قراءة وتأويل لقصيدة "مغيب أخضر" للشاعر طالب عبد العزيز
المكان زهرة الروح ومتنفسها

 

رياض عبد الواحد

 

يشكل المكان عند الكثير من الشعراء والسرديين بعدًا تنبعث منه رائحة الماضي بكل انثيالاته وبعطره الندي الذي يطرز ياقة الأيام، والذي يظلُّ ملتصقًا بهم التصاق القميص بالجسد. فمن حيث يكف فعل المكان عن انزياحه البعدوي يبدأ الحلم الواعي بالرحيل صوبه قاطعًا مفازات وأشواطًا بعيدة ونائية من أجل الوصول إلى مقتربات ذلك المكان الثر والأثير الذي لا يمكن محوه من الروح والقلب أنى كانت عذاباته. وعلى الرغم من أن الأمكنة تبقى عصية على الفهم من الجانب النفسي الأعمق إذ إنها تكوِّن للبعض معادلاً موضوعيًا لذواتهم التي عرَّش عليها ذلك المكان في حين تمر مرور الكرام عند البعض الآخر لأنها لا تشكِّل نواة في حيواتهم، ومن ليس له نواة قادرة على أن تكون قطب الرحى على استكناه الماضي والآن والمستقبل فهو كمن يسير من دون بوصلة. نعم المكان هو تاريخ الشخصية بكل أبعادها. إن لجوء الشاعر أو السارد إلى التشبث بالمكان ومحاكاته له في ضوء المتحصل الآني ما هو إلا عودة للنبع حيث تختلط الأزمنة وقد تمتد إلى الخلف بغية انعاش ما يمكن انعاشه مما قد تحصل من لذة لا تساويها لذة في هذا المكان أو ذاك.

إن طالب عبد العزيز من الشعراء البصريين القلائل الذين يشكل المكان عندهم هاجسًا رؤيويًا بل إن أمكنته امتداد لروحه حتى أنه يتخذ عنده بعدًا فلسفيًا، إذ إن أمكنته أمكنة اشتمالية، بمعنى أنها تمتد في أزمنة مختلفة. إنها أمكنة لا تحدها الجهات الأربع والأطوال المعروفة ولا يضمها زمن، أي أن زمنها زمن سيال لأنها – في الأصل – أمكنة مفتوحة على الحياة. إن أبا الخصيب ليست مجرد أرض بل هي (ارم) أخرى حيث يمتد النهر وتضرب موجاته الساحل دهرًا بلا حدود، وتطوق سعفات النخيل النسيمات الباردة الخارجة على حياء من بين السعفات لتثير حذاء النوتية وأصوات الشدات. الخصيبي سفر نفس فياضة بالحب الطاهر والنقي للأرض والإنسان حتى أن هذه البقعة اللازمنية واللامكانية تحتضن بين دفتيها أجساد أبنائها الطيبين، لهذا كان وسيبقى طالب عبد العزيز عاشقها الأول والأخير لأنه متيقن أن مغيب عبد العزيز لا يزال طريًا لأنه رضع من أديم أرض مقمرة.

تبدأ قصيدة مغيب أخضر بعنوان يحمل بنية متناقضة ظاهريًا لكنها متعاضدة داخليًا. التعاضد الداخلي متأت من استمرار الاخضرار الروحي للمغيب ولهذا لم تخنه الأرض بل كان وديعة ثمينة لديها مما جعلها تبقي عليه حيًا في ذكراه، في رائحته، في وجوده الممتد في أزمنة لاحقة. الاستهلال الابتدائي يكمن في السطر الأول المشحون بمجموعة من الدلالات المهمة:

على ساحل آلامك قف

إن كلمة "الساحل" لوحدها ذات دلالات متعددة وتناقضة فهي الامتداد والعمق، الحياة والموت، القهر والقوة، الأمل واليأس، الإغواء والخوف. أما ثيمة "الوقوف" المتحصلة من الدال اللساني الفعلي الأمري "قف" فهي ثيمة اعتبارية وإن كانت تحمل صفة الأمر، بمعنى أن السارد يريد من الغائب أن يأخذ من عملية الوقوف عبرة لامتدادات ظاهرة وعميقة في الوقت نفسه. فالوقوف على الساحل ما هو إلا مجموعة من الانثيالات لأزمنة مرت إضافة إلى أنه وقوف متصل بمشيمة الأرض التي أرضعت المروي له إنسانية ونبلاً وطهارة. ولو تمعنا قليلاً بهذا الاستهلال لوجدنا أن عملية الوقوف تعد النواة لاستقراء المغيب مما هو غير منظور، لأنه منفتح - في الأصل – على الأبعاد الزمنية المعروفة. فالوقوف الآني يشكل ما تحت الأقدام من نظرة وهو في الوقت نفسه يندفع إلى أوقات خلت ثم يقارن ذلك كله مع ما يمكن أن يحصل في المستقبل، لهذا جاءت العنونة في مدار هذه النواة "مغيب أخضر". فالمغيب دائمًا يميال إلى الحمرة المشفوعة بالسواد بيد أن إسباغ الاخضرار عليه ما هو إلا دليل طراوته ويناعته وامتداده الزمني ولاوقوفه عند نقطة معينة بمراوحة كليلة. إنه حياة كاملة، حياة مليئة بالأزمنة والأمكنة التي ارتيدت والتي لم تُرتد بعد، لهذا احتوت بنية العنونة على الزمان والمكان: الزمان الذي يمثله الغياب والمكان المتشح بالاخضرار بكل ما يحمل من ديمومة الحياة ونضجها وطراوتها. والعنوان، بعد ذلك، ينفتح على مكانين أحدهما سفلي وهو القبر الذي ترقد فيه الشخصية والمغيب فيه الجسد فقط والمكان العلوي الذي تسبح فيه الروح وهي مخضوضرة، زاهية بتاريخها وأرضها المعطاء وما عليها من مباهج الحياة.

تشير بعصاك على الظل فيورق
وعلى السعف فيميل
وعلى الأنهار فتنثني
وهذه الشمس تزاحفت إليك
حتى غمرت الدار.

نواة المكان

تدور حول نواة المكان مجموعة من الأفعال الموزعة على الزمن الفلكي بصيغه الثلاث: الأمر والمضارع والماضي، وعلى النحو الآتي:

قف، انتظر، تشير، أولمت، أطعمت، كوفت

إن الوقوف يمثل: قضية اعتبارية، الانتظار يمثل: قضية تدقيقية، الإشارة تمثل: قضية ترميزية، الأولمة تمثل: قضية العطاء، الإطعام يمثل: قضية الإيثار، كوفت يمثل: قضية المكان.

إذًا النواة وما يدور حولها تؤلف حثًّا استمراريًا للآن المغروس في أرض الماضي وامتدادهما فيما هو آت. هذه المنهجية قائمة في عناصرها على مرجعيات أخلاقية وقيمية لا غنى عنها في ضمير الشاعر ووجدانه. إنها الحياة الطاهرة التي تغني ولا غنى عنها في الوقت نفسه. ولم يقف الأمر فيما يخص المغيَب على هذا التشبث الواعي بالأرض والكيفية التي تكون فيها تلك الأرض طوع يديه وأنامله، بل تخطى ذلك إلى عملية تحطيم ما يمكن أن يستند إليه في أوقات الشدة وهو يمخر عباب الماء:

انتظر ريثما تتحطم المرساة
نشيدك أن تعصف الريح بصواريك.

إن الانتظار لا يتحقق بالطرق الاعتيادية المتعارف عليها عند المتعاملين مع الماء في أن يلقوا بمرساتهم عند مواجهة الصعاب إلا أن هذا المرهون بالسفر الدائم والمواجهة الصعبة يسلك طرقًا أخرى غير معهودة بواسطة تحطيم المرساة، وما يؤيد ما ذهبنا إليه القرينة المتحققة في السطر الثالث:

نشيدك أن تعصف الريح بصواريك

هذا "النشيد" ما هو إلا عملية اختبار الماء للماخر فيه، اختبار الطبيعة له من أجل أن يثبت ساقًا في الوجود الحياتي الذي يمثل لحمته وسداه "الماء" وفي الوجود الحياتي الذي تمثله الأرض وانساغها الصاعدة والنازلة في أديمها وفي ذات ذلك الإنسان الخصيبي بوجهيه القديم "الأصيل"، والجديد المتدرع بأصالة أبيه وأرضه وقيمه.

المكان بوصفه فضاء حيًا

المكان والحلم تؤامان بسبب أن الحلم لا ينفصل عن الذاكرة بل يعيش في رحابها وارفة الظل فينفتح على وعي الشاعر، حقيقته، طفولته من أجل أن يتبؤر شتات الروح والأيام والجسد في لغة حميمة وأليفة. هكذا هو الترابط الموضوعي بين المكان – الحلم والشعر، به وفيه يتحقق الأمل وتولد صرخة الرفض المشروع وتندمل الجراح. والحلم عند طالب عبد العزيز يشكِّل وجهًا آخر للحقيقة المتسمة بسمات دلالية فاعلة بواسطة ذلك السرد التوثيقي العفوي بواسطة اثبات الزمن كشاهد عيان على أزمنة إنسانية النزوع لا يمكن المرور عليها من دون تجسيدها تجسيدًا واعيًا.

طولك الذي سقط ظله في الماء
تلقفت الريح هوادجه
واشتجر الأفق على صمته الغض الحزين
كأنك حد الغيم، حد الشجن والأمنيات
تتوغل بالأخضر فتسود
وهناك، في البعيد، أقصى الألم
تُفضي للقناطر ببعض ما تجدُ في قدميك.

لاحظ أن الصورة فيها خيال واقعي وواقع خيالي معًا تختزله بنية التباين المتمثلة في ثنائيات: الغموض – الوضوح المتجسد في تلقف الريح للهوادج، أو للسائد الإنساني الواضح في عملية التغيير الحاصلة للاخضرار. إذًا عملية الحلم هي العملية السائدة بيد أنها لا تلغي ما هو واقعي بل تلتقط منه مجموعة من السمات التي تدفع به إلى مصاف الأشياء الحية التي تكتسب روحًا جديدة.

تشير بعصاك على الظل فيورق
وعلى السعف فيميل
وعلى الأنهار فتنتشي
وهذه الشمس تزاحفت اليك
حتى غمرت الدار.

إذا تأملنا المقطع آنفًا نرى أن البنية السردية واضحة فيه بواسطة تكثيف التتابع الفعلي (من الفعل): تشير، يميل، تزاحف، غمر إضافة التى تكرير واو العطف ثلاث مرات لأدامة زخم الحركة اللولبية المتشحة بما هو حسي-رؤيوي والذي يسهم في انتقال بنية الأفعال بنحو متداخل. هذا التداخل الذكي يراد منه تفعيل المشاركة الوجدانية ومقارنة بعدين زمنيين متمثلين بواقع آن متشكل عبر نقاط محسوسة ومرئية وماض ينتمي إلى عالم الرؤيا بلغة شفيفة. إذًا الشاعر يحاول أن يدفعنا لمشاركته في تصور الماضي الذي لا نعرفه كما هو يعرفه بعيون الحاضر وبواسطة مدرك غير حسي هو "الشم".

إني ليوحشني أن أدنو من فسيل
لا أشم رائحتك فيه

لاحظ هذا الإيحاء بشقاء الذات حيال الذكرى، الإيحاء الذي يساعدنا على اكتشاف الأفق المفتقد للإنسان الذي وضع روحه بكل ما تحمل في أرضه، زرعه، نهره، بيته وقريته. لهذا نرى أن الحزن متأت مما يحصل من قتل متعمد لكل هذه القيم وهي توأد يوميًا أمام عيون الشاعر. فالكتابة عن أبي الخصيب تنسج امتداداتها الروحية من علاقات الإنسان بالمكان، إنها مجموعة من الحفريات التي يتجاوز فيها الجسد أبعاده ليحلق في سماوات الروح الهائمة المنفتحة على صداقة حميمة مع الأرض:

كان الوقت طائرًا أبيض
في السعف البارد الندي
تفتنه رائحة الماء
والشمس ظامئة سكرى
تنزل عريانة بين يدي الله

في المقطع آنفًا يلتحف المكان بزمنه، إذ إن تفاصيله تبقى ساكنة لتتيح لزمنها أن يقول ما يريد. وقد أجاد الشاعر أيما إجادة حتى لا يبتلع المكان الكتابة الشعرية برمتها وينخرط الشعر في دوامة المكان الكبيرة مما لا يتيح له إظهار جماليته وما يحمل من مكتنزات حالمة من أجل أن تتحقق – أيضًا – حلمية الشاعر في ملاذها الآمن. إنها الذاكرة الاسترجاعية التي تتبدى كفعل كتابة شعرية منفتحة على الزمان والمكان.

الحواس وطيف الأمس

أي ألم، أن أتيقن بأن السعف اليابس
والظل الذي دسته،

ونثرته الرياح... هو صوتك،
قميصك الذي تخرقه الريح
ويندحر على الشبابيك

يحرك الشاعر – هنا – الشغف بالذكريات، إنه مسكون بهاجس الذهاب، تائق لإعادة الماضي بكل تفاصيله الندية بيد أن يده تنفتح على مجهول ويكاد أن يوحي لنا بأن كل شيء أصبح قبض ريح مرت على عجل، إنها يد الزمن الصارمة التي تدق على صدغ الحقيقة وتجرف بسيلها العرم تلك الذوات الحنونة البيضاء السريرة التي لا يعرف الظلام الروحي طريقًا إليها. إن هذا النشيج الذي يربض بداخل طالب عبد العزيز هو نشيج أوجاع مدفونة في حاضر الوقت وفي أعماق ذات لا يبلسم جرحها إلا أن تأخذ الأرض زخرفها من جديد ليدخل إليها ضوء الطيبة والصدق والنقاء الروحي... إنه صوت الإنسان المنتمي إلى الأرض كتوق روحي يسمو به فوق مادياته وينفتح على أبواب عالم لا يحكمه الدجل والخديعة.

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني