وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا
بعيدًا عن التشخيص والتأريخ كمفهوم إشراكي

 

بسيم موره لي

 

الله وضع في الكون قانونًا يُدعى الوعي. هذا القانون أساسه أن يتطوَّر الدِّماغ ليتمكَّن من اكتساب هذا القانون من خلال عمليَّة تطوُّريَّة، وليس بتدخُّل مباشر من الله. إذًا ،الله لم ولن يتدخَّل في الكون أبدًا. ورغم هذا فمشيئة الله واقعة من خلال ما أوجده من قوانين تحكم مادة الكون، ومن خلال تكوينه لبنية المادة وحيثيَّاتها. وهنا يكمن إبداع الخالق في خلقه، وهنا تتبدَّى قدرته المطلقة حقًّا.

آدم هو رمز قرآني يعبِّر عن المخلوق الواعي بغض النَّظر من هو، فاليوم هو نحن، وبعد ملايين السنين ربما يكون مخلوقًا متطورًا بدرجة لا يمكن لنا تصورها. ورغم هذا سيتعامل مع نفس النص القرآني وسيجد ما يأخذه منه لكونه علمًا إلهيًا مطلقًا لا تنقصه ناقصة، والذي يمثِّل الكون كله بكل حالاته وتبدُّلاته وتغيُّراته، ومن ضمنها الوعي وتبدياته مهما تغيَّرت وتبدَّلت.

آدم علمه تراكمي، ولكنه مخلوق يتعلَّم. وكلَّما تعلَّم شيئًا بنى عليه حياته وتفكيره ونمط معيشته وأخلاقياته. ولهذا فهو يتطوَّر مع الزَّمن علميًّا وفكريًّا، ولا يقف عند نقطة ثابتة. وكلما اكتشف شيئًا جديدًا، مهما بلغت درجة صعوبته، أو المدَّة التي يستطيع حقًّا أن يدرك كُنه ما يواجه في هذا الكون، ضَمَّه إلى قائمة معلوماته ومعارفه التي تفيده في مواجهته لما هو آتٍ من الاكتشافات والعلوم والمعارف.

ما هو آتٍ هو علم وليس معجزات، وبالتالي سيدركه آدم لأن إدراكه قائم على علم منطقي تراكمي تمامًا كما سبق وأدرك ما أدركه من علم.

وكل علم إلى علم يؤدي ولا يؤدي إلى جهل، إلا إذا أطلقوا عليه (وسم) العلم وما هو بعلم. تمامًا كما يزعمون أن سنة الرسول وأحاديثه وأسباب النزول وتاريخ الرواة والأسانيد علومًا من أشد العلوم تدقيقًا وتوثيقًا، وهي مجرَّد ظنيَّات لا تحمل أي برهان أو يقين على الإطلاق.

إذًا، كلما توصل آدم إلى حلٍّ لمعضلة علمية بات فكره منفتحًا أكثر وأوسع أفقًا.

ومن الجيد أن نفهم ربطًا مع كل ما قلنا: أن كل هذا العلم المتراكم هو من علم الله لأنه من أوجده وأبدعه بكل دقائقه العميقة، وهو ما يعلِّمه لآدم وبنيه كل يوم.

إذًا، فالله حقًّا وفعلاً:

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة : 31]

وبما أن الحوار أصلاً هو حوار رمزي لم يحدث في وقت من الأوقات، وهو رمز قرآني في القرآن المرسل إلى الناس ليعلمهم ما يريد الله أن يَصِلُوا إليه؛ فالله لم يُعَلِّم آدم بتدخل مباشر في نقطة تاريخية معيَّنة، وكذلك الملائكة لم تقل شيئًا لله أبدًا ومطلقًا. ولكن الله هو الذي يقول لنا هنا بصورة رمزية: إن الناس لهم القدرة أن يَعْلَمُوا كل شيء في الكون، ومن ضمن ذلك، ومن خلال التجربة الحياتية، مفهومي الخير والشر. وهذا ما يجب أن يسعوا إليه بكل الصلاح الذي يؤدي إلى الفلاح. وليس للملائكة إلا أن تسجد لهذا الـ (آدم).

والملائكة هي قوانين الله الفاعلة في الكون.

والملائكة تسجد لآدم بأن يكتشفها ويطوِّر حياته ومعرفته من خلالها، ولكن ليس له أن يخترق مشيئة الله فيها ويُبدِّلها ويُغيِّرها بما يشاء... فهذا لا يمكن أن يحدث.

وبالتالي، الملائكة لا يمكن أن تَعْلَم أو تُدْرِك ما يحدث في الكون حقًّا. فهي لا تَعْقِلْ. حتى ولو أدَّت دورها المكلَّفة به من الله كرسول يُوْصِل رسائل الله إلى رُسُلِهِ من البشر.

وليس في هذا كله أي تناقض بين العقل والعلم والمنطق، وبين المفهوم الدِّيني السَّليم الذي يَدْعُونا إليه الله بالعلم والحكمة والمنطق والبرهان.

ومن كل ما توصلنا له واستنتجناه من بعد ترتيل لآيات القرآن، ومن ثم تدقيق في كل كلمة وإلى أين تأخذنا بمطلقها المدهش نفهم:

الأسماء مفردها اسم، والاسم من الجذر وَسَمَ.

وَسَمَ: يدل على معنى ما يوسم به الشيء. والوسم ليس صفة.

الصفة لها علاقة بالشكل: طويل، قصير، سمين، ثخين، نحيف، ضعيف، ضخم...

الوسم له علاقة بالمضمون: شهم، كريم، شجاع، بخيل، جبان، طمَّاع، أناني، عميق...

الوسم مرتبط بالأعمال دائمًا، ولذلك قال الله متحدثًا عن أعماله وقدراته وليس عن شكله:

وَللهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأعراف : 180]

وقال معلِّمًا لنا، قارنًا أسمائه بمفهوم الصَّلاة، وذلك لمن يريد حقًّا أن يُعْمِلَ عقله في كلام الله العليم:

قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [الإسراء : 110]

من الواضح كلَّ الوضوح والبَيان ربط مفهوم الدُّعاء بالصَّلاة. وهذا شيء قد يبدو غريبًا وبعيدًا جدًّا عن المفهوم الشَّائع والسَّائد لمفهومي الدُّعاء والصَّلاة. فقد جعلوا الدُّعاء بجهة والصَّلاة بجهة بعيدة جدًّا. هل يمكن أن يكون ذلك مجرَّد صدفة!؟

والدُّعاء والصَّلاة مرتبطان بأسماء الله الحسنى، أي أعماله وقدراته، وهي مرتبطة تمامًا بالفكر الإنساني النِّسبي. فمن يريد أن يكون خليفة لله على أرضه عليه أن يدعو الله. وهذا الدُّعاء مرتبط بمفهوم الصَّلاة بحالاتها ومراحلها الثلاثة.

وكل هذا مرتبط بمفهوم الشَّفاعة التي لن يقبلها الله إلا من أعمال الشَّخص نفسه. فلا مجال لأن يُصلِّي أحد بدلاً عن أحد. وبالتالي التَغَى مفهوم الدُّعاء اللفظي العاطفي القائم على سوء الظنِّ بالله. وكأنَّ الله لا يعلم ما يحدث إلا من بعد أن يَذْكُر أحدهم ذلك في دعائه اللفظي العاطفي البعيد عن أي عمل حقيقي أو منهجٍ عَمَلِي قائم على تعاليم الله ووصاياه وأوامره ونواهيه في كتابه العظيم، فينتبه الله إلى ما يحدث، ويُسَارع لتلبية هذا الدُّعاء الذي يشرح لله ما خَفِيَ عنه ويُوجِّهه إلى ما يجب أن يفعل!

وكمثال نسبي (غير مطلق) عن مفهوم الشَّفاعة ومفهوم الدُّعاء ومفهوم الصَّلاة، التي هي أعمال الإنسان، أي ما يثبت إيمان هذا الإنسان. كمن كان يسرق وأحسَّ بالنَّدم وأراد التَّوبة. هل يكتفي بالنَّدم والتَّوقُّف عن السَّرقة فَيُصْبِح مشفوعًا له ليكون من المؤمنين الصَّالحين!؟ هل يذهب الرَّسول، أو من ينوب عنه من المقدَّسين البشريين، إلى الله ويقول: سامح هذا العبد لأنه تاب ولن يسرق من بعد هذه التَّوبة. فيوافق الله مباشرة ويسامحه ويغفر له كل ما أساء به إلى الناس والمجتمع!؟

الحق أنه يجب عليه أن يُعِيْد كل ما سرق لمن يعلم أنه قد سرقه. وإذا لم يكن يعلم، فعليه أن يؤسس عملاً من كل المال الذي معه، ويجعل ريعه لكل المحتاجين والفقراء (رغم أن الدولة المسؤولة لا يمكن أن تسمح بوجود فقراء ومحتاجين، فهذا واجب ودور الدولة أصلا). وإذا لم يكن للفقراء والمحتاجين (في دولة تحترم مسؤولياتها وتقوم بها على أكمل وجه) فأن يساهم في نشر الوعي والعلم في كل مكان، ويساعد أصحاب المواهب والقدرات المميَّزة ليتطوَّروا أكثر وأكثر.

وبالتأكيد، من الحق في دولة تحترم نفسها، وتُحِقُّ الحقَّ، أن يتقدم هذا الإنسان إلى الدَّولة ويعترف بما قام به. وعلى الدَّولة أن تساعده في التَّوبة بدلاً من أن تسجنه وتحوِّله إلى مجرم متأصل لا يخرج من إجرامه أبدًا. ولكن هذا لن يحدث في دول العالم ككل، وخصوصًا في دولنا التي تسجن الأبرياء ظلمًا وعدوانًا ودون أي تأنيب لضمير.

الشَّفاعة في العمل وليس في أي شيء آخر:

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24]

-       (أَلْسِنَتُهُمْ) أقوالهم وما نصحوا وأفتوا فيه من علم وحكمة، أو من أساطير وسحر وخرافة وجهل.

-       (وَأَيْدِيهِمْ) قدراتهم وأين ذهبوا بها، وماذا قدَّموا لأنفسهم من خير ولمن حولهم من علم ومعرفة وحكمة.

-       (وَأَرْجُلُهُم) كل من تبعهم كأشخاص، وحتى كأدوات. فالأداة التي تؤدي دورها يصفها الله بالرجل كما يصف الحيوانات التي تؤدي دورها في الحياة بالرِّجال.

والفارق بين الرِّجال والأرجل أن الرِّجال يعلمون ما يؤدُّون من أدوار في الحياة، ويقومون بهذا الدَّور بكل القناعة والمسؤولية (سلبًا وإيجابًا...) أما الأرجل فهم من يؤدُّون أدوارًا وظيفيَّة على أكمل وجه دون أن يفهموا أو يعوا ما يقومون به من عمل (سلبًا وإيجابًا). ولذلك قال:

وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ [البقرة: 95]

والأيدي، التي تعبِّر بكل وضوح عن القدرات والأعمال، هي من يُحَاسَب عليها الناس (سلبًا وإيجابًا)، وهي ما سيخاف منه الكافر ويهرب منه، وسَيُسْعَد به المؤمن وسيسعى إليه، تلك اللحظة التي سيواجه فيها يوم قيامته وحسابه:

وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: 47]

ألا تشرح هذه الآية مفهومَ التَّوبة ربطًا مع مفهوم الشَّفاعة، ربطًا مع مفهوم الدُّعاء والصَّلاة، الذَيْن فُوجئنا أشدَّ المفاجأة عندما وجدناهم مربوطين ببعضهم أصلاً؟

وأكثر ما يُدهشنا أنَّ كلَّ تلك الأعمال مرتبطة بمفهوم الأسماء التي تَعلَّمها آدم من الله.

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني