره [أي الطفل] مواعظَ ونصائحَ ونطور مزاياه
ونصحح عيوبَه. نتكفل بتوجيهه وبجعله أفضل وبتقويته. فهو لا يستطيع
شيئًا ونحن نستطيع فعل كل شيء. نُصدِر الأوامرَ ونطلب الطاعة. ولكوننا
مسؤولين أخلاقيًا وقانونيًا وعارفين بكل شيء وحاسبين حسابًا لكل شيء،
فإننا نحن الحكام الوحيدون لأفعاله وحركاته وأفكاره ومشاريعه. نحدد
واجباتِه ونحرص على أن يؤديَها. كل شيء يتعلق بإرادتنا وبفهمنا؛ فهمْ
أطفالنا، إنهم ملكيتنا[9].
لقد أدركنا اليوم أنَّ مثل هذه الهيمنة التي يمارسها الكبار على الصغير
ليست الطريقة المثلى لتربيته على المسؤولية والحرية. إن للطفلِ حقًا في
الاحترام لأنه في الأساس شخص.
إنَّ القيم التي ينبغي على التربية أن تنقلَها إلى الطفل هي القيم التي
تؤسس الإعلانَ العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرَّتْه في العاشر من كانون
الأول/ديسمبر 1948 الجمعيةُ العامة للأمم المتحدة. يَعتبِر الإعلانُ
هذا أنَّ "الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأُسْرة البشرية
وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم".
وتنصُّ المادة 26 منه على أنه:
ينبغي أن تهدفَ التربيةُ إلى تفتُّح شخصية الإنسان تفتُّحًا كاملاً
وإلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
وكما أشار فرانسوا فايَّان
François Vaillant
فإن
أخلاقيات اللاعنف وأخلاقيات حقوق الإنسان تُعبِّر عن أخلاقيات عامة
واحدة ألا وهي أخلاقيات احترام كل إنسان وكرامته[10].
لا ريب في أن العمل اللاعنفي هو الأنسب لتشجيع الحرية والعدل والسلام
والدفاع عن كل منها، لأنَّ الدفاع عن حقوق الإنسان يعني، قبل كل شيء،
احترامها من خلال الاختيار نفسه للوسائل التي ننوي استخدامها للدفاع
عنها.
توضح الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل التي أقرتها الجمعيةُ العامة للأمم
المتحدة في العشرين من تشرين الثاني/نوﭭمبر 1989 (في المادة 29 منها)
أن تربية الطفل ينبغي أن تهدف على وجه الخصوص إلى:
-
ترسيخ احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية لدى الطفل.
-
إعداد الطفل لتحمُّل مسؤوليات الحياة في مجتمع حر ضمن روح من التفاهم
والسِّلْم والتسامح والمساواة بين الجنسين والصداقة بين جميع الشعوب
والجماعات الإثنية والوطنية والدينية.
أصبح اليوم من المسَلَّم به عمومًا أن الديموقراطية هي المشروع السياسي
الذي يقابل تمامًا مشروعَ مجتمعِ حريةٍ وتسامح وعدالة وسلام. عندئذٍ،
ينبغي أن يهدف المشروع التربوي إلى إتاحة الفرصة للطفل لكي يصبح
مواطنًا مسؤولاً ومقتنعًا في الصميم أنَّ الثورة الوحيدة التي تفي
بوعودها هي الثورة التي تريد تحقيق الديموقراطية. وأفضل تربية لبلوغ
هذا الهدف هي تنظيم المجتمع المدرسي وفق قيم الديموقراطية.
إن تعليم حقوق الإنسان في الوسط المدرسي يعني، إذًا، مواجهة إشكالية
الديموقراطية في مجتمع إنساني. إن سيرورة العمل الديموقراطية للمؤسسات
المدرسية هي الشرط لتربية حقيقية على حقوق الإنسان ولمصداقيتها[11].
وعليه فإن الفريضة الأساسية للديموقراطية هي بناء مجتمع متحرر من سلطان
العنف. فالديموقراطية تتوافق عضويًا مع اللاعنف سواءً في غايتها أم في
طرائقها. يؤكد غاندي بقوله:
أعتقد أن الديموقراطية الحقيقية لا يمكنها أن تنتج إلا من اللاعنف[12].
لا جَرَمَ أن المدرسة لا يمكن أن يحكمها التلاميذُ كما يحكم المواطنون
الديموقراطية؛ فالمسألة ليست في ترك المدرسة لسلطة الأطفال، واقتراع
التلاميذ لا يمكن فرضه على المدرِّسين كما يُفرَض اقتراعُ المواطنين
على القادة. غير أن مهمة المدرسة هي تعليم القيم المؤسِّسة لديموقراطية
المواطَنة: اللاعنف والاحترام.
الإيديولوجيات المبنيَّة على الإقصاء:
إن التهديداتِ التي تؤثر على النظام الديموقراطي هي، قبل كل شيء، ناتجة
عن إيديولوجيات مبنية على التمييز والإقصاء. فسواء كانت القومية أم
العنصرية أم كره الأجانب أم الأصولية الدينية أم الليبرالية الاقتصادية
المبنية على البحث عن الربح فقط، جميع هذه الإيديولوجيات هي التي تهدد
الديموقراطية. عندئذٍ فإن تشجيع الديموقراطية والدفاع عنها – وهاتان
الخطوتان تعزز إحداهما الأخرى، وينبغي القيام بهما معًا – يعني، قبل كل
شيء، مكافحة هذه الإيديولوجيات التي تتكاثر بذورُها داخل كلِّ مجتمع
وخارجه على حد سواء. إن هذه الإيديولوجياتِ لا تعرف في الواقع أيةَ
حدود.
ترتبط جميع الإيديولوجيات المناهضة للديموقراطية بإيديولوجيا العنف،
ولا تفتأ بلا تردُّد تنادي على الدوام بضرورة العنف وشرعيته طالما أنه
يخدمها. ولذا فإن ما يهدد الديموقراطيةَ هو في المحصلة خطر العنف، وإن
الدفاع عن الديموقراطية هو بالنتيجة مكافحة العنف باستمرار.
ولكي تؤديَ المدرسةُ مهمتَها، لا بد أن تكون مستقلةً عن جميع الخصوصيات
الطائفية، وخاصة عندما تتنافى هذه الخصوصياتُ مع فرائض الديموقراطية.
غير أنه في الوقت نفسه ينبغي على المدرسة أن تربِّيَ نظرةَ الأطفال على
اكتشاف الاختلافات الثقافية واحترامها. ينبغي على المدرسة أن تكون
المكان المفضَّل لهدم الأحكام المسبَّقة التمييزية بحق "الآخرين"،
هؤلاء الذين ينتمون إلى جماعة أخرى، إلى شعب آخر، إلى عِرق آخر، إلى
دين آخر. إنَّ نقل أفكار مسبقة عن العدو إلى الأطفال يعني سلفًا تسليح
عقلهم ومشاعرهم وسواعدهم، يعني أصلاً تعليمهم الحرب. تقول برناديت
بايادا
Bernadette Bayada:
إن الأفكار المسبَّقة للعدو تثير سلوكًا عدوانيًا؛ فهي تخلق كذلك صحتها
عبر حلقة مفرغة، وتعطي شعورًا خادعًا بالحقيقة واليقين. إن أعنف نتائج
الفكرة المسبقة وأكثرها هدمًا هي الدمج الذي يقوم به الشخص الذي هو
ضحيتها لفكرةِ أنه في الحقيقة أدنى؛ فالمضطهَد يتماهى مع الصورة التي
يعطونه إياها[13].
إن نزع سلاح نظرة الأطفال "للآخرين"، وخصوصًا لمن تختلف هويتهم
الاجتماعية، لهو إذًا فريضة أساسية للتربية. لا بدَّ من تربية نظرتهم
لكي يتخلوا عن كل عداوة بحق "الآخرين المختلفين"، ويتعلموا الإحسان
إليهم. يتساءل الفيلسوف ميشيل سيرِّيس
Michel Serres:
كيف نحصل في النهاية على التسامح واللاعنف إذا لم نضع أنفسنا مكان
الآخر؟[14].
ضرورة توضيح المفاهيم:
بينما خصصت التقاليدُ التي ورثناها مكانًا كبيرًا وجميلاً للعنف، لم
تُعطِ عمليًا أيَّ مكان للاعنف، حتى أنها تجاهلَت اسمَه. فاللاعنف
مازال فكرة جديدة في أوربا والغرب أجمع. وكلمة "لاعنف" تثير بحد ذاتها
التباساتٍ عديدةً وغموضًا وسوءَ فهم. وما يشكِّل في البداية صعوبةً هو
أنها تُعبِّر عن معارضة ورفض؛ ففي مجتمعاتنا، التي تسيطر عليها
إيديولوجيا العنف الضروري والشرعي والشريف، تغلِّف هذه الكلمةَ
التباساتٌ عديدة. ولكن ميزتها الحاسمة أنها تجبرنا على النظر وجهًا
لوجه إلى التباسات العنف العديدة، في حين أننا نحاول دائمًا إخفاءها
لكي نتأقلم عليها أفضل تأقلُم. فاللاعنف لا يُعبِّر عن أقلِّ بل عن
أكبر واقعية ممكنة مقارنةً بالعنف. ينبغي تقدير مداه، وسبر عمقه،
ومعرفة وزنه.
لن يكون ممكنًا تحديد معنى اللاعنف إلا إذا حددنا مسبقًا معنى العنف.
ينبغي، قبل كل شيء، تحديد الشيء الذي يقول له اللاعنفُ لا بالضبط،
والشيء الذي يعترض عليه، والشيء الذي يرفضه. مع هذا، لن يكفي ذلك
أيضًا، إذ يجب علينا أيضًا تحديد ما يبتغيه اللاعنف، وما يريد تأكيده،
وما يقدمه، وما هو مشروعه.
لا ريب في أن كلمة "عنف" هي واحدة من الكلمات الأكثر استخدامًا في كلام
الجميع، وفي كلام كل واحد منا وكتاباته. مع ذلك، إذا انتبهنا إلى
المعنى الذي نعطيه لهذه الكلمة فسيتبين لنا أنها تحمل عدةَ مفاهيم
تختلف فيما بينها اختلافًا واضحًا. هذا اللبس اللغوي دلالة على لبس
فكري، وذلك اللبس المزدوج لا يمكن إلا أن يكون مصدر عدم فهم في
نقاشاتنا ومحاولاتنا الحوارية. إن عدم الفهم هذا يتضاعف بالضرورة عندما
نخاطر في الحديث عن اللاعنف، ولذا فمن الضروري القيام مباشرةً بتوضيح
للمفاهيم من شأنه أن يتيح لنا الاتفاق على دلالة الكلمات التي
نستخدمها.
ولتوضيح هذا اللبس اللغوي والفكري الذي يسود عمومًا أحاديثنا عن العنف،
يبدو لنا مهمًا جدًا إظهار المحاولات التي أُجريت للحطِّ من شأن
"العنف" عند الشباب والتي تتلخص في عبارة: "العنف ممنوع"، هذا من جهة،
ومن جهة أخرى إظهار الأفكار حول العنف والتي عبَّر عنها عدةُ كتَّاب
يدَّعون استنادَهم إلى معطيات علم النفس للتأكيد على أنه لا جدوى
البتةَ من "إرادة منع العنف"، لأنه، في رأيهم، قد يكون مزدوجًا، وقد
تكون هناك أعمال عنف "حسنة" وأعمال عنف "سيئة".
في الواقع، هناك عدة نصوص كُتِبتْ حول موضوع (العنف في المدرسة) تدعو
الشبابَ، على شكل شعارات، إلى التخلي عن العنف. نذكر منها عشوائيًا:
«أوقِفوا العنف»، «العنف ضعيف»، «لنقلْ: لا للعنف»، «العنف ليس حياة!»،
«العنف ليس حلاً على الإطلاق»، «العنف ليس ردًا أبدًا على العنف»،
«الأقوى من العنف هو الاحترام»، «العنف ليس حتمية»، «كفى عنفًا!»،
«العنف ظلم للجميع»، «العنف نهايته دائمًا سيئة»، «العنف يعقِّد
الحياة»، «اسكتْ أيها العنف فالاحترام هنا»، «العنف يترافق مع
الانحطاط»، إلخ. إذا أُخِذَتْ هذه العباراتُ بحرفيتها فإنها تؤكد بوضوح
أن العنف "سيئ" من حيث الأصل، وأنه "شرٌّ" دائمًا، وأنه ليس حقًا
أبدًا، وأنه ليس شرعيًا، أبدًا وليس مبرَّرًا أبدًا.
مع ذلك، يريد كُتَّـابٌ كُثر ممن يعالجون مشكلةَ العنف أن يقولوا إنه
يشكِّل جزءًا مكمّلاً للحياة، وإنه قد يكون من الوهم إرادة إلغائه. إذْ
يمكننا فعلاً أن نقرأ هنا وهناك: «الحياة عنيفة»، «العنف ضروري
للحياة»، «العنف أحد مُقوِّمات الكائن الإنساني»، «هناك لجوء حسن
للعنف»، «العنف هو انتفاضة الحياة»، «هناك مراتب لأعمال العنف، وينبغي
على المحاكمة العقلية أن تضع حدود العنف الطبيعي والعنف المرَضي»،
«العنف هو رغبة في الوجود»، «العنف حاملٌ للحياة والموت»، «يحتاج
الإنسان إلى العنف لكي يعيش، وإلا فلن تكون لديه قوة الحياة»، إلخ.
هذان المقطعان من الشعارات متناقضان تناقضًا تامًا ولا يمكنهما إلا
إرباكَ المربِّين... ينتج عن ذلك أن المفهوم المستخدم للعنف هو مفهوم
غامض وضبابي ومشوَّش ومبهَم وملتبس، وفي المحصلة عَصيٌّ على الفهم.
وهذا الغموض ينزع كلَّ جدوى من مفهوم "اللاعنف" نفسه. المهم أن
العباراتِ الثانيةَ التي ذكرناها تحمل غموضًا كليًا بين "العدوانية"
التي هي في الواقع "قوة حياة" وبين "العنف" الذي هو "قوة موت". ربما
ينبغي، بحسب فرضيتنا في العمل، استبدال كلمة "عنف" في تلك الأقوال
بكلمة "عدوانية" ليستقيم المعنى. إذْ ذاكَ، يمكننا أن نأخذَ على المعنى
الحرفي الشعاراتِ الهادفةَ إلى الحط من شأن العنف عند الشباب؛ فيستعيد
مفهومُ اللاعنف جدواه ويصبح في الإمكان «حشد الطاقات ضد العنف».
عندما يتساءل فيليـب ميريو
Philippe Meirieu
عن غاية المدرسة، يُحبِّذ هذا الجوابَ: "إحداث الإنسانية في الإنسان".
إلا أنَّ هذه العبارة تتطلب تحديدَ ماهية هذه "الإنسانية". عندئذٍ،
يُعبِّر عن قناعته الشخصية بقوله:
لا يمكنني أن أقول إلى أي مدى تكون الإنسانية من حيث الجوهر، في رأيي،
هي ما يتعارض مع العنف الغالب في كل مكان للأشياء والبشر. [...] فأنْ
يكونَ عندئذٍ على المدرسة أنْ تنمِّيَ الإنسانيةَ في الإنسان يعني في
رأيي أنَّ عليها أولاً مسؤوليةَ إتاحة اللقاء بين البشر في مجال آخر
غير مجال العنف. [...] لأنه ليس هناك من شيء في أصل رفض العنف، ولا من
شيء يؤسِّس لهذا الرفض سوى الرفض نفسِه للعنف بما هو [أي رفض العنف]
تعبير قطعي عن الإنسانية[15].
إنَّ ما يميِّز هذه الدراسة هو تأكيدها على إظهارِ أنَّ مبادئَ اللاعنف
وطرائقَه هي التي تتيح إعطاءَ هذا "الرفضِ للاعنف"، والذي يُعَدُّ في
الواقع أحدَ مقوِّمات إنسانية الإنسان، ترابُطَ حسِّ الاعتقاد وحسِّ
المسؤولية على حد سواء وملاءمتَهما.
إن "رفض العنف" لا يأخذ معناه كاملاً إلا إذا عبَّرت عنه "إرادةُ
اللاعنف". يجب أن ننسى ما تعلَّمناه من فكرةِ أنْ نرى التربيةَ عِبْر
الموشور المشوِّه لإيديولوجيا العنف، وذلك لنتعلم أنْ نتصور التربيةَ
من مرآة فلسفة اللاعنف.
إن كلمة طِفْل
enfant
[بالفرنسية] تعني، من حيث معناها الاشتقاقي، مَن "لا يتكلم" (مِن
اللاتينية
infans
وinfantis
المؤلَّفة من بادئة النفي
in
ومن اسم الفاعل للفعل
fari
بمعنى "تكلَّم"). يمكننا القول إنَّ تربيةَ طفل تعني تعليمَه الكلامَ.
ليس المقصود تعليمه تكلُّمَ لغته الأم بقدر ما المقصود تعليمه
التكلُّمَ مع الآخرين. فالتكلم هو أساس التكيف الاجتماعي وبنيته، وما
يميِّز التكلُّمَ هو التخلي عن العنف تحديدًا.
إن إدراج النزاع والعنف واللاعنف في برنامج المدارس ليس أمرًا سهلاً
كسهولة إدراج الرياضيات أو الإنكليزية أو الجغرافية. إذْ ليس المقصود
تعليم معرفة بل التربية على سلوك، وعلى طريقة حياة. ويكاد كثير من
المدرسين يُظهِرون أن ذلك يتجاوز حقلَ كفاءتهم، ولا يدخل ضمن اختصاصهم.
ومع ذلك، فالعنف هنا، في المدرسة، وينبغي على هؤلاء المدرسين أنفسهم
مواجهته يوميًا، هذا العنف يمنع المدرِّسين من التدريس، والمتعلمين من
التعلم. مذْ ذاك، إذا أراد المدرسون التمكُّنَ من تدريس منهاجهم، وكذلك
القيام بما يرونه مهنتَهم، فإن عليهم أولاً إدارة "العنف" في المدرسة.
من أجل تحديد المفاهيم التي من شأنها أن تتيحَ تأسيسَ فلسفةٍ للاعنف
وبناءها، سنتطرق عن قصد إلى أحاديثَ بعيدةٍ عن المشاكل الخاصة المرتبطة
بالتربية. وسنقوم بمقارنة "عامة" لمفاهيم النزاع والعدوانية والقوة
والعنف واللاعنف. ونراهن على أن المربِّيَ، بقراءته لهذه الصفحات،
سيهتم بربطها بالمشاكل الملموسة التي يصادفها يوميًا في أثناء ممارسة
مهمته. لأنَّ على المدرسين أنفسهم، في المحصلة، اكتشافَ جدوى هذه
الخطوة وتقديرها، إلا أنَّ مثل هذا الوعي لا يمكن تركه للمبادرة
الشخصية، إذ ينبغي أن يتمكن المرَبُّون من الحصول على تأهيل أساسي
ومستمر من شأنه أن يتيح لهم اختبارَ خياراتهم التربوية وتعديلَها على
ضوء فلسفة اللاعنف.
مادام أن المشروع التربوي ينبغي أن يهدف إلى تنظيم الفضاء المدرسي
وفقًا لقيم الديموقراطية فإننا سنحدد ما هي أسسها، ثم سنحاول، بعد ذلك،
أن نُظهِر للمربين المشاكلَ التي يواجهونها في عملهم، وسنسعى عندئذٍ
إلى تحديد المبادئ والطرائق الممكنة التي يقدمها اللاعنف لمواجهة هذه
المشاكل.
نحن نعي صعوبةَ المشاكل التي يواجهها المدرسون-المربون يوميًا
وتعقيدَها. ولا تنشد هذه الصفحاتُ إلى تأكيد فكرة أنه يكفي إدراجُ مبدأ
اللاعنف في قلب المشروع التربوي حتى تجد هذه المشاكلُ حلاً لها بسهولة.
نحن لا ندَّعي تعليم المدرسين مهنتَهم. قصدنا فقط دعوتهم إلى رؤية
ممارساتهم اليومية على ضوء مبادئ اللاعنف وطرائقه. هل يمكننا، في
المستقبل ربما، أن نتفق جميعًا على الاعتراف بأنه إذا كان اللاعنف
ممكنًا فإنه أفضل، وإذا كان اللاعنفُ أفضلَ فإن من واجبنا إذَنْ عدمَ
توفير أي جهد لجعله ممكنًا. هذه الدراسة لا تطمح سوى إلى اقتراح دراسة
إمكانيات اللاعنف.
ترجمة: محمد علي عبد الجليل
*** *** ***