نحو عقلانيَّة جديدة

ندوة عِبرمناهجية في السوربون

 

سمير كوسا

 

تحت عنوان "نحو عقلانية جديدة" قام مركز الأبحاث الروماني في باريس بتنظيم ندوة–حوار في مدرَّج ريشيليو في جامعة السوربون الباريسية. وقد دُعِيَ إلى هذه الندوة عددٌ من كبار الاختصاصيين العِبرمناهجيين.

تكمن أهمية هذه الندوة في إلقاء الضوء على الواقع المعقَّد الذي يقوم الباحثون بدراسته. فلقد اعتقدت غالبية من العلماء، حتى نهاية القرن التاسع عشر، أن عالمنا سيُفصِح – عاجلاً – عن آخر أسراره، التي كان يقل عددها، في رأيهم، عن عدد أصابع اليد الواحدة! إلا أن التطور السريع للعلوم المختلفة جاء ليحطِّم هذا الاعتقاد. فقد شهدت الفيزياء ثورات مع ولادة الفيزياء النسبية والكوانتية، التي اتضح منها، خلافًا لما كان يُعتقد، أنه كلما دخلنا قلب المادة وقفنا حيال عالم أعقد.

كما شهدت العلوم الأخرى تطورات عديدة وسريعة، وتعمَّمتْ الاتصالات العالمية، وظهر الكومبيوتر. وكان من النتائج المباشرة لهذا الإنجاز تحقيقُ اتصال أعمق بين الشعوب، كَسَرَ فكرة التفوق الكلِّي للشعوب المتطورة علميًّا على غيرها.

وقد أدى هذا التفجُّر، على جميع الأصعدة، إلى بيان عجز المنطق الكلاسيكي عن احتواء هذا الواقع الجديد. فهل يوجد ثمة بديل، أو بدائل، لهذا المنطق الكلاسيكي وللعقلانية التي رافقتْه؟ هذا هو المحور أو السؤال الذي حاولت هذه الندوة أن تجيب عنه.

***

إدغار موران: "علينا أن نرى عالمنا في كلِّيته"

 

استهلَّ إدغار موران[1] الندوة بمحاضرة بعنوان "العقل، العقلانية، العقلنة، المذهب العقلي"، دعا فيها إلى عقلانية مفتوحة على العالم.

وقد قدَّم موران، في سياق حديثه، التعريفات الآتية:

العقلانية Rationalité: هي حوار بين الإنسان والعالم. وتجابه هذا الحوار صعوباتٌ تتعلق بإمكانية مطابقة الواقع مع ما هو "معقول".

العقلنة Rationalisation: وهي انغلاق الفكر على مفهوم أو على جملة معطيات، يعتبرها هي الواقع. وبالتالي، ليست العقلنة سوى عقلانية مغلقة تمنح النظام العقلي امتيازًا خاصًا. والعقلانية، في رأي موران، عدو العقلنة. وقد أضاف أن العقلنة ظهرت – ومازالت تظهر – في العديد من النظريات العلمية وغيرها من الأفكار التي أرادت حَشْرَ الواقع كلِّه في جملة مبادئ، اختيرت كمرجع أساسي يُرَدُّ إليه كلُّ شيء.

المذهب العقلي Rationalisme: وهو المذهب القائل بأنه يمكن إخضاع جوهر الأشياء كلِّها، من أخلاق وعلم وغيرهما، للعقل.

العقل Raison: وهو موضوع الرهان الذي يرفض موران تعريفه. فالعقل هو المركز، وهو دائم التطور، لا نعرف ما هو وما سوف يكون.

يعرِّف الغرب بعقلانيتين: أولاهما مهدِّمة لكلِّ شيء، من أساطير ونظريات وأديان وغيرها، باعتبارها "عديمة المعنى"؛ أما الثانية، فهي عقلانية بنَّاءة، تحاول تقديم رؤية متماسكة إلى العالم. ويضيف موران أنه منذ روبسبير بدأنا بتأليه العقل. وقد حاول هيغل ضمَّ التناقض ودمجه في التماسُك المنسجم، أي عقلنة اللامعقول، مع ترك حقٍّ للانفتاح (مفهوم الديالكتيكا). أما كيركِغور، فقد انتقد هيغل، قائلاً عنه إنه يعرف كلَّ شيء عن العالم، باستثناء نفسه! إلا أن انتقاد كيركِغور هذا، بدوره، عقلاني الطابع، ولو أن العقل، برأيه، عاجز عن بلوغ الحقيقة.

لقد اتخذت العقلانية الغربية من المُصنَّف والخاص مبدأ عالميًّا. إلا أن هذه العقلانية تعمَّمتْ لتصير عالمية. فهي تحمل في طياتها أساسًا عالميًّا، وهو اعتبار التجربة أساسًا للتحقُّق. وهكذا صارت مشكلة العقلانية الغربية مشكلة عالمية.

كلُّنا يعرف تصنيف دوركهايم الشهير، الذي رأى بأن المجتمعات، في تطورها، تبدأ من الغيبي لتنتهي إلى العقلي. إلا أن دراسة بسيطة للشعوب التي تُعتبَر "بدائية" يتبيَّن أنها تتبع خططًا عقلية معقدة في حياتها اليومية؛ ويمكن ملاحظة الحقيقة ذاتها لدى الحيوان. إن ما يميِّز هذه المجتمعات هو علاقتها المختلفة مع ما هو عقلي ولاعقلي. فالغرب الحديث جعل من علمه المجرَّد أسطورته الجديدة. وقد أفادت الحركات والأحداث العالمية الحديثة الغربَ في اكتساب وعي جديد، أدى إلى رؤية "نسبوية" إلى الحقيقة Relativisme، وإلى استخدام المجتمعات الأخرى كمرآة له. ومع هذه الرؤية النسبوية، تبيَّنتْ حدودُ العقل والعقلانية، وبالتالي حدود المنطق.

فالمنطق عاجز – كما برهنت نظرية غودل الرياضية – عن فهم الجُمَل والمنظومات المعقدة. وهكذا نصل إلى أن التناقض لا يعني دائمًا الخطأ؛ بل إنه قد يكون دليل طبقة أعمق من الواقع. ففكرة الانفطار الكبير Big Bang في علم الفلك الحديث، مثلاً، ينتج عنها انبثاق الزمن انطلاقًا من اللازمن في صورة عقلية.

نستنتج مما سبق ضرورة قيام عقلانية مفتوحة، ديالوجيكية، غير ديالكتيكية. فالديالكتيكا تعطينا الانطباع عن وحدة تنقسم. لكن ما هو يهمنا هو كيف يصبح شيئان اثنان متناقضان واحدًا متماسكًا.

فمثلاً، تشترك المورثات الخالدة مع البروتينات الفانية في تشكيل الكائن الحي. عندئذٍ يمكن لنا معالجة ميادين أخرى، كالأساطير والشعر وغيرهما، بهذه العقلانية. لذا يلزم أن تكون هذه العقلانية على خلافٍ مع كلِّ عقلنة. يجب أن تكون متجددة في استمرار، لتحافظ على حوارها مع اللاعقلي Irrationnel. أي أن تكون قادرة على الانتقاد الذاتي، وأن تكون متحرِّرة من المنطق، ومُنفتحة على الواقع المعقَّد، من دون أن تفقد دقَّتها ورصانتها. وبهذا نرى عالمنا في كليَّته الفيزيائية والبيولوجية والعقلية والروحية، من دون اختزال.

ل.م. أركاد: "حملت مخيِّلة الروائيين تمثيلات رمزية للحقيقة وللإنسان"

أما الأستاذ أركاد[2] فقد ألقى محاضرة طويلة بعنوان: "اللامعقولية المعقولة في الرواية التراجيكوميدية".

يدرس المحاضر روايات بعض الكتَّاب الذين يطلق عليهم لقب "الروائيين التراجيكوميديين"، من أمثال ثربانتِس ودوستويفسكي وكافكا وجويس وغيرهم – هذه الروايات التي تدلِّل على وضع الإنسان المتمزق. ويقول الأستاذ أركاد إنهم "حملوا مخيِّلتهم تمثيلات رمزية للحقيقة وللإنسان. يمكن أن نقول اليوم عن هذه المخيِّلة إنها مجددة وغنية، تفيد الباحث الإبستمولوجي والفيزيائي".

ويورِد المحاضر كيف أن ثربانتس، في روايته دون كيخوتي، ينتقد ما يسميه النظام أ ب ت، في مقابل نظام الطبيعة، وكيف أن أباطرة العلم قعدوا على حقائقهم المريحة، في حين أن الحقائق التاريخية كانت قائمة في نهاية عصر النهضة. ويضيف أركاد أنه يمكن توجيه هذا الانتقاد إلى الصورة ذاتها اليوم. أما دوستويفسكي، في روايته في قبوي، فيستبدل بأباطرة المعرفة أ ب ت مساواة 2 + 2 = 4، أي هؤلاء الذين يحاولون تفسير الإنسان وتقرير مستقبله من خلال منطق عقيم. ونجد الصورة ذاتها في رواية كافكا التحوُّل؛ إذ يموت بطل الرواية – وهو إنسان تحول إلى حشرة – من الجوع لأنهم يقدمون له دائمًا طعامًا بشريًّا. والأمر متشابه من حيث الرمز مع رواية جيمس جويس السيد بلوم.

ثم تحدث المحاضر عن الأعمال المسرحية التي تذهب في الاتجاه ذاته. وأنهى محاضرته قائلاً:

"كان لليونان آلهتهم، وقَدَرَهم، وربما طقوس خاصة سمحت لهم، دون مشكلة، بالتنفيس، كأن يفقد أوديب بصره، ولم يكونوا في حاجة إلى كتَّاب هزليين.

"لكن العادات تغيَّرْت اليوم، ولم يبقَ للإنسان، مع غياب آلهة الإغريق، غير مرجعين، وهما: ولادته ونهايته – هذا إذا لم يتطابقا.

"في متحف مكسيكو الأنثروبولوجي، يوجد تمثال نصفي، يثير بغرابته، ويُعرَف باسم "رأس الحياة والموت"؛ وهو محيِّر، لأن إحدى العينين تبدو ضاحكة، في حين أن العين الأخرى تبكي – وهذا مستحيل فسيولوجيًّا. ولم يكن الأزتيك قد اكتشفوا السينما كي يخلِّفوا لنا صورًا أصدق عن عصرنا: عين الحياة التي تحدِّق في الموت، أو عين الموت التي تحدِّق في الحياة. وللأسف، لم نعد نملك اليوم تلك الصلة الدقيقة التي امتلكها، على ما يبدو، الرواقيون.

"مقابل هذا كلِّه، فإننا نمتلك وعيًا تراجيديًّا للمتاهة التاريخية، التي نحاول الخروج منها بضعف. فهل يجب أن نبكي أم أن نضحك؟

"ربما الاثنان معًا، في ساعات يقظتنا. وهذا مريح لنا إذا تحقَّق. ويساعدنا الكتَّاب التراجيكوميديون في هذا. ألم يجدوا وسيلة للتنفيس في عِرْف تقييمنا المعاصر؟ في حالة الإيجاب، فإن كلَّ هؤلاء الذين اعتبروهم لاعقلانيين سيجدونهم، مع هذا، معقولين."

شارل هيرش: "كيف يمكن لنا أن نعرف إن كنا نحلم أم لا؟"

أما شارل هيرش[3] فقد ألقى محاضرة بعنوان: "العقل المتعالي transcendantal: حلم منزوع الحلم dérê".

ذكر الأستاذ هيرش أن ديكارت في تأملاته (التأمل الأول) يقول: "على الرغم من كلِّ شيء فلا وجود ليقين." ينتج هذا، في نظر ديكارت، عن "جنِّي ملعون" يشكِّكنا في كلِّ شيء. ويسأل هيرش: "هل نحن في حالة حلم أم يقظة؟"

من طرفه، تحدث هوسِّرل عن الحلم المتماسك. أما العقل فهو يحيلنا إلى إمكانات تحقُّق وإثبات. ويتابع هيرش: "أقصد من عنوان محاضرتي أنه إذا أمكن للعقل أن يتجاوز نفسه مرات عديدة، فلا شكَّ في أنه يمكنه أن يفعل ذلك مرة أخرى. فمثلاً، لننظر إلى الانتقال من الفيزياء النيوتُنية إلى الفيزياء النسبية. إن هذا الانتقال يحوي في طياته بذور النسبية."

لقد احتفظت الفيزياء النسبية بمكتسبات الفيزياء النيوتُنية وأحالت هذه الأخيرة إلى حالة خاصة. وهكذا يحتوي كلُّ نظام في ذاته على بذور نظام أشمل. ونجد الحقيقة ذاتها في الفلسفة. فمثلاً، بدلاً من أن ينتقد ديكارت مذهب الشك، فها هو ذا يدرسه، ليحتويه من بعدُ في فكرة "الجنِّي الملعون". ويُعَدُّ ديكارت مؤسِّس العقلانية الحديثة المبنية على الفيزياء. إلا أن ديكارت لم يجسر أن يمضي حتى نهاية الطريق ليكتشف الحلم المتماسك. كيف يمكن لنا أن نعرف إن كنَّا نحلم أم لا؟

عندما نتنبه إلى أننا نحلم، نكون قد وعينا ذواتنا فيما وراء سذاجات حياتنا اليومية. ونجد دائمًا في البحث العلمي افتراضات غير واعية. فمثلاً، في الانتقال من فيزياء نيوتن إلى النسبية، قلة يعلمون أن معادلات لورنتس كانت قد صيغت لتخضع لميكانيكا نيوتن. إلا أن عكس هذا هو ما حَدَث.

افتراض آخر في الفيزياء هو اعتبار الزمن منتظمًا. وعلى أساس هذا الافتراض، قمنا بقياس ظواهر ميكانيكية مختلفة، ثم ابتدعنا لها منظومات (أو جُمَل) إسناد، تصلح الميكانيكا فيها. وهكذا قمنا بإخضاع الواقع للنظرية، وليس العكس.

لننظر إلى سقوط كرةٍ ما. فهذا الحادث لا يمكن أن يتكرَّر بتمامه مرة أخرى. لكن التجربة تكرَّر مرارًا على أنها ذاتها، لنستخلص منها في نهاية الأمر واقعة ما، كالسببية مثلاً. وما كلُّ هذا إلا بعملية أمْثَلَة. ولو تابعنا تحليلنا نصل إلى أن وجود العالم نفسه هو محض افتراض! فعلى غرار افتراضنا أن الزمن منتظم، يوجد العالم ويبقى نفسه كما كان من قبل.

تلكم بعض الأسئلة والمشكلات التي طرحها هوسِّرل في استنباط منهجه الفينومينولوجي (الظاهراتي). ويدلِّل هيرش على طريقة الفينومينولوجيا الإحالية بمثال: أنا ظمآن في صحراء شاسعة. فجأة يتراءى لي نبع ماء. ولنفرض أنني لا أعرف شيئًا عن السراب والهلوسة، حيث يختفي كلُّ شيء إذا ما اقتربت، فأنا حينئذٍ أمام حالتين: إما هذا النبع موجود وإما لا.

إذا درسنا الصور التي في ذهننا – ولو أنه لا يوجد شيء – نكون في عملية إحالة. فلكي تتحقق هذه الصور، لا بدَّ من تشغيل الحواس جميعًا (اللمس، الشم، إلخ). وهذه هي عملية التركيب أو التشكيل. فهل سأستيقظ؟

إن الانتقال إلى مفهوم ذاتية مشتركة أو متبادلة هو "الحلم المنزوع الحلم". فالتبادل – وإن كنا نحلم – يساهم في بناء عالم مشترك. فتمامًا كما أن تابعًا ثابتًا، مهما تغير المتحوِّل، يبقى هو هو، كذلك يكون العالم المشترك السابق مستقلاً عنهما. إن تجسيد الحلم هو أن لا نحلم. وهذا ما قدَّمه لنا آبليو Abelio في البنية المطلقة La Structure absolue، التي نجدها أيضًا في فلسفة هوسِّرل. وهذا هو بالذات المجال المتعالي.

أنطوان فيفر: "الطبيعة نصٌّ يجب فكُّ رموزه من خلال المقابلة والقياس"

ثم ألقى أنطوان فيفر[4] محاضرة رائعة بعنوان: "روح فلسفة الطبيعة". ويؤسفنا عدم تمكُّننا في مقام كهذا من إيراد كافة الأمثلة والمقارنات التي جاء المحاضر على ذكرها.

يقول فيفر: "منذ أرسطو خلط الناس بين فلسفة الطبيعة والفلسفة الطبيعية. فليست فلسفة الطبيعة ذلك التغنِّي بالطبيعة وبروعتها، بل إنها رؤية للعالم غير مجزأة، كلِّية وشاملة وديناميَّة."

ويجب دراسة هذه الكلِّية بالقياس وبالمقارنة. وهكذا نجد، منذ مطلع القرن السادس عشر، تمييزًا واضحًا بين الزمن البيولوجي والزمن الفيزيائي إلخ. ونرى بغرابة الالتقاء الجديد للعقلانية المعاصرة مع هذه الرؤيا.

ولنذكِّر هنا ببعض مقولات فلسفة الطبيعة:

1.    الطبيعة نصُّ يجب فكُّ رموزه من خلال المقابلة والقياس. وهذا ليس دائمًا بعملية بحث عن نظام ما. فالطبيعة وحدة عضوية.

2.    النزعة إلى الواقع الملموس المشترك والمتعدِّد الأشكال، وذلك في جميع فروع العلم، من طبٍّ وفيزياء وغيرهما.

3.    التطابق بين النفس والطبيعة، لكن ليس حسب المفهوم الأرسطي، بل بالمقابلة.

وهكذا نرى أنه يمكن لفلسفة الطبيعة أن تحثَّ خيال العلماء وتنشِّطه. وهكذا، يجب أن تكون الأشياء بمثابة مرآة للوعي، والوعي مرآة للأشياء.

نخلص من هذا إلى ضرورة فتح الباب أمام الرموز وقدرات الخيال. ويبقى للتجربة أن تتحقَّق منها.

بَسَراب نيكولسكو: "لا بدَّ من رفض المساعي الاختزالية الرامية إلى إيجاد منطق واحد نهائي"

 

واختتم أخيرًا بَسَراب نيكولسكو[5] مجموعة المحاضرات بمحاضرة بعنوان: "مستويات الواقع والعِبرمناهجية".

يقول نيكولسكو: "إن اكتشاف نطاق كوانتي ملموس، ومجرَّد في الوقت ذاته، قاد إلى تغيُّر في مفهوم الواقع. فالواقع هنا هو حقيقة الباحث الفيزيائي. إنه شيء ما – وهو الطبيعة ومُحرِّك البحث العلمي، المجهول. وهذا الواقع لم يعد حقيقة في حدِّ ذاتها، كما أنه لم يعد حقيقة وضعية محض: إنه حوار.

ونرى هكذا عالمنا على شكل مستويات عديدة، كعالم الكواكب وعالم الذرات إلخ. وتتطلب دراسة كلِّ مستوى جديد قطعًا أو بترًا لتلك القوانين السائدة على مستويات أخرى. فمثلاً، إن عالمنا المعتاد يتألَّف من أشياء وكائنات منفصلة، في حين أن العالم الكوانتي (أي عالم الصغائر) هو عبارة عن وحدة. ونتحول بهذا من مفهوم السببية المحلِّية في الفيزياء الكلاسيكية إلى مفهوم سببية شاملة في الفيزياء الكوانتية.

ويجب، هنا، ألا نخلط بين مستويات الواقع ومستويات التكامل. ففي كلِّ دراسة لا بدَّ من ترجمة مستوى بلغة المستوى الآخر. (فمثلاً كلُّ المستويات التي ندرسها تجري ترجمتُها وفقًا لعالمنا المألوف.)

وهكذا، قد تكون ظاهرة ما محيِّرة على مستوى ما، في حين أنها عادية تمامًا على مستوى آخر. فمثلاً تشكيل ازدواجية المظهرين الجسيمي والموجي للقُسَيْمات مشكلة عويصة على مستوانا، في حين أنهما وحدة تامة على مستوى آخر، هو المستوى الكوانتي. وقد لا يكون عالمنا الرباعي الأبعاد سوى مَقْطع من عالم ذي أبعاد أكثر. وهكذا يسمح لنا العلم الحديث، من خلال دراسته وتصوراته، تجاوُز الاعتقاد بوجود مستوى وحيد للواقع.

لذا، لا بدَّ من أن تعتمد طريقتنا على إزالة كلِّ مفرد وإحلال الجمع محلَّه. وهكذا نستبدل بكلمات من نحو: السببية، الزمن، الطاقة، إلخ، كلمات من نحو: السببيات، الأزمنة، الطاقات، إلخ. إذ لا يوجد منطق واحد يسود العالم.

ويتحقق، مع مفهوم تعدُّد مستويات الواقع، الخيالُ الإنساني. وهنا نحن أمام شكلين من الخيال: أولهما يعمل على مستوى واقع واحد، وآخر يعمل على مستويات متعددة، كما هي الحال في الشعر وغيره. ويتمثل الخيال أيضًا في الأفكار الرمزية، كالبوتستراب Bootstrap والبحث عن التوحيد، أي إيجاد قانون واحد لظواهر عالمنا.

أما التحوُّل، أي القبول بوجود مستويات عدة للواقع، فلا يمكن إلا أن يكون فرديًّا تمامًا، كما حدث مع بلانك مكتشف الكوانتا. لذا نجد، على المستوى الاجتماعي، انزياحًا بين هذه القيم والمفاهيم الجديدة وبين الواقع الاجتماعي. ويمكن للعلم أن ينفتح أكثر من خلال قبوله الواعي بمفهوم سلَّم أو مستويات الواقع.

وكما قال الأستاذ فيفر، لا بدَّ من دراسة هذه المستويات من خلال المقارنة. مثلاً: المجتمع والذرة، إلخ. فلا بدَّ من وجود قوانين تَشاكُل isomorphisme بين هذه المستويات. وتتكشف هذه القوانين من خلال بحث نقوم فيه بإيجاد وحدة مشتركة بين العلوم المختلفة وفروع المعرفة، من دون أن يفقد كلٌّ منها هويته الخاصة، فيما اصطُلِح على تسميته بالعِبرمناهجية Transdisciplinarité.

ويختم نيكولسكو قائلاً: "لا بدَّ، في نهاية الحديث، أن نرفض، في الوقت ذاته، المساعي الاختزالية الرامية إلى إيجاد منطق واحد نهائي لمستويات الواقع جميعًا، وأن نرفض المساعي التي ترفض كلَّ تقريب وحوار بين هذه المستويات. ونكون بهذا قد تجاوزنا فخَّي الوحدة والانفصال، من خلال حوار واحد ومتعدِّد في الوقت ذاته."

***

أعقب المحاضرات نقاشٌ بين المحاضرين أنفسهم، وبينهم وبين الحضور. وقد ردَّ المحاضرون على تساؤلاتٍ واستفسارات تشعَّبتْ وطالت.

*** *** ***


[1] إدغار موران Edgar MORIN مدير أبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، ويرأس الهيئة الاستشارية العلمية لمركز روايومون لعلوم الإنسان. ولموران أكثر من ثلاثين مؤلفًا في علم الاجتماع والإبستمولوجيا والسياسة والأنثروبولوجيا وغيرها من فروع المعرفة.

[2] ل.م. أركاد L.-M. ARCADE باحث مختص في الآداب المقارنة، وله عدد كبير من الأبحاث.

[3] شارل هيرش Charles HIRSCH عالم رياضيات، يهتم كثيرًا بالعلاقة بين العلوم والفلسفة.

[4] أنطوان فيفر Antoine FAIVRE مؤرخ للأديان وأستاذ في جامعة روون، مدير أبحاث حول التيارات الدينية والباطنية في أوروبا الحديثة في جامعة السوربون، وأستاذ في جامعة بركلي.

[5] بَسَراب نيكولسكو Basarab NICOLESCU فيزيائي نظري في المركز الوطني للبحث العلمي الفرنسي. له العديد من الكتب والمقالات العلمية حول النتائج الفلسفية والاجتماعية للفيزياء الحديثة. مدير المركز الدولي للأبحاث والدراسات العِبرمناهجية.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود