قُطُوفٌ مِنْ شَجَرَةِ الحَيَاة 2

 

إسـكـنـدر لـوقـا

 

من الأمور البديهية في الحياة أن يقال إن رحيل هذا المفكر أو ذاك يعني "انتهاء حقبة من حياة وطن"، في حال سيكون لهذا الرحيل أثرُه الذي لا يمَّحى. ذلك لأن رحيل مفكر من هذا الطراز لا يعدو كونه انتقالاً من مكان إلى آخر، قد تكون من تداعياته أنه صار أكثر التصاقًا بموطنه، إن لم يكن أبعد من ذلك لسبب أو لآخر.

وفي تاريخ البشرية ما يؤكد هذه الرؤية عبر انتقال أفكار الكبار من المفكرين من بلد إلى آخر ومن زمن إلى آخر، ما يدلُّ على أن امتداد تأثيرهم يبقى المؤشر على أنهم لم يرحلوا سوى بالجسد. وكثيرًا ما يتبدى ذلك في نتاج أدباء أو علماء آخرين جاءوا من بعدهم، ولو بعد وقت بعيد.

إن ظاهرة كهذه تبدو جلية في كلِّ بلد وفي كلِّ زمان، منذ أن كان الإبداع برهانًا على إقامة الجسور بين الإنسان والإنسان، بغضِّ النظر عن هويته، عن جنسه، عن معتقده، كما هي الموسيقى: تبقى لغة عالمية في كلِّ حين.

في سياق هذه الرؤية، يمكن لأحدنا أن يعتبر رحيل الكبار من مفكري العالم رحيلاً شكليًّا، إن صحَّ القول، لأن مَن يقارب أفكارهم بعمق، وعن تفهُّم، لن يكون في وسعه التنكُّر لحقيقة اعتبار هذا الرحيل بمثابة "قلب صفحة" في كتابٍ صفحاته لا تُحصى وبلا نهاية.

الدليل إلى هذه القناعة ما تحتويه مكتباتُنا ومكتباتُ العالم من آثار عظماء الفكر والإبداع على مدى التاريخ البشري: رحلوا بالجسد ومازالوا أحياء في الذاكرة بما تركوه لنا من عصارة الفكر سنبقى ننهل منه العلم والمعرفة.

* * *

مفهوم "الانتهازية" صار، للأسف، عامًّا وشاملاً في عصرنا الحالي، بشكل أو بآخر، وازداد رسوخًا في المجتمعات المتخلفة، وخصوصًا تلك التي يؤمن أفرادُها بأن الفرصة المتاحة في حينها قد لا تتكرر ثانية وبأن عليهم، بالتالي، اقتناص أية فرصة متاحة، حتى في حال تعارُضها مع القيم والمثل العليا.

ومن تداعيات انتشار هذا المرض الاجتماعي بين العديد من الناس، على اختلاف انتماءاتهم ومستوياتهم، أنه نما كما الأعشاب الضارة عند جذور النباتات المفيدة، على نحو أناس صار همُّهم الوحيد أن يكونوا في الموقع الذي يقدِّرونه لأنفسهم، غير آبهين بِمَن هم الأولى والأحق منهم بهذا الموقع أو ذاك، وأيضًا بعيدًا عن مبدأ المنافسة التي تقترن بصفة الشرف. ومن هنا يلاحَظ أنه كثيرًا ما تضيع معالم المروءة بين الناس، وبذلك تفقد الحضارةُ ألَقَها، كما هو الحال في زماننا هذا: زمن ربح العالم وخسارة النفس، زمن صيرورة الانتهازية مرضًا عند غالبية الناس، وكلٌّ منهم يتحين فرصته لاقتناصها، ولو على حساب الآخر.

* * *

من نافلة القول إن الصحافة مرآة تعكس على صفحاتها أحوال الناس: بمقدار ما تكون صافيةً تحقِّق غايتها من هذه الناحية – وإلا غدت الصحيفة أداةً بيد مالكها، يديرها حسب أهوائه، وذلك في سياق المعادلة الدارجة "الغاية تبرِّر الوسيلة"، حتى إذا لم تكن الغاية موضوعية بحدِّ ذاتها. وفي اعتقادي أن الأديب الروسي لم يخطئ حين قال إن "الصحافة صوت الأمة"، لدقة هذا القول وصحته.

ومن هنا فإن الصحيفة ليست مجرد وسيلة تُدار بيد صاحبها إرضاءً لنوازع الذات وكيفما اتفق، بل هي عين تراقب، وعقل منفتح، وضمير يحكم بالعدل: إذ الصحافة تسعى، من حيث المبدأ، لتحديد أين هو الخطأ، فتدعو إلى تجنُّبه، وأين هو الصواب، فتدعو إلى احتضانه، خدمةً للحق والحقيقة.

* * *

رصيد الوطن – أي وطن في هذا العالم – هو الإنسان. وأغلى ما في الإنسان شبابُه. إنه بهذا يماثل غصن شجرة تعطي ثمرًا في فصول السنة كلِّها، دائم القدرة على التجدد والتجديد. ولأن الشباب هو الأغلى بين شرائح الوطن، يزداد الأمل باعتماده ذخيرةً للغد. ومن هنا كانت الرعاية التي يوليها المربون لهذه الفئة من شرائح الوطن، وكانت مساعيهم كي يتجنب أفرادها خطر الانزلاق في دروب الخطأ والخطيئة على حدٍّ سواء. إن فعل "الرعاية" هنا فعل لا يقل أهمية عن تحصين الحدود تجاه الأعداء، بكلِّ ما وسع المجتمع من القدرة على العطاء، بل أحيانًا إلى حدِّ التضحية بما يقدر أبناؤه على التضحية به لجهة الصالح العام.

هذا ومن المعروف لدى قراء تاريخ المجتمعات أن الدول الشائخة هي المرشَّحة قبل سواها للانقراض أو الهزيمة إذا ما أُخِذَتْ على حين غرة ولم تستطع الدفاع عن نفسها، بينما الدول الشابة تكون الأقدر على التماس وسائل هزم المعتدين والأكثر حظًّا، بالتالي، في السير على درب الصمود والبقاء. ولهذه الاعتبارات، كثيرًا ما يحذِّر علماء الاجتماع من خطر المجازفة بتعريض طاقات الشباب للهدر بلا طائل.

* * *

ليس اعتباطًا أن يقال بأن العقل هو رديف الحكمة، بل إنه حاميها. ذلك لأنه، في كلِّ الأحوال، يبقى أحد مصادر التوجيه لجهة الصحيح – هذا إذا كان حاملُه واعيًا لدور العقل ومكانته في الحياة عمومًا. العقل هنا أشبه بالمقود الذي يتحكم في سير الآلة، ومن دونه تُفقَد السيطرة ويكون الانحدار – ولا أحد يدري حينئذٍ إلى أين يكون الانحدار! فبالعقل فقط يستطيع أحدنا أن يعي أين يقف وإلى أين يتجه أو يجب أن يتجه.

وإذا كنا قد مُنِحنا هذا الجهاز، الأهم، نسبيًّا، بين باقي الأجهزة التي تساعدنا على الاستمرار في الحياة، فذلك لأن العقل، يبقى، بالمعنى الذي أشرت إليه، الأكثر أهمية بين بقية الأجهزة، بما فيها الغير إرادية، حيث التحكم بها يكون من خارج إرادة الإنسان.

العقل، بهذا المعنى أيضًا، هو حاضن الحكمة ومصدرها إذا نحن أحسنَّا استخدامها في الوقت المناسب. ولكننا، مع هذا، كثيرًا ما نخطئ السبيل إلى ذلك، ومع معرفتنا بأن خلاص الإنسان يكمن في قدرته على استخدام هذه النعمة نعمةً، ولكن لا يُعرَف كيف أو متى.

* * *

لا أعتقد أن أحدًا منا يمكن له أن يقنع نفسه – لا أن يقنع سواه فقط – بأن الحياة يمكن أن تعاش من دون هدف، أي بمعنى أن يُخلَق الإنسان ليعيش وكفى. إن إنسانًا من هذا الطراز، إذا وُجِدَ على سطح الأرض، لا همَّ له سوى الأكل والشرب والنوم. فهو بذلك يعيش بلا أمل في أن مستقبلاً ما ينتظره – ذلك لأن الغاية من الحياة لا بدَّ أن ترتبط بهدف يسعى الإنسان إلى تحقيقه، بغضِّ النظر عن نوع الهدف أو حجمه – وإن يكن تقتضي الوقفة هنا أن يشار، في الوقت نفسه، إلى أهمية أن يكون الهدف ساميًا، وأن يكون لجهة الانتماء إلى النزعة الغيرية، وليس لجهة الانتماء إلى النزعة الأنانية، بشكل أو بآخر.

إن في تاريخ البشرية، منذ بدايته، كما سيبقى كذلك حتى النهاية، العديد من أبنائها، رجالاً ونساء، ارتبطت بعضٌ من صفحاته بما قاموا به من أعمال أكَّدت، وتؤكِّد، حضورهم الدائم بيننا إلى اليوم، كما ستبقى تؤكِّده في كلِّ يومٍ آت – ذلك لأنهم عاشوا من أجل تحقيق هدف كان جديرًا بأن يبقى ماثلاً دومًا في الذاكرة البشرية، على الرغم من رحيلهم عن دنيانا إلى الأبد.

* * *

من المسلَّمات في الحياة المعاصرة، تحديدًا، أن يجري طرح مقولة "الحق" باعتبارها معيارًا للأخلاق العامة. إن فعلاً كهذا يؤكِّد أن الإنسان لن يسقط يومًا في شباك الغواية التي قد تصوِّر له أن الحق هو فقط بيد من يملك القدرة على تخطِّي معانيه السامية بأسلوب "الغاية تبرِّر الوسيلة" – حتى إذا كانت الوسيلة قذرة!

إن الإنسان، بسقوطه في شباك الغواية، يكون قد ابتعد عن ذاته قبل أن يبتعد عن الآخرين، ولم يعد قادرًا على استعادتها، حتى إذا هو شاء – ذلك لأن أحدنا، بتخطِّيه القضايا المبدئية، يكون كالمهزوم أمام عدوٍّ لم يكن مستعدًا لمواجهته؛ ومن الصعوبة بمكان أن يعود حينئذٍ كي يتصدى له كيفما اتفق. هنا يندرج الحق، كمفهوم إنساني شامل، ضمن منظومة القضايا المبدئية في حياتنا المعاصرة، كلَّما عملنا على اعتباره من المسلَّمات ازددنا اقترابًا من وضعية التوازن في داخلنا.

ترى هل تتطلب وقفة كهذه جرأةً غير محسوبة أو غير مسبوقة؟ لا أعتقد – هذا إذا كان أحدنا يعي ذاته تمامًا ولا يتنكَّر لها.

* * *

العمل، بمختلف أنواعه وأحجامه، يمتُّ بصلة ما إلى مفهوم "الشرف". ومن هنا كان القول إن "العمل شرف"؛ ومن هنا أيضًا، في وسعنا القول بأن مَن يعمل يكون الأقرب من سواه إلى قضية مبدئية في الحياة لا تقبل التأويل، بل تتعلق بقيمته كإنسان فاعل له دوره الذي يترتب عليه واجبُ أدائه – وإلا غدا كما الطفيليات تعيش على حساب غيرها من النباتات النافعة!

وحين ينصرف أحدنا عن هذه المسألة المبدئية في الحياة، يقترب، جهلاً أو تجاهُلاً، من صورة الظلِّ الذي تعكسه شجرة مثمرة – وبذلك يكون بقاءُ الظل في موقعه رهن حركة الشمس ودورانها: سرعان ما يزول بحركتها أو باختبائها وراء غيمة عابرة.

مع هذا، كثيرًا ما نجد أناسًا من هذا الصنف لهم نظرتهم القاصرة في حقِّ مَن يعمل ولا يكترثون بمن لا يعملون؛ بل أحيانًا يؤذيهم أن يعمل الغير، فيسعون إلى عرقلتهم على الدرب كي لا يصلوا إلى غاياتهم المرجوَّة، وللأسف، يغمرهم شعور المنتصر!

* * *

من يعتقد أنه سيبقى شابًّا، قويًّا، فاتنًا، هو إنسان يتجاهل أنه يقف ضد منطق التطور في الحياة، سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون. ومع هذا، لا يعترف بأنه يتجاهل هذه الحقيقة، وذلك بتأثير المنطق الذي يؤمن به وحده.

إن مثل هذه القناعة، حين تستحوذ على رأس الإنسان، سيحتاج إلى تذكيره بأن كلَّ شيء في هذه الدنيا يبدأ صغيرًا ثم يكبر – إلا الحزن على سبيل المثال: الحزن يبدأ كبيرًا ثم يصغر؛ كذلك تأثير المصائب والكوارث وما شابه ذلك. هذا بينما العكس هو ما ترويه لنا الطبيعة، بدءًا بقسمات الوجوه والقامات والأصوات، وانتهاءً بما تحتضنه من معالم حية تفقد نضارتها وأريجها مع مرور الزمن.

ثمة أمثلة عديدة في حياتنا يمكن لنا استعارتها من حياة المشاهير في التاريخ أيضًا على سبيل المثال. أحيانًا تكون قد انطبعت في ذاكراتنا البصرية صورُ هؤلاء المشاهير وهم في أوج الشباب؛ وحين يبتعدون عنَّا لسنوات، ثم نعود ونرى صورهم أمامنا عبر إحدى وسائل الإعلام، يبدون لأعيننا كأنهم الغرباء عنَّا، ونتعرَّف إليهم ولم نكن نعرفهم من قبل!

أتُرانا نستطيع تخطِّي هذه المعادلة في الحياة، مهما حاولنا تجاهُلها عمدًا وعن سابق تصوُّر؟ إنه المصير الذي لا بدَّ من ملاقاته يومًا ما عندما يتقدم بنا العمر؛ ومن العبث القول بأن أحدًا من الناس قادر على تجنُّب هذا المصير، وليس على تخطِّيه فقط!

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود