الغنوصية في الإسلام

ورثها متصوِّفون وحاربَها فقهٌ متشدِّد

 

وضاح يوسف الحلو

 

في الفترة السابقة على ظهور الإسلام ظهرت الغنوصية أو "المعرفية" [من gnōsis اليونانية التي تعني "المعرفة" (المحرِّر)] لتخوض مجابهة حادة مع كنيسة الانتشار المسيحي، إلى حدِّ أن جماعة غنوصية اضطرت، في القرن الرابع الميلادي، إلى إخفاء مدوَّناتها في مأمن من غارات المطارِدين الأرثوذكس – حصل ذلك على النيل. أما على الجهة الأخرى من الفرات فإن الأمور جرت على العكس من ذلك بسبب انتفاء وجود يد الكنيسة الإمبراطورية البيزنطية. في وضع كهذا استطاعت الفرق الغنوصية ذات الأصل المسيحي، في ظل كنيسة نسطورية معتبَرة هرطوقية، أن تفرض نفسها. لذا علينا ألا نعجب من احتكاك الفتح الإسلامي بالغنوصية في بلاد ما بين النهرين ومن خروجه على تعاليمها. وهذه المفاهيم يناقشها كتاب الغنوصية في الإسلام لهاينس هالم.*

 

لم تأمل الغنوصية في بلاد ما بين النهرين خيرًا من الإسلام الذي شكَّل النقيض لها من خلال عقيدته التوحيدية. لذلك سقطت العقيدة المعرفية (الغنوصية) أمام الاضطهادات الإسلامية؛ إذ أُبيدَت المانوية ودُحِرَتْ إلى خلف الحدود، فاضطرت إلى اللجوء إلى أواسط آسيا. ولم يبدأ اضطهاد غنوصيي بلاد ما بين النهرين بعد الفتح العربي مباشرة؛ إذ لم تكن اضطهادات الخلفاء الأمويين (حتى سنة 750 ميلادية) منظمة؛ وكان هؤلاء الخلفاء يطاردون دعاة الرسالة العباسية إلى الزنادقة المسلمين ذوي التعاليم القائلة بالغنوصية. وبلغت موجة الاضطهادات ذروتها بين العامين 780 و786، أي في عهد المنصور بن المهدي. وكبَّدتْ عملياتُ الإعدام والهجرةُ والدعوةُ إلى الإسلام، بين القرنين الثامن والعاشر للميلاد، الزنادقة والمانويين الغنوصيين خسائر فادحة، فأدَّتْ في النهاية إلى زوالهم. وحدها فرقة واحدة من الفرق الغنوصية هي الطائفة "المندائية" استطاعت أن تستمر في الوجود (جنوب العراق) إلى يومنا هذا.

حاولت الغنوصية ارتداء الثوب الإسلامي عبر تأويل خلاصة الوحي القرآني الحقيقي وتفسيره تفسيرا غنوصيًّا؛ لكن الإسلام الرسمي رفض تلك المحاولة الاختراقية. وتمكَّنت الغنوصية في الفترة المتقدمة من العصور القديمة من النفاذ إلى التراث الديني الوثني والإسلامي واليهودي والفارسي، مُحدِثَةً فيها تبدلات عميقة. وما كانت الرسالة الإسلامية لِتَسْلَمَ من مثل هذه المحاولات؛ إذ لم تكن لدى الإسلام الحديث النشأة نظرية فقهية كاملة خاصة به. فقط في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، بدأ الإسلام الغنوصي ينتشر في العراق، لكنه اعتُبِرَ إسلامًا غريبًا، وخاصة من جانب الفقه المتشدِّد، كالشيعة الإمامية التي وَسَمَتْ تعاليم الغنوصيين في صفوفها بـ"الغلو" وصنَّفتهم كزنادقة.

استخدم مصطلحَ "الغنوصية" باحثون في الدراسات الإسلامية منذ مطلع القرن العشرين – وإن ساد هذا المصطلحَ الإبهامُ وعدمُ الوضوح. وأدَّى اكتشاف نصِّ أمُّ الكتاب الفارسي في بدايات القرن العشرين إلى اكتساب مصطلح الغنوص الإسلامي بُعدًا جديدًا. هذا الكتاب ("أمُّ الكتاب") اكتشفه باحثون وموظفون روس، وعلَّق على حواشيه المؤرخ فلاديمير إيفانوف (1932) تحت عنوان "ملاحظات على أمُّ الكتاب لإسماعيلية وسط آسيا". وكان لويس ماسينيون أول من شرح متون هذا الكتاب على نحو واضح وصحيح (1934 ثم 1937)، تحت عنوان "أصول الغنوصية في الإسلام ومعانيها". تلك التفسيرات افتتحت البحث العلمي حول الغنوص الإسلامي، وتناسخ الأرواح، وعودة الناجين إلى الكواكب، وظهور عداوة المرأة، وأناس منتظمين يستدعون للنجاة بعد هبوط يحتجز الأرواح، أي ملائكة هابطين في أجساد فانية.

فضلاً عن ذلك، أبرز ماسينيون دور الملل والنحل، مثل "المغيرة"، "أبو الخطاب"، "الفرقة المخمَّسة"، "تعاليم النصيرية أو العلويين" و"دور الإسماعيليين". ورأى ماسينيون أن أعلام التصوف الإسلامي، كالحلاج مثلاً، هم ورثة هذا التراث الغنوصي، مع تأثر بالمانوية. ففي محاضرة لهنري كوربان تحت عنوان "من غنوصية العصور القديمة إلى غنوصية الإسماعيلية" (1956)، يظهر الغنوص الإسلامي في أشد تجلِّياته المتنوعة كشكل خاص محليٍّ لـ"ديانة عالمية" ذات تأثيرات غنوصية إلى يومنا هذا. وإذ يفشل هنري كوربان في شرح فرضيته، يقتصر البحث على رصد بعض المركِّبات الظواهرية مثل "التألُّه اللاأدري"، "جسد الصانع أو الخالق"، "الفيضية"، "آدم التشبيهي السماوي"، "عمود النور" و"جسم الحكمة". كما يرى هنري كوربان أن الغنوص الإسلامي القديم استمر في التصوف؛ ويتجلَّى السهروردي المقتول وابن عربي كوارثين مباشرين له.

ثمة تقليدان إسلاميان لفرقتين تتمحور تعاليمهما حول أسطورة غنوصية، هما:

1.    التقليد المتكوِّن منذ مطلع القرن الثامن الميلادي لشيعة العراق المتطرفين أو الغلاة الذين ورثهم العلويون الحاليون في سوريا.

2.    فرقة القرامطة أو الإسماعيلية، الذين ظهرت دعوتُهم في منتصف القرن التاسع في العراق، لينتشروا سريعًا في العالم الإسلامي. وعن الإسماعيلية انشق الدروز مع بداية القرن الحادي عشر.

الغنوص الإسلامي ظاهرة عراقية شيعية. لذا يرى بعضهم أن الخليفة الرابع، علي بن أبي طالب، أصبح موضع نظر الغنوصيين الإسلاميين ومناط أملهم. كان علي بن أبي طالب الخليفة الوحيد الذي أقام في الكوفة قبل الثورة العباسية، حيث استقر هناك بعد استشهاده رمزًا شعبيًّا. عهد ذاك كانت الكوفة بؤرة الإمبراطورية العربية؛ وأمست ذكرى الخليفة العراقي نقطة تَبَلْوُر كلِّ المعارضات السياسية والدينية المناهضة للأسرة الأموية الحاكمة. وزعم بعض السبأية (نسبة إلى عبد الله بن سبأ) أن عليًّا في السحاب وأن الرعد صوته والبرق سوطه؛ ومن سمع من هؤلاء صوت الرعد قال: "عليك السلام يا أمير المؤمنين!"

ثم يمرُّ المؤلِّف على الكيسانية وعلى الزنادقة حول الإمام محمد الباقر، ومجددًا حول رؤيا جابر في أمُّ الكتاب، وحول الروايات الخيالية التي تتناوله. وفي أيِّ حال، يُسمَّى هذا الكتاب "أمُّ الكتاب" لكونه نبع الكتب كلِّها، ولأنه يحتوي على كلِّ العلم الموجود في العالم؛ كما يسمى "الظهورات السبعة"، إذ يحتوي على وصف الأدوار الجسمانية والروحانية السبعة، بما في ذلك الغنوصية. ورؤيا جابر في "أمُّ الكتاب" أسطورة غنوصية في زيٍّ شيعي. ومعظم جزئيات تعاليم الفرق الكوفية ومصطلحاتها موجودة في هذا الكتاب الذي يحمل اسم "أمُّ الكتاب".

كتاب الغنوصية في الإسلام لهاينس هالم بحث جادٌّ في تيارات دينية، بعضها واقعي، وبعضها موسوم بالخيال الديني. ومما يزيد في صعوبة تلقِّيها واستيعابها الأسلوب الذي اتَّبعه المترجم، وهو معقد على أيِّ حال.

*** *** ***

عن النهار


* صدر عن منشورات دار الجمل، بترجمة رائد الباش، ألمانيا، 2003.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود