خطوة على الطريق*

 

أديب الخوري

 

عندما ذهبتُ إلى المدرسة، سألوني عمَّا أريد أن أصير عندما أكبر.
أجبتُ: "سعيدًا".
قالوا لي إنِّي لم أفهم السّؤال.
قلتُ لهم إنّهم لم يفهموا الحياة.
(جون لينون)

تجلس دنيا[1] في حديقةٍ صغيرةٍ شبه مقفرة ذات صباح خريفيٍّ... كانت في طريقها إلى كلِّيَّة الطب، لكنها، وعلى نحوٍ مفاجئ قرَّرت تغيير الطريق ودخول هذه الحديقة حيث جلست طويلاً... ساعةً أو أكثر من ساعةٍ بـكثيـر.. فكلُّ دقيقةٍ من تلك السَّاعة كانت أكثر من ساعة!

لطالما كانت لامعةً بين رفاقها ورفيقاتها في المدرسة، ولطالما تميَّزت على نحوٍ خاصٍّ في الرياضيَّات والفيزياء... أمَّا حبُّها للُّغات وشغفها بالقراءة فلم يكن يقلُّ في الوقت نفسه عن محبَّتها للمعادلات والخطوط البيانيَّة والأشكال الهندسيَّة.

بيد أنَّها كُرِّست منذ صغرها المبكر طبيبةً جرَّاحة، وقبل أن تعرف معنى الطبِّ وتدرِك أبعاد الجراحة، كانت الوالدة وكان الوالد، ومن بعدهما الأقرباء والجيران ينادونها: "دكتورتنا"... ومع تقدُّمها في المدرسة صفًّا بعد آخر وإثبات تفوُّقها الملحوظ بين أترابها، كانت الصفة تلبسها أوسع فأوسع، وعلى هذا النَّحو رُسِم لها مستقبلها، بحيث لم تفكِّر مرَّةً واحدة وهي تقدِّم أوراق التَّسجيل في كلِّيَّة الطبِّ بأنَّ هناك إمكانيَّات أخرى.

لم تواجهها أيُّ مشاكل في الأسابيع الأولى، وعند أوَّل دخولٍ إلى المشرحة، كانت تعتقد كما سمعت من الكثيرين أنَّ هذه الصعوبة في تقبُّل الوضع ستزول سريعًا، وأنَّ مثل هذا الأمر سيصبح عاديًّا مع الوقت.. لكنَّها شيئًا فشيئًا بدأت تدرك صعوبة حضور دروس التَّشريح، والتَّأقلم مع الجثث، وبدأت تشعر في الشَّهر الأخير من هذا الفصل الأوَّل الذي يكاد أن ينصرم، أنَّ كلَّ يومٍ، وبالتَّحديد كلَّ يومٍ فيه دخولٌ إلى المشرحة، يعادل شهرًا.

استيقظ فيها سؤالٌ لم يخطر ببالها من قبل: لماذا لم أفكِّر في اختصاصٍ آخر؟ سقطت ورقةٌ صفراء من شجرةٍ تمدُّ أغصانها فوق رأسها.. شعرت بالخوف من مواجهة السُّؤال! لم تكن ترفض دراسة الطبِّ من حيث المبدأ، لكنَّ شعورًا بدأ يزداد طغيانًا في نفسها يومًا بعد يوم: أنَّها لم تُخلَق لمثل هذا العمل ولمثل هذه الأجواء.. ولكم شعرت بالحنين إلى المعادلات والأرقام... أمَّا الحدث الذي أيقظ في نفسها هذا السُّؤال فقد كان لقاءً عابرًا مع أحد زملائها السَّابقين على مقاعد المدرسة الثانويَّة أثناء عودتها إلى البيت منذ بضعة أيَّام:

-       سلامات، كيف الحال؟ أيَّ كلِّيَّةٍ دخلت؟

-       العلوم، قسم الرِّياضيَّات. وأنتِ؟

-       هنيئًا لك!..

وسألت نفسها للمرَّة الأولى: هذا شابٌّ كان أمام خياراتٍ كثيرة أخرى، غالبًا ما تُعتَبَر "أفضل" فما منعه ذلك من اختيار ما يحبُّ... لكم شعرتُ بالمنافسة بيني وبينه حين كنَّا طلاَّبًا في صفٍّ واحد، ولكم أثبتُّ تفوُّقي عليه.. وها أنا أرى الآن أنَّه هو الذي تفوَّق... هنيئًا له!

لم يكن والداها مستعدِّين لتقبُّل فكرة ترك هذا التخصُّص، ولم تكن لها شجاعة فتح الموضوع معهما... وعاشت في نفسها صراعًا صامتًا بين فكرة ترك الكلِّيَّة ومفاتحة الأهل بالموضوع وبين فكرة مقاومة رغبتها والتَّغلُّب على نفسها في قاعة التَّشريح إلى ما يشاء الله... وكانت النتيجة محسومةً سلفًا، وما كان الوصول إلى هذه النتيجة يحتاج إلى ساعةٍ من التَّأمُّل الصَّامت في حديقةٍ رماديَّةٍ باردة... فتلك السَّاعة لم تكن غير حاجةٍ نفسيَّةٍ أخرى وضرورةٍ من نوعٍ آخر وهي لن تفهم سببها ولن تجني ثمرها إلاَّ لاحقًا.. فقد صار التردُّد على هذه الحديقة عادةً لدى دنيا.. وشيئًا فشيئًا صار يرافقها على مقاعدها كتابٌ ما... وخلال ستِّ سنوات من دراسة الطبِّ صارت تتجِّه أكثر فأكثر إلى قراءة كتبٍ في علم النَّفس، وما أنهت دراسة الطبِّ إلاَّ وقد اكتسبت ثقافةً كبيرةً أخرى مصدرها الكتب وأشجار الحديقة.

أنهت دنيا دراسة الطبِّ بمعدَّلٍ جيِّد، ولكنها لم تكن من الأوائل كما كانت في المدرسة، بيد أنَّها كانت أكثر رضًا عن نفسها بكثير.. ولقد بلغت حدًّا من النُّضج صارت معه قادرةً على قول "لا"، فأخبرت أمَّها في مشهدٍ مؤثِّرٍ ساده البكاء بأنَّها درست الطبَّ نزولاً عند رغبة والديها، وقد صار بإمكانهما الآن أن يفخرا بابنتهما الطبيبة، لكنَّها لن تعمل أبدًا في هذا المجال وستنصرف إلى شأنٍ آخر...

......

بعد سنوات من الكفاح، صار عند إِهاب متجرًا صغيرًا في إحدى الدول النفطيَّة الغنيَّة. وهو اليوم ناجحٌ في عمله وسعيدٌ عمومًا في حياته... على الأقلِّ كما يراه النَّاس من الخارج.. فهو، بعد ساعات العمل، يقضي كلَّ أوقاته في القيام بأشياء يحبُّها: يعدُّ أطباقاً طيِّبة، يصطحب عائلته إلى مسرح أو مدينة ألعاب، يسهر مع أصدقائه، يسافر كثيرًا هنا وهناك...

لكنَّ الأمر الغريب الذي يصعب أن يلحظه إلاَّ مَن كان شديد القرب من هذا الرَّجل، هو أنَّه يتجنَّب زيارة الرِّيف ويفضِّل على الدَّوام المدن الكبيرة.. يبتعد، عن وعي أو عن غير وعي، عن كلِّ ما يمتُّ إلى الطَّبيعة بصلة.. كيف ولماذا وهو أصلاً ابن قريةٍ صغيرة تقع بين البحر والجبل وتتجسَّد فيها الطبيعة بأحلى صورها؟!

الأمر الأكثر غرابةً والذي لم يكن يراه في إهاب غير زوجته المخلصة دنيا، هو أنَّ حزنًا عميقًا يسكن داخله، ولطالما سعت إلى اكتشاف سبب هذا الحزن. ولقد نجحا معًا بعد طول عناء في تحقيق هذا الاكتشاف..

الجبال والسهول، الأنهار والبحيرات والبحار، الزواحف والطيور، الشجر والحجر... الطبيعة عمومًا وتفاصيلها خصوصًا كانت هوى إهاب الصَّغير في قريته تلك الشبيهة بالزَّمان القديم، قبل أن ينتقل مع أهله إلى المدينة... وفي المدرسة كان كتاب العلوم، يوم كان إهاب تلميذًا وطالبًا، هو الأقرب إليه. وغالبًا ما كان يقرأه حتَّى نهايته قبل أن يُعطى في الصفِّ.

أنهى المرحلة الثانوية ودخل كلية الاقتصاد. لماذا دخل كلية الاقتصاد؟! لأنَّ مجموع درجاته كان يؤهِّله لذلك وما كان يؤهله لـ "أكثر"، ولأنَّ والده كان ينتظر أن يكبر الولد ويكون قادرًا على إدارة ومتابعة أعمال أبيه التي تزداد اتِّساعًا وتشعُّبًا يومًا بعد يوم.. أمَّا أن يدخل كلية العلوم، فأمرٌ فيه إضاعةٌ للدرجات التي حصَّلها، ثمَّ ماذا سيفعل بشهادة العلوم؟ مدرِّس براتب لا يكفيه نصف شهره؟! هذا كان منطق الأهل وهذا هو عمومًا منطق المجتمع.. وهذا ما انصاع له إهاب الشَّاب، لا عن طيب خاطر..

بعد خمس سنوات من دخوله كلِّيَّة الاقتصاد، وكان لا يزال في السنة الثالثة، وربما الثانية من دراسته (هو نفسه لا يتذكَّر...) وبعد صراعٍ قاسٍ مع نفسه أوَّلاً ومع ذويه ثانيًا، سافر إهاب، بعد أن رتَّب كلَّ أوراقه وأجرى كلَّ معاملاته دون معرفة والديه، من أجل العمل حيث يعيش اليوم، وبعد عدَّة سنوات من العمل، نال وهو في تلك الدولة شهادةً في الاقتصاد من جامعةٍ في دولةٍ أخرى تعطي شهاداتها "عن بعد"، مبرهنًا لوالده أنَّ الحصول على الشَّهادة أمرٌ ممكنٌ دومًا، وأنَّ النَّجاح في العمل بدون شهادة أمرٌ ممكنٌ آخر!

اكتشف إهاب بعد أن صار يحمل شهادةً جامعيَّة [وهنا تحديدًا كانت مساعدة زوجته الطبيبة، والتي كانت لا تزال تمارس هوايتها في قراءة كتبٍ في التَّربية وعلم النفس، والتي كانت صاحبة فكرة استشارة محلِّل نفسيِّ] أنَّ شعوره الذي رافقه منذ سنوات، والذي كان يعيش معه كلَّ يوم وكلَّ ساعة وكلَّ دقيقة، والذي يشبه شعور امرأةٍ حامل أجهضت جنينها، لم يكن بسبب الشهادة الجامعية بل بسبب ضياع حلم دراسة العلوم... وبعد أن جاهدَ عامًا وشهرًا، كانت زوجته خلالها شريكةً في هذا الجهاد، كي تنكشف نفسه وتنكشف طفولته وينكشف ماضيه أمامه.. كان عليه أن ينتظر وقتًا آخر بعد كي يعيد بناء حياةٍ داخليَّة جديدة يقبل فيها بتضحيته ويسامح المجتمع ويسامح الحياة ويتحوَّل إلى إنسانٍ سعيدٍ في الدَّاخل، كما في الخارج.

*** *** ***


 

horizontal rule

* من كتاب: تعليم جديد من أجل عالم مختلف، أديب الخوري، معابر للنشر، دمشق، 2015.

[1] دنيا شخصيَّة افتراضيَّة ولكنَّها تجمع في هذه القصَّة أحداثًا حقيقيَّة جرت مع أشخاصٍ مختلفين. فمن بين أشخاصٍ عديدين دخلوا كليَّة الطبِّ، هناك شخص أعرفه كان يقضي أوقاتًا طويلة في إحدى الحدائق متأمِّلاً الأشجار والطيور ومسار حياته... وهناك شخصٌ آخر قال لي مرَّةً: "نيالك" (= هنيئًا لك) لأنك تدرس الرياضيات... وهناك طالب طبٍّ ثالث عرفته ترك الكليَّة لأنَّه لم يستطع التأقلم مع المشرط، الخ.. وينطبق على إهاب، الذي سبق أن تحدَّثنا عنه وسنعود إليه بعد قليل، ما ينطبق على دنيا وإن بطريقةٍ أخرى. والقصد من هذا الجزء من القصَّة التي سنتابعها لاحقًا، هو تقديم مثالٍ عن التباين بين الموهبة والرغبة من جهة والطريق الذي يختاره المجتمع للطلاب من جهة أخرى.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني