|
أي حوار لأية
حضارات؟
العالم
الإسلامي وأزمة الحضارة في ظلِّ العولمة
سمير
التقي
(1) من الدارج، في هذه الأيام، الكلام على
الحضارات – صراعًا أو حوارًا. ولا شكَّ أن هذا
الموضوع يحتمل الكثير من الالتباس والخلل.
فأية حضارات هي المقصودة؟ هل المقصود أن
تتحاور الحضارة الغربية، بكلِّ طاقاتها
الاقتحامية وطغيانها الراهن، مع الحضارات
الشرقية (من عربية وإسلامية أو بوذية)، بكلِّ
جبروتها وهيمنتها المندثرة وبكلِّ ما
مثَّلتْ له من قيم ومن إنجازات الماضي؟ ثم ما
المقصود بالحوار؟ هل المقصود حوار بين بعض
الرموز الدينية الممثِّلة للأديان السائدة
في العالم؟ فمما لا شكَّ فيه أن نوعًا من
الحوار قد بدأ منذ زمن بعيد بين بعض رموز
الإسلام والمسيحية واليهودية الحاخامية. أم
أن المقصود حوار سياسي بين زعامات سياسية
تمثِّل، بشكل أو بآخر، رموز المصالح
المتناقضة لبلدان مختلفة؟ فيكون جوهر
الحوار، إذن، حوارًا سياسيًّا لا أكثر – في
حين أن المطلوب حوارٌ ثقافي يتحقق في تفاعل
كريم وحيٍّ ومنفتح بين مختلف المرجعيات
الثقافية في الشرق والغرب (إذ لا يصح أن يقال:
حوار بين الكنيسة الكاثوليكية أو
البروتستانتية وبين الإسلام). فهل المقصود
حوار بين الغرب، ثقافةً وحضارةً وسياسةً
وجيوشًا وإعلامًا، وبين المؤسسة الدينية
الإسلامية؟ وهل مثل هذا الحوار ممكن أصلاً؟
إن هذا الطرح الغربي ينمُّ عن حالة من انفصام
الشخصية، حيث يتصادم نمطان من المعرفة
ينتميان إلى نمطين من العيش. فلنحاول
تفكيك هذه الأسئلة والسعي للإجابة عليها. على
الرغم من كلِّ ما سبق أقول إن التحدي كبير وإن
لابدَّ من حوار ثقافي عالِم بين ثقافتي الشرق
والغرب. لكن الطامة الكبرى تكمن في أن هذا
الحوار الحيوي لا يمكن أن يتم على أساس القول
الاستشراقي بأن العقل للغرب والروح للشرق،
بما يكرِّس نمطًا من تقسيم عالمي للثروة
والحضارة. على الرغم من كلِّ ما سبق لابدَّ من
القول إن تحدي الحوار أضحى يحمل الجميع على
مواجهته، وأضحت القوة التي تواجهنا قوة جامحة
تقتحم كلَّ جوانب الحياة وتدعونا إلى خوض
الحوار. فثمة توازن مختل لابدَّ لنا من أن
نجتازه ونحاول مقاربته مقاربة عقلانية. وعلى
الرغم من ذلك نستطيع التأكيد أن النهضات
الحضارية السابقة تحققت عبر عملية حوار
وتلاقح عميق مع الحضارات الأخرى. وكان يتم
تجاوز المأزق الحضاري بفضل تلاقح وصراع قوى
متجانسة تنتمي إلى منطق تجمعه، من حيث
الجوهر، قواسم مشتركة واحدة، ليصبح الحوار
أداة انبعاث وتوليد للنهضات الناجحة داخل
الحضارات نفسها. كانت
تلك نتيجة تلاقح الحضارات اليونانية مع
الحضارة العربية الإسلامية من خلال أعمال
الترجمة في فجر الإسلام، والنهضة
الشارلمانية في القرن التاسع في الغرب،
والهندوسية في القرن التاسع في الهند (شنكرا)؛
وكذا، أيضًا، كان أثر ترجمة الأعمال الفلسفية
العربية إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر،
والترجمات التيبتية والصينية للبوذية. كلُّ
هذه الأشكال من الحوار، والنهضات التي تمخضت
عنه، تمَّت داخل المنطق الحضاري ذاته. فإذا
كان فكر ابن سينا وابن الرشد قد تحدى الغربيين
فإنه قدَّم منطقًا أدى إلى تطور عظيم في الفكر
الأوربي لعصر الأنوار. لكن
المطروح الآن يحتوي على خلل جوهري. إنه تحدٍّ
غير نِدِّيٍّ على الإطلاق! فالحوار بين
الحضارة الغربية غير ممكن مع الأديان كافة.
فبعد أن كان الفكر اللاهوتي البشري هو مركز
مفهوم علاقة الإنسان بالكون حققت الحضارة
الغربية انقلابًا في علاقة الإنسان
بالطبيعة، لأول مرة في التاريخ، رأسًا على
عقب. فعصر العلم والتكنولوجيا قلب العلاقة
تمامًا بين الإنسان والمعرفة، وبين الإنسان
والعقل، وبين الإنسان والكون – وبشكل جوهري.
الحضارة الغربية حققت إنجازات عظيمة على طريق
تحرير الإنسان وإطلاق طاقاته الإبداعية. وهي
تنطلق من اعتبارها المعرفة طاقة (بيكون)، ومن
أن الإنسان سيِّد العالم المنتفع به (ديكارت).
وهكذا اختُزِلَتْ الفلسفة إلى علوم السلوك
الإنساني (الأنثروبولوجيا)، وحلَّ الفكر
العلمي الحديث، المتحدِّر من علوم الطبيعة،
محلَّ الأشكال التأملية من المعرفة التي
تأسَّس عليها الفكر الديني – هذه الأشكال
المعرفية التي تأسَّست عليها قيمٌ مشتركة
سمحت في الماضي بحوار بين الأديان والحضارات.
أما الآن فلقد اختل التوازن اختلالاً كاملاً
وأمسى التراث الحضاري لحضارات الشرق يواجه
اختراقًا وغزوًا واستثمارًا وعدوانًا لم
يتمكن، إلى الآن، من أن يجابهها إلا بموقف
دفاعي قوامه القصور والشلل. التحدي
الذي تجابهه الآن الحضارات النقلية الكثيفة
التليدة، مثل الثقافة الإسلامية (في صيغتيها
السنية والشيعية) أو الحضارة الهندوسية أو
البوذية، هو تحدٍّ وجودي. فإما أن تقرر هذه
الثقافات الاندماج في صلب الحضارة الراهنة
وأن تستخرج قيمها الإنسانية لتجعل منها
إضافات حضارية معاصرة تغني بها فكر هذا العصر
وقيمه؛ وإما أن تُختزَل إلى حدود الفولكلور
على يد حضارة عالمية غازية شاملة. فالمنهج
الذي ولَّده هذا التحدي الجديد لا يمت بصلة
إلى المنهج الذي أزيح، بل هو مناقض له، لأنه
مناقض للمعرفة التأملية، ومناقض للاحترام
الديني للطبيعة، ومناقض لذلك الجهد العظيم
الذي بذله الإنسان للخلاص من غربته بالتأمل
والعرفان. حتى ليبدو أن الحقيقة الوحيدة
لعالم العولمة وللنظام العالمي الجديد تتمثل
في قوى الإنسان التكنولوجي. إلا أنه
سيكون من السذاجة والفقر الأخلاقي والمعنوي
القول إن الفكر الغربي ليس إلا فكرًا
تكنولوجيًّا واقتصاديًّا. فالحضارة الغربية
الراهنة، على يبدو، هي الحضارة الوحيدة التي
لا تكف عن التجدد والتي يشكل قانون التبدل
والحركة علامتها الفارقة. حتى العقل لم يعد
انعكاسًا للعقل الأسمى، بل ظاهرة عارضة هي
استطالة من ظواهر الطبيعة، حيث يُختزَل
التاريخ إلى فيض من الغرائز أو ميل للثورة أو
غريزة البناء والإنتاج. وهكذا ينزاح مركز
العالم، في ظلِّ النظام العالمي الجديد، من
الأعلى إلى الأسفل، من العقل إلى الغريزة،
ومن التأمل إلى الذات الإنسانية العاقلة. ولكن هل
يعني ذلك أننا لا يمكن أن نتحاور أبدًا؟
بالطبع لا! فحين رفض ماركس، بكلامه التعبوي
المؤثر، استلاب الإنسان وغربته، وحين تكلم
ماركوزي عن وحشية الإنسان في المجتمعات
الرأسمالية الصناعية، وحين تحدث أدورنو عن
تقهقر الإنسان أمام الطبيعة وانكفائه في حالة
من الخوف والدفاع المستميت، فإن ثلاثتهم
كانوا يتكلمون على القيم والغربة عينهما
اللتين تكلم عليهما السهروردي في رؤاه في منفى
المقاصد الغربية والمباحث عن شرق الأنوار
وابن عربي في الفتوحات المكية. لقد حدَّد
هؤلاء جميعًا غربة الإنسان نقطةَ تقاطع عظمى
للمعاناة البشرية بين المبادئ والأديان
البشرية كافة، فحددوا بذلك عظمة هذا الإنسان
وبؤسه في آن معا! عند هذا الخط ينشأ الحوار
الأبدي بين الإنسان والكون؛ وهنا بالذات يمكن
للحضارة العربية الإسلامية، كحضارة وتراث
وفكر إبداعي لعدد من المبدعين الذين
أنتجتْهم، أن تنطلق في حوار متكافئ مع الغرب. فهل
تعترف الحضارة الغربية بقصوراتها؟ من هذه
المساحة بالذات ينبثق كلُّ الإبداع والفن
والحلم الإنساني المعاصر، عاكسًا أزمة وجود
رئيسية تطرح إشكالية كبرى على الحضارة
الغربية. وهذا الحيز بالذات هو الساحة
الأساسية للإبداع والفن المعاصرين في
الحضارة الغربية. إنه الخط الفاصل بين وحشية
الابتذال المادي وعظمة العقل البشري العلمي
والإنساني المبدع. وهكذا يجتمع، في معارضة
العولمة، الثوريون السياسيون والصوفيون
المتديِّنون المتنوِّرون والبيئيون
والمسيحيون والبوذيون معًا أمام ذلك
الاغتراب المتزايد. وأمام تراجع مجمل القيم
التي أفرزتْها الحضارة الإنسانية تستطيع
حضارتُنا أن تضيف الكثير إلى حضارة الغرب،
حيث يُستبدَل بالإنسان الكائن الإنسانُ
الأداة، قيمًا ومفاهيم وأصالة حقيقية. وفي حين
أن الإنسان المعاصر يستبق العالم، ويحسبه،
ويحاول إعادة صياغته على هواه، لتصير المعرفة
سيطرة كاملة على النشاط البشري، حيث يتحدد
العالم بالعلاقات الرياضية، ويصير العقل
الإنساني مادة أولية للإنتاج والاستهلاك في
عصر المعلومات، تتعمق غربة الإنسان: يُختزَل
العالم إلى الرياضيات عبر تزمين الكون وعلمنة
الإنسان ومَكْنَنَة المجتمع. ولكن،
بالمقابل، فإن هذه الميول الاستهلاكية، وهذا
التشييء للعالم، وتحوُّل الإنسان إلى مجرد
مادة للعملية الإنتاجية ومستهلك لها، تحوِّل
الإنسان إلى إنسان لا خير فيه ولا شر، ولا
فضيلة ولا رذيلة: إنه ليس أخلاقيًّا ولا غير
أخلاقي، ليس متشائمًا ولا متفائلاً، يقبل
كلَّ شيء في إطار مفهوم الربح والإنتاجية،
ويعيش عبثًا في ذاته وعبثًا في علاقته مع
العالم. وكلُّ
أشكال الرفض التي تظهر في عالم النظام
العالمي الجديد، من حركات القصائد المضادة
والرواية المضادة والاتجاهات الإنسانية
المضادة والفن المضاد والطب الموازي (= البديل)
وعلم نفس الأعماق، تزدهر جميعًا كنمط من
الاحتجاج. لذلك فليس مآل قيم الحضارات
النقلية – وقيم الحضارة العربية الإسلامية
بصفة خاصة – هو الانهزام. لكن ما مآله
الانهزام أصلاً هو ذلك المفهوم للحضارة
العربية الإسلامية ذو الطابع الماضوي
الأسطوري الرغائبي الوجداني؛ ما مآله
الانهزام هو هاجس الاستعلاء المفرط والصدارة
والخوف من الذوبان؛ ما مآله الهزيمة هو وهم
تراث يقوم على الفرادة، على التفرد والغائية،
على التفوق – بحيث تنحصر مهمة العقل في
التفسير وخلق مفاهيم مزيفة تشل القدرة على
فهم الواقع، سواء ارتدى ذلك لبوسًا سلفيًّا
أو نهضويًّا، ليبراليًّا أو ماركسيًّا. عندنا لم تحصل ثورات لإصلاح
المؤسَّسة اللاهوتية (نظيرة "احتجاج"
مارتن لوثر)؛ ولم تحصل ثورات تجدد مؤسَّسة
الدولة (نظيرة الثورة الفرنسية)؛ ولم نُدخِل
بعدُ إلى مفاهيمنا نتائج الثورات المعرفية
الكبرى في الغرب: الثورة في مجال مفهومنا عن
العالم (من كوبرنيكوس إلى داروِن وأينشتاين)،
والفلسفة (هيغل، ماركس، برودون، سارتر، كولن
ويلسون)؛ الثورة في مجال علم النفس الفردي
والاجتماعي (من فرويد إلى يونغ إلخ). وبالمقابل، فمن المؤكد أن
الثقافة التي خلَّفتْها حضارتُنا التليدة لا
تزال تحمل في ثناياها قيمًا كبرى. والمشكلة
أساسًا تكمن في موقفنا الفصامي من الحضارة.
فماذا يجب علينا عمله كي نكون أندادًا
حقيقيين في هذا الحوار؟ وهل سنحاور الحضارة
الغربية من خارجها أم من الداخل؟ وهل يمكن أن
نتفاعل مع حضارة ما في هذا العصر وأن نبقى
خارجها؟ فثمة قصورات جوهرية لن نستطيع،
بوجودها، خوض الحوار بنجاح. ذلك أن كلَّ
النهضات السابقة لعصرنا، من نهضة فجر الإسلام
إلى النهضة الأوربية، قامت على أساس انتصار
استراتيجي على الآخر. أما في حالتنا الراهنة
فلقد تمت النهضة كتحدٍّ وجودي أمام غزو ظافر،
فأمسى التراث – أي الماضي – هو هويتنا؛ ولم
يعد الماضي مجرد منظومة قيم نتعرض لها بالنقد
والتقييم وإعادة النظر وندرك، بالتالي،
قصوراتها وعيوبها، بل أمسى التراث آلية
للدفاع الذاتي ولمقاومة الانصهار والتقوقع –
بل لقد أصبح الماضي هو الهوية! وبذلك لم يعد
الضعف والانكسار يُعزى عندنا إلى تخلف البنية
العقلية، ولم يعد التردِّي الثقافي والعلمي
يُعزى إلا للصدفة و/أو "المؤامرة الغربية".
أما رؤية الثقافة الدارجة لحركة التاريخ فهي
لا تزال أسطورية. فالثقافة الدارجة، التي
تعيش تحت هاجس النرجسية المفرطة والخوف من
الذوبان، باتت هي دورنا التاريخي المفترض في
إعادة صياغة الحضارة العالمية المعاصرة. موقف
فصامي من الثقافات الأخرى الأقوى: وهم إمكان
التلامس معها دون التلوث بها! لذلك قام موقفنا
على منطق لاهوتي حتمي، قوامه منظومة مفاهيمية
متكاملة تبدأ بالصبر، مرورًا بالإيمان
بالزمن الموعود والمستبدِّ العادل، إلى
حتمية الانتصار التاريخي! ولعله منطق يوحِّد الأصوليات
كافة، ولا يقتصر على الشكل الرائج للسلفية
الدينية، بل يمتد إلى السلفية والليبرالية
والماركسية. ذلك أنه لم تحصل لدينا بعدُ ثورةٌ
لإصلاح الدولة، ولا ثورة في العقل الديني،
ولا ثورة علمية، ولا ثورة معرفية في مفهومنا
عن العالم، ولا ثورة في الفلسفة ولا في علم
النفس؛ بل يجري الترويج لقيم ومفاهيم جوهرها
أن النصر لا شكَّ معقود لنا، وما علينا إلا أن
نتمسك بالصبر ونتقوقع في انتظار الزمن
الموعود والمستبدِّ العادل وحتمية الانتصار،
في حين يسود جهل مطبق بتاريخ الثقافات الأخرى
ونظرة جامدة لعلاقة الإنسان بالآخر ولعلاقة
الإنسان بالطبيعة. كلُّ ما سبق يعود إلى موقف
فصامي منذ البداية: عندما قام محمد علي بشطر
المجتمع إلى مجتمع مدني، قوامه ثقافة
المدرسة، ومجتمع ديني، محوره ثقافة الأزهر،
فانشق المجتمع إلى شقين، ثقافتين، عالمين،
يتصارعان على الزمان ويشتركان في المكان –
الأمر الذي ولَّد موقفًا فصاميًّا،
تلفيقيًّا، توفيقيًّا، يقبل باستهلاك
الحضارة دون الانخراط في صنعها. إذًا كيف سيجري حوار الحضارات؟
هل من خلال هذا الموقف الفصامي؟ – ولاية عقول
نَكِلُ إليها أمرنا ومصير قيمنا. إن حوار
الحضارات لا يعفينا من ضرورة الرؤية النقدية
لواقعنا؛ بل لابدَّ من القيام بشكل حثيث بنقد
مجتمعاتنا والعمل على الخروج من الحالة
الفصامية العميقة التي تمتد من الفرد إلى
المجتمع، ومن جيل الشيوخ إلى جيل الشباب؛
الخروج من نرجسية نظرتنا إلى التاريخ
والتراث؛ الخروج من وهم إمكان تمثل الحضارة
دون التلوث بها، فكرًا ونمطَ حياة؛ الخروج من
وهم أن التاريخ سيبقى في جيبنا وسيدور طويلاً
ليعود مطوَّبًا لنا! في
الحقيقة لا يمكن إنتاج واقع متقدم دون فكر
متقدم. وما لم ندرك الشرط التاريخي لتفوُّق
الغرب وحضارته، وما لم نمتلك أسس التقدم
الراهن الذي حققتْه حضارة الغرب العظيمة، فلن
نستطيع خوض الحوار الحضاري بالجدارة التي
تستحقها حضارة مثل حضارتنا. ولكن لابدَّ من
مطابقة الهدف للوسيلة؛ ولابدَّ من مطابقة
الأداة للحاجة والأهداف. فما الذي يمكن أن
تضيفه الحضارة العربية الإسلامية لقيم
الحضارة الراهنة؟ يتعرض
الإسلام، بما هو عقيدةٌ وإيمان بقدر ما هو
ثقافةٌ وتراثٌ وحياةٌ، لتحديات محدقة. ولا
أقصد بالإسلام هنا النصوص المقدسة، من قرآن
كريم وحديث شريف، ولا ما يحمله الإسلام من قيم
وتعاليم متسامية، بل أقصد الإسلام كما هو
رائج عمليًّا في المؤسَّسة السائدة. فالإسلام
يجابه أسئلة وجودية لم يعد من الممكن إدارة
الظهر لها: ما هو موقع الإسلام من عالم اليوم؟
ما هي مسؤولياته تجاه الحضارة المعاصرة؟ وكيف
له أن ينخرط فيها اندماجًا أو اختراقًا؟ لا
شكَّ أن الإجابات التي سيقدمها الإسلام،
بكلِّ ما قد تحويه من تباينات جوهرية مع
الماضي، وبكلِّ الاختلافات التي ستكتنفها،
ستكون موضع اهتمامٍ كبيرٍ لكلِّ من لا يزال
يراوده هاجس القيم والحياة الكريمة للإنسان.
والأحرى أن هذه الإجابات تهُمُّ، بشكل مباشر
وكبير، كلَّ من ينتمي للثقافة التي أنتجتها
الحضارة العربية الإسلامية. إن تلك
الحضارة وذلك الدور العظيم الذي لعبه الإسلام
لبضعة قرون يجب ألا يُغفِل عقلَنا عن إدراك أن
الإسلام يعاني من ضعف كبير في عالم اليوم. ولا
تنفع في ذلك الأحاديث عن دورةِ الحضارات
صعودًا وهبوطًا؛ ولا الحديث عن الافتراق
الكبير بين ما يحويه النص من حرية وعدالة وقيم
إنسانية وبين التجربة كما أفرزتْها مختلف
المجتمعات التي عاش الإسلام فيها. فالتحدي
شرسٌ وخطيرٌ وكبيرٌ بما لا يتيح تأجيل
الإجابة؛ والتجربة، بشكلها الملموس، هي التي
ستحكم على مصير الأفكار – مهما سَمَتْ. بل لعل
التجربة ذاتها لا تكون ذات أهمية إلا بقدر
أهمية مآلها وخاتمتها. إن
خطورة هذه الهجمات ناجمة أساسًا عن عدوانية
وشراسة الأدوات الفكرية والمادية التي
تمتلكها الحضارة الغربية والتي قدمت للبشرية
إنجازات عظمى، وابتلته أيضًا بمعضلات ومظالم
جمة – وهذا شأن كلِّ حضارة صاعدة. وإذ تبدو
تلك المعضلات التي تجابه نمو الحضارة الغربية
مجرد أزمات نموٍّ تولِّد تناقضات إيجابية،
تصعد معها وتعزز هويتها، فإنها، حين تقتحم
العالم غير الغربي، والعالم الإسلامي بشكل
خاص، تغدو أخطر وأعتى، فتهدد بدورة مدمرة من
التمزق والانكفاء التاريخي. فثقافة الماضي في
العالم الإسلامي لا تزال حية على الرغم من أن
قاعدتها الحضارية قد تداعت. ويجد العالم
الإسلامي نفسه أمام أزمات مضاعفة ناجمة، من
جهة، عن التنمية العاصفة، ومن جهة أخرى، عن أن
بعضًا من الجوانب السائدة في ثقافته الأصيلة
والكثيفة، التي ترسم شخصية وأفكار الفرد
والجماعة، تنتمي إلى حضارة أفل عصرها. وتلك
ليست مشكلة العالم الإسلامي وحده؛ لكنها، في
هذا العالم بالذات، تتخذ طابع الاستعصاء
والتناحر والأزمة. إن كلَّ رأى يقول بإمكان
تحقيق أيِّ تقدم حضاري، مع إدارة الظهر
للسيماء الثقافية الوطنية والقومية
والإسلامية في هذا الجزء من العالم، هو محض
هراء خاطئ عدمي ومستحيل. لكن
التجربة تُظهِر أيضًا أن المجتمع المتمدِّن
ينظر إلى علاقته بالحياة وبالدين بشكل
متحضِّر أكثر رقيًّا وإنسانية. فلا يمكن
مقارنة موقع الإسلام في المجتمع الأفغاني معه
في المجتمع الماليزي. إن لبَّ التحدي الدائم
الذي ينتصب أمام الإسلام كلِّه، فكرًا
وممارسةً، يكمن في التناقض بين الأساس المطلق
للحقائق والقيم المتسامية التي يؤمن بها، من
جهة، وبين كون المؤمنين، كبشر، موجودين في
الحياة العملية، حيث تصير كلُّ الأفكار
والحقائق والثقافات نسبية تمامًا وعرضة
للنمو والتناقض، بل وحتى عرضة للخطأ الفادح
أيضًا. وتحصل الكارثة حين يحاول المؤمن أن
يضفي قداسة الدين ومطلقيَّته على تصوراته هو
عن الدين! – مع أن هذه التصورات هي زمانية
ومكانية، محدودة ونسبية وقابلة للخطأ.
المصيبة أن يعتقد شخص أو مجموعة محدودة أن ما
توصلوا إليه إنما هو عين الدين؛ فيكون هذا
الاعتقاد أساسًا لحملات التكفير والصراع
والدمار، ويكون المصاب الأول فيها هو الإنسان
ذاته الذي تجري تلك الحملات باسم خلاصه.
وبالمقابل، لا يُعقَل أن يؤمن الإنسان بإله
قادر وحكيم، ثم يعتقد بأن هذا الزمان الذي
يعيشه ليس له، وما عليه إلا الانكفاء أمام
دورة التاريخ في انتظار دورة تاريخية مناسبة. ليس
للإنسان إلا العقل يستنبط منه حقائق كتاب
الوجود والطبيعة. وليس للمؤمن إلا العقل
أيضًا ليسبر به أغوار الوحي والدين. وتكمن
المشكلة في أن أغلب المؤسَّسات الدارجة،
بدلاً من أن تتخلَّى عن تصوراتها المحدودة عن
الحياة والحقيقة، وبدلاً من أن تعود إلى
مصادر القيم، فكرًا وإيمانًا، بعيون جديدة،
لإعادة قراءة النصوص وتحقيق قراءة وتصور
للدين جديدين أكثر تكاملاً وأشد فاعلية، تقوم
هذه المؤسَّسات بفرض تصورها الناقص للواقع
بأيِّ ثمن، الأمر الذي أفضى – ويفضي على
المدى القريب – إلى كوارث – ناهيك أنه لن
يصمد على المدى البعيد. (2) وصلت أزمة الحضارة إلى طريق مسدودة بسبب
سياسات العولمة الأمريكية. فبين ظلاميات
الماضي الدينية وخيارات المستقبل الأممية
يجابه العالم الراهن تحديات كبيرة. إذ إن أدهى
ما في الرعب الذي تحاول الولايات المتحدة
بثَّه في العالم أنه لا يُنتج توازنًا ضابطًا
لمرجعيَّاته. فالمرجعيات الجديدة تتجاوز
حدود الدول وتقتحم المجتمعات، عاملة على
تغييب المرجعيات الأخرى وإلغاء الضوابط
وإذلال الآخرين في الجانب الآخر، لتغدو
مساحاتٍ إنسانية مستباحةً ومذلولةً وأوضاعًا
متفجرة – مما يهدد بإخضاع الإنسانية ومصيرها
لاستبداديات إرهابية تحكم مسلك الدول
الأفراد – فتكون العولمة الجديدة قد نجحت
تمامًا في عولمة الرعب! العولمة،
في الواقع، عولمتان: عولمة كواقع حكمي،
وعولمة كمشروع محتمل. الأولى: ضغط الزمان
والمكان (الثورة العلمية التكنولوجية –
الموجة الثالثة). الثانية: النظام العالمي
الجديد. إنها العولمة الإمبريالية
النيوليبرالية التي تقودها القوة العظمى
الأمريكية–الإسرائيلية وقوة السلطات العظمى
المالية الجديدة من خلال الليبرالية الجديدة
التي تحاول فرض مفهومها للأمن والسوق، بما
يطلق يدها في العالم تدميرًا ونهبًا. النيوليبرالية تحاول فرض نظام
مالي اقتصادي مطلق تسميه هي ذاتها بنظام عدم
الانتظام، أي شَرْعَنَة اللاشرعية
وقَنْوَنَة اللاقانون. إنها، بمعنى آخر،
قنونة للفوضى، عولمة للخطر الفيزيائي على
البشرية. النيوليبرالية لا تريد أن تكون
مسؤولة أمام أحد، ليست معنية بالغد، وحدود
المكان في عالمها هو الصفقة، وحدود الزمان هو
اقتناص اللحظة. إنها نظام للسطو القانوني
المسلح على نتاج الشعوب ونتاج الحضارة
استنادًا إلى تفوق عسكري محض. هذا
النظام العالمي الجديد لا يريد أن يرى
العلاقة السببية بين العنف المفرط الذي
يمارسه والعنف الأقصى الذي يهدِّده. هذا
التجاهل للأسباب يجعل أمريكا تستنتج أنها لا
تمارس القدر الكافي من العنف في وجه الإرهاب! العولمة
الإمبريالية النيوليبرالية، خلافًا للعولمة
الحكمية، يمكن التنكر لها والرجوع عنها
والوقوف في وجهها. إنها، بمفهومها الصِّدامي
الحضاري والإنساني، تمسي عولمة سلفية
وعدوانية بامتياز، وذلك لأنها تستند إلى
مفاهيم الإمبراطوريات الإمبريالية السابقة،
حيث المفهوم عن الآخر مرادف للـ"بربري".
هذا المفهوم عن الآخر لا يعرف الشراكة ولا
يسمح بها. ولكن
هيهات! فهل يمكن للقرن الحادي والعشرين أن
يسمح بما تطمح إليه هذه العولمة الأمنية
والنيوليبرالية؟ وما هو الجديد فيها؟ الجديد
هو أن شريعة ميزان القوى العسكري لم تعد كافية
في تحديد موضوعة الأمن بالنسبة لأية دولة،
مهما كبرت وقويت، لأن الشعوب، التي لا تعترف
بميزان القوى العسكري، أصبحت هي في المواجهة،
وهي تستطيع استخدام أسلحة فتاكة، قد لا تكون
برقيِّ الأسلحة التي لدى المركز، لكنها – ولا
شك – قادرة على زعزعة المسلَّمات التي تستند
إليها نظريته الأمنية. بهذا المعنى أصبح هذا
النظام هو الخطر الأول على مجتمعاته بالذات. نتائج
سياسات كهذه هي: 1.
شعوب العالم لن تستطيع أن تحتمل
وطأة هذا العنف؛ 2.
الشعوب أصبحت قادرة على امتلاك
أسلحة مؤثرة، متجاوزة حكوماتها التي أضحت
عاجزة عن حمايتها من مصدر العدوان، بما يفضي
إلى كارثة بشرية من عنف وعنف مضاد. إذن،
لابدَّ للإنسانية، إن أرادت تجاوز الكارثة،
من نواظم تُطابِق وتُقَنْوِن القوى الجديدة
الجامحة التي أطلقتها الثورة العلمية
التكنولوجية الثانية، سواء على مستوى
المجتمعات أو الدول أو على المستوى العالمي –
في حين تروِّج النيوليبرالية لمقولة أن السوق
وحدها هي الناظم الوحيد. أخطر ما
في قيم السوق، إن استفردت بمنظومة القيم
والضوابط، هو أنها، بما تثيره من دمار
وأخطار، تثير، في المقابل، نزعات تدميرية عند
ضحاياها. ومن هنا تبدو مصلحة الأوساط
النيوليبرالية في الحروب الدينية لأنها
وحدها التي تستطيع استنفار أشرس ما في
الإنسان من الغرائز وأقبحه وتنقل الفكر
البشري إلى حالات التوحش الأولى. في حين أن
الأمن، في أبعاده الجديدة التي يكتسبها في
القرن الحادي والعشرين، لابدَّ أن يكون أمنًا
يستند إلى ثقافة الانفتاح والحوار (الديمقراطية
والعقلانية والعلمانية). فتحتَ ضغط القوى
الهائلة للعولمة يتجه المزيد من الناس إلى
الدين، في حين تحاول هذه الأوساط تسعير
الحروب الدينية. ولئن كانت كلُّ ظلامية ضارة
بالتعريف فإن خطر ظلامية الأقوى في القرن
الحالي هو الأخطر والأكثر دمارًا وخصبًا في
الوقت ذاته. إذن،
مجتمعات مستباحة، ودول مستضعفة وفاقدة
مصداقيتَها أمام شعوبها، وفاقدة قدرتَها على
التدخل وحماية أمن هذه الشعوب وضبط مجتمعاتها
تحت هذه الضغوط الهائلة. هذه المجتمعات قد
تنكسر معاوضتُها، وقد تنفجر، إذ تطاولُها قوى
العولمة بالعنف المباشر رغم أنف الدولة
الوطنية. بهذا المعنى فإن العولمة، في شقها
الأمني–النيوليبرالي، تبدو كلية القدرة في
إحصاء أنفاس العالم وكلية العجز في إنتاج
سياسات واستراتيجيات وضوابط أمنية وقائية،
لمجتمعاتها وللعالم في آن واحد. إسرائيل
يبدو الشريك الأول والوحيد الذي تتطابق
أهدافُه مع أهداف العولمة في أعتى صيغها
الهمجية، حيث شكَّل مؤتمر شرم الشيخ بوادر
المحاولات لفرض أولوية الأمن على السلام،
وأولوية أمن إسرائيل ومسؤولية الدول العربية
عن حماية أمن إسرائيل، انطلاقًا من وهم أن
زعامة المنطقة قد عُقِدَتْ له. إسرائيل يرى
مصلحة كبيرة له في الحروب الدينية: فهو الذي
يروِّج لدولة الصفاء الديني. الهدف
هو التصدي لهذا الخطر الحقيقي الذي يهدد
الأمن الفيزيائي للإنسانية، في مواجهة
تعسفية الوسائل التكنولوجية وترويجها
لانحطاط الإنسان وابتذاله. فهل ستكون
الولايات المتحدة ذاتها أكثر أمانًا أم أقل
نتيجة هذا المشروع؟ الصورة قاتمة أ. لأن الإنسانية لن تخرج سالمةً من الحروب الدينية؛ ب. ولأن نمط الردِّ الأمريكي يعمِّم العنف بين الدول وداخل المجتمعات؛ ت.
ولأن أمريكا تحمِّل الدول مسؤولية أمنها؛ وهي
تقوم، في الوقت ذاته، بإضعافها، متناسية
حقيقة الدخول الكثيف لشعوب العالم في مسرح
السياسة. وبالنتيجة
أقول إن ما أحاول تقديمه في افتتاحيتي هذه هو
موضوعة محددة قد تضيء بعض الشيء أحد جوانب
الصراع: فهل الرد الأمريكي، في صيغته
الراهنة، هو من مستوى التحدي؟ بعبارة أخرى: هل
يمكن مجابهة التحدي أمام الحضارة، الكامن في
انفلات العنف في كلِّ جوانب الحياة الدولية،
في غياب ضوابط قيمية وأخلاقية لتطورها، في ظل
الثورة العلمية التكنولوجية الثانية؟
وبالتالي: هل ستنجح الولايات المتحدة في ضمان
موئل آمن من العنف داخلها، في حين تُبقي شبح
القمع والعنف والقسر والنهب مخيِّمًا على
باقي شعوب العالم؟ (3) لمحة عن
التغيرات الجديدة في الاستراتيجية الدولية
لمرحلة الإنتاج ما بعد الصناعي: في المرحلة الصناعية كانت
الأرض والعمل والمواد الأولية ورأس المال
تشكل عوامل الإنتاج الرئيسية في الاقتصاد
الصناعي. أما في المرحلة ما بعد الصناعية فقد
أضحى الإنتاج متنوعًا بما لا يقاس، وأمست
المعرفة المكوَّنة من المعطيات والمعلومات
والثقافة والفكر هي العامل الأساسي في
الإنتاج. وبذلك تمسي المعرفة العنصر المتفوق
تفوقًا حاسمًا على عوامل الإنتاج الأخرى.
فالمعرفة المعلوماتية هي وحدها البضاعة غير
المحدودة التي تنمو بالاستهلاك. ينجم عن هذا
تشظِّي الإنتاج والتوزيع والإدارة؛ وهذا
كلُّه ينعكس مباشرة في تغيرات بنيوية في
المنظومات الدفاعية والأمنية. إن أهم
ما أضافته الثورة العلمية التكنولوجية
الثانية هو أنها ديمقراطية بامتياز. فلقد
عمَّمت ووفرت أشكال تجمع وتعاون بين الناس لم
يكن لها نظير من قبلُ: -
عمَّمت عناصر المعرفة
وشابكتْها؛ -
وعمَّمت وسائل الاتصال
وشابكتْها. لم تعد
الجبهة على الحدود أبدًا؛ بل إن المعرفة أضحت
تنافِس القوة التدميرية للأسلحة في دورها
القتالي. وهذا ليس حكرًا على الأقوى، ولا
حكرًا على دولة أو مجموعة دول. هذا العنصر
الجوهري الذي أضافته الثورة العلمية
التكنولوجية قد جعل مفهوم الأمن والصراع
مفهومًا يعبَّر عنه في علم الاستراتيجيا بأنه
غير خطِّي non-linear – بمعنى أنك، لكي
تقاوم قوة هائلة خارقة، لم يعد من الضروري أن
تردَّ عليها بوسائلها؛ فالرد يمكن أن يكون
ردًّا غير تقليدي ومدمِّر في آنٍ معًا. فإلى أيِّ مدى يشكل الإرهاب، بشكله
المتجلِّي في جريمة واشنطن ونيويورك، مجرد
ظاهرة عابرة تعود للقوى التي تنتمي لمرحلة ما
قبل العولمة، لن تلبث أن تزول مع استقرارها؟ المسألة،
في رأيي، أعقد من الإجابات البسيطة. ويبدو أن
ما جرى يحمل في طياته كلا البعدين: بُعدًا
يعود للصفة الانتقالية للمرحلة الراهنة التي
يمر العالم بها؛ وبُعدًا آخر كامنًا في جوهر
التناقضات التي تثيرها العولمة في صيغتها
الأمريكية ذاتها. فمن
جهة، ثمة علاقة جدلية عضوية بين قوى العولمة
الليبرالية والإمبريالية، من ناحية، وعالم
التطرف، من ناحية ثانية. إنهما يتناقضان
ويتحدان اتحادًا عضويًّا، كوجهين لعملة
واحدة. فلقد استخدم مرتكبو تلك الأعمال كلَّ
ميزات الوسائط الإعلامية المتعددة multimedia والإنترنت والهواتف النقالة
بمستوى عالٍ من التمويه؛ واستخدموا الطائرات
الأحدث وتكنولوجيات القيادة والملاحة
الجويتين بمستوى عالٍ من الكفاءة؛ ومارسوا
كلَّ أساليب المواربة المالية، مستخدمين خصائص التحويلات
المالية وبطاقات الاعتماد. لم يكونوا مجرد
فتيان حمقى متخلِّفين، فاقدي الأمل، بل أشخاص
عاليو التأهيل، أذكياء، يعرفون ما يريدون. بل
لقد تفننوا في الاستخدام البارع لكلِّ هوامش
المجتمع الغربي، سواء على الصعيد السياسي أو
الاجتماعي. فمن دون تلك التكنولوجيا وتلك
الهوامش، ومن دون تلك الحداثة، ما كان يمكن
حتى التفكير في تلك العمليات. ولئن كان العقل
الذي أدارها ونفذها ينتمي إلى الحداثة لا
شكَّ أن روحه غارقة في التطرف الأصولي. التطرف
لا يمكن أن ينمو إلا على أساس كراهية متجذِّرة
وحقد متنامٍ على الظلم واليأس والإقصاء. إذ
لابدَّ لذلك الخوف الدفين من الحداثة لدى
الثقافات النقلية الكثيفة، ممزوجًا
بالاضطهاد والاستغلال والفقر وانسداد الأفق
الناجم عن عواقب العولمة والهيمنة، أن يولِّد
مزيجًا متفجرًا رهيبًا. الخاصية الأساسية للأصولية هي
رؤيتها الوحيدة الجانب للأشياء: إما أسود
وإما أبيض. الأصوليون، الذين يجدون أنفسهم
منهزمين أمام الحداثة في صيغتها الأمريكية،
لا يرون في التنوير إلا الغزو الثقافي، ولا في
الحداثة إلا الفجور وتدميرًا للقيم دون بديل،
ولا في التكنولوجيا إلا الأسلحة والحصار
والموت، ولا في السوق إلا الاستغلال الذي لا
ينتهي. أما
عالم العولمة الإمبريالية النيوليبرالية
فليس أقل اضطرابًا وقلقًا! فمركز هذه العولمة
– الولايات المتحدة – إذ يجعل العقلانية
والبراغماتية نمطًا وثقافة ويروِّج لموت
الإيديولوجيات، فإنه لا يلبث أن يصير أسيرًا
للموقف العقائدي الأصولي، بما لا يمت بالصلة
إلى العقلانية – موقف لأقلية نافذة دينية
مسيحية متطرفة أو صهيونية (إسرائيل). كانت
حكمة العصر تفترض أن يكون آخر ما تلجأ إليه
تلك الإدارة الأمريكية "المتحضِّرة" هو
أساليب الحرب الغليظة. وها هو ذا السيد بوش
يعود – للأسف – إلى منطق "اعمل ثم فكر"!
ففي زمن التكنولوجيا المتفوقة أمست هذه
الأساليب حمقاء، تشي بعدم استيعاب فاضح
لأبعاد الأزمة وللأبعاد الحقيقية لتحديات
العصر التي تمتد من الثقافة إلى الاقتصاد إلى
الاستراتيجيا والمعلوماتية. فبعد كل
ذاك التجاهل الساذج، وبدلاً من الانهماك في
صياغة استراتيجيا عالمية شمولية متكاملة، ها
هي ذي الإدارة الأمريكية تتصرف كالديناصورات
وتقفز، دون أيِّ سبب واضح، نحو الأدوات
الغليظة. إذ ليس الأصوليون وحدهم من يحملون
رواسب الماضي في جعبتهم؛ الإدارة الأمريكية
ذاتها أيضًا لا تزال تحمل الكثير من عقلية
وأساليب التفكير البائدة للعصر الصناعي. إن أية
نظرية جديدة لمكافحة الإرهاب يُفترَض أن
تستند إلى تقويم إجمالي متكامل لعناصر القوة
والضعف، النمو والقصور، في الحضارة المعاصرة.
لابدَّ من تقييم للمسؤوليات الأخلاقية
والدولية للدول المتقدمة، على الأصعدة
الاجتماعية والثقافية والمعرفية
والتكنولوجية والبشرية، لتحديد استراتيجيات
وخطط عمل سياسي على نطاق عالمي، والتنقيب
بعمق عن البيئة الخصبة التي ستظل تولِّد
العنف في العالم باسم ذلك الكمِّ الهائل من
الظلم والعنف والقتل والإقصاء وانسداد الأفق
والموت المعلن المُقَنْوَن بالنظام العالمي
الجديد. لذلك لن يمكن مقاربة الإرهاب إلا على
أساس دولي ومن خلال الشرعية الدولية لمنظمة
الأمم المتحدة. إن
الأدوات التي يستعملها السيد بوش حاليًّا،
باسم مكافحة الإرهاب، لهي أشبه بالحصَّادة
القديمة التي تحصد من الحصى أكثر بكثير مما
تحصد من الحَب! فهل
يتعلم السيد بوش – متأخرًا! – أن قراءة
التاريخ والبحث عن أسس نظام عالمي متضافر
ومتنامٍ يقوم على الحق والعدل هو الأساس
الأعمق لمكافحة الإرهاب؟ ففي هذا العصر لم
تعد قوة هذا الكمِّ الهائل الوارد من
المعلومات تكمن في سرِّيتها، بل في الحكمة
والمنطق الذي يقف خلفها والاستنتاجات
المستخلَصة منها. المشكلة
تكمن، أصلاً، في كون مجتمع المعلومات ذاته
شديد الهشاشة. ونظم المعلومات الراهنة تتسم
بأنها لا تنضب، من جهة؛ ولكنها، في المقابل،
قابلة للاستخدام من جانب الخصمين أيضًا، على
حدٍّ سواء. كما أن من أهمِّ خصائصها أن من
الممكن الدخول عليها واختراقها بعملية
متواضعة وقلبها رأسًا على عقب، مهما كانت
معقدة (كجرثوم بدائي يخترق دفاعات حيوان
متطور). وهذا ما حصل في واشنطن ونيويورك صباح 11
أيلول المشؤوم. وتجتاز
جميع الأجهزة السياسية في العالم الآن أزمة
هوية وأزمة بنيوية؛ ويدرك زعماؤها أنها أمست
ديناصورات تمثل مرحلة المجتمع الصناعي
القديم. ففكرة الأمن القومي في الأساس قد
تغيرت واتسعت، لتتخذ طابعًا عالميًّا ولتشمل
طيفًا أوسع يمتد من الاقتصاد، إلى
الديبلوماسية، إلى الثقافة والبيئة. إن مدى
إدراكنا لشمولية هذه الحرب ضد العنف والرعب
العالميين هو وحده الذي سيحدد كم ستطول. ***
*** *** |
|
|