القطبية والوحدة

 

تورفالد دتلفزن

 

قال لهم يسوع: "عندما تجعلون من الاثنين واحدًا، وعندما تجعلون الباطن كالظاهر والظاهر كالباطن، والعلوي كالسفلي، وعندما تجعلون الذكري والأنثوي واحدًا، وعندما تجعلون عينًا بدلاً من عين، ويدًا بدلاً من يد، وقدمًا بدلاً من قدم، وصورة بدلاً من صورة، عندئذ تدخلون الملكوت."

إنجيل توما،[1] القول 22

 

نشعر أننا مضطَّرون في هذا المقال إلى تناول موضوع كنَّا عالجناه في كتابنا القدر بوصفه فرصة[2] – مسألة القطبية. لا شك في أننا نودُّ تجنُّب التكرارات المملَّة؛ ولكن فهم القطبية يُعَدُّ مقدمة لا غنى عنها لكلِّ ما يليها من استدلالات. أخيرًا، لا يمكن للمرء أن يبالغ في الانشغال بموضوع القطبية؛ فهي تمثِّل مسألةً مركزية في وجودنا.

بمجرد أن يقول الإنسان: أنا فهو يحدُّ نفسه عن كلِّ ما يشعر أنه غير الأنا، أي بوصفه الأنت – وبهذه الخطوة يكون الإنسان حبيس القطبية. هكذا تقيِّده أناه إلى عالم الأضداد الذي لا ينقسم إلى أنا وأنت فقط، إنما أيضًا إلى باطن وظاهر، امرأة ورجل، خير وشرٍّ، صواب وخطأ، إلخ. أنا الإنسان تجعله عاجزًا عن إدراك الوحدة أو الكلِّية، بأيِّ شكل كان، عاجزًا عن التعرُّف إليها، أو حتى عن مجرد تصوُّرها. فالوعي يشطر كلَّ شيء ويفكِّكه إلى أزواج من الأضداد نعيشها، عندما تستفزُّنا، بوصفها صراعًا. إنها ترغمنا على التفريق ثم اتخاذ القرار. أما عقلنا فلا يقوم بشيء آخر سوى تفكيك الواقع باستمرار إلى قطع وأجزاء أصغر فأصغر (تحليل) والتفريق بين هذه الأجزاء (القدرة على التمييز). هكذا نقول عندئذٍ نعم لجزء، وفي الوقت ذاته لا للجزء المضاد – إذ إن "الأضداد ينفي بعضها بعضًا، كما هو معروف". ولكننا مع كلِّ لا، مع كلِّ نفي، نرسِّخ عدم سلامتنا. فأن نكون سليمين يعني أن لا يعود ينقصنا شيء. ربما نلمس هنا سلفًا الصلة الوثيقة لموضوع المرض–الشفاء بالقطبية، وبعبارة أوضح: المرض هو القطبية، والشفاء هو التغلُّب على القطبية.

فيما وراء القطبية، التي نجدها أمامنا كبشر، تقع الوحدة – ذلك الواحد الشامل كلَّ شيء، الذي ترقد فيه الأضداد دون تميُّز. ويُدعى مجال الوجود هذا بـالكلِّ أيضًا؛ وهو يشمل، بالتعريف، كلَّ شيء، لذلك لا يمكن أن يوجد أيُّ شيء خارج هذه الوحدة، خارج هذا الكل. في الوحدة لا وجود للتغير ولا للتحول أو التطور، لأن الوحدة لا تخضع للزمان ولا للمكان. فالكلُّ الواحد هو في سكينة أبدية؛ إنه وجود خالص، دون شكل ودون فاعلية. ولا بدَّ أن يلفت انتباهنا أن سائر المقولات حول الوحدة يجب أن تُصاغ سلبًا، أي فقط بنفي شيء ما: بلا زمان، بلا مكان، بلا تغيُّر، بلا حدود.

كل مقولة إيجابية تتحدَّر من وعينا المشطور؛ ولذلك فهي غير قابلة للتطبيق على الوحدة. من هنا تظهر الوحدة، من وجهة نظر وعينا القطبي، بمظهر اللاشيء. هذه الصيغة صحيحة؛ بيد أنها كثيرًا ما تولِّد عندنا تداعيات خاطئة. فالإنسان الغربي خصوصًا يرتكس خائبًا عندما يعلم مثلاً أن حالة الوعي المنشودة في الفلسفة البوذية – "نيرفانا" – تعني لاشيء (حرفيًّا: "الانطفاء"). تودُّ أنا الإنسان دومًا امتلاك شيء ما يقع خارجها، وتدرك، على مضض بالغ، أن ليس عليها سوى أن تنطفئ كي تتوحَّد مع الكلِّ. ففي الوحدة يتطابق كلُّ شيء في واحد. اللاشيء يتخلَّى عن كلِّ تَمَظْهُر، وبذلك ينجو من القطبية. إن العلَّة الأولى لكلِّ وجود هي اللاشيء (إين سوف[3] عند القباليين، تاو عند الصينيين، نيتي–نيتي[4] عند الهنود). إنه الوحيد الذي يوجد فعلاً، بلا بداية وبلا نهاية، من أبدية إلى أبدية.

بإمكاننا أن نشير إلى هذه الوحدة، ولكن ليس في وسعنا أن نتصوَّرها. الوحدة هي قطبية القطبية، لذا فهي قاهرة فكريًّا – لا بل هي، إلى حدٍّ ما، قابلة للاختبار والمعايشة بالنسبة للإنسان، إنْ هو طوَّر وصقل لديه، عن طريق تمارين معينة أو تقنيات التأمل، القدرة على توحيد قطبية وعيه لمدة وجيزة على الأقل. مع ذلك، فهي تتملَّص من الوصف اللغوي أو التحليل الفكري، لأن تفكيرنا يشترط القطبية تحديدًا. فالمعرفة غير ممكنة دون قطبية، دون الشطر إلى ذات وموضوع، إلى عارف ومعروف. وفي الوحدة لا توجد معرفة، إنما وجود فقط. في الوحدة يتوقف كلُّ توق، كلُّ إرادة وسعي، كلُّ حركة – إذ لا يعود هناك "خارجٌ" يمكن للمرء أن يتوق إليه. إنها مفارقة قديمة تتمثل في أن المرء لا يجد الوفرة والامتلاء إلا في اللاشيء.

لنعدْ ثانيةً إلى المجال الذي يمكننا اختباره اختبارًا أكيدًا. نحن جميعًا نمتلك وعيًا قطبيًّا يحرص على أن يُظهِر لنا العالم قطبيًّا. ومن الهام أن نقرَّ أنْ ليس العالم هو القطبي، بل إن وعينا الذي نختبر به العالم هو القطبي. فلنتأمل قوانين القطبية على مثال محدَّد وملموس كالتنفس، الذي يُكسِب الإنسان الخبرة الأساسية بالقطبية. يتناوب تيار الشهيق وتيار الزفير باستمرار، وبذلك يشكِّلان إيقاعًا. ولكن الإيقاع ليس إلا تناوبًا مستمرًا بين قطبين. الإيقاع هو النموذج الأساسي لكلِّ حياة. وهذا بالذات ما تقصده الفيزياء بمقولة إن جميع الظواهر يمكن إرجاعها إلى ذبذبات. إذا قوَّض المرءُ الإيقاعَ، قوَّض الحياة، لأن الحياة إيقاع. منْ يرفض الزفير، لا يعود بإمكانه الشهيق. هكذا نرى أن تيار الشهيق يعيش من تيار الزفير، وهو غير قادر على الوجود دون قطبه المعاكس. إذا أزلنا أحد القطبين، اختفى الآخرُ أيضًا. على هذا النحو تتولَّد الكهرباء من التوتُّر بين قطبين – فإذا انتزعنا أحد القطبين، اختفت الكهرباء كليًّا.

 

نرى أعلاه الصورة–الأحجية المعروفة منذ القدم، التي يمكن لكلِّ إنسان أن يستشعر فيها مشكلة القطبية. وتنص القطبية هنا على ما يلي: المقدمة/الخلفية، أو بشكل ملموس: الوجهان/المزهرية. ويتوقف الشكل الذي أدركه من بين هاتين الإمكانيتين على المساحة التي أجعل منها الخلفية – أهي المساحة البيضاء أم السوداء. إذا اعتبرتُ المساحة السوداء خلفيةً، غَدَتْ المساحة البيضاء مقدِّمة ورأيتُ المزهرية. وينقلب هذا الإدراك عندما أجعل من المساحة البيضاء خلفيةً، لأنني أرى عندئذٍ المساحة السوداء كمقدِّمة، ويظهر لي وجهان من الجانب. ما يهمنا في هذه اللعبة البصرية هو الرصد الدقيق لما يجري في داخلنا عندما نجعل الإدراك ينقلب بالتناوب. إن كلا عنصري الصورة – المزهرية والوجهين – موجودان في الصورة مجتمعين في آنٍ واحد، لكنهما يُجبِران الناظر على اتخاذ القرار بمعنى "إما"/"أو": إما أن نرى المزهرية أو أن نرى الوجهين. وفي أحسن الأحوال يمكننا رؤية جانبي الصورة كليهما، الواحد تلو الآخر، ولكن من الصعوبة بمكان إدراكهما كليهما في وقت واحد وبالدرجة ذاتها.

تُعَدُّ هذه اللعبة البصرية جسرًا صالحًا لفهم القطبية. ففي هذه الصورة يتعلَّق القطب الأسود بالقطب الأبيض، والعكس بالعكس. وإذا انتزع المرء من الصورة أحد القطبين (سواء الأسود أم الأبيض)، اختفت الصورة كلُّها بجانبيها كليهما. هنا أيضًا يعيش الأسود من الأبيض، أو بالأحرى المقدِّمة من الخلفية، مثلما يعيش الشهيق من الزفير أو القطب الموجب من القطب السالب. وتبيِّن لنا هذه الرهنية القصوى لقطبين، أحدهما للآخر، أنه وراء كل قطبية تقع، كما هو واضح، وحدةٌ لا يمكننا، كبشر، إدراكها والتعرُّف إليها بوعينا كوحدة في تزامنيَّتها. هكذا نحن مجبَرون على تفكيك كلِّ وحدة حقيقية إلى قطبين والنظر إليهما الواحد تلو الآخر.

هذا هو، بالمناسبة، مهد الزمن، ذلك المخادع الذي يدين بوجوده للقطبية أيضًا ليس إلا. فالقطبيات، إذن، تتجلَّى بوصفها مجرد وجهين لوحدة الحقيقة نفسها، وجهين لا يمكننا النظر إليهما إلا الواحد تلو الآخر. هكذا، يتوقَّف على موقعنا الذي ننظر منه أي وجهي الميدالية نرى. القطبيات لا تظهر كأضداد متنافية إلا للمراقب السطحي – فعند النظر إليها عن كثب وبتعمُّق يتَّضح أنها تشكِّل معًا وحدةً، وأن وجود أحد القطبين يتوقَّف على وجود الآخر. وقد اكتسب العلم هذه الخبرة الأساس لأول مرة في بحث الضوء.

كان هناك رأيان متضاربان حول طبيعة الأشعة الضوئية: الأول صاغ نظرية الموجة، والثاني نظرية الجسيم – والنظريتان تتنافيان. فإذا كان الضوء يتكوَّن من موجات فهو لا يتكوَّن من جسيمات – والعكس بالعكس: إما/أو. وفي هذه الأثناء نعرف أن هذه الـ"إما/أو" كانت مسألة غير صحيحة. فالضوء موجة، كما هو جسيم، [بحسب الفيزياء الكوانتية – (المحرِّر)].

بل إن في ودِّي أن أقلب هذه النظرية مرة أخرى: الضوء ليس موجة ولا جسيمًا. الضوء في وحدته: ضوء – وهو غير قابل للاختبار، بما هو كذلك، بالنسبة للوعي البشري القطبي. وهذا الضوء يتكشَّف للراصد فقط، تارةً كموجة وتارةً أخرى كجسيم، وذلك تبعًا للجانب الذي يقاربه منه.

القطبية أشبه ببابٍ يحمل على أحد جانبيه لافتة مدخل وعلى الجانب الآخر لافتة مخرج – فهو دائمًا الباب الواحد ذاته، ولكننا لا نرى سوى أحد وجهي وجوده، تبعًا للجانب الذي نقاربه منه. ومن جراء هذا القسْر في وجوب تفكيك الوحدات إلى أوجه وجوانب، ننظر إليها، عندئذٍ، الواحد تلو الآخر، ينشأ الزمن؛ إذ فقط عن طريق النظر بوعي قطبي يتحوَّل تزامن الوجود إلى تعاقب. ومثلما تقف الوحدة فيما وراء القطبية، كذلك تقف الأبدية فيما وراء الزمن. وينبغي أن نلاحظ أن مفهوم الأبدية يعني انعدام الزمن بالمعنى الميتافيزيقي، وليس استمرارية في الزمن لا نهاية لها، مثلما أساء فهمها اللاهوت المسيحي.

بتأمُّل اللغات القديمة يمكن للمرء أن يتتبَّع تتبُّعًا جيدًا أيضًا كيف قام وعيُنا ونزعتُنا إلى المعرفة بشطْر الوحدات الأولية إلى أضداد. من الواضح أن إنسان الحضارات القديمة استطاع رؤية الوحدة فيما وراء القطبية رؤية أفضل؛ إذ لا يزال العديد من مفردات اللغات القديمة يتَّصف بالقطبية. فقط بمرور الزمن واستمرارية تطور اللغة، بدأ المرءُ بإلحاق الكلمة، المزدوجة في الأصل، بقطب واحد فقط بشكل صريح، وذلك غالبًا بإزاحة الحرف الصوتي أو مَدِّه. (وقد أعار تسيغموند فرويد انتباهه سلفًا إلى هذه الظاهرة في مقالته حول "المعنى المضاد للكلمات البدائية"!)

هكذا يمكننا، دون صعوبة، التعرُّف، على سبيل المثال، إلى الجذر المشترك الذي يربط الكلمات اللاتينية التالية: clamare = صَرَخَ و clam= صامت، أو siccus= جاف و succus = عصارة؛ altus تعني، كما في السابق، إما عاليًا أو منخفضًا. وفي اليونانية تعني كلمة pharmacon السُّم والدواء على حدٍّ سواء. وفي الألمانية نجد، على سبيل المثال، أن للكلمتين Stumm و Stimme أصلاً واحدًا[5]؛ وفي الإنكليزية نجد القطبية بكاملها في كلمة without التي تعني حرفيًّا: مع دون، إلا أنها لم تعد تُلحَق إلا بواحد من القطبين فقط – وهو المعنى دون. أما القرابة اللغوية بين الكلمتين bös و baß فتزيدنا قربًا من موضوعنا من حيث المضمون. baß كلمة ألمانية فصحى قديمة تعني جيد أو صالح أو خيِّر.[6] ولم نعد نجد هذه الكلمة إلا في التركيبين اللغويين التاليين: fürbaß التي تعني أجل أو حقَّا و baßerstaunt التي يمكن ترجمتها بـشديد الإدهاش. ومن الأصل ذاته تتحدَّر الكلمة الإنكليزية bad = سيئ، شأنها شأن الكلمة الألمانية Buße و büßen.[7] إن هذه الظاهرة اللغوية التي كانت تُستعمَل فيها كلمة مشتركة واحدة فقط من أجل قطبين متعاكسين أصلاً مثل خيِّر وشرير تبيِّن لنا بوضوح الاجتماع أو الوحدة التي تقف وراء كل قطبية. أما موضوع المساواة بين الخير والشرِّ تحديدًا فسوف نتناوله بإسهاب أكبر، ولكن ربما يمكننا هنا سلفًا إيضاح التبعات والنتائج الهائلة المترتبة على فهم موضوع "القطبية".

نحن نعيش قطبية وعينا ذاتيًّا في تناوب حالتين من الوعي، تتميَّز إحداهما عن الأخرى بوضوح: اليقظة والنوم. ونعيش حالتي الوعي هاتين كتطابقين داخليين لقطبية النهار/الليل الخارجية في الطبيعة. هكذا كثيرًا ما نتكلَّم أيضًا عن "وعي نهاري" و"وعي ليلي"، أو عن الجانبين النهاري والليلي من النفس. كم أن التمييز المعروف بين الوعي واللاوعي وثيق الصلة بهذه القطبية. هكذا نعيش نهارًا ذلك المجال من الوعي، الذي نوجد فيه ليلاً ويتصاعد في الأحلام، بوصفه لاوعيًا. عند التدقيق في عبارة لاواعٍ نجد أنها ليست مفهومًا موفقًا؛ إذ إن السابقة "لا" تنفي كلمة "واعي" اللاحقة؛ ولكن النفي، هنا تحديدًا، لا ينطبق على واقع الحال. لاواعٍ لا تستوي مع عديم الوعي. ففي أثناء النوم نوجد في حالة أخرى من الوعي ليس إلا. وليس واردًا على الإطلاق أن يدور الكلام عن انعدام الوعي. اللاوعي، إذن، ليس فقدان الوعي، بل هو مجرد تصنيف قاصر جدًا ومتحيِّز يقوم به الوعي النهاري مؤكِّدًا، كما هو واضح، أنه لا يزال هناك شيء ما، ولكنه عاجز عن القبض عليه. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا نتماهى في الواقع مع الوعي النهاري بهذه البديهية؟

منذ انتشار علم نفس الأعماق اعتدنا على تصوُّر وعينا مقسَّمًا إلى طبقات، وعلى التمييز بين الوعي وما تحت الوعي واللاوعي. صحيح أن هذا التقسيم إلى أعلى وأسفل غير قاهر، إلا أنه يوافق إحساسًا رمزيًّا بالمكان يُلحِق السماء والنور بالقطب العلوي للمكان، والأرض والظلمة بالقطب السفلي. وإذا حاولنا تمثيل مثل هذا النموذج للوعي بيانيًّا، أمكننا وضع الشكل التالي:

 

ترمز الدائرة هنا إلى الوعي الشامل كلَّ شيء، اللامحدود والأبدي. لذا فإن محيط الدائرة أيضًا لا يمثِّل حدًّا؛ إنما هو مجرد رمز لاحتواء كلِّ شيء. من هنا فالإنسان محدود من جراء أناه، الأمر الذي ينشأ عنه وعيُه الذاتي المحدود. لذا فهو لا يمتلك أيَّ مدخل إلى باقي الوعي، أي الوعي الكوني – فهذا الأخير لاواعٍ بالنسبة له (ك. غ. يونغ يدعو هذه الطبقة بـ"اللاوعي الجمعي"). مع ذلك فإن الخطَّ الفاصل بين أناه و"بحر الوعي" الباقي ليس مطلقًا – بل يمكن وصفه كنوع من الغشاء النَفوذ نحو الجانبين. هذا الغشاء يوافق ما تحت الوعي، وهو يتضمَّن سواء محتويات هبطت من الوعي (تم نسيانها) أم محتويات صعدت من اللاوعي، كأحلام كبرى أو حدوس أو رؤى، على سبيل المثال.

إن اشتداد تماهي الإنسان مع وعيه فقط يعني خفْض نفوذية ما تحت الوعي إلى أبعد الحدود، وبالتالي تُعاش المحتويات اللاواعية وكأنها غريبة، فتولِّد القلق. أما ازدياد النفوذية فبإمكانه أن يقود إلى نوع من الوسطيَّة. ولكن حالة الاستنارة أو الوعي الكوني لا يتم بلوغها إلا عندما يتخلَّى المرء عن الحدود، بحيث يتوحَّد الوعي واللاوعي. والحق أن هذه الخطوة بمثابة إبادة للأنا، التي يكمن فهمها لذاتها في الحدِّ والفصل. توصَف هذه الخطوة بالمصطلحات المسيحية بالكلمات التالية: "أنا (الوعي) وأبي (اللاوعي) واحد."

يجد الوعي البشري تعبيره الجسدي في الدماغ، حيث يتم إلحاق قدرة البشر النموذجية على التمييز والحكْم بقشرة المخ. ولا غرابة في أن قطبية الوعي البشري تجد تصديقها في تشريح المخ. فكما هو معروف، ينقسم المخ إلى نصفي كرة يتَّصل أحدهما بالآخر بما يُسمَّى "الجسم الثفني" corpus callosum. وقد حاول الطب فيما مضى إزالة أعراض مختلفة، كالصرع أو الآلام غير المحتمَلة، عن طريق قطع هذا الجسم الثفني جراحيًّا، وبالتالي قطع سائر طرق الاتصال العصبية بين نصفي الكرة المخِّية (commisurotomie أو قطع الملتقى).

على الرغم مما يبدو على هذا التداخل الجراحي من جور وفظاظة وقسوة، تكاد لا تظهر أعراضٌ أو إصاباتٌ جديرة بالذكر بعد مثل هذه العملية للوهلة الأولى. على هذا النحو اكتشف المرء أن نصفي الكرة المخية يمثِّلان مخَّين مستقلين، كما هو واضح، ويمكن لكلٍّ منهما القيام بعمله بمعزل عن الآخر. ولكن عندما جرى إخضاع المرضى، الذين تمَّ عندهم فصل نصفي الكرة المخية أحدهما عن الآخر، لشروط اختبار أكثر دقةً، أخذ يتضح شيئًا فشيئًا أن نصفي الكرة المخية مختلفان أحدهما عن الآخر بكلِّ وضوح في طبيعتهما واختصاصهما. نحن نعلم أن الطرق العصبية تتصالب جانبيًّا، وبالتالي، يقوم نصف المخ الأيسر بتعصيب النصف الأيمن من الجسم، وعلى العكس، يقوم نصف المخ الأيمن تعصيب النصف الأيسر من الجسم. إذا قام المرء بتغطية عينيِّ أحد المرضى المذكورين أعلاه وأعطاه في يده اليسرى مقصًّا على سبيل المثال، تعذَّر على المريض تسمية هذا الشيء؛ أي أنه يعجز عن إيجاد الاسم الذي يعود إلى هذا الموضوع المتحسَّس باليد، ولكنه لا يجد أية صعوبة في استخدامه الصحيح. وينقلب الحال إذا ما أُعطِيَ الشيء في يده اليمنى: فالمريض يعرف الاسم الصحيح، ولكنه يعجز عن استخدامه الموافق.

كما اليدان، كذلك الأذنان والعينان، يتصل كلٌّ منهما بنصف المخ المقابل. ففي تجربة أخرى جرى عرْضُ أشكال هندسية مختلفة على العين اليمنى واليسرى، كلٍّ على حدة، عند مريضة قُطِعَ لديها الجسم الثفني. وفي هذا الإطار تم إسقاط صورة إباحية في الساحة البصرية للعين اليسرى، بحيث يقوم نصف المخ الأيمن فقط بإدراك هذه الصورة. عندئذٍ تورَّدتْ المريضة خجلاً وضحكت؛ ولكنها أجابت عن سؤال القائم على التجربة عمَّا رأت: "لا شيء، مجرد وميض ضوئي"، وتابعت ضحكها الهامس. هكذا فإن الصورة التي يقوم نصف المخ الأيمن بإدراكها تقود إلى ارتكاس، ولكن ليس بالإمكان صياغتها فكريًّا أو لغويًّا. وإذا جُعِلَتْ روائح في متناول المنخر الأيسر فقط، حدث ارتكاس موافق أيضًا، ولكن المريض عاجز عن تحديد نوع الرائحة. وإذا عُرِضَتْ على المريض كلمةٌ مركَّبة مثل "كرة القدم"، بحيث ترى العين اليمنى الجزء الأول منها، أي "كرة"، والعين اليسرى الجزء الثاني، أي "القدم"، قرأ المريض كلمة "كرة" فقط، لأن نصف المخ الأيمن لا يمكنه تحليل كلمة "القدم" لغويًّا.

وقد تمَّ مؤخَّرًا توسيع هذه التجارب وتدقيقها بصورة متزايدة، بحيث قادت حتى الآن إلى معارف يمكن تلخيصها على وجه التقريب كما يلي: يختلف نصفا الكرة المخِّية بشكل واضح في مجال وظيفتهما وأدائهما وفي اختصاص كلٍّ منهما. يمكن تسمية نصف المخ الأيسر "نصف المخ اللفظي"، لأنه مختصٌّ بالمنطق وبنية اللغة، بالقراءة والكتابة. وهو يعالج جميع منبِّهات هذا العالم تحليليًّا وعقلانيًّا؛ فهو، إذن، يفكِّر رقميًّا. هكذا فهو المسؤول أيضًا عن العدِّ والحساب. يُضاف إلى ذلك أن الإحساس بالزمن يتم فيه.

ونجد سائر القدرات القطبية المقابلة لما سبق في نصف المخ الأيمن. فبدلاً من التحليل نجد هنا الإدراك الكلاني للعلاقات والنماذج والبنى المعقَّدة. هكذا يتيح لنا نصف المخِّ هذا إدراكَ كلِّيةٍ ما (بنية أو شكل) بناء على جزء صغير (الكل في الجزء). والواضح أننا ندين لنصف المخ الأيمن أيضًا بالقدرة على إدراك الكميات المنطقية التي لا توجد على نحو عادي، وتكوين مفاهيم لها (مفاهيم عليا، تجريدات). لا نجد في نصف المخ الأيمن سوى أشكال لغوية قديمة ومهجورة تتبع صورًا صوتية وتداعيات أكثر منها قواعد نحو. ويقدِّم كلٌّ من الشعر الوجداني ولغة المُصاب بالفصام صورةً جيدة عن لغة نصف المخ الأيمن. كما يقطن هنا أيضًا التفكير التناظري أو القياسي والتعامل بالرموز. ويختص نصف المخ الأيمن بمجال التصور والأحلام في النفس، ولا يخضع لإدراك الزمن الخاص بنصف المخ الأيسر.

تبعًا للنشاط الذي يقوم به الإنسان للتوِّ، يكون أحد نصفي الكرة المخية، الموافق لذلك النشاط، مسيطرًا. هكذا يجرُّ كلٌّ من التفكير المنطقي والقراءة والكتابة والحساب إلى سيطرة نصف المخ الأيسر، بينما تنتقل السيطرة إلى نصف المخ الأيمن في أثناء الاستماع إلى الموسيقى، وفي كل من الأحلام والتخيل والتأمل. وعلى الرغم من سيطرة أحد نصفي الكرة المخية فإن معلومات نصف الكرة المخية غير المسيطر تقع تحت تصرف الإنسان السليم في كلِّ وقت، إذ يجري تبادل حثيث للمعلومات عبر الجسم الثفني.[8] ولكن التخصُّص القطبي لنصفي الكرة المخية يتفق بدقة شديدة مع مذاهب القطبية الباطنية القديمة. ففي "التاوية" يُدعى المبدأان الأوليان، اللذان انقسمت إليهما وحدة تاو، بـ"يانغ" (المبدأ الذكري) و"يِن" (المبدأ الأنثوي). وفي التراث الهرمسي يُعبَّر عن القطبية نفسها برمزي "الشمس" (ذكريًّا) و"القمر" (أنثويًّا). إن "ينغ" الصيني و"الشمس" رمزان للمبدأ الفاعل، الإيجابي، الذكري، ويوافق الوعي النهاري في المجال النفسي. أما مبدأ "يِن" أو "المبدأ القمري" فيشمل المبدأ المنفعل، السلبي، الأنثوي، المتلقِّي، ويوافق لاوعي الإنسان.

هذه القطبيات الكلاسيكية يمكن نقلها، دونما تكلُّف، إلى نتائج أبحاث الدماغ. وهكذا يكون نصف الكرة المخية الأيسر "ينغ"، ذكريًّا، فاعلاً، واعيًا، ويوافق رمز الشمس، وبالتالي الجانب النهاري في الإنسان؛ كما أن نصف الكرة المخية الأيسر يعصِّب الجانب الأيمن، أي الفاعل أو بالأحرى الذكري، من الجسم. أما نصف الكرة المخية الأيمن فهو "يِن"، سلبي، ويوافق المبدأ القمري، أو بالأحرى الجانب الليلي من اللاوعي في الإنسان؛ وهو يعصِّب، تبعًا لذلك، النصف الأيسر من الجسم. ولتيسير الإحاطة بالموضوع نجد، بعد الرسم التالي، جدولاً رُتِّبَتْ فيه المفاهيم القياسية.

 

الأيمن

الأيسر

إدراك شكلي

إدراك الكل

إحساس بالمكان

أشكال لغوية مهجورة

المنطق

اللغة (قواعد، نحو)

 

الموسيقى

الروائح

النموذج

 

صورة متماسكة عن العالم

تفكير قياسي

رمزية

انعدام الزمن

شمولية

كميات منطقية

حدْس

 

نصف المخ اللفظي

القراءة

الكتابة

الحساب

العد

استكشاف المحيط

تفكير رقمي

تفكير خطِّي

تعلُّق بالزمن

تحليل

 

ذكاء

يِن

يانغ

-

+

قمر

شمس

أنثوي

ذكري

ليل

نهار

لاواعٍ

واعٍ

موت

حياة

 

الأيمن

الأيسر

منفعلية

فاعلية

مغناطيسي

كهربائي

قلوي

حامضي

الجانب الأيسر من الجسم

الجانب الأيمن من الجسم

اليد اليسرى

اليد اليمنى

وقد شرعت بعض التيارات الحديثة في علم النفس بتدوير طوبوغرافيا الوعي الأفقية القديمة (فرويد) بمقدار 90 درجة مئوية والاستعاضة عن مفهومي الوعي واللاوعي بنصفي المخ الأيسر والأيمن. بيد أن تغيير التسمية هذا مجرد مسألة شكلية، وقلما تُغيِّر شيئًا في المضمون؛ وهذا ما يُفترَض أن نوضِّحه في عروضنا هنا. فالطوبوغرافيا الأفقية والعمودية على السواء مجرد توصيف للرمز الصيني القديم المسمَّى "تاي تشي"، الذي يقسم دائرةً (كل، وحدة) إلى نصف أبيض ونصف أسود يحوي كلٌّ منهما، بدوره، بذرة القطب المضاد (نقطة باللون المعاكس) – وكأن الوحدة تنقسم في وعينا إلى قطبيات يكمِّل بعضُها بعضَها الآخر.

 

من السهل فهمُ عدم سلامة الإنسان الذي يمتلك أحد نصفي الكرة المخية فقط؛ ولكن صورة عصرنا المألوفة عن العالم، والمسمَّاة "علمية"، ليست أكثر "سلامةً" في الواقع – ذلك أنها صورة العالم الخاصة بنصف الكرة المخية الأيسر. فمن وجهة النظر الأحادية هذه لا يوجد بالطبع سوى العقلاني، المعقول، التحليلي–الملموس؛ لا وجود سوى للمظاهر المتعلِّقة بالسببية والزمن. إلا أن مثل هذه الصورة العقلانية عن العالم لا تمثِّل سوى نصف الحقيقة؛ إذ إنها تجسِّد أسلوب رؤية نصف الوعي أو بالأحرى نصف المخ. فكُّل محتويات الوعي، التي يحلو للمرء الحطُّ من شأنها بوصفها لاعقلانية ومنطوية على نفسها وغيبية وخيالية، ليست سوى قدرات الإنسان المقابلة قطبيًّا في النظر إلى العالم.

إن مدى اختلاف تقييم وجهتي النظر المتكاملتين هاتين يتجلَّى سلفًا في أن المرء، في أثناء بحثه القدرات المختلفة لنصفي الكرة المخية، تعرَّفَ بسرعة إلى إنجازات النصف الأيسر وتمكَّن من وصفها، ولكنه حارَ طويلاً في مغزوية نصف الكرة المخية الأيمن، وبدا له أنه لا يقوم بأية إنجازات معقولة. والظاهر أن الطبيعة تثمِّن كفاءة النصف الأيمن تثمينًا أعلى؛ ففي الظروف الخطرة المهدِّدة للحياة تتحوَّل تلقائيًّا من سيطرة النصف الأيسر إلى سيطرة النصف الأيمن. ذلك أنه ليس بالإمكان التغلُّب بشكل مناسب على وضعٍ خطر عن طريق إجراءٍ تحليلي. فبفضل سيطرة نصف المخ الأيمن وإدراكه الكلاني للوضع تُتاح إمكانية التصرُّف بهدوء وبما يناسب الموقف. بالمناسبة فإن الظاهرة المعروفة منذ القدم لما يُسمَّى شريط الحياة تقوم على هذا التحويل أيضًا. فعند دنوِّ الموت يرى الإنسان حياته بكاملها مرة ثانية، أو بالأحرى يعيش مواقف حياته كافة مرة أخرى – وهو مثال جيد على ما أسميناه أعلاه انعدام الزمن في نصف المخِّ الأيمن.

في رأينا أن أهمية نظرية نصفي الكرة المخية تكمن في أنه لا يزال بإمكان العلم أن يدرك مدى تحيُّز واجتزاء فكرته عن العالم حتى الآن، وأن يتعلَّم، عن طريق الاشتغال بنصف الكرة المخِّية الأيمن، رؤيةَ مشروعية ذلك الطراز الآخر في النظر إلى العالم وضرورته. وفي الوقت نفسه، لعلَّ المرء يتعلَّم، على هذا المثال، فهم قانون القطبية بوصفه قانونَ العالم المركزي؛ ولكن غالبًا ما تتحطَّم مثل هذه الخطورة على صخرة العجز المطلق للعلم عن التفكير القياسي (نصف المخ الأيمن).

ينبغي لهذا المثال أن يوضِّح لنا قانون القطبية مرة أخرى: تنشطر الوحدة في الوعي البشري قطبيًّا. القطبان يكمِّل أحدهما الآخر، وبالتالي يحتاج كلٌّ منهما، في وجوده، إلى قطبه المقابل. تستتبع القطبية العجز عن النظر إلى وجهَيْ الوحدة كليهما في وقت واحد؛ وهكذا ترغمنا على التعاقب، مع ما ينشأ عنه من ظواهر "الإيقاع" و"الزمان" و"المكان". وإذا أراد وعيٌ قطبيٌّ وصفَ الوحدة لغويًّا، لما تسنَّى له ذلك إلا بمساعدة مفارقة. والميزة التي تقدِّمها لنا القطبية هي القدرة على المعرفة، التي هي غير ممكنة لولا القطبية. وغاية الوعي القطبي وتوقه يتمثَّل في التغلُّب على حالة عدم السلامة التي يعاني منها، والمشروطة بالزمن، وأن يغدو سالمًا، أي كاملاً.

كلُّ طريق إلى السلامة أو إلى الاستنارة هو طريق من القطبية إلى الوحدة. والخطوة من القطبية إلى الوحدة عبارة عن تغيير جذري ونوعي هو من الشدَّة بحيث يصعب على الوعي القطبي تصوُّره. إن جميع الأنظمة الميتافيزيقية وجميع الأديان والمدارس الباطنية لا تقوم سوى بتعليم هذا الطريق من الثنائية إلى الوحدة – فقط ليس غير. وينتج عن ذلك، بالضرورة، أن جميع المذاهب لا تهتمُّ بـ"إصلاح" هذا العالم، إنما بـ"هجر هذا العالم".

تُعَدُّ هذه النقطة بالذات المرتكز الأساس لسائر نقَّاد هذه المذاهب وخصومهم. فهم يشيرون إلى مظالم هذا العالم وبؤسه، ويأخذون على المذاهب ذات التوجُّه الميتافيزيقي مواجهتَها هذه التحدِّيات مواجهة غير اجتماعية، بكلِّ برودة وقسوة، لأنها لا تعير اهتمامًا سوى لخلاصها الذاتي الأناني. أما العناوين الكبرى لهذا النقد فهي الزهد في الدنيا وقلة الالتزام. وللأسف، لا يأخذ هؤلاء النقَّاد أبدًا الوقت الكافي لاستيعاب أحد هذه المبادئ تمامًا، قبل أن يحاربوه، وهكذا يقوم المرء، بتسرِّع، بمزج آرائه الخاصة مع بضعة مفاهيم مُساءٍ فهمُها من مذهبٍ آخر، ويدعو هذا الهراء "نقدًا".

وترجع حالات سوء الفهم هذه إلى عهد بعيد. فقد قام يسوع بتعليم هذا الطريق الوحيد فقط، الذي يقود من الثنائية إلى الوحدة – ولم يفهمه حقَّ الفهم حتى تلاميذه (باستثناء يوحنا). وقد سمَّى يسوع القطبية بـهذا العالم والوحدة بـملكوت السماء أو بيت أبي أو، بكلِّ بساطة، الآب، وشدَّد على أن مملكته ليست من هذا العالم، وعلَّم الطريق إلى الآب. مع ذلك فقد فُهِمَتْ جميعُ أقواله في بادئ الأمر بشكل محسوس ومادي ومسحوب على هذا العالم. ويبيِّن إنجيل يوحنا، فصلاً فصلاً، حالات سوء الفهم هذه: يتحدَّث يسوع عن الهيكل الذي يريد إعادة بنائه في ثلاثة أيام – ويفكِّر تلاميذه بهيكل أورشليم، في حين أنه يقصد جسده؛ يتحدَّث يسوع مع نيقوديموس عن الولادة الجديدة من الروح، إلا أن هذا الأخير يفكِّر في ولادة طفل؛ يحدِّث يسوع المرأة عند البئر عن ماء الحياة، وهي تفكِّر بماء الشرب. يمكننا مواصلة سرد هذه الأمثلة كما نشاء؛ فلكلٍّ من يسوع وتلاميذه نقطة مرجعية مختلفة كليًّا. يحاول يسوع لفت نظر الإنسان إلى معنى الوحدة وأهميتها، في حين يتشبَّث مستمعوه بقلق وتشنُّج بالعالم القطبي. لا نعرف عن يسوع دعوة واحدة لإصلاح العالم وتحويله إلى فردوس – ولكنه يسعى، في كلِّ كلمة، إلى تشجيع البشر على الإقدام على الخطوة التي تقود إلى الخلاص والسلامة.

مع ذلك فإن هذا الطريق يثير دومًا قلقًا في بادئ الأمر، إذ إنه يقود أيضًا عبر الألم والأهوال. لا يمكن التغلُّب على العالم إلا بقبوله وتحمُّله – ولا يمكن القضاء على الألم إلا بقبوله وتحمُّله، إذ إن العالم أيضًا ألمٌ دومًا. والباطنية لا تعلِّم الزهد في العالم، إنما "التغلُّب على العالم". ولكن التغلُّب على العالم ليس سوى صيغة أخرى لـ"التغلُّب على القطبية"، القطبية التي توافق الأنا؛ إذ لا يحرز الكلِّية إلا مَنْ يكفُّ عن حدِّ نفسه وفصلها عن الوجود بوساطة أناه. لذلك لا يخلو الأمر من سخرية، عندما يوصف طريقٌ، غايته القضاء على الأنا والاندماج في الكلِّ، بأنه "طريق أناني إلى السلامة". أضف أن الحافز إلى اتِّباع مثل هذه الطرق لا يكمن في الأمل بـ"حياة أخرى أفضل" أو بـ"ثواب على آلام هذا العالم" (أفيون الشعوب)، إنما في إدراك أن هذا العالم الواقعي الملموس، الذي نعيش فيه، لا يحظى بمغزى إلا عندما تكون له نقطة مرجعية تقع خارجه.

مثال: عندما يلتحق المرء بمدرسة، لا غاية لها وليس فيها امتحان نهائي، ويتعلَّم فيها لمجرد التعلُّم ليس إلا، دون آفاق، دون غاية، دون هدف، عندئذٍ يغدو العلم ذاته بلا معنى ولا جدوى. ولا تحظى المدرسة والتعلُّم بالمغزى إلا إذا وُجِدَتْ نقطة مرجعية تقع خارج المدرسة. ولا يعني استهداف مهنة ما "الهروب من المدرسة" أو اعتزالها، إنما على العكس: هذه الغاية فقط هي التي تتيح انكبابًا مجديًا على التعلُّم. لذلك فإن هذه الحياة وهذا العالم لا يحظيان ببُعدٍ من حيث المضمون إلا عندما تكون غايتنا التغلُّب عليهما وتخطِّيهما. هكذا فإن المغزى من السلَّم لا يكمن في التوقُّف عليه، إنما في التغلُّب عليه وتجاوزه عن طريق استخدامه.

من جراء فقدان أية نقطة مرجعية ميتافيزيقية باتت الحياة في عصرنا عبثًا بالنسبة للكثيرين؛ إذ إن المغزى الوحيد الذي بقي لنا يُدعى التقدُّم. بيد أن التقدم لا يعرف أية غاية أخرى سوى المزيد من التقدُّم. وهكذا تحوَّل الطريق إلى رحلة.

من الهام بالنسبة لفهمنا المرض والشفاء أن ندرك معنى الشفاء في الواقع. إذا أغفل المرء أن الشفاء يعني دائمًا الاقتراب من السلامة والكمال، بمعنى الوحدة، فسوف يحاول العثور على غاية الشفاء في إطار القطبية – ومصير مثل هذه المحاولة الفشل المحتوم. وإذا نقلنا فهمنا حتى الآن للوحدة، التي لا يمكن بلوغها إلا عن طريق "الجمع بين الأضداد" conjunctio oppositorum، إلى مجال نصفي الكرة المخية مرة ثانية، اتَّضح لنا أن غاية التغلُّب على القطبية على هذا المستوى تتَّفق مع نهاية السيطرة المتناوبة لنصفي المخ. فعلى مستوى نصفي المخ أيضًا يجب أن تنقلب الـ"إما/أو" إلى "سواء/أم"، يجب أن يتحوَّل "التعاقب" إلى "تزامن".

هنا تتجلَّى الأهمية الحقيقية للجسم الثفني، الذي يجب أن يصبح يومًا نَفوذًا إلى درجة يغدو معها "المُخَّان" مخًّا واحدًا. فالتصرُّف المتزامن بإمكانيات نصفي المرة المخية كليهما هو المقابل الجسدي للاستنارة. إنه الحَدَثِيَّة ذاتها التي صوَّرناها سابقًا على نموذج الوعي الأفقي: فقط عندما يتوحَّد الوعي الذاتي مع الوعي الموضوعي يتم بلوغ الوحدة.

نجد المعرفة العامة بهذه الخطوة، من القطبية إلى الوحدة، مرارًا وتكرارًا، في صورٍ وتعابير لا حصر لها. ذكرنا سابقًا الفلسفة الصينية التاوية التي تُدعَى فيها قوَّتا العالم بـ"يَنْغ" و"يِن". ويتحدَّث الهرمسيون عن توحيد الشمس والقمر أو قران النار والماء. كما عبَّروا عن سرِّ توحيد الأضداد في عقائد متناقضة ظاهريًّا: "يجب جعل الثابت طيَّارًا والطيَّار ثابتًا". ويعلن الرمز القديم لعصا هرمس (الصولجان) عن القانون ذاته، حيث تمثِّل الحيَّتان القوَّتين القطبيتين اللتين يجب توحيدهما في العصا. ونجد هذه الصورة ثانيةً في الفلسفة الهندية على شكل تيَّاري الطاقة القطبيين في الجسد البشري، واللذين يُدعيان "إيدا" (أنثوي) و"بنغالا" (ذكري)، ويلتفَّان بشكل أفعواني حول القناة الوسطى؛ وإذا أفلح اليوغي[9] في قيادة طاقتي الحيَّتين في هذه القناة المركزية نحو الأعلى، عاش حالة وعي الوحدة. ويصوِّر القبالي[10] هذه العلاقة بأعمدة ثلاثة لشجرة الحياة؛ ويدعوها الجدلي بـ"الطريحة" thèse و"النقيضة" antithèse و"الجميعة" synthèse. هذه المنظومات، التي لم نذكر سوى بضع منها فقط، لا تمتُّ بأية صلة سببية بعضها إلى بعض، إنما هي جميعًا تعبير عن قانون ميتافيزيقي مركزي واحد، أرادت هذه المنظومات التعبير عنه في مستويات ملموسة أو رمزية مختلفة. ونحن لا تعنينا منظومة بعينها، إنما يهمُّنا فهم قانون القطبية وسريان مفعوله على جميع مستويات عالم الأشكال.

 

تضعنا قطبية وعينا باستمرار أمام إمكانيتين للفعل، وتجبرنا على اتخاذ القرار – إذا نحن لم نرغب في المكوث في حالة الجمود واللامبالاة. هناك دائمًا إمكانيتان – مع ذلك لا يمكننا، في اللحظة الحاضرة، تحقيق سوى واحدة منهما. وهكذا تبقى الإمكانية المعاكسة في أيِّ فعل دون تحقيق. يجب علينا الاختيار واتخاذ القرار فيما إذا كنا سنمكث في المنزل أو سنخرج – نعمل أو لا نقوم بأي شيء – ننجب أطفالاً أو نمنع الحمل – نطالب بالمال أو ننساه – نطلق النار على العدو أو نُبقِي على حياته. إن حيرة الاختيار تلاحقنا في كل روحة وغدوة. لا يمكننا تجنُّب القرار؛ إذ إن "عدم الفعل" هو سلفًا قرار ضد الفعل، و"عدم القرار" هو قرار ضد القرار. وبما أننا مضطرُّون إلى اتخاذ القرار، فإننا نرغب في اتخاذ قرار حكيم وسليم على الأقل؛ ونحتاج لهذا الغرض إلى معايير للتقييم. وإذا امتلك المرء مثل هذه القيم تغدو القرارات يسيرة حقًا: فنحن ننجب أطفالاً لأنهم يخدمون استمرار البشرية – ونطلق النار على الأعداء لأنهم يهدِّدون أطفالنا – ونُكثِر من تناول الخضار لأنها مفيدة للصحة – ونُطعِم الجياع لأن هذا عمل أخلاقي. يعمل هذه النظام مبدئيًّا بشكل جيد جدًا، ويجعل اتخاذ القرارات سهلاً – حسْبُ المرء دائمًا أن يقوم بما هو صالح وصحيح! ولكن، للأسف، يقوم آخرون بالتشكيك المتواصل بنظام قيمنا، الذي نتَّخذ قراراتنا بموجبه، وهم يتَّخذون قراراتهم في كلِّ مسألة على نحو معاكس: فالمرء يمنع الحمل لأن تعداد البشرية تزايد أكثر مما ينبغي – وهاهو أحدهم لا يريد إطلاق النار على الأعداء لأن الأعداء بشر أيضًا – ويُكثِر المرء من تناول اللحوم لأن اللحوم مفيدة للصحة – ويدع الجياع يجوعون لأن هذا قدرهم ونصيبهم. صحيح أن معايير القيمة عند الآخرين ببساطة خاطئة – ولا ريب – ولكن يبقى أن ما يغيظ في الأمر عدم امتلاك الجميع المعايير ذاتها فيما يتعلق بما هو صالح وصحيح. وهكذا يبدأ كلُّ إنسان، ليس بالدفاع عن معايير القيمة الخاصة به وحسب، إنما أيضًا بإقناع أكبر عدد ممكن من الآخرين بهذه القيم. ومن الطبيعي إنه ينبغي على المرء، في نهاية المطاف، إقناع كلِّ البشر بقيمه الخاصة، وعندئذٍ فقط يغدو عالمنا خيِّرًا وصحيحًا وسليمًا. والمؤسف أن الجميع يفكِّر على هذا النحو! وهكذا تبقى معركة الآراء الصحيحة دائرةً على قدم وساق – ومع ذلك فالكل يريد فعل الصواب – ليس إلا. ولكن ما هو الصواب؟ ما هو الخطأ؟ ما هو الخير؟ ما هو الشر؟ يدَّعي الكثيرون معرفة هذا – غير أنهم غير متَّفقين فيما بينهم – وهكذا نجد أنفسنا ثانيةً مضطرين إلى اتخاذ القرار: منْ نصدِّق؟ يا له من أمر يدعو إلى اليأس!

إن الخطوة الوحيدة التي تُخرِجنا من هذا المأزق هي إدراك أنه في نطاق القطبية لا وجود لخير أو لشرٍّ مطلق، أي موضوعي، لا وجود لصواب أو لخطأ مطلق. كل تقييم هو ذاتي دائمًا ويحتاج إلى إطار مرجعي، هو ذاتي بدوره. كل تقييم يتعلق بموقف الناظر ووجهة نظره؛ لذا فهو صحيح دائمًا بالنسبة إليه. ليس بالإمكان تقسيم العالم إلى ما يجوز أن يكون في الواقع، وبالتالي، فهو صحيح وخيِّر، وإلى ما لا ينبغي أن يكون، ولذا تجب محاربته واستئصاله. إن ثنائية الأضداد، التي لا تعرف المهادنة، مثل الصواب/الخطأ، الخير/الشر، الله/الشيطان، لا تُخرِجنا من القطبية، بل تزيدنا استغراقًا فيها ليس إلا.

أما الحل فيكمن فقط في تلك النقطة الثالثة التي إذا نُظِرَ منها إلى جميع البدائل، جميع الإمكانيات، جميع القطبيات، تكون متساوية في الخير والصواب، أو بالأحرى متساوية في الشرِّ والخطأ، ذلك أنها عبارة عن أجزاء من الوحدة، بالتالي تتمتَّع بمشروعية وجودها، إذ لولاها لما كان الكلُّ كاملاً. لذلك أشرنا في قانون القطبية، بكثير من الإصرار، إلى أن كلَّ قطب يعيش من وجود القطب الآخر، وهو غير قابل للحياة وحده. فكما يعيش الشهيق من الزفير، يعيش الخير من الشرِّ أيضًا، والسلام من الحرب، والصحة من المرض. مع ذلك لا يمكن الحيلولة بين البشر وبين رغبتهم في امتلاك قطب واحد دائمًا ومحاربة الآخر. بيد أن من يحارب أحد أقطاب هذا العالم، يحارب الكلَّ – إذ إن أيَّ جزء يحتوي الكلَّ (الكل في الواحد والواحد في الكل). بهذا المعنى قال يسوع: "كلما صنعتم ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار فبي قد صنعتموه."

إن الفكرة بحدِّ ذاتها بسيطة نظريًّا، ولكنها تصطدم بمقاومة عنيفة ومتأصِّلة في الإنسان، لأن وضعها موضع التطبيق يجعل الطريق شاقًّا. عندما تكون الغاية هي الوحدة، التي تضمُّ الأضداد في حالة من عدم التمايز، عندئذٍ ليس بإمكان الإنسان قطعًا أن يغدو سليمًا أو كاملاً، مادام لم يزل يستبعد شيئًا ما من وعيه أو يحدُّ نفسه بشيء ما. كلُّ عبارة مثل: "هذا ما لا أفعله أبدًا!" هي الطريقة الأكيدة للحيلولة دون الكمال والاستنارة. لا يوجد في هذا العالم شيء غير مشروع؛ ولكن ثمة الكثير مما لم يتمكَّن الإنسان الفرد بعد من رؤية مشروعيَّته. إن كلَّ جهود الإنسان لا تخدم في الواقع سوى غرض واحد: تعلُّم رؤية العلاقات والترابطات بشكل أفضل – وهذا ما ندعوه بازدياد الوعي –، ولكن ليس تغيير الأشياء. لا يوجد شيء للتغيير والإصلاح، ما عدا طريقة الرؤية الخاصة.

منذ زمن طويل والإنسان غارق في وهم أنه بنشاطه وعمله يغيِّر العالم ويشكِّله ويصلحه. وهذا الاعتقاد عبارة عن خداع بصري، ويقوم على إسقاط التغيُّر الذاتي. إذا قرأ الإنسان الكتاب نفسه، على سبيل المثال، عدة مرات بفواصل زمنية متباعدة، فسوف يفهم محتواه كلَّ مرة بشكل جديد – بما يتناسب مع مستوى تطوُّره الحالي. ولو لم يكن المرء في هذه الحالة على يقين تام من عدم تغيُّر الكتاب، لأمكنه بسهولة الاعتقاد بتطوُّر محتوى الكتاب. وبالتوهُّم ذاته، يستعمل المرء مفهوم "التطوُّر". يعتقد المرء أن التطوُّر ينشأ عن المجريات والتدخُّلات، ولا يرى أن التطور مجرد تكرار لنموذج قائم. فالتطور لا يخلق شيئًا جديدًا، بل الذي يحصل هو وعي ما هو كائن دائمًا بالتدريج. وقراءة كتاب ما هي مثالٌ جيد على هذا أيضًا: فمضمون الكتاب وأحداثه موجودان بصورة متزامنة، ولكن لا يمكن للقارئ إدماجهما في وعيه، عن طريق القراءة، إلا بصورة متعاقبة، الواحد تلو الآخر. تسمح قراءة الكتاب للمضمون أن يتولَّد في القارئ تدريجيًّا، على الرغم من أن هذا المضمون قد يكون موجودًا، ككتاب، منذ مئات السنين. لا ينشأ مضمون الكتاب عن طريق القراءة، إنما يقوم المرء بدمج نموذج قائم تدريجيًّا وعلى نحو متعلق بالزمن.

ليس العالم هو الذي يتغيَّر، بل الإنسان يعيد إنجاز طبقات وأوجُه العالم المختلفة في ذاته، الواحد تلو الآخر. إن الحكمة والكمال والوعي تعني: القدرة على التعرُّف إلى كلِّ ما هو كائن والنظر إليه في صحته واتِّزانه. إن القدرة على التعرُّف إلى النظام تعني بالنسبة للناظر: الأمور على ما يرام. وينشأ وهم التغيير عن القطبية التي تفكِّك التزامن إلى تعاقب، الـ"سواء/أم" إلى "إما/أو". وهكذا تدعو الفلسفات الشرقية عالم القطبية "وهمًا" أو "مايا" (خداعًا)، وأول ما تطلبه من الإنسان الساعي إلى المعرفة والتحرُّر هو كشف القناع عن عالم الأشكال هذا بوصفه وهمًا، كي يدرك أنه غير موجود في الواقع. بيد أن الخطوات التي تقود إلى هذه المعرفة ("اليقظة") لا بدَّ من القيام بها في هذا العالم القطبي. إذا منعت القطبيةُ الوحدةَ في تزامنها، فإنها تُستعاد مباشرةً عن طريق الزمن، وذلك بأن يتوازن كلُّ قطب عن طريق قطبه المضاد الذي يليه. ونسمِّي هذا القانون مبدأ الإكمال أو الإتمام. فكما أن الزفير يستتبع الشهيق بالقوة، والنوم يحلُّ محلَّ اليقظة، والعكس بالعكس، فإن كلَّ تحقيق لأحد القطبين يرغم القطب المضاد على التمظهر. يتكفَّل قانون الإكمال بالحفاظ على توازن الأقطاب، بمعزل عما يفعله الإنسان أو لا يفعله. ويتكفَّل قانون الإكمال بإضافة التغيُّرات كافة إلى الثبات وعدم التغيُّر. نحن نعتقد اعتقادًا مطلقًا أن الكثير من الأمور تتغيَّر بمرور الزمن، ويحول هذا الاعتقاد دون رؤية أن الزمن لا ينتج سوى تكرارات للنموذج ذاته. صحيح أن الأشكال تتبدَّل مع الزمن، ولكن المضمون يبقى هو ذاته.

عندما يتعلَّم المرء الكفَّ عن صرف النظر عن الأشكال المتبدِّلة، باستطاعته انتزاع الزمن، سواء من المسار التاريخي أم من السيرة الشخصية، وسوف يرى أن سائر الأحداث المتباعدة زمنيًّا تتخثَّر إلى نموذج واحد. فالزمن يحوِّل ما هو كائن إلى مجريات وأحداث – وإذا استبعدنا الزمن ثانيةً، تجلَّى من جديد الجوهر الذي وقف وراء الأشكال وتكثَّف فيها. (في هذه العلاقة، التي ليس من اليسير فهمها، يكمن مرتكز المعالجة بالتقمُّص.)

من الهام، بالنسبة إلى تأملاتنا وأفكارنا اللاحقة، استيعابُ ترابط القطبين وعائدية أحدهما إلى الآخر وإدراك استحالة الاحتفاظ بأحدهما والقضاء على الآخر. غير أن معظم نشاطات البشر ترمي إلى هذه الاستحالة: فالمرء يريد التمتُّع بالصحة ومحاربة المرض، يريد صوْن السلام، وبالتالي، استئصال شأفة الحرب، يريد الحياة، وبالمقابل، قهر الموت. ويبقى من المؤثِّر كيف أن بضعة آلاف من السنين من الجهود الفاشلة قلَّما جعلت الإنسان يشكِّك في تصوَّره. عندما نحاول تغذية أحد القطبين على نحو متعصِّب وأحادي الجانب، ينمو القطب المضاد بالنسبة نفسها أيضًا على نحو غير مرئي. ويُعَدُّ الطبُّ بالتحديد مثالاً جيِّدًا على ذلك: مع حشْد الجهود المتزايدة في سبيل الصحة، يتزايد المرض بالقدْر نفسه.

إذا أردنا مقاربة هذه المشكلة برؤية جديدة، من الضروري أن نتعلَّم أن نرى قطبيًّا. يجب أن نتعلَّم رؤية القطب المضاد دائمًا في الوقت نفسه. يجب أن تتذبذب نظرتنا الداخلية، كي نتمكَّن من الخروج من التحيُّزات، وصولاً إلى البصيرة. وعلى الرغم من أن اللغة لا تيسِّر التعبير عن مجال الرؤية القطبي المتذبذب هذا، إلا أننا نجد في أدب الحكمة منذ القدم نصوصًا صاغت هذه الحتميات الأساسية في صورة لغوية صالحة. وما من أحد يتفوَّق على لاو تْسه في إيجازه ودقته، وهو الذي نَظَمَ في القصيدة الثانية من تاو تُهْ كينغ ما يلي:

من يقل: جميل

يخلق في الوقت نفسه: قبيح.

من يقل: صالح

يخلق في الوقت نفسه: طالح.

الوجود يشترط: عدم الوجود،

المعقَّد يشترط: البسيط،

المرتفع يشترط: المنخفض،

المدوِّي يشترط: الخافت،

المشروط يشترط: المطلَق،

الآن يشترط: فيما مضى.

كذلك اليقظ:

يؤثِّر دون أن يعمل،

يقول دون أن يتكلَّم.

إنه يحمل في طيَّاته الأشياء كلَّها

عازمًا على الوحدة.

إنه يُنتِج، ولكنه لا يمتلك شيئًا،

يكمِّل الحياة، ولا يدَّعي النجاح.

ولأنه لا يدَّعي،

لا يُمنى بخسارة أبدًا.

*** *** ***

ترجمة: د. الياس حاجوج


[1] أحد الأناجيل "المنحولة" التي لا تعترف بها الكنيسة. (المترجم)

[2] تورفالد دتلفزن، القدر بوصفه فرصة، بترجمة د. الياس حاجوج، منشورات وزارة الثقافة في ج ع س، 2002.

[3] إين سوف: تعني بالعبرية اللامتناهي، اللانهاية، اللانهائي. (م)

[4] نيتي–نيتي: عبارة سنسكريتية يستعملها أتباع مذهب الفيدنتا اللامثنوية لنفي أيِّ تصور عقلي عن المطلق، فيقولون إنه "لا هذا ولا ذاك". (المحرِّر)

[5] Stimme تعني "صوت" و stumm تعني "أخرس" أو "أبكم". (م)

[6] بينما تعني كلمة bös "سيئ" أو "خبيث" أو "شرير". (م)

[7] Buße تعني "توبة" أو "كفارة" و büßen تعني "كفَّر". (م)

[8] للاستزادة في موضوع نصفي الكرة المخية وتَبِعات لاتناظرهما في مختلف مجالات الحياة انظر كتاب اللاتناظر الوظيفي عند الإنسان، تأليف: ن. ن. براغينا وت. أ. دوبروخوتوفا، بترجمة د. الياس حاجوج، منشورات وزارة الثقافة في ج ع س، 1997.

[9] أحد أتباع فلسفة اليوغا وممارسي رياضاتها. (م)

[10] أحد أتباع القبالة، وهي فلسفة دينية عند أحبار اليهود وبعض نصارى العصر الوسيط، مبنيَّة على تفسير الكتاب المقدَّس تفسيرًا صوفيًّا أساسه العلاقة بين الحرف والعدد. (م)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود