حول الحلم...

 

أكرم أنطاكي

 

"... آه، ما كان أقصره زمان الكرز

لأني من ذاك الوقت

مازلت أحتفظ في قلبي

بجرح ينزف..."

من أغنية فرنسية قديمة لمؤلِّف مجهول[1]

 

1

... وأتفكَّر أننا، حين نتحدث عن الحلم، فإننا غالبًا ما نتناوله من وجهة نظر التحليل النفسي الفرويدي: بمعنى أنه ذلك المعبِّر، المستتر والمتنكِّر، عن رغبات حياتنا اليومية غير المتحقِّقة، المكبوتة، من جراء ذلك، في اللاوعي. ولكن هذا التعريف، على صحَّته ومعقوليته، ليس المقصود تمامًا هاهنا – في تأملاتنا هذه تحديدًا.

... لأن ما نعنيه هاهنا – وإن كان ناجمًا عن اللاوعي، وإن كان يعبِّر أيضًا عن رغباتنا وتطلعاتنا المكبوتة في هذه الحياة – فإنما هو يعكس حال تصعيد مثالية ندعوها، اصطلاحًا، بـ"الحلم"؛ وقد ارتأينا الاستمرار في التعبير عنها تحت هذه التسمية. وهي حال قد تبدو أحيانًا، للوهلة الأولى، كنقيض شبه كامل لمصطلح آخر ندعوه بـ"الواقع" – ذلك الذي يعبِّر عمَّا هو معطى وقائم، فعلاً وحقيقةً، كمقابل للظاهر والمتوهَّم، من جهة، والمجرَّد المفترَض، من جهة أخرى.

فهل هذا هو الحلم يا ترى؟ وما أدرانا، أيها الأحبة، ما هو؟

2

ما بين الحلم والواقع...

لأن ما نعنيه هاهنا هو فعلاً، وقبل كلِّ شيء، تجاوزٌ للواقع القائم وتصعيدٌ له نحو ما نتخيل أنه يُفترَض أن يكون سائدًا بشكل خاص (و/أو بشكل عام) على أرض هذا الواقع. وهذا، إنْ تعمَّقنا به قليلاً، قد يختلف بحسب الظروف الزمنية والمكانية، وبحسب الأشخاص والمجتمعات؛ بمعنى أنه توجد دائمًا وافتراضًا، ومن هذا المنطلق تحديدًا، مستويات للواقع ولتمثُّله يختلف بعضها عن بعض بحسب الظروف.

هو منظور قد يبدو، للوهلة الأولى، وكأنه يضيِّع مفهوم الحلم – على الأقل ذاك الذي نعني؛ لأن مستويات الواقع تعني، أول ما تعني، مستوياتٍ للتفكُّر وللتأمل وللشطح، وبالتالي... للحلم.

فعن أيِّ مستوى واقع ترانا نتحدث يا ترى؟ وإلى أيِّ مستوى حلم ترانا نتطلَّع؟

... ولاسيما أن الإشكالية الفلسفية تبدو واضحة وجلِّية هنا بين مستويي تفكير، يمكن تصنيف الأول بينهما بالـ"واقعي" و(ربما) بالـ"ذرائعي" pragmatic، والثاني (ربما) بالـ"مثالي" و/أو... بالـ"حالم".

وأصنِّف نفسي في الاتجاه الثاني. ولكن بعض جوانب الأول، في الآن نفسه، تشدني بقوة وتستوقفني، رغمًا عنِّي، للمزيد من التأمل... تأمل قد يعيدني، بادئ ذي بدء، إلى ما ندعوه، مجازًا، بالمناقب السامية و/أو...

3

القيم الخالدة...

لأنه، وإن لم يكن فهمُ هذه الحكمة الخالدة، الأزليةِ المبادئ – بأبعادها المختلفة (الميتافيزيائية، الفلسفية، الجمالية، النفسانية، الحضارية، وحتى... السياسية) – واحدًا في نظر البشر على مرِّ العصور، مما أعاق تطبيقها – ولم يزل يعيقه – إلى حدٍّ صارت معه هذه القيم تبدو، على أرض الواقع القائم، حلمًا... إلا أنه كانت هناك دائمًا – ولم تزل – قواسم مشتركة توحِّد فيما بينها، ويتفق عليها معظم البشر...

لأنه، وإن لم يكن الصدق يومًا هو السائد في عالمنا، ولا المحبة، ولا العدالة، وكانت نقائضها، عمومًا – ولم تزل – هي المسيطرة على أرض واقعنا الإنساني... إلا أن هذه القيم كانت دائمًا – ولم تزل – قاسمًا مشتركًا بين معظم بني الإنسان الذين يحلمون بها، ويسعون إليها، إلى هذا الحدِّ أو ذاك، وبهذا الشكل أو ذاك... كحلم متجسد في الخيال، نسعى إلى – إن لم نقل نتخيل – تطبيقه على أنفسنا، وعلى واقعنا المحيط... حلم بإنسانية يسودها مثل تلك القيم و/أو يسعى إلى مقاربتها... وببشر يتمثَّلون هذه المبادئ في حياتهم ويسعون إلى تطبيقها...

مما قد يفسِّر حتى تصوراتنا لآلهتنا ولتلك الصفات التي نفتقدها في أنفسنا وننسبها إليها... تلك التي تتراوح مختلفةً في عمقها ومضمونها بحسب درجة ارتقائنا ووعينا.

4

في الألوهة كحلم...

كأنْ توصف الألوهة، مثلاً، بأنها "أرحم الراحمين" في عالم مازال يفتقر إلى الرحمة... و/أو بـ"أمكر الماكرين" في عالم تكاد أن تسود فيه هذه الصفة (غير المحبَّبة) على العلاقات بين البشر.

وتصبح هذه الصفات التي تتجاوزنا، في مجملها، جزءًا لا يتجزأ من حلمنا الإنساني، بشكله المثالي، المرجو أحيانًا، كصفة "الرحمة" مثلاً، و/أو المشوَّه غالبًا، كصفة "المكر" (ليس حصرًا).

لأن الألوهة، كمفهوم مجرَّد، هي ربما التجسيد – إن لم نقل التعبير – الناجم عن افتقارنا العملي إلى تلك "القيم الخالدة"، مما يجعل منها الحلم المرتجى، في الوقت الذي يصير نقيضُها الواقعي، تبعًا لذلك، هو المرفوض، إن لم نقل هو الشر أو... "الشيطان"!

ونكاد، بهذا المفهوم و/أو التصور العقلي، الذي بات متمثِّلاً بالألوهة، أن نقارب فهم ديكارت الذي قال ذات يوم: "إني حين أذكر اسم الله فإني أعني تلك الماهية اللامتناهية، الأزلية، السرمدية، المستقلة بذاتها، العليمة، والقديرة على كلِّ شيء، التي خلقتْني وخلقتْ كلَّ شيء..."

... مما يمكن أن يفسَّر، على صعيدنا، بأنه حلمنا المثالي مقابل واقعنا القائم ككائنات محدودة، زائلة، تابعة، غير عليمة، وضعيفة. ولكن...

هل تصح هذه المقاربة العقلية للألوهة وللحلم من خلالها؟

لأن العقل يردُّ كلَّ شيء إلى الملموس وإلى الواقع، بينما تبقى للحلم طبيعته غير الملموسة، إلى حدٍّ تبدو معه وكأنها غير واقعية. كما تبقى للألوهة طبيعتُها الميتافيزيائية وغير العقلانية، الناجمة عن الخبرة الروحية المباشرة و/أو عن الإيمان العميق.

هذه الطبيعة وهذا المنطق هما اللذان جعلا الكثيرين يرفضون، كليًّا أو نسبيًّا، مقاربتها العقلية؛ كباسكال، العالِم والفيلسوف، الذي صاح ذات يوم رافضًا "إله الفلاسفة" وداعيًا إلى "إله إبراهيم وإسحق ويعقوب"... مما يعني رفض إله العقل والدعوة لإله القلب؛ أو لنقل، رفض ذلك الفهم العقلي المطلق للأمور، وقبول ذاك الذي يجمع بين العقل والمشاعر وأشياء أخرى... كتلك النابعة، مثلاً، من أعماقنا السحيقة، التي نسميها، اصطلاحًا، بـ...

5

الخافية الجامعة...

لأن ذلك التوق التصعيدي، الذي أسميناه "حلمًا"، ليس مجرد نتاج أو انعكاس مباشر لواقعنا الفيزيائي، بل – وهذا لا ريب فيه – هو نابع من أعماقنا السحيقة التي قد تعيدنا إلى بدايات الإنسانية، إن لم نقل إلى بدايات نشوء الكون؛ وهي أعماق مترسِّخة في ذاكرتنا الإنسانية، ونسميها هكذا اصطلاحًا... "خافية" unconscious، هي، ربما، تلك التي وصفها عالم النفس كارل يونغ ذات يوم بأنها "النتاج المذهل للتراث الروحي للتطور الإنساني، الذي يعيد إحياء نفسه من خلال كلِّ بنية فردية..."؛ الأمر الذي يجعلها تنعكس جليةً واضحةً من خلال مختلف رموز ثقافتنا الإنسانية، كالفولكلور الشعبي، والأساطير، والديانات، وحتى... الأحلام الخاصة بكلٍّ منا... هذه التي نسميها اصطلاحًا بـ"الصغرى"، مقابل، وإلى جانب، أحلامنا "الكبرى"، المتمثِّلة بقيمنا الخالدة، التي سرعان ما نتلمس قاسمها المشترك عند معظم البشر وفي جميع الأديان، التي تعود فتتكرر دائمًا في عالمنا كـ...

6

زمان الكرز...

ذاك الزمان الذي كان – ومازال وسيبقى – يبدو لناظره، دائمًا وباستمرار، كأنه قابل للتحقق، إنْ لم نقل وشيكه؛ لكنه، في الوقت نفسه، مازال – وسيبقى دائمًا – بعيد المنال، حيث سرعان ما يتلاشى على أرض الواقع في كلِّ مرة نعتقد أنه يكاد أن يحصل، ليعود حلمًا من جديد...

حلم بقيم خالدة راسخة في ذاكرتنا وتسود إنسانيتنا...

حلم دائم بإنسان يتجاوز واقعه المنقوص، ليحقق إنسانيته من خلال تلك المثاليات التي يتفق حولها الجميع والراسخة في أعماق لاوعينا الجامع collective unconscious...

حلم لا يسعنا إلاَّ التمسُّك به إنْ نحن أردنا الارتقاء من دون أن نتحوَّل إلى مجرد حالمين...

كما يجب علينا دائمًا التفكير فيه والسعي من أجله، من دون أن نكون مجرد مفكِّرين.[2]

*** *** ***


[1] كانت هذه القصيدة تغنَّى على المتاريس في أثناء ثورة العمال الباريسيين في العام 1870، التي عُرِفَتْ، من بعدُ، بـ"كومونة باريس".

[2] متذكِّرين قصيدة روديارد كبلنغ "إذا"!

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود