|
جغرافيا حيَّة للحب
والموت والوطن ناديا تويني (1935-1983) في ذكرى رحيلها
العشرين عشرون عامًا مضت على رحيل
الشاعرة اللبنانية ناديا تويني. أو عشرون
عامًا مضت على عبور الشاعرة الملهَمة إلى زمن
غير محسوب على الزمن، وإلى فضاء غير محسوب على
الأمكنة، حيث "دروب الرماد حين ينتهي دورُ
الأزهار"، وحيث "الموت هو... حياة الحياة"،
وكأن الحياة تنبعث من رمادها! كبطلة
إغريقية، من التراجيديا الشخصية انطلقتْ
ذاتُ ناديا تويني في سعيها إلى إزاحة القناع
عن الحقيقة وعن وجه الأرض، وسألتْ: "الأرض
سؤال أم جواب؟" وعاشت تجربتها مع الحياة
ومع الموت المبكر بجرأة كبيرة، وبقيت تهتم
بقراءة رموز الحياة والحب والإنسان، وهي على
شفير الانتقال إلى ما وراء الحياة، حيث
ستنكشف لها الحقيقةُ الشاغلةُ بالَها؛ لكنها
استمرت وكأن في ذلك مغامرة ممتعة ومخيفة في آن:
"بيني وبين الموت ليس من غياب، حين يأتي
دوري سأكون جائعة للموت." وبالحب غلبتِ
الموت: "الحب رائحة الحياة والحب يخذل
الموت." وكأنها أيضًا في سعيها تسعى إلى
حياة جديدة، في حقيقة جديدة، حيث الحياة
عندها شرارة تنبعث سرًّا من أسرار الكون: "اتركوني
أتشرَّد في عيونكم حيث لا شيء يطمئن، اتركوني
أُزهِر من جديد، مرة، في مغيب الشمس." ومع
تويني التي كتبت بالفرنسية سبعة دواوين،
انطلقتْ من النصوص الشقراء وعُمْر
الزبد، في كلمات عن الطفولة وحكايات الجن،
وعن الطفلة التي طالما حلمت بسرقة الحكايات
والأناشيد والأغاني كما تأمَّلتْ "العصافير
وطائرات الورق"، في طيرانها الرمزي الذي
يحملها إلى مغامرات مجهولة. ثم كتبتْ عن الأرض
والوطن قصائد من أجل تاريخ، ولبنان:
عشرون قصيدة من أجل حب، وحالم الأرض،
وأرَّختْ للحرب على طريقتها في قصائد أرشيف
عاطفي من أجل حرب في لبنان، وكتبتْ قصيدة
مزمورية طويلة حزيران والكافرات – وفي
شعرها كلِّه انطلاقة من علاقتها بالأرض
والهوية والانتماء، لينتهي صراعها إلى انتماء
كوني، عالمُه قصيدة مفتوحة على فضاء من نوع
آخر. الكلمات في قاموس الشاعرة هي الأرض،
وعليها تبني أحلامًا وتزرع آمالها: "لا
ترموا بالكلمات العتيقة. أنا أحيلها أزهارًا." في
هذا المعنى تصير الورقة البيضاء تحت يد
الشاعرة عند الكتابة هي التجربة المزدوجة،
وهي التي ترمي دائمًا إلى التشبيهات – وبكثرة
– تعمل هنا تمامًا في شعرها وكأنها تحرث
الأرض: قلمها هو المحراث، والورقة هي الأرض؛
أفكارُها الشتلات والبذور؛ دمعُها يروي؛
كلماتها تنتصب أشجارًا وأزهارًا. الحب والموت وفي
كتاباتها كلِّها أيضًا كلامٌ في الحب وفي
الموت. والاثنان يتناحران ويتصارعان، فيصبح
الموت في قصائدها مدجَّنًا، وتعبر معه إلى
أرض تعبق بخورًا احتفاليًّا بالمناسبة –
مناسبة خطوتها الأولى في عالم ما وراء
الحياة، التي بها تنجو من المناخات العدمية
الخانقة. مع
نادي تويني تشعر أن مهمة الشعر أن يغيِّر
طبيعة الكون؛ فتحصل أنت معها، كقارئ، على
مشهدية تتركَّز في ذهنك، وأمام عينيك، مثل
لوحة مركَّبة من مواد وعناصر ممسوسة بأشباح
من الماضي خرقت التاريخ وحضرتْ في قصيدتها،
بل أكثر؛ كأن هذا الخَرْق لم يكن في حدود
التاريخ فقط، بل إنه خَرْقٌ لماورائيات
تذكرها هي حسيًّا وتحاول أن تقولها بالكلمات.
لذا تجيء كلماتها أو قصائدها على شيء من
التفلُّت الظاهر والتماسُك الضمني؛ فتتخيَّل
أنتَ الصور الشعرية حين تحضرها من هناك
متطايرة، مفعمة برائحة الأزل. لذا تشعر أن
نكهة شعرها وطعمه ولونه وصفاته كلُّها ليست
من هنا، ونحن على اتصال به فقط عبر الشاعرة
الملهَمة التي تحاول رَبْطَ حاضرها الشعري
بماضٍ تتلمَّسه وتترجمه لنا. إنما ذلك لا يحصل
بسهولة؛ وهو يولِّد تمزقات نفسية، وبالتالي
لغوية، في القصيدة. وتمضي في ترتيب عالمها بعد
إنقاذه – وكذلك وطنها وإنسانها – ليدخلا
معها في حالة سحرية يتوقف الزمن عندها. وهكذا
تقدِّم وطنها في عناوين عريضة تحمل أسماء
المناطق؛ لكنها، في المضمون، تتكشف عن
جغرافية الوطن المرسومة سلفًا في عالم مغلق
على سريَّته وماهيته. وهي تطارد أشباح
شخصياتها وعوالمهم. وهذه الشخصيات ليست دومًا
من لحم ودم، إنما قد تكون كتابًا أو تاريخًا
أو أسطورة أو فكرة بالمطلق؛ هي ظلال أو أوهام
أو تمنيات أو صور تتجلَّى وتسمو معها، ويصير
لها اسمٌ وعنوان في القصيدة. شخصيات التويني
كلُّها، وأمكنتها كلُّها، قادمة من انصهارها
وعودتها الثانية إلى الحياة بعد مرحلة الموت
والتطهُّر: "اسمع، المدينة البيضاء هي قبر،
ولا تَخَفِ المساء ولا القلق، فكلاهما مفتوح
على الحديقة." والشاعرة لا تحاكي الموت
بالتعبير التقليدي الفضفاض، بل تتصل به عبر
خَرْقِ الأزمنة والمفاهيم، فتلتمس هنا
عبثيَّتَها القوية وتصوراتِها السوريالية
لعالم عثرتْ فيه على سرِّ الشعر. تجربة فريدة وعلاقة
التويني بالموت علاقة فكرية وحسية، نزلت بها
إلى تجربة فريدة، وذهبت بشجاعة نحو أماكن
الظلال والعتمة والانحدارات السحيقة. ومن هنا
يرقى شِعرُها إلى المسار الفلسفي الوجودي،
وإلى تجربة إنسانية شاملة انطلاقًا من
تجربتها الخاصة، حيث سبقتْها إلى "هناك"،
إلى الموت، ابنتُها الفتية قبل مرضها هي
أيضًا بسنوات، فراحت تبحث وتبحث عن الابنة
الراحلة، تمامًا مثل البطلات الإغريقيات
الهائمات على وجوههن من فرط التراجيديا ومن
فرط الحبِّ والحزن والألم. وأمام جسدها
النحيل المريض، المفرط في الإحساس، عرفت
روحُها شجاعة أسطورية في مواجهة الموت
والماورائيات وفي مواجهة الخالق. عاشت
شعريًّا موتَها قبل أوانه، وعاشت مرحلة
تطهُّر روحها، ولامَسَتِ التجربة وهي بعدُ
هنا، وبيننا عاشت ازدواجية انتمائها إلى هنا
وإلى هناك. الجسد النحيل هكذا
نتذكر الشاعرة ناديا التويني اليوم، بعد
عشرين على سفرها الطويل. هكذا تعود إلى
أذهاننا، واقفةً بجسدها النحيل في مهبِّ
الريح، متحدية العواصف، وشَعرها المنسدل
الطويل، وعيناها اللتان تتحديان القَدَر،
ويداها المفتوحتان على حلم احتواء سرِّ
الكون، وكلُّ شيء فيها يجعلها، عن بُعد وفي
نظرنا، ملكة أسطورية متوَّجة على مملكة الحزن
والعذاب، أو بطلة تراجيدية لهذا الزمن، ترتدي
ثوب الحب الذي يؤجج النار جمرًا، ويفيض
بعذابات تمسُّها ماء سحرية، وتحوِّلها
أساطير شعرية للزمن. مع
هذا كلِّه، حين يعود إلينا شعر ناديا تويني،
نقول كلَّ مرة في سرِّنا: صعب هو شعرها!
والصعوبة هنا ليست في اللغة التي استخدمتْها (أي
الفرنسية)، وليس في موضوعاتها، إنما في
الأسلوب أو في النوع الأدبي الذي، إذا أردنا
أن نحلِّله بدقة، نجد أنه يجمع القصيدة
الحَداثية إلى السوريالية والرمزية في نمط
الكتابة الأوتوماتيكية أيضًا، التي تجمع
الإشارات وتحشدها، وصولاً إلى لغة حلمية،
قاموسها خاص وصعب الاحتواء. ذلك كلُّه يجعل
قصائد تويني على شيء من الغموض في شعر غير
مألوف، حتى بعد مرور سنوات على رحيلها. إنه
الشعر المتاخم للفانتازيا الفكرية
والتخيلية؛ إنما هنا، مع الشاعرة، فهو يطلع
من مخاض عذابات كثيرة. غريبة
هي ناديا تويني في شعرها. غريبة عن محيطها وعن
كلِّ الشعر الذي قيل من حولها. تفرَّدت بقصيدة
عنوانها مختلف، دمها مختلف، لونها مختلف،
وأقفلت حقيبتها على سبعة دواوين ومضت. غير أن
هذه الدواوين تعود دومًا لتؤرق قرَّاءها،
وكأنها تطرح عليهم أسئلة تصعب الإجابة عنها:
لماذا تقرأونني؟ هل لمستم معي قعر القصيدة؟
هل اشتممتم رائحتها العابقة بالبخور ورأيتم
لونها الأزرق مثل البدايات كلِّها، مثل كلِّ
فجر يطلُّ على الكون؟ هل وضعتم يدكم على
الجرح، وهل تحسَّستم الدماء الساخنة بعد؟ هل
لمحتم طفلتي الساكنة هناك من دون أن أرسمها أو
أن أذكر اسمها؟ هل اكتفيتم وتوقفتم عند كلِّ
كلمة أو عند كلِّ مقطع للحظة تخيُّل خاص بكم؟
هل قطفتم الأزهار، ولاحقتم الفراشات،
وغرَّدتم مع العصافير، وتذوَّقتم طعم العسل
والمرِّ – معي؟ هل استندتم إلى صخرة وتأملتم
قرية نائية في الجبل اللبناني، ثم انحدرتم
نحو الوادي، ومشيتم في السهل، وغنَّيتم مع
الرعيان؟ هل غابت الشمس وجلستم تتأملون معي
في المشهد المرصود على خارطة الأزمان،
لتبحثوا معي عن الزاوية الخفية أو الكلمة
المبهمة في العتمة هناك؟ هل شعرتم معي كم
تتطاير كلماتي في كلِّ ثانية، وهل حاولتم
التقاطها معي لإعادة تثبيتها في قصيدتي
المتحركة؟ إذا ما استطعتم الإجابة عن هذا
كلِّه، فمعناه أنكم لم تقرأوني، ولم تلمسوا
معي وجه الخالق ما قبل موتي. هكذا
أتلمَّس قصائد ناديا تويني شخصيًّا كلما
عُدْتُ إلى كتبها. وهكذا تقع نفسي في بحر
تساؤلات معها. هل قرأتها فعلاً؟ هل لمستم؟ هل
ثمة من يفهمها بأسلوب مختلف عني؟ هذا بحر
ناديا تويني الشعري، وهذه أمواجها المحمَّلة
بالعجائب والغرائب في دنيا الفانتازيا
الواسعة. كلما قرأتُها وقعتُ على متعة
مختلفة؛ وكلما تعمقتْ هي أكثر في الرحيل،
أجدها أقرب إلى عالم سبقتْه هي بأشواط،
بإحساسها المرهف، ورقَّتها، وتجوالها الغريب
في عالم غريب. *** *** ***
|
|
|