حضور الماضي

"ذاكرة" للكون؟

 

سمير كوسا

 

سبق لي أن تكلمت في أكثر من مناسبة على فرضية عالِم البيولوجيا الإنكليزي روپرت شِلْدريك التي سمَّاها "فرضية العلَّة المشكِّلة" Hypothesis of Formative Causation أو "فرضية الطنين الشكلي" Hypothesis of Morphic Resonance والتي عرضها في كتابه الأول علم حياة جديد: فرضية الطنين الشكلي[1] (صدر في العام 1981). طرح شلدريك عِبْر فرضيته تفسيرًا جديدًا لظهور الأشكال والأنماط في عالمنا يتعارض كليًّا مع ما درجتْ عليه تقاليدُ العلوم اليوم.

وقد ابتعد شلدريك عن المهاترات والاتهامات الشخصية التي تسود عادة في المناسبات المشابهة، ونجح في صياغة فرضيته في رصانة واتزان، مقترحًا بعض التجارب في سبيل التحقق منها. وقد أثارت فرضيتُه الأوساطَ العلمية المتخصِّصة، فخصَّصتْ كبرياتُ الدوريات العلمية صفحاتٍ لمناقشتها: منها ما كتب أن شلدريك يمثل "أفضل مرشح للحرق" (!)، في حين أن دوريات أخرى خصصت جوائز لِمَن يتمكن من تصور أفضل إطار تجريبي يمكن من خلاله التحقق من الفرضية.

من المعروف أن نقطة انطلاق فرضية شلدريك هي قبول وجود حقول بيولوجية (أو مورفوجينية morphogenetic fields) لا يمكن رؤيتها إلا من خلال آثارها، على غرار بقية الحقول في الفيزياء (كالحقل المغنطيسي). فإذا كان الحقل المغنطيسي يعبِّر عن وجوده من خلال جذب إبرة قريبة نحو المغنطيس، فما هو الأثر (أو المفعول) الذي تعبِّر من خلاله الحقول البيولوجية عن وجودها؟ إنه "شكل" الأشياء الحية!

سأستخدم فيما يلي مصطلح "حقول الشكل" بدلاً من الحقول البيولوجية أو المورفوجينية – إذ ليست الأحياء وحدها ذات "شكل"، علاوة على أن فرضية شلدريك تقول بأن كل "شكل" يوجد من ورائه "حقل شكل".

لحقول الشكل في فرضية شلدريك خواص غريبة. فمفعولها (أو أثرها) لا يتأثر بالبُعد. فنحن إذا أبعدنا الإبرة عن المغنطيس لبقيتْ ساكنةً لا يؤثر فيها الحقل. أما حقل الشكل، فلا تشكِّل المسافةُ حاجزًا يحول دون تأثيره.

خاصية غريبة أخرى من خاصيات هذه الحقول هي أنها تزداد شدة، إن صح التعبير، كلما تكررت الأشكالُ الموافقة لها. بعبارة أخرى، كلما تكرر ظهورُ شكل ما، سواء كان سلوكًا (كقيادة السيارة مثلاً) أم جسمًا (كجزيء مادي ناتج عن تفاعل كيميائي معيَّن)، كان احتمالُ ظهوره لاحقًا أكبر وأسهل (أو أسرع). يوجد، إذن، عامل زمني يقبل القياس إذا أمكن التحكم في بقية العوامل. ويُعد هذا العامل الزمني حجز الزاوية كلما تمَّ تصورُ تجربة للتحقق من الفرضية. وهكذا صُمِّمَتْ ونُفِّذَتْ عدةُ تجارب في ميادين متنوعة، كانت نتائج بعضها غير حاسمة، في حين أن تجارب أخرى جاءت بأدلة جديدة مؤيدة للفرضية.[2]

ففي حقل الكيمياء، مثلاً، تقول فرضية شلدريك بأن تركيب مادة جديدة يكون أصعب في البداية، ثم يصير أسهل (أسرع) بعد تكرار التركيب مرات عديدة. إذن يتم قياس الزمن اللازم في البداية لتحضير المركب، ثم يقاس الزمن مجددًا بعد تكرار تحضير المركب مرارًا، وتتم مقارنة الزمنين. تمَّ كذلك إنجاز تجارب في حقل السلوك البشري، كتعلم لعبة جديدة، حيث تقول فرضية شلدريك بأن تعلم اللعبة يسهل بازدياد عدد لاعبيها. وهناك عوامل أخرى تلعب دورها، يحاول المجرِّبون التحكم فيها، كما أشرت.

يتبيَّن، إذن، أن الأبعاد العلمية والحضارية لفرضية شلدريك خطيرة وثورية: إذ هي لا تكتفي بتغيير مفاهيمنا في التعلم والإدراك، ولا تكتفي برفض فكرة أن الذاكرة تُختزَن في المخ وبرفض أن الخواص الوراثية محصورة في قالب الشيفرة الوراثية وحده، بل تذهب كذلك إلى أبعد من ذلك – إلى جذور الكون، كما يحاول المؤلِّف بيان ذلك في كتابه حضور الماضي: عادات الطبيعة[3].

كل شيء، في نظر شلدريك، يمتلك "حقل شكل" خاصًّا به، بدءًا من القُسَيمات البسيطة، وصولاً إلى الكون في كلِّيته. للفرضية، إذن، رؤية هرمية متسلسلة، تنطلق من حقول القُسَيمات، التي تندرج في حقول الذرات، التي تندرج، بدورها، في حقول الجزيئات، إلخ، حتى نصل أخيرًا إلى حقل الكون. وهذه الحقول تنتظم ذاتيًّا وتتصف بخاصية التجاوُز أو الإبداع، أي، بعبارة أخرى، بإمكانية ظهور أشكال جديدة توافقها حقولٌ جديدة. ويترك شلدريك الباب مفتوحًا لتفسير مصدر هذا "الإبداع".

فإذا كان للكون "حقلُه"، وإذا كان للقُسَيمات "حقلُها"، فلِمَ لا يكون سلوكها المعروف في الفيزياء، بدوره، تابعًا لـ"حقل شكل" أمسى شبه ثابت نظرًا لتكرار السلوك ذاته مرارًا؟ إذا صح ذلك فهو يعني أن القوانين في كوننا هي، بدورها، ثوابت مؤقتة: إنها "عادات الطبيعة" أو ذاكرة الكون. بعبارة أخرى، فإن فكرة التطور التي وجدها البيولوجيون في عالم الحياة، والجيولوجيون في تاريخ أرضنا، والأنثروپولوجيون في عادات الشعوب وتقاليدها، والفلكيون في تاريخ كوننا، تعمَّمتْ في فرضية شلدريك حتى شملتْ قوانينَ الكون ذاته.

والواقع أن عددًا من الفيزيائيين يعملون على صياغة نماذج رياضية تكون قوانين الكون فيها متحولات غير ثابتة. لكن فرضية شلدريك تعلِّل وتفسِّر لماذا تبدو لنا هذه القوانين ثابتة.

لا يمكن لنا في عرض مقتضب كهذا أن نخصص شرحًا دقيقًا لهذه الفرضية الغريبة، التي قد تغدو في المستقبل فرضيةً أخرى مركونةً في متحف الأفكار، أو... تبدِّل جذريًّا نظرتنا إلى الأشياء. والحق أن عددًا من العلماء عارضوها مسبقًا لأنها تنسجم مع بعض المعتقدات الروحية، على الرغم من أن شلدريك ذاته بيَّن أنه يمكن لنا في النهاية أن نرى أية فرضية من منظور المدارس الفلسفية جميعًا، دونما أيِّ تعارُض فيما بينها.

روپرت شِلْدريك

أختتم حديثي قائلاً إنه سواء اعتبرنا أن فرضية شلدريك تستحق الاعتبار والدراسة أو أنها رديئة وغير معقولة، فإن كتاب شلدريك حضور الماضي يبقى رائعًا في عرضه للأفكار العلمية وتاريخها وللأسُس الفلسفية المستترة التي تبطِّنها، وذلك في بيان دقيق وبسيط وشائق. لذا فهو مرجع أمين في هذا الخصوص.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


 

horizontal rule

[1] Rupert Sheldrake, A New Science of Life: The Hypothesis of Morphic Resonance, Tarcher, 1982.

[2] للاطلاع على بعض هذه التجارب، راجع: روپرت شلدريك، سبع تجارب قد تحوِّل وجه العالم: دليلك العلمي إلى العلم الثوري، بترجمة سمية فلو عبود، دار الانتشار العربي، 2001؛ أشرنا إلى صدور هذا الكتاب في معابر، الإصدار السادس، باب "كتب وقراءات".

[3] Rupert Sheldrake, The Presence of the Past: The Habits of Nature, Vintage Books/Random House, New York, 1989, pp. 400; en français : La mémoire de l’univers (Éditions du Rocher).

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود