فيلم "ماء الفضة": شعرنة الموت

ريبر يوسف

 

ولادةٌ تعيدُ ترتيب الصياغة، في الحدث المتصبب كقطرة عرق تستنهض المشهد داخل العين. الولادة مجازًا، حالها حال المتوجسات المتسربة نحو ذهن الكائن في غفلة منه. كأن الحدث حالة طارئة، ليس في مقدور المرء العدول عن تلقين مساره مسارًا آخرَ، خارج انكسار المعنى فيه. لذلك، ما من ولادة تستنهض الشهقات في الطفل السوري - وليدِ مكانٍ ما، معلوم، داخل فيلم ماء الفضة. لا صوت. أجل، استدراج مشهد قطع حبل المشيمة الصامت ذاكرة العين المستقبلية والسيارةِ نحو حقل من بريق، ليأخذ بدوره ذاك البريق اللامرئي في عين السوري مجازَ الصرخة الأولى، مجتاحة بذلك ماهية الكيمياء؛ إذ تُختَلَطُ ويعادُ بناء العلاقة. السيرة الاعتيادية، ما بين الولادة - ولادة الطفل ذاك، وولادتنا نحن الـ هنا "الوحوش".

إذًا، الرجل يصنع سينما.

الرجل فاعل، ونحن مجهولون في تخصيب البكاء خَلَلَ عيون وَلَجَت رؤوسَنا إثر حكمة مجهولة. لم نعد نملك القدرة على تفسير العلاقة ما بين الضوء واليد. لا ولادةَ إذًا، إذ يتدارك الرجل داخل المشهد الثاني من الفيلم ذاتَهُ الغائبة، لا أحصنةَ تمتطيها أنفاسُهُ داخل زنزانته لِيلْكمَ مؤخرتها براحة يد مفتوحةٍ مثل كتاب مِلْؤهُ التفسير، فيقفز الحصان إثره على جدار يعيد بناء العلاقة ما بين المرء والعزلة. الرجلُ، رافعًا رأسه نحو سماء مرتفعة، إذ يُدخِلُ جندي سوري عصا في مؤخرته المفعول به - السجين السوري، لم يعبر جبل عزلتي آنها وكذلك بحرٌ، لم تُستَضعَف أُذني بآية قرآنية سليلة كتاب يخصُّنا نحن - أسرى العزلة، لم أكن قادرًا لحظتها على ترتيل المقطع: "أهشُّ بها على غنمي".

دخلت العصا في مؤخرة السجين السوري، دخلت العصا في مؤخرتنا الجمعية لتعيد صياغة الماهية ما بين الفكرة من الولادة والفكرة في الولادة. لا صوت. أجل، الصوت غائبٌ حتى اللحظة، وحدها العزلة من حولي منكبَّة على تقطير الضجيج في جرن الزمن.

أفتح نافذة غرفتي على مصراعيها، من ثم أخرِجُ بنصفي خارجًا عبرها.

لا صوت في الخارج أيضًا، لا صوت يرمِّم ولادة السوري... لا صوت، لوهلة نتحول نحن السوريين إلى جنين، تقذفنا أمٌّ مجهولة خارج رحمها، لا صوت ينبض على هيئة صرخات تلي الولادة مباشرة؛ إذ نُلقى على الأرض/الجمال، متبَّلين بدم الجمال، وكذلك ما من يد تجزُّ حبل مشيمتنا. تُرى، أيحدث أن يبقى حبل المشيمة موثَقًا كالنسب ما بين المولود والأم؟ بعد سنوات سيطول حبل المشيمة - وثاقُ السوري بضوء ولادته، وسنكبر ليطول بدوره حبلُ المشيمة ذاك؛ آنها سنخنقُ الكرة الأرضية إذ نجوبها بحثًا عن أسئلة وجودية تخصُّ السوري وحسب.

الرجل يصنع سينما.

الرجل فاعلٌ. نحن المنكفئون على ترتيب صياغة، تليق بالمعنى المجاز في تلك السارية المنتفضة في خفقة بحر، يضخُّ السوريَّ إلى خارج الجسد. ولادات لامتناهية تجوب ذهن السوري، في سيرة ثورة تمدُّها نحو الأبدية. فيلم ماء الفضة. سأكون وهمًا إذا ما توسَّدتُ الشرح في المشاهد التي يبنى عليها الفيلم، الفيلم الذي يجرُّ السينما من نسبه، الفيلم الذي تختلط فيه مفاهيم بناء المشهد، أعود مجددًا أدخل نصفي الآخر داخل عزلتي. ربما خوف ما ينتابني اللحظة، ربما تفسيرٌ مجهولٌ ناتج عن تركيبة المعادلة في الصورة السينمائية التي يخلقها أسامة محمد. هنا، حيث لا تأويلَ يشدُّ على ذراع داخل الذهن تستنهض الأسئلة بها، الأسئلة المرتمية في الطمأنينة بشكلها الجديد، حيث اللغة الوجودية، تتدارك الصورة إلى الحد الذي يخال إلينا أنَّ خطْبًا ما سليلَ غبش، يطرأ على العين. الصورة كامنة في تاريخين داخل الفيلم، تاريخٌ يخص البناء الفيزيائي في الصورة الاعتيادية والتاريخ الآخر هو الضوء الخافت المنبعث من ذهن السوري أسامة محمد على هيئة نحلة وسعُها السماوات والأرض - القابضة على رقبة الذهن المتجول في البلد.

داخل الفيلم تكون أنت - المتلقي، جزءًا من عملية بناء وصياغة الفيلم، عبر السرد الوجودي المتقافز ما بينك أنت وبين الشعاع الوافد من سيرة الصوت لدى أسامة محمد، هذه السيرة التي ما هي إلا عقل مفتوح يلقِّنُ العينَ لغةً أخرى كامنة خارج عملية شرح الصورة. إذًا، اللغة داخل الفيلم هي لغة مجهولة تحرض الذائقة البصرية على الخلق وحسب.

الرجل يصنع سينما.

الرجل فاعل...

نحن منشغلون ببناء الجدار، الذي نأملُ منه حجبَنا عن النداءات العالية في الأسى، والوافدة من حقل بلدٍ تحول إلى أكبر بلد منتج للسينما عالميًا، هذه هي الرسالة التي يصيغها أسامة محمد. صناعة السينما في اللحظة التي لا تعدُّ العينُ فيها مالكةً الاستطاعةَ على فكِّ الرابط ما بين الوجودي والضوء، تمامًا، كالعلاقة ما بين هاجسين أحدهما خافت في شرود المرء فيه والآخر مشرق في الترتيب المتعارف عليه، الترتيب خاص استباق الزمن بشتلة داخل العتمة العظيمة. لكل حدث داخل الفيلم بناءٌ من رنينين ولونين؛ ففي اللحظة التي تهمُّ فيها بقراءة صورة مقتول لم يجف بعد نبعة جسده المواظبة على ضخ الدم خارجًا، في اللحظة ذاتها يخرج الدم من سياقه المعهود ليلج التفسير إثر فك رموزه ومن ثم تحليله مجددًا، سرديًا، ليتحور الدم من أصله كثورة متدفقة لها أزمنة فيزيائية متعددة إلى لغة هي سليلة الوجودية المجتهدة في الخلق. (توقف). تتوقف الصورة داخل الفيلم بفعل نداء أسامة محمد، محوِّلاً المعنى إلى النحلة ذاتها، تتشارك في ترميم الصورة، لوهلة تشعر بإصبعك ضاغطةً على زرِّ المسطرة في لوحة مفاتيح الكومبيوتر، لتدخل أنت - المتلقي السوري، في عملية المونتاج، تشعر بالمخرج يجاورك جلوسًا، أنت أسير عزلتك، من ثم ينطلق حوار يستبق رغبتك في إعادة قراءة الصورة مجددًا، إذًا، ذاك السرد المأخوذ بالأسى هو ذاته تاريخ آخر لامرئي، في الصورة الاعتيادية داخل السينما. (توقف). هكذا يصنع الرجل الخيط اللامرئي المحاط به السرَّ المنتفض مثل سمكة في ماء العين.

الرجل يصنع سينما.

الرجل فاعل. أنا هناك، دمشق (المركز الثقافي الفرنسي) أحضر مع الصديق أمير الحسين عرض فيلم صندوق الدنيا حيث أسامة محمد يملأ ثياب الصيد، جالسًا بعد عرض الفيلم على المنصة الخشبية - سليلةِ ذاكرة البحر الأبيض المتوسط/والدةِ السفن السورية. جالسًا كان يرمي بصنَّارته الحكيمة في قاع عيوننا فِخاخًا، ينصبُها أمام شهوة تغمر عيوننا الممتلئة بالشعرية. أقول له: جلَّ ما يحتاجه المرء إذ يتابع فيلمك صندوق الدنيا هو تمارين شعرية لامتناهية، فيستدرك خلالها الماهية التي تُصاغ بها الصورة داخل الفيلم.

قال لي: "أنت كردي"؟

أجبته بزفرة خفيفة.

قال (بزفرة ناصعة): "من الريحة عرفتْ إنكْ كردي".

ترى، كيف كمش وقتها على النحلة؟ أجلس في الصف الأخير من القاعة، فيما يعتلي هو خشبة المسرح.

هل للكردي رائحة يا أبي؟ عصفورٌ على هيئة سؤال، أطلقتُهُ آنها صوب أبي المشغول برائحة الإسمنت، في الحسكة مدينتي، حيث كان يعمل في نقله من مؤسسة الإسمنت إلى ذات النور المواظب على بناء البلد، عبر الشاحنة الصغيرة الخضراء خاصته. "لحم أكتافنا كان من خيرها".

بالرائحة ذاتها - سليلةِ فِراسةِ أسامة محمد، تُفتَحُ كُوَّةٌ صغيرة مطلَّة على إسمنت مدينة حمص، هي الكيمياء ذاتها، المعادلة المشغولة في إعادة إنتاج فكرة البناء داخل البلد. حمص، حيث تحول الإسمنت فيها من جملة عادية في اللغة العربية، جملة يعاد بناؤها من جديد بانزياح الفعل والفاعل والمفعول به وأحرف الجر، لتصاغ وتتداخل فيما بينها بسحر الوجودية العمياء في التلقين. الكوَّةُ تُفتَح أمام صوت وئام سيماف بدرخان - سليلة عائلة بدرخان الكردية، أمراء إنتاج وصياغة الفكر واللغة والأدب في التاريخ الكردي المعاصر، العائلة المنفية من "كردستان تركيا". وئام، حفيدة البدرخانيين، التي تعلمت اللغة الكردية والعزف على آلة الطنبور، في اللحظة التي علمتُ فيها أنها كردية، لم تتأخر ثانية واحدة. كانت آنها في العقد الثاني من عمرها لتتحول فيما بعد إلى تلميذة تهرب من مدرسة حياتها في حمص، في سبيل قسط من البكاء على تلال عين ديوار، ومن ثم تعاود الكرَّةَ مرارًا خلال السنة الواحدة.

هكذا تصنع الفتاة سينما؟

الفتاة فاعل؟

المكان "عين ديوار"... حيث كنا نقتعد تلة مطلة على جزيرة بوتان: وئام بدرخان، أمير الحسين، أنا، ومصطفى محمد الذي أخفينا نبأ انتحاره عن وئام فيما بعد. كنا مع مجموعة صغيرة من أصدقاء آخرين.

تغزل وئام بِنَوْلٍ من نور خيطًا لامرئيًا، يوثقُ ذهنَها إلى ذهن جزيرة بوتان الراقدة في الضفة الثانية لنهر دجلة، على المثلث الحدودي بين سوريا وسوريا وسوريا. سمعنا خفقة، عرفنا فيما بعد أنها تخصُّ غصة حلقت من حلق أختنا الكبيرة؛ إذ دفع أمير بحصوة من لغة نحو ذهن وئام: "هناك يا وئام وُلدَ أجدادُك".

عادت وئام إلى أحضان أمهاتنا في المساء/أمهاتها، من ثم عادت وعادت وعادت إلى مدرسة حياتها الحمصية، حمص التي افتتحت فيها وئام مدرسة صغيرة لأطفال سقطوا واحدًا تلو الآخر من مسبحة الحصار العظيمة.

بقيت وئام، هناك، تعيد ترتيب البيوت لسكانها الراحلين إلى سقف الأسئلة.

إذًا، السؤال هو جوهر فيلم ماء الفضة، الذي يرمم الحكمة في السرد المتباهي بجنونه الشاق، حول نسل السوري عن طريق إعادة الصياغة/الجوهر لبناء الخواص في تعريف بلد مخنوق برائحة الإسمنت المشغول في الكيمياء المعاصرة.

بكت وئام وبكت، هي الكردية الوحيدة على الإطلاق التي أنتجت علاقة جديدة في تفسير الربط ما بين الكردي وسوريا، ترتيب يستساغ خلاله تكرار المعادلة ما بين الكردي وسوريا، معلِّمةٌ تحوكُ شالَ الغبار المسدول على رأس الصياغة.

هكذا، من بئر ذاك الحصار، هرّبَتْ وئام مشاهد حمصية كانت قيد الحصار، لتصل إلى القيد الأعظم في سلاسل الجمال؛ عبر صناعة فيلم، أجهدَ النحلةَ في رأس مخرج سوري هو أسامة محمد. هكذا يصنع الرجل عيني المأخوذة باللاذاكرة المأخوذة بهاجس الخلق. وئام التي كانت مأخوذة بالبكاء، آن التقيتُها أول مرة، هي ذاتها المأخوذة بالبكاء آن التقيتُها آخر مرة في مدينة حمص، قبل أن أترك البلد إلى الأبد، هي ذاتها المأخوذة بالبكاء آن شاهدتُها عبر التلفزيون إلى جانب المخرج أسامة محمد، في مهرجان كان السينمائي للعام الجاري لحظة عرض فيلمهما ماء الفضة.

أعادني أسامة محمد إلى السؤال/الهاجس، بعدما أغلقت جميع وسائل التواصل اجتماعيًا، لأرقد في عزلتي الشاهقة مثل فم الحيرة.

الرجل يصنع سينما...

الرجل فاعل

وأنا مقتول.

*** *** ***

نوافذ

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني