في القَدَر والحرِّية والمَصير

الحكمة هي الوعي مطبَّقًا

حوار مع ندره اليازجي

 

عرفت الأستاذ ندره اليازجي منذ أكثر من عقد من الزمن. انجذبت بدايةً إلى محاضراته، التي كانت، بالنسبة لي، حضورًا مع المعرفة والحقيقة. ثم انسقت إلى كتاباته، ووجدت فيها مُعينًا للمعرفة والحكمة والمحبة لا ينضب؛ تملأ قلب القارئ وعقله، وبأسلوب علمي منهجي، تدعو إلى الانسجام مع الذات والانفتاح على الآخر. فهو يرسم طريقًا لمن يؤمن بالعلم والمعرفة تساعده على الوصول إلى الطمأنينة، بعد طويل قلق وصراع مع الذات... والآخرين.

خالد قطاع

***

 

أنطلق من حواري معك من واقع المثقف العربي في ظلِّ الأزمات الاقتصادية والأحداث السياسية الراهنة التي يعيشها. كيف تنظر إلى واقع المثقف العربي، من جهة، وإلى ردَّة فعله في التعامل مع هذه الأحداث، من جهة أخرى؟

أعتقد أن الثقافة إنجاز حضاري يتجلَّى في الأبعاد الإنسانية كافة، الاقتصادية منها والسياسية والأدبية والفنية والعلمية. ومن هذا المنظور أعترف بأن العاملين في هذه النطاقات لا يتميزون إلا نادرًا بشخصية "مثقفة". وهذا، لأن الإنسان المثقف هو الإنسان الذي يقدِّم مواهبه وملكاته إلى المجتمع، ويسعى إلى رفع المستوى الحضاري لأمَّته وشعبه أولاً، وللعالم ثانيًا.

لذا، لا يكفي أن يكون الإنسان متعلمًا؛ وأعني أن يختص بعلم معيَّن أو معرفة بعينها. والحق أنني وجدت الجهل يهيمن على العديد من المتعلِّمين الذين تخرجوا من الجامعات! وعلى هذا الأساس، أقول: إن الإنسان المثقف هو الإنسان المتعلِّم أو الأديب أو السياسي أو الاقتصادي أو المفكر إلخ الذي يهدف إلى تطبيق معرفته في الحقلين الاجتماعي والإنساني.

ولا أبالغ إذ أقول: قد يكون المتعلِّم، غير المثقف، عاملاً رئيسيًّا في واقع الأزمات. فالطبيب الذي يسعى إلى الكسب على حساب القيمة الإنسانية، لا يُعَدُّ إنسانًا مثقفًا؛ والمهندس الذي يرى في عمله خدمة لمصلحته الخاصة، لا يُعَدُّ مثقفًا؛ والأستاذ الجامعي، أو مدرِّس الثانوي أو الابتدائي، الذي لا يعلِّم تلاميذه وطلابه فنَّ التفكير، لا يُعَدُّ مثقفًا؛ والأديب الذي يحتجز أدبه في نطاق انفعالاته، لا يُعَدُّ مثقفًا؛ إلخ. وهكذا، يمكنني أن أقول: إن المثقف الحقيقي هو السياسي الذي يعرف كيف "يخدم" مجتمعه بحكمة، وهو الاقتصادي الذي يسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليص استغلال الإنسان للإنسان، إلخ.

والحق أنني لا أستطيع أن أجرِّد الذين يدَّعون بأنهم مثقفون من دورهم ومن مسؤوليتهم في الأزمات العديدة التي تهيمن على المجتمع. فهم ليسوا إنسانيين يطبِّقون إنسانيتهم في الواقع الاجتماعي. إنهم لم يتعلموا أن يكونوا مثقفين بقدر ما سعوا إلى أن يكونوا متعلِّمين. من هذا المنظور، أجد نفسي مسوقًا إلى القول: يجب على المثقف الحقيقي ألا يكون عنصرًا مهدمًا ومدمرًا للقيمة الإنسانية، وذلك لكي لا يشارك في إحداث الأزمات.

إن العنف والتعصب وردود الفعل الانفعالية على الأحداث هي السمة الأكثر ظهورًا في سلوكيات أبناء مجتمعنا العربي. والسؤال هو: هل هذه السمات سمات أزلية تسيطر على مجتمعاتنا أم يمكن تعديلها؟ وما هي الأدوات الضرورية للقيام بذلك؟

أود أن أعالج موضوع العنف أولاً، وموضوع التعصب ثانيًا. ومن جانبي، أعتقد أن العنف ليس نزعة أو صفة أصيلة في الإنسان. وإذا كنا نعزو نزعة العنف إلى الحيوان فإنما لنقول: إن الإنسان قد تجاوز المملكة الحيوانية، وأصبح كائنًا عاقلاً يسعى إلى توطيد عقلانيته المتسامية إلى المزيد من الوعي والحكمة. ومع ذلك، نرى الإنسان ينزع إلى العنف الذي لا يقف عند حد.

وهكذا، يكون عنفه شديدًا بقدر ما يخرج عقله عن نطاق عقلانيته ووعيه. لذا كان العنف "انفعالاً" شديدًا يطيح بملَكة العقل والوعي. والحق أن العنف لا يتصل بمفهوم القوة؛ وهذا، لأن القوة تعني التوازن أو التماسك أو التكامل الداخلي في الكيان الإنساني. فالمحب قوي في محبته، والكريم قوي في كرمه، والمضحِّي قوي في تضحيته، والعارف قوي في معرفته، إلخ. أما العنف فإنه يشير إلى الضعف الذي يتحول إلى "انفعال" شديد في حال تعزيزه بوسيلة قد تكون فكرة أو معتقدًا أو مالاً أو مركزًا إلخ.

وفي هذا السياق، أعالج موضوع التعصب الذي يشير، بدوره، إلى الانفعال. ويُحتمَل أن تكون الأسباب الداعية إلى التعصب هي الأسباب ذاتها الداعية إلى العنف. وبالفعل، يكون التعصب ملازمًا للعنف، وبخاصة إن كان نتيجة لاعتقاد الإنسان بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة. فالكاره عنيف في كرهه، والمعتقِد بمطلقية اعتقاده عنيف في اعتقاده، والمؤمن بتفوق عرقه أو عنصره عنيف في إيمانه، والمتكبر عنيف في تسلُّطه وتعظيم تكبره، إلخ. وعلى هذا الأساس، يتصف العنف والتعصب بردود الفعل الانفعالية على كلِّ ما يمكن أن يقلِّل من شأن العوامل أو العناصر التي تؤدي إلى بروز العنف والتعصب.

ذكرت أن العنف ليس صفة متأصلة في كيان الإنسان؛ وبالتالي، أعتبر العنف والتعصب صفتين أُلحِقَتا بالمجتمع العربي. أقول هذا وأنا أدرك أن الإنسان العربي سعى دائمًا إلى تحقيق الحياة الهنيئة والمتواضعة والمُرضية في ظلِّ قواعد تُمِدُّه بالقدرة على تطبيق سلوكيات وتصرفات تتوافق مع قواعد أخلاقه. فإذا كان الأمر كذلك، فإن موضوع العنف والتعصب يقتضي البحث وتقديم الحلِّ أو الحلول الممكنة والمحتملة.

أعتقد أن العنف أو التعصب، الذي يزداد انتشارًا وشدة في الآونة الأخيرة، يُرَدُّ إلى سببين: أولهما داخلي، وثانيهما خارجي. ومن جانبي، أعتقد أن السبب الداخلي أكثر فداحة من السبب الخارجي؛ أو يكاد السببان يتعادلان في النطاق الذي يلقي بعواطف الناس إلى هوة الضياع والشعور أو الإحساس بالتفاهة وانعدام القيمة.

والحق أن السبب الداخلي يشير إلى عدم وجود النخبة المثقفة والحضارية التي توجِّه الأفراد والمواطنين إلى تحقيق إنسانيتهم في ظلِّ نظام يقوم على الاعتراف بأهمية الإنسان ودوره في بناء المجتمع. لقد سُلِبَ هذا الاعتراف من المواطن؛ وأصبح هذا المواطن يشعر بالإحباط الذي يشير إلى انعدام القيمة والمعنى. وبالفعل، نشأ الإنسان العربي في ظلِّ تربية انفعالية، تتأرجح وسط إشراطات أو قيود أو قواعد سلبت منه شخصيته ومكانته الإنسانية. وفي هذه الحالة، أصبح الإنسان العربي منفعلاً.

ويشير السبب أو العامل الخارجي إلى تجريد الإنسان العربي من مقومات وجوده. وفي هذا الوضع، يزداد قلق هذا الإنسان ويشتد انفعاله. ولما كان السبب الداخلي والسبب الخارجي يلتقيان في إحداث "انفعال" لدى الإنسان العربي، فلا بدَّ من أن يؤدي هذا الانفعال إلى توطيد العنف والتعصب.

أعتقد أن الحال المطلوبة لتخفيف حدة العنف والتعصب أو تقليصه تعتمد على أمور ثلاثة أساسية:

1.    "تعديل" البنية الاجتماعية تعديلاً يعيد لهذا الإنسان المسلوب أو المحبَط كرامته الإنسانية وقيمته الوجودية التي تؤكد على المعنى المضمون في هذا الوجود.

2.    التوجُّه العقلي إلى القضايا اللاهوتية لفهم ووعي ديناميَّة المعنى المضمون واستبعاد التفسير الحرفي.

3.    قدرة القائمين على إدارة المجتمعات العربية على توطيد علاقات متكافئة وواعية مع المجتمعات البشرية الأخرى، الأمر الذي يشير إلى تقليص السبب الخارجي الذي يحرِّض على العنف إلى مستواه الأدنى.

أليست هذه الحالة مثالية بحيث يعدُّها بعضهم غير قابلة للتطبيق؟

في هذا الوضع المشحون بالعنف وبالتعصب، يُطرَح السؤال التالي: هل يمكن أن تكون المثالية الحلَّ أو البديلَ المرجوَّ، المؤدي إلى استتباب الفعاليات الاجتماعية والإنسانية وتوطيد القيم الأخلاقية والاقتصادية وغيرها؟ وهل يمكن أن تكون خلاصًا من الضغوط الخارجية المتأزمة والقاسية؟ هل يمكن أن نلجأ إلى المثالية ونعتمدها مبدأً قابلاً للتطبيق في ظلِّ هذه الظروف السائدة؟

تعتمد الإجابة على ما نعنيه بكلمة "المثالية". فالمثالية المرفوضة كحلٍّ، أو المستبعَدة كأداة عمل أو كعنصر فعال في الواقع الاجتماعي، تتعرض لسوء الفهم. ويؤسفني أن أقول إن فهمنا الحرفي أو المؤطَّر للكلمة يحول دون فهمنا لعمق معناها؛ وهذا، لأن المثالية ليست قضية "غيبية" – بمعنى أن الغيبية هي "غياب" العقل عن نطاق المعرفة، أي عدم عقلانية المفاهيم والقيم في جوهرها. لذا، تُعَدُّ المثالية تعديلاً للواقع الاجتماعي والإنساني وتطويره إلى المستوى الذي يصبح فيه الواقع كما يجب أن يكون. وهكذا، تشير المثالية إلى تطوير الوجود إلى الوجوب.

من هذا المنظور، أرى أن هذه المثالية التي ترنو إلى تطوير الواقع غير مطبَّقة أصلاً في مجتمعاتنا. فعلى صعيد الواقع الاجتماعي الأليم، نجد أن جميع الناس، أو غالبيتهم، يطالبون القائمين على إدارة البلاد بتحسين الواقع الاقتصادي والاجتماعي والإنساني والمعيشي والعلمي إلخ. فهل ندعو الذين يطالبون بالتحسين والتعديل والتطوير "مثاليين" أم ندعوهم "واقعيين"؟ وفي هذا السياق، يمكنني أن أقول للذين يفهمون المثالية فهمًا خاطئًا ما يلي:

لو كان المواطن العربي ينشد "المثالية الواقعية"، أي رفع الواقع إلى مستوى المثال، لاستطاع أن يُحدِثَ تعديلاً أو تغييرًا جذريًّا و"مثاليًّا" في البنية الاجتماعية، ولتخلَّص من إرهاصات الانفعال الغيبي، ولانعتق من الإشراطات الكثيرة التي قيَّدتْه لسنوات طويلة. لذا، يجب علينا أن نفهم المثالية في إطارها الواقعي.

تحضُّر الإنسان هو حضوره في عصره. والعولمة، بنظر بعضهم، تعمل على نزع الحواجز بين البشر. لذلك ما نحتاجه هو أن نتجاوز خصوصياتنا التراثية والثقافية لكي لا تشكل عائقًا يحول دون تلاقي الشعوب بعضها مع بعض. أرجو أن تبدي رأيك في ذلك؟

في هذا السؤال، تبرز ثلاث قضايا رئيسية:

1.    الحضارة كسبيل لتلاقي الشعوب بعضها مع بعض.

2.    الحفاظ على خصوصية الشعوب.

3.    العولمة.

في إجابة سابقة، أكدتُ أهمية الثقافة في تكوين الحضارة، وعلى دور الحضارة في تعميق الوعي وتوسيعه لدى الشعب أو الشعوب. ولما كنت أؤمن بتنوع الحضارات والثقافات، فإنني أؤمن أيضًا بخصوصية الثقافات والحضارات.

وفي كتابي تنوع الثقافات ووحدة العقل الإنساني شدَّدتُ على التنوع في الوحدة، أو الكثرة في الوحدة، والوحدة من خلال الكثرة أو التنوع unity-in-diversity. فعلى الرغم من تبايُن وجهات النظر الحضارية والثقافية فإن العقل الإنساني، حتى ولو تنوَّع ضمن خصوصيته، يظل أساسًا للتفاهم واللقاء. وفي سبيل توضيح التنوع والخصوصية، من جهة، وتلاقي الشعوب، عبر حضاراتها وثقافاتها، في وحدة الوجود الإنساني والعقلي، من جهة ثانية، قدَّمت المثالين التاليين:

1.    الحديقة التي تضمُّ في نطاقها الورود المتنوعة والمتعددة أجمل من الحديقة التي تزهو بجمال نوع واحد من الورود. وهكذا يتألق الجمال في تنوعه.

2.    نهر الحضارة أو الثقافة الإنسانية: ففي هذا النهر الحضاري والثقافي الواحد تصب الروافد الحضارية والثقافية العديدة والمتنوعة. لذا، تتشكل مياه نهر الحضارة والثقافة الإنسانية من مجموع مياه الروافد الحضارية والثقافية المتنوعة... يوجد نهر واحد وروافد متعددة ومتنوعة.

وفي سبيل توضيح مصطلح العولمة، أود أن تكون إجابتي على النحو التالي: لا تشير كلمة "عولمة" globalization، من قريب أو بعيد، إلى مفهوم العالمية universalism المتنوعة في كياناتها والملتقية في إنسانيتها. لذا، كان مصطلح العولمة خروجًا عن القانون الطبيعي الذي يعترف بوجود التنوع، والقانون الإنساني الذي يُقرُّ بوجود التنوع، والقانون الكوني الذي أبدع التنوع. وهكذا، لا نستطيع أن نلمس في العولمة أيَّ أثر لتحقيق الإنسان العالمي أو الثقافة الإنسانية أو الحضارة الإنسانية عبر خصوصيتها وشمولها.

وهكذا، تتمثل الإنسانية في شجرة الحياة: جذع واحد، جذور عميقة في الأرض، وأغصان عديدة. وفي هذه الشجرة، تنضوي الأغصان المتمايزة، صغيرها وكبيرها، تحت مقولة الشجرة الواحدة.

من خلال كتاباتك في معالجة المشكلات والقضايا الإنسانية العميقة، تركِّز اهتمامك دائمًا على علم النفس التكاملي أو علم نفس الأعماق، وتربطه إلى الحكمة المشرقية القديمة؛ كذلك، عند ذكرك للنظريات العلمية الحديثة، تجد رابطًا معها في التراث العرفاني المشرقي – في الوقت الذي يسود فيه لدى شريحة من المثقفين رأي مفاده أن هذا التراث كان السبب في تخلف مجتمعاتنا العربية عن الركب الحضاري وغيابها عنه. ما هو رأيك في ذلك؟

حقيقة الأمر أن الإنسان، في فرديته واجتماعيته وعالميته وكونيته، يشكِّل المحور الرئيسي لكتاباتي أو للغاية التي أهدف إلى تحقيقها. والحق أنني لم أجد في دراستي لعلم النفس العام وعلم نفس السلوك Behaviorism الحقيقة التي أسعى إلى وجودها في الكيان الإنساني. ولما كنت قد اطلعت على الفلسفات الشرقية، أو ما دعوته الحكمة الشرقية، المضمونة في عرفان فلاسفة العرب أو في الفلسفة المشرقية بشكل عام، ووجدت أن هذه الفلسفات ترى الإنسان كيانًا موحدًا؛ ولما كانت هذه الفلسفات أو الحكمة تدرك أن الإنسان قد انقسم على ذاته وتجزأت وظائفُه النفسية وأدت إلى صراع داخلي، فقد دَعَتْ إلى عودة الإنسان إلى كيانه الموحَّد الذي يدعو إلى تأليف الوظائف النفسية وتكاملها في كيان تتفاعل فيه هذه الوظائف وتتكامل على نحو علم نفس تكاملي أو توحيدي. والحق أنني، في دراساتي الأخيرة، علمت أن علماء نفس غربيين قد بدؤوا يتحدثون عن علم نفس تكاملي Integral Psychology وتوحيدي.

وفي الآونة الأخيرة، ظهر عالِم نفس رائع، هو كِنْ وِلْبر Ken Wilber، بلغ المستوى الأعلى لعلم نفس الأعماق Depth Psychology أو علم النفس المتكامل في وحدته، فيما يُعرَف بـ"علم النفس العبرشخصي" Transpersonal Psychology. وفي هذا العلم، وجدت المقاربة الفكرية بين علم نفس الأعماق أو التكاملي، من ناحية، وبين وجهة النظر الشرقية التي لم تكن "تحليلية" analytical بقدر ما كانت "تأليفية" synthetic.

ويؤسفني أن أقول: إن الغالبية العظمى من المثقفين، إن شريحة واسعة من المثقفين، مازالوا متأثرين بالدراسات الأكاديمية السائدة، غير عابئين بالاطلاع على النتائج العلمية عامة في الفيزياء خاصة التي تمتُّ بصلة وثيقة إلى الحكمة الشرقية حكمة الشرقين الأوسط والأقصى. وإن تقاعسهم عن دراسة عقدهم بفهم أوسع تجعلهم يتهمون أنصار علم النفس التأليفي، أو علم نفس الأعماق، بالتخلف. ويؤسفني أن أقول أيضًا: إن تلك الشريحة تأخذ بالتحليل النفسي الفرويدي – ومع ذلك، لم تفهم فرويد كما ينبغي، لم تعرف أخطاءه، ولم تطَّلع على الفرويدية المحدثة التي عدَّلتْ وجهة نظر فرويد لتقترب – ولو قليلاً – من علم النفس التكاملي. وعلاوة على ذلك، يعتقد أتباع تلك الشريحة أن خروجهم عن الحكمة الشرقية مدعاة للفخر والاعتزاز!

كيف يتمثل الإنسانُ الحكمةَ ويعمل على تطبيقها عمليًّا؟

نحن جميعًا نتحدث عن الأخلاق أو الفضيلة المعيشة والحكمة المطبَّقة في الواقع الاجتماعي. والحق، أن الحكمة تتمثل في مبادئ، لتكون حياة فاعلة وقوة هي توازُن وتكامُل تسعى إلى التطبيق. فكما أن للرياضيات مبادئ، وللفيزياء قوانين، وللبيولوجيا صياغات، إلخ، كذلك للحكمة مبادئها التي تنبثُّ في هذه العلوم وتتخلَّلها. وكما نعلم، يعمد الأطباء والصيادلة إلى الأخذ برمز يشير إلى الحكمة، هو عصا هرمس التي تلتف حولها حيَّتان التفافًا حلزونيًّا Caduceus. وعلى هذا الأساس، دُعِيَ الأطباء قديمًا "حكماء". ولما كان هذا الرمز يشير إلى مراكز الطاقة السبعة chakras القائمة والكامنة على طول العمود الفقري، انطلاقًا من قاعدته السفلى ووصولاً إلى الغدة الصنوبرية، فقد أصبح هذا الرمز مثالاً للحكمة وتعبيرًا عنها. وقد تحدث الأقدمون عن الإنسان الحكيم الذي يحقق الطاقة الكامنة في تلك المراكز.

عصا هرمس ومراكز الطاقة

من هذا المنظور، أسمح لنفسي أن أقول: الحكيم هو كلُّ إنسان يبلغ بعمله أو علمه أو اختصاصه المستوى الرفيع والسامي، المعبِّر عن الغاية النبيلة التي يتوخاها في علمه أو معرفته.

لكن – ويا للأسف! – ارتبط مفهوم الحكمة باتجاه واحد أو بمقولة واحدة. لكن الحكمة، في الواقع، تنسحب على جميع العلوم وتطبَّق على المستويات كافة. ولهذا نسأل، ونحن نتحدث في موضوع، فنقول: ما الحكمة من هذا الشيء أو من هذا القول أو من هذا العمل أو من هذا التصرف؟ وجدير بالقول، إن الحكمة المتوخَّاة تشير إلى الوعي الذي يجعلنا ندرك الحكمة في حقيقة الأشياء وفي واقعها.

ومن هذا المنظور، يتحقق تطبيق الحكمة عمليًّا، تمامًا كما تكون المثالية واقعية، وكما تكون المعرفة سبيلاً إلى الوعي. هكذا، تتضمن الحكمة في الوعي.

هذا يعني أن المثقف العربي يحتاج إلى العودة إلى فهم تراثه وإلى استخدامه في تحديد مصير المجتمع العربي ومستقبله. كيف تنظر إلى مفهوم المصير؟

لا يمكنني أن أتحدث عن مفهوم "المصير"، إلا في علاقته بمفهوم "القَدَر". وفي هذا السياق، أسعى إلى البحث في مفهوم "القَدَر" في علاقته بمفهوم "الحرية". وتتضح العلاقة بين مفهومي "القَدَر" و"الحرية" على صعيدين:

1.    صعيد الفرد.

2.    صعيد المجتمع.

يشير "القَدَر" المطروح على صعيد الفرد إلى المعالم والمقومات التي لازمت الفرد عن طريق الوراثة أو التربية، ليتخلَّص منها، أو لينعتق، إن كانت تشكِّل قيودًا وإشراطات، أو يسمو بها بفعل "حرية" ملازمة لجوهر كيانه.

وفي هذا السياق، تصبح الحرية قوة فاعلة في الكيان الإنساني، ترفعه إلى مستوى أعلى للوعي، وتنقذه من إشراطاته وقيوده التربوية أو الوراثية. وفي وفاق مع هذا المنظور، يُعَدُّ "القَدَر" كل ما يترتب على الإنسان من "حتمية" ألقى بها على نفسه أو أغرق نفسه في إشراطاتها، وتجسَّدت في الأفعال التي نجمت عن ماضي حياته. وتُعَدُّ "الحرية" وعيًا ضمنيًّا وكامنًا يساعد الإنسان على الانعتاق من "قَدَره". لقد زرع الإنسان بذور أفعاله السابقة، وصارت تلك الأفعال "قَدَرًا" عليه، يدفعه إلى تحقيق خلاص منه بفعل "الحرية" إبان سيرورته الذاتية المتسامية إلى الوعي.

وهكذا أستطيع أن أعلن أن "القَدَر"، بمفهومه السلبي، خروج عن نطاق الوعي، يحتِّم، في خروجه هذا، نتائج مأساوية تُلزِم الإنسان، بمفهومها الإيجابي، على القيام بفعل واع يتمثل بـ"الحرية".

إذًا، فـ"القَدَر"، بمفهومه الإيجابي، إلزام على الخلاص، ودافع يحث الإنسان على الفعل المبدع الذي يتألق في حرية العقل ووعي الحقيقة والواقع. وإذا كان "القَدَر" "تحتيمًا" وإلزامًا على الإنسان، ودعوة للخلاص من إشراطات وقيود زرعها في ماضي حياته، فإنه يحمل مفهوم الحرية، وينشد الانعتاق، ويأبى أن يكون خضوعًا واستسلامًا. فليس "القَدَر" "حتمية" تُلقى على الإنسان من وجود قائم خارج وجوده، أو من كائن متعالٍ عنه ومفارق له، بل هو "حتمية" ألقاها الإنسان على نفسه، وأمر صادر من كيانه إلى ذاته لكي يتحرر من خلال وعي يسعى إلى التحقيق.

يشير "القَدَر" المطروح على المستوى الاجتماعي إلى الإشراطات العديدة التي تقيد المجتمع أو الجماعة، والأعمال السابقة التي أصبحت "دَيْنًا" عليه و"قضاء" له. وفي هذا السياق، لا أقصد بكلمة "قضاء" عقوبة يفرضها على المجتمع محركٌ خارجي أو قوة خارقة ومفارقة لوجوده. القضاء، في هذا المنظور، هو ما يترتب على المجتمع من "واجب" حيال الأخطاء التي ارتكبها لينفكَّ من إسار الحدود التي طوَّق ذاته بها، والمسؤوليات التي تهرَّب من القيام بها. ويتركز هذا "الواجب" في تنشيط "الطاقة الفاعلة" بإرادة حرة. وهذا، لأن المجتمعات، كالأفراد، تزرع وتحصد. وإن ما زرعه مجتمع، في الماضي البعيد أو القريب، "لاوعيًا" متمثلاً بالأخطاء، التي يمكننا إحصاؤها، لا بدَّ أن يتحول إلى "قَدَر" يحتِّم عليه، بفعل الواجب القائم في تنشيط الطاقة الفاعلة، الفعلَ الحرَّ الذي يساعده على الخلاص من مآسي الماضي والانطلاق إلى رحاب المستقبل، ويعمد إلى "تكوين" عقله من جديد بحيث ينفتح على الحضارة الإنسانية والثقافة العالمية، وينشِّط فعاليته الخامدة.

وعلى هذا الأساس، يتمثل "القَدَر" في قوة دافعة إلى الأمام، لا تسمح للمجتمع أن يعيش في الماضي الذي "حتَّم" عليه المعاناة، وألقى على أكتافه مسؤولية الخلاص من إشراطات ذلك الماضي. ويمكنني أن أشبِّه "القَدَر" بمهماز يحثُّ المجتمع على الانطلاق إلى الأمام. وعلى غير ذلك، يظل "القَدَر" قيدًا أو عبودية للمجتمع الذي يقبع في زوايا الماضي الحافل بالأخطاء المتراكمة في اللاوعي.

تشير كلمة "مصير" إلى استمرارية الفعل الإنساني الدينامي والفعال. وعلى غير ذلك، لا تشير هذه الكلمة إلى "نتيجة" أو "نهاية" تتصل بالتشاؤم أو باليأس أو بالتفاؤل الحذِر. فمثل هذه النتيجة أو النهاية الحافلة بالاستسلام والخضوع ترتبط بالمفهوم السلبي للقَدَرية والحتمية التي لا تحمل الحرية في أحشائها. والحق أن "المصير" لا يعني بلوغ حدَّ اللارجوع، أو الفناء، أو التلاشي في نهاية مأساوية، أو شبه مأساوية، أو استسلامية، أو ناجحة نجاحًا مؤقتًا، ما لم يكن متصلاً بالمفهوم السلبي للقَدَر والحتمية.

وعلى هذا الأساس، لا يمكنني أن أقول: إن "مصيري" هو الموت، إن كنت أعلم أن الحياة هي القوة الفاعلة، المتحوِّلة إلى ما لا نهاية. وهكذا، لا يشير الموت إلى "مصير" يشير، بدوره، إلى نهاية، بقدر ما يشير إلى "تحول". لذا، يتمثل "المصير" في تلك "النقطة" التي يتم عبرها التحول.

إذا كان "المصير" يتمثل في تلك النقطة التي يحصد فيها الأفراد، على المستوى الاجتماعي، نتاج ما زرعوه في الماضي، فإن المستقبل يرتبط بما زُرِعَ في الماضي. وهكذا، "يحتِّم" المجتمع أو الفرد على نفسه "قَدَرًا" سوف "يصير" إلى تحوُّل في المستقبل.

عندما يدرك المجتمع مفهوم "المصير"، المعبَّر عنه في صورته الإيجابية الحق، يسعى جاهدًا للعمل على مستويين:

1.    مستوى الماضي: وهو المستوى الذي يتخلص من البذور السيئة التي زرعها.

2.    مستوى الحاضر: وهو المستوى الذي "يطور" فيه المجتمع بذور ماضيه الحسنة، ويزرع بذورًا جديدة، نافعة وصالحة. وهكذا، يزرع المجتمع "مصيره" بذاته.

لما كان التحول هو النقطة الأساسية في إحداث "قَدَر جديد" هو "مصير جديد"، فإن المجتمع يشكِّل وجودًا جديدًا قادرًا على تجديد ذاته من خلال تحوُّل أو تعديل يُصلِح الماضي، في حياة جديدة تقوم على العقلانية المستنيرة.

هل يكفي امتلاك المعرفة وحدها لصنع الحضارة، أم تحتاج معها إلى قوة؟ وكيف تميز بين القوة والعنف في هذا السياق؟

عندما نتحدث عن المعرفة، نقصد المعرفة بحقائق الأمور والأشياء. وهكذا، تتنوع المعرفة إلى معارف. وكلما ازدادت المعرفة، تقدَّم العقل الإنساني في مضمار الحضارة. فعلى الرغم من أن الحضارات القديمة نشأت في المناطق التي توافر فيها الماء والتربة الصالحة للزراعة والطقس المعتدل، فهذه الحضارة لم تكن حَرِيَّة بالتقدم والازدهار لولا العنصر الإنساني الذي ركَّز عقله على معرفة حقائق الأشياء. ولهذا السبب، عندما نشأت الحضارات الأخرى في بيئات مختلفة، كان العنصر الإنساني يعوِّض، بمعرفته الفائقة، عن العوامل الطبيعية.

وهكذا أعتقد أن الإنسان العارف إنسان حضاري، يسعى إلى الاستزادة من المعرفة، ليبلغ مستوى أرفع من الأبعاد التي تتطلبها الحضارة كافة. وجدير بي، في هذا السياق، أن أميز بين "الحضارة" و"المدنية":

الحضارة تقدُّم عقلي ونفسي ومعرفي وأخلاقي؛ والمدنية تقدم تقني. وفي هذا العصر التقني يُحتمَل أن أكون أكثر تمدُّنًا من ابن سينا أو الفارابي، سقراط أو فيثاغوراس؛ إنما لا يمكنني أن أعد نفسي أكثر تحضُّرًا منهم، لمجرد أن أولئك العارفين لم يتنقلوا بواسطة الطائرة أو يتخاطبوا بواسطة الإنترنت! أما إذا توافقت الحضارة مع المدنية دلَّ هذا التوافق على تقدم العقل الإنساني في مضمار التقنية الهادفة إلى تحقيق حضارة. وعندئذٍ، تخضع التقنية لمفاهيم الحضارة وقيمها. أما إذا تقدمت التقنية على الحضارة، فإن نتيجة هذا التقدم تشير إلى العنف؛ وبالتالي، تخضع الحضارة للتقنية العدوانية التي تؤدي إلى تقهقر القيم الإنسانية السامية.

أعتقد أن صنع الحضارة يحتاج إلى المعرفة والقوة سواء بسواء. والحق أن مفهومي عن القوة يتجلَّى في التوازن والتكامل والإرادة الحرة الفاعلة، أو التصميم على الازدهار والتقدم.

ومن هذا المنظور، تختلف القوة عن العنف. وهذا، لأن القوة مفهوم نفسي وعقلي وعلمي. وهكذا، يدرس العلماء مفهوم القوة في الطبيعة في بحوثهم، ولا يدرسون مفهوم العنف. وبالإضافة، يتحدث الفلاسفة عن العلم الموجود بالقوة، ويدركون قوة الأشياء في صميمها، بحيث إنها طاقة كامنة فاعلة.

ذكرت في إجابة سابقة كيف يكون العنف انفعالاً يطيح حكمة العقل أو محاكمته السليمة أو وعيه، وكيف تكون القوة تعبيرًا عن التوازن والتكامل في صميم الكائن الحي. وهكذا، يكون الإنسان العاقل والحكيم والواعي قويًّا بمبادئه الإنسانية، ويكون الإنسان العنيف ضعيفًا تعوزه الأداة أو الوسيلة الإنسانية للتنفيس عن انفعاله.

*** *** ***

حاوَرَه: خالد قطاع

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود