الحنين إلى زمن الخلافة

 

محمود زيباوي

 

ترك السلطان عبد الحميد الثاني في خريف عمره مجموعة من الخواطر رثى فيها إمبراطورية أجداده التي امتدَّت عبر قارات ثلاث، و"أصبحت في مدى عشر سنين حفنة من تراب". تحدث الخليفة عن القومية والدين، وتطرق إلى مصير البلدان العربية في أكثر من موقع، فحذَّر من ضياع فلسطين، وشدَّد على أهمية دمشق وحلب بالنسبة الى السلطنة، كاشفًا عن أطماع الانكليز في الجزيرة العربية. تثير قراءة هذه الخواطر اليوم أكثر من سؤال، وتكشف عن الدوافع التي تفسِّر حنين الكثيرين إلى زمن الخلافة الغابر.

بويع عبد الحميد الثاني بالخلافة في عام 1876، وتولى العرش في ظروف دولية معقدة للغاية ترافقت مع اضطرابات عدة في أجزاء كبيرة من دولته المترامية الأطراف. تعرضت سلطته لتحدٍّ جديد مع قرع طبول الحرب العثمانية - الروسية، التي انتهت بهزيمة العثمانيين وتوقيعهم معاهدتي صلح تخلُّوا بموجبهما عن بعض أراضي الدولة في البلقان. أدرك عبد الحميد صعوبة وضع دولته، وسعى إلى تحديثها، فأضفى على حركة التغريب صفة رسمية، وعُرف عهده بعهد التنظيمات، الذي يعنى بتنظيم شؤون الدولة وفق المنهج الغربي. جاءت هذه الحركة التحديثية في زمن تصدُّع السلطنة أمام صعود حزب "الاتحاد والترقي" الذي عارض حكم الخليفة العثماني وسعى جاهدًا إلى عزله والتخلص منه، وتمكَّن من تحقيق ذلك في عام 1909 حين تنازل عبد الحميد عن العرش لأخيه محمد رشاد، ونُفي إلى سالونيك، وعاش فيها تحت رقابة شديدة حتى وفاته عام 1918. مع نهاية الحرب العالمية الأولى، سقطت الخلافة رسميًا، ودخلت المنطقة في صراع جديد مع قوى الحلفاء التي سارعت إلى تقاسم التركة العثمانية.

طوال فترة حكمه، أولى السلطان عبد الحميد الثاني الأقاليم العربية اهتمامًا خاصًا، وتبوأت بعض الشخصيات العربية في عهده مناصب رفيعة في اسطنبول، وهو أمر نادر في ظل السلطنة. شهد المشرق العربي في تلك الحقبة العصيبة حركة إعمارية كبيرة لا تزال معالمها ماثلة في أكبر مدنه. بحسب التقسيم العثماني الأخير، كان المشرق مؤلفًا من أربع ولايات ومتصرفيتين، هي تباعا ولاية حلب، ولاية دير الزور، ولاية سوريا، ولاية بيروت، متصرفية جبل لبنان، ومتصرفية القدس الشريف. ضمَّ لواء حلب سنجقي مرعش ولواء اسكندرون، وضمَّت ولاية دير الزور بادية الشام والجزيرة السورية. في المقابل، ضمَّت ولاية سوريا المنطقة الداخلية الممتدة من جنوب معرَّة النعمان إلى حدود الحجاز، وشملت سهل البقاع. بينما ضمَّت ولاية بيروت المنطقة الساحلية وحوت ألوية عكا والبلقاء وطرابلس الشام واللاذقية. عاشت حلب ودمشق وبيروت في تلك الحقبة عصرًا ذهبيًا على رغم التقلبات السياسية التي عصفت بها، وتوسعت حدودها بشكل لافت، وترافق هذا التوسع مع حركة عمران واسعة أدَّت إلى رسم أهمِّ أقسامها.

ترك عبد الحميد الثاني مجموعتين من الخواطر تشهد لحاله وحال مملكته في مرحلة الاحتضار الأخير. نقل محمد حرب المجموعة الأولى إلى العربية ونشرها في دمشق تحت عنوان مذكرات السلطان عبد الحميد. وصدرت المجموعة الثانية بالعربية في بيروت من دون ذكر اسم المترجم تحت عنوان السلطان عبد الحميد الثاني مذكراتي السياسية 1891-1908، وتحوي خواطر سياسية أملاها السلطان على مرافقه علي وهبي بك الذي نشرها بعدما ترجمها إلى الفرنسية. شهد السلطان تصدع امبراطورية أجداده الواسعة، وقال بمرارة: "بلاد عظيمة فاتحة للعالم تمتد عبر قارات ثلاث، أصبحت في مدى عشر سنين حفنة من تراب". في كلامه عن تركيا ودول البلقان، استعاد عبد الحميد مثل خمس أشجار مختلفة غرست بجانب بعضها، وهي شجرة تفاح وشجرة أجاص وشجرة خوخ وشجرة سنديان وشجرة صنوبر. تشابكت أغصان هذه الأشجار، "وكانت شجرة السنديان هي المسيطرة على جاراتها، لكن أوراقها السفلى كانت تتساقط بسبب حجب الشمس عنها". حدث خلاف بين هذه الأشجار حول اقتسام الهواء والشمس، "ثم جاءها من يقول: لِمَ الخلاف، لكل شجرة الحق في الحياة، ولا فضل لشجرة على أخرى فكل شجرة ستعيش في مكانها من دون أن تؤثر أو تتأثر بأخرى". في الخلاصة، يرى الراوي أن شجرة التفاح تمثل رومانيا، والخوخ يوغوسلافيا، والصنوبر اليونان، والإجاص بلغاريا، "وشجرة السنديان التي تساقطت أوراقها هي تركيا.

عربيًا، شهد عهد عبد الحميد سيطرة فرنسا على تونس في عام 1881، وسيطرة بريطانيا على مصر في 1882، وواجه مشروع الصهيونية الناشئة في زمن مؤسسها تيودور هرتزل. سعى الخليفة إلى بناء سكة حديد بين دمشق ومكة في أسرع وقت، ورأى في هذا المشروع "تقوية للرابطة بين المسلمين"، وقال إن تمتينها من شأنه أن يشكِّل "صخرة صلبة تتحطَّم عليها الخيانات والخدع الانكليزية". يتردد صدى هذه المقولة في كلام السلطان عن "خط حديد بغداد"، و"خط حديد الأناضول"، و"الخط الحديدي الحجازي" و"سياسة الخطوط الحديدية". في تلك الفترة، قوي نفوذ انكلترا في المنطقة، وكانت عدن "المقر العام لأعمال التخريب التي يديرها الانكليز في الجزيرة العربية". يجزم السلطان أن الأسلحة التي يستعملها الإنكليز "كانت مخبأة في مستودعات عدن"، ويضيف معلِّقًا: "إننا في وضع حرج ليس علينا سوى أن نوزِّع الهدايا والهبات على رؤساء هذه القبائل وندرأ عن أنفسنا غوائل الإنكليز ومؤامراتهم". نقرأ في موقع آخر: "لقد جاء إلى الجزيرة العربية في السنوات الأخيرة عدد كبير من الانكليز، حجتهم السياحة، وهدفهم إجراء دراسات حول انشاء خط حديدي يربط وادي النيل بخليج ايران، حيث يمكنهم بهذه الطريق تحديد مستقبل هذه المنطقة بأسرها".

بحسب هذه القراءة للأحداث، استوطن الانكليز في شط العرب، "مفتاح بلاد ما بين النهرين"، وسعوا إلى الاستيلاء على البصرة لتأمين بسط سلطتهم على المنطقة العربية. يذكر عبد الحميد هنا "شيخ الرياض عبد العزيز بن سعود الذي يسعى لإحياء الحركة الوهابية"، ويضيف متهكمًا: "خُيِّل إليه أنه سيكون حاكم الجزيرة العربية فأراد نيل الاستقلال بمساعدة الانكليز ولكن لم يخطر بباله أنه سيقع في مصيدة هؤلاء الانكليز". في مواجهة هذا التمدد البريطاني، سعى عبد الحميد إلى انشاء خط حديد يمتد من سوريا إلى الهند، ويربط بين اسكندرون وخليج إيران، "مارًّا بحلب فبغداد". شدد السلطان على "أهمية مدينة حلب" في هذا المجال، ورأى أن "هذا الانشاء سيؤدي إلى توافد عدد كبير من الأجانب إلى البلاد، تاليًا إلى حدوث تغيير جذري سريع في كل المجالات". في الخلاصة، سعى الخليفة إلى عدم "ترك وادي دجلة والفرات لقمة سائغة للانكليز"، لأن سيطرتهم على هذا الوادي تعني "أنهم سيتحركون متى شاؤوا من اسكندرون لاحتلال المنطقة بأسرها".

شدَّد السلطان في خواطره مرارًا على تقوية الرباط الذي يجمع بين الخلافة والمسلمين كافة، وقال: "يجب علينا ان نقوِّي الأواصر الاسلامية، بحيث يتساند مسلمو الصين والهند في افريقيا مع باقي المسلمين في شتى أنحاء الأرض. وإنه لمن دواعي الأسف ألاَّ يقوم أي تعاون بيننا وبين إيران، وقد كان عليها أن تسعى إلى التقارب معنا كيلا تصبح ألعوبة بيد روسيا وانكلترا". يذكر عبد الحميد هنا أن "العالم المشهور" جمال الدين الأفغاني حدَّثه عن إمكان توحيد السنَّة والشيعة في صف واحد "إذا أظهر كل منهما حسن النية تجاه الآخر". بعد فترة من الزمن، تحوَّل جمال الدين الأفغاني، بحسب عبد الحميد، من "عالم مشهور" إلى "مهرِّج" يدَّعي المهدية ويتآمر مع الإنكليز من أجل "إقصاء الخلافة عن الأتراك" و"إعلان الشريف حسين أمير مكة خليفة على المسلمين".

يقارن الخليفة بين الإسلام والفكرة القومية، ويذكِّر بأن الدولة العثمانية تشكلت "من الأتراك والعرب والأكراد والأرناؤوط والبلغار واليونان والزنوج"، "حيث جمعتهم الرابطة الإيمانية وجعلتهم أفرادًا في عائلة واحدة". يخاطب السلطان رعاياه: "علينا أن نعتبر أنفسنا مسلمين قبل أن نكون عثمانيين، وأن تكون صفة خليفة المسلمين فوق صفة خلافة الامبراطور العثماني، فإن الدين هو أساس البناء السياسي والاجتماعي للدولة". ثم يضيف بحسرة: "علينا أن نعترف، بكل أسف، بأن الانكليز استطاعوا بدعايتهم المسمومة أن يبثُّوا بذور القومية والعصبية في بلادنا، وقد تحرَّك القوميون في الجزيرة العربية وفي ألبانيا، وظهرت في سوريا بوادر تحرك مماثل". يشدد السلطان على دور الانكليز في إشعال هذه "العصبية الاقليمية"، "وقد لقيت هذه الدعاية قدرًا من الرواج، فخدع بها كثير من المصريين وبدأوا بالانتقاص من الإسلام ومن خليفة المسلمين". ويقول في موقع آخر: "منعت البترول عن الانكليز، فأثاروا مسألة الخلافة العربية".

ثار الشريف حسين على الدولة العثمانية في عام 1916، ودخل الحرب إلى جانب الحلفاء، وكانت النتيجة إبعاد الأتراك عن جميع مواقعهم في مكة بعد أربعة قرون من تسلمهم السلطة في المدينة المقدسة. لعن جمال باشا "هذا الرجل الحقير الذي تحالف في قلب الأرض المقدسة مع القوات المسيحية التي تهدف إلى نهب العالم الإسلامي وسرقة عاصمته القسطنطينية". اتبعت أوروبا "مبدأ النفعية السياسية"، وخذلت حليفها الحسين، ورفضت الاعتراف به ملكًا على جميع العرب. اضطر شريف مكة إلى التنازل عن عرش الحجاز بعدما هزمه عبد العزيز بن سعود في عام 1924، ومات منفيًا في حزيران 1931.

أدار العرب ظهرهم للأتراك، وأدار الأتراك ظهرهم للعرب مدى قرن من الزمن. فشلت "الثورة العربية الكبرى"، ثم حلَّت النكبة بفلسطين التي رفض السلطان عبد الحميد بيعها لليهود، وتبعتها سلسلة من النكبات تتواصل إلى اليوم. مع تهاوي الفكرة القومية وتلاشيها، ينمو الحنين إلى زمن الخلافة، ويصعد نجم الأتراك، بينما يأفل بريق العرب. تعود تركيا سياسيًا إلى ديار العرب من بوابة سوريا، وتتردد في الصحافة التركية مقولة تؤكد أن "الفوضى في سوريا تعني اندثار كل المشاريع التركية في الشرق الأوسط"، في وقت يرى رئيس الوزراء التركي رجب طيِّب أردوغان أن "أحداث سوريا شأن داخلي تركي"، بسبب الحدود المشتركة البالغة أكثر من ثمانمئة كيلومتر.

من عجائب هذا الزمن، أن نقرأ على أحد مواقع الانترنت: "أسوأ حدث في تاريخ حلب أن أتاتورك لم يضمها إلى تركيا. كل مناطق ولاية حلب العثمانية تم ضمها إلى تركيا ما عدا حلب".

*** *** ***

النهار

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني