تَـرَاتـيـلُ العِـشْـقِ إلى تَـارا

(أسطورة)

 

علاء الدين كاتبة[1]

 

1

سِـفْـرُ الفـجـيـعـة

: تراءى ربُّ الأرباب نُهى في تلك الكوَّة، يركنُ إلى عمائه ذاويًا، وعلى فؤاده سَنةٌ من غيب. عينُه في البعيد بَدَتْ كنبع ساخن، تتَّقدُ ببعض حريق، ومن جوفه يعلو بخارٌ، يصَّعَّد إلى حلكة السماء، سادرًا وجهَ البحر بالسديم. يذَّكرُ العاشقُ الشقيُّ تارا، وكيفَ سباها من رجلها الوحشي. تارا العرَّافةُ الغانية، تلك التي تجدِّد النسائمُ ذبولاتِها كلما مرَّت. وهجُها النحاسيُّ الصلدُ يوقدُ في الناظرين إليها حُرقةَ البُعاد، وإن لاحَ بالرقص منها شهابٌ، شقَّ في الثنايا عينًا تصَّهدُ ببريقٍ، لا محالة سيخطف مَن رآه إلى العتمة.

زعموا أنها إحدى البنات اللاتي أنجبتهنَّ سرائرُ الأرض. وقيل إنَّها من طَلِّ الصحراء! أفاقت تعبرُ النداءَ بقدميها الحافيتين، فجرًا، صوب ريم البحر، تُسائلُ العابرين عن عاشق مجنون. تارا، الجنيَّةُ العاشقة، تارا الشريدة، سليلةُ النار ونَصْلِ الكهوف الغاربة، باتتْ حتَّى شروق الشمس تنتظر. وفي ليلةٍ داخَ بعبَقِها الريحُ، وانثال في حناياه الجَّرْس، أتى غريبُ اللسان أورو، يشقُّ طريقَه من خلف جبل. قالوا: هناك في الدغل مع الذئاب رأيناه يلهو، يقتتل وبني آوى، وجهَه العتيقَ تلفحُه السنونُ، ويغفو حالِمًا في الهجير كالغَرير. حَمَلَه الأريجُ إلى السفح حين جاب صدرَه توقُ الإشارة. صاحَ القلبُ: تارا... تارا... بلحنه مَضَتْ. وعن رأس العناق مع السماء هوى، بعينه لهفةُ الذئاب، ممتشقًا بخطْمه الهواءَ، يقدح بوطئه الترابُ الحَجَر.

ضمَّها في اللهاث، وعلى مرأى من السَّاهدين يسترقون من هذيها الغناء، على صدره حَنَتْ. ثمَّ بزنده الحديد شدَّ نهديها، وبالرُّعاش احترق. شقَّ طريقَ الفضَّة المتماوج في البدر على صفحة الماء، يطرقُ الجسدَ الطريَّ بالوتد. بين ذراعيه الوحشيتين، تارا كموجٍ صاخبٍ عَلَتْ، يهدر في قلبها الصخرُ، ومن صُلبه، القرينُ غرغرَ بالغواية الزَّبَد. ثم تارا، في الرجوع إلى نحرِه منها، الزفيرُ شَهَق. تارا دَنَتْ، وعلى صبِّ الأنين من عليائه ربُّ الأرباب عصفًا سَقَط.

هنا، عند هذا الجرف الصخري، لَمَحَها الربُّ بين ذراعَي الغريب تغتسلُ عاريةً في الضوء، وبالحليب النافر من أتون العشق للقرين، تارا في الأصداء سَرَتْ. أصابه، حين فخذُها لاح متلألئًا بالسهام مثلَ غريمه، العواءُ، فتأبَّد بومضةِ عشقٍ أطلقَها عليه طيشٌ. بيده قوسٌ يحمله البريدُ منذ الأبد، وبلمح الجنون الذريع في عينه الربُّ جَنَح، على موكبٍ أشرَعَ الريحَ أجنحةً، وفي عينها قد لَمَح.

تارا سُرقت: في أذن الوحشيِّ عَبَثَ الإله، فأنطق من جوفه الخرس، وعلى صوت الفجيعة صاحت النوارسُ، وذئابُ الليل للقرين عَوَتْ: نُهى اللعين سرق تارا! من حضن القرين تارا خُطفت. ذُهِلَ في أعشاشه الحمامُ نائحًا: لها كالغريم قد توحَّش. حوريات البحر أجهشت: تارا خُطفت! بين ذراعَي القرين كانت. ومن صوت النَّسر الذي جرح الريحَ بوطفِه، بلغَ العجائزَ الخبر. تضاحكن: كيف سرُّ الخلقِ الإلهَ سحر! وعند نهر المنيَّة مِلْنَ إلى همس الغروب: حَكَمَ الربُّ على نفسه بالغياب: في عشقِ تارا ربُّ الأرباب غاب.

أمَّا نُهى، فحمل تارا بين ذراعيه، ومحا خلفَه الأثر – بين ذراعيه حمل الإلهُ تارا. مسرنمةً جاءت، يشدُّها حبلٌ من الذهول، ينتحُ بشوكِه الروحَ عن البدن، يضمُّها إليه في الريح عنوةً، ومن هول العواصف الجائحة في الهزيم، بين ذراعَي الإله، هَوَتْ. على فرسه الفضيِّ حَمَلَها، فَعَلَتْ. يسابق بعَدْوِه الضوءَ، وإلى درب العماء المبثوث بين الأنواء شدَّ اللجام إليه. الطريقُ تناهى على وقع الخَبَب. تارا بخطف الجَنان رأتْ أقدامَها المرسومةَ على خطاه، فانتحت.

ربَّاتُ الخبايا في مساكنهنَّ أرسلنَ النَّدهةَ، فأنذرت: آهٍ، نُهى... من لوع الحريق إذا ناءَ في كَبَد. وقف الربُّ إجلالاً لعين الكحل التي بدت، وعلى قدميه خرَّ الإلهُ صريعًا، صريعًا على قدميه. ظهر اللوحُ الذي بيده نَحَتْ: ما جوى العشقُ قلبًا إلا أمرَه للمعشوق قلَب. اتركْ تارا... من عينها سال الدمعُ. سالا الرَّءومُ، بالسؤال عنها أغدقتْ. تارا الذبيحةُ، بجرحها أضحيتَ الذبيحَ الذي عنه الأقدارُ أخبرتْ. ها هو الوحشيُّ أورو، من صوته الخواءَ السماءُ أرعدتْ. عُدْ إلى الملك الذي رفعتَه بيديك، واترك تارا للقرين! هكذا النجومُ أمطرتْ. لكنه ألقى عنه التاجَ والصولجانَ، وفي عزمه مضى. علا سوطَ البريق، وعن الأكوان ذَهَب.

 

2

سِـفْـرُ النَّـذيـر

: مسكينٌ أنتَ، يا أورو! كيف على صخركَ رانَ جِلْبُ الشَّقاء! أورو... يا مَن تحجُّ إلى عرينه النساء، وعلى صرحه، إلى جرحِهنَّ يُدنين الدعاء. تارا الملتاعةُ، يا أورو... في التنهد منكَ سرقَ الربُّ النداء. تارا ومن عين الكحل المثمَّد بالوجاء أيقنت. أورو قلبُ تارا، وتارا في رقصهِ الرَّنيمِ سَنَتْ. سلبَها عند التداني نُهى. تارا ألَقُ الربِّ الدفين – فلا ولَهٌ إلا بذكر تارا، أشهدَ الربُّ على نفسه أورو القرين. في سرِّه تراءى هو، بلحن تارا ترنَّحَ عشقًا. على رنينه جئتَ أنتَ الوتر. آهٍ، نُهى... ملعونٌ في السماوات والدُّنا، بيدك رفعتَ القرينَ عنِ القرين. ملعونٌ أنتَ، يا النُّهى.

أورو المتيَّمُ جاشَ في النأي وجأر. من وطء اللهيب على جأشه، مِجَنَّ الحريق عَبَر. شكا ذبَّه إلى سالا. يا ربَّةَ القمر، كيف جارَ عليَّ الربُّ وجَهَر؟! كيف الرجوعُ إلى تارا؟! منكِ سالا، بيديكِ المُلاعبتين، سال الوتر. فاشْهدي، يا سليلةَ الليل، نجمَه، ما نوى الخبر: وإنني على ذؤابة هذا الجبل، فليأتِ إليَّ أصارعُه، وفي أيِّ أرضٍ شاءَ أو قَفْر. ملعونٌ أنتَ، يا نُهى، بحقِّ النار التي بنورِ العشق فاضت، ومائي الذي قَدَّ صُلبي وزأر.

سالا حفيظةُ السرِّ، في عرشها الظَّليل، من ضرب الطِّعان بقلبها تعوَّذتْ، حين قسمٌ بالماء الطهور شقَّ فيها الجرحَ، فأرجفت. وإنها، بوصل القلب، الشقيقَ أبلغت: أي نُهى الحبيب، تروَّ، فما العشق إلا وهمُ هذا الطريق. قال: ألولاه كنَّا، أو فاض العماءُ سرَّ البريق؟! ردَّ النحرُ بأوصالها: أيا بعلي نُهى، كفَّ عن نَكءِ جرحي العميق. وإنني بحقِّ ما بي من كمدٍ على قلب تارا الرهين، وعلى ذاكَ الفقيد دونه، أورو، بتَّ في قلبه أنتَ الغريم. تارا قلبُ أورو، وأورو، على صدرها، بات صدْعَ الأنين. ها تارا في عمائك ألمعتْ توقَ العين إلى الدمع الضنين. فاحفظ يديك من شرِّ ما تصبو بكَ النارُ إلى فتقِ لظاها اللعين.

 

3

سِـفْـرُ الرُّجـوع

أدخل الربُّ تارا كوَّتَه الدفينة – تلك التي رامت الفراغ... هنا حيث ضاجعَ سالا بين جنائن تهادى عرينُ ظلِّها في ربوع السَّديم. كان الفراغُ سيلاً حين تدانى إلى عرش السماء، بينما رسمُ الخلائق كلِّها يفيضُ نهرًا في عماء. فاضت في التلاقي من ثغره شواردُ نجمٍ، ومن سيلها سالا جاء بحر، أدرك حين رأى شمسًا أنه طيفُ نارٍ ونور. أمَّا قلبُ سالا فقد أنظرَ العتمةَ، ومال في كبدِ السماء إلى وجه قمر.

مكث الربُّ بـتارا عند نبع لهبٍ باردٍ تشوبُه زرقةُ ماء. ثمَّ بيده الحانية للوصل جَعَلَها تصحو على فراشه البياض. لكنها للفؤاد العتيق عنه غاضت، لا تهطلُ في الدمع اللَّهوج إلا بندبه: أورو... أورو... القرين راح! فأرهجَ الربُّ: تارا، لكِ هذي السماء. مادت على صدره وأجهشت: أورو الحبيبُ غاب! صاحَ: لكِ هذا الهواء. تلَت: وله ما أملكتَني، يا النُّهى، فداء.

سألَها الربُّ الدخولَ، فأبت. مرارًا صاغَ لها القلبَ، فنَحَتْ، وأغلقت عنه فخذيها، تجيشُ بالنهنهات جهرًا: أورو في قلب تارا، وتارا بالرحيق منه تخضَّبت، بملءِ العشق: يا النُّهى، أورو بالروح جاد! أرهف الربُّ السمعَ لأنفاسها، فرأى كيف أورو في البذرة العمياء كزهرةٍ باسمةٍ لها بالوداد طَلَع. فأنَّى لكَ أن تسري بها، وعلى صبِّ الجَنان النازلِ من صُلبه، إلى غورِها العليق نَدهُ الفؤاد شَرَع.

أغمدَ الربُّ في روحه النارَ وكبد. غارَ في المدى لحنًا تاق لرطبِ الدُّجى، وعلى الأخدود الحارق في الرغاء وَقَع. يصَّعدُ منه الدمعُ، ينزو بالبريق موجَعًا بتِلْوِ الأوتارِ من لحنها، عنها تصدُّه بالأنين، وقد صَدَع، ثمَّ بشفةٍ ناءَ يلثمُ بها النهدَ، ومن شهد الحنين النازف صَرَع:

يا الذي نـاءَ فـيَّ                   منـكَ دامَ الرَّحـيق

كلَّـما لاحَ عـذبٌ          رقَّ رمشُ الغريـق

ما فاض عشقٌ إلا          سـلَّ جرحي الطَّريق

أولجَ في ماء النار أصابعَه، يغمِّسها بصلصال مسٍّ حميم. له تارا باللَّمى في الحلم أومأت، فسال على سفحها المليس طلاًّ، يرعشُ النداء تلِهًا، يشكو لها نارَ الكَمَد. رقَّ قلبُ تارا للإله الذبيح، فندت، وألقت برأسه في المهد تهدهده. عاد طفلاً، على صدرها غاب دهرًا، ثمَّ اللسانَ ذَرَح: ما جوى العشقُ قلبًا إلا صاحبَه قد جَرَح.

 

4

سِـفْـرُ البلبلة

هبَّ أورو هادرًا، وصدرُه يموجُ كبحر، يدبُّ غائرًا في الوهاد، هائجًا كثور. لم يدعْ صرحًا أو بوابةً يعبرها إلهٌ من آلهة السماء إلى الأرض إلا وهزَّ أركانَها بزندِه الصلد كحجر صوَّان، غير آبهٍ لعصيِّ العابدين على ظهره، وإن اجتمعوا عليه كرجلٍ واحد. عرفوا أنه كان آدميًّا وقد توحَّش، يدرك بحدَّة النظرات إليهم ما تجيشُ به النفوسُ قبل أن تنطق الشفاه، حتى لو أسدل اللسانُ سِتْرَه على ما يمور بها من خوف.

لم تعد الأرضُ بعد غضبته كما كانت، ولم يدرك كنهَ ما يجوس في صدره إلا العاكفون في كهوفهم وبعضُ نساء. لكن الأمهاتُ الراجفاتُ من الفتنة أنذرنَ بناتَهن العذارى، فبتنَ يخشينه في أحلامهن الصغيرة دونَ نُهى، بعدما ألمَّ به الوجدُ وما ألمَّ – نُهى الذي لا تسلم من مداعباته عذراءُ، خرجت تسبحُ فجرًا في نهر، أو ناظرةً لطيفها بدرًا في عين بئر. لم تعد زفراتُه تسري وقتَ الهجير كنسمةِ هواءٍ عابرة، ولا النساء تهمسن بلطائفه حين يدببن الأديمَ ورجالُهن في جماعٍ حميم. كذا المنام قد خلا من عَذْبِ سيلِه خُلسةً عن أعين الغافلين.

ها هي الشمسُ باتت – بعد عشقِه تارا – شقاءً حارقًا، ينضح بالكدح فوق الجباه، وقد تسلَّطت بنارها على أديم الأرض سبع سنينٍ عجاف، فجفَّ الزرعُ، وهلك الضرعُ، وعلا الفجر بالعويل والبكاء. أمَّا الكواكب والنجوم فقد غاضت ليلاً في وَمَدِ الماء. وجه سالا بات شاحبًا، وشاح بنوره عن السماء. دخلت البلبلةُ القلوب، وماجَ الناسُ، تأكلهم الضغينة. فقد كانوا على ما ترك نُهى بينهم والأرباب، لكنهم لم يجدوا ما يؤمِّنهم من جوعٍ في المعابد، أو ما يأتمنون إليه في القرى من جوار. أمَّا هذا اللعين، أورو، فلم يخرج بين ظهرانيهم داعيًا لإلهٍ جديد، بل موقِعًا في قلوبهم الزلزلةَ من نقمة الأرباب. فلا طاقةَ لهم، إذا عادوا، بما قلبُه احتمل.

الكهَّان والجباة الأوفياء زعموا أن آلهتهم غادروا بمراكبهم، لاعنين الأرض، إلى السماء، ثم لاذوا إلى بيوتهم، لا يأمنون على أنفسهم من قحطٍ أو عطش، يخرجون في الليل وآناء النهار، يذبُّون الخطو بين الزرع خشيةَ غارةٍ من غارات أورو الخاطفة على خدور حرائرهم وعند مشارب الماء. لكن الضعفاء والمشردين في الأرض لم يروا في هذا الخطب إلا أن أورو قد ورث ديدنَ الربِّ نُهى من بعده مع النساء!

تناثرت حوله الخرافات، لكنه لم يُحِل نظرَه، ملتفتًا إلى لغوٍ عن برج السماء، يشعل الحرائقَ في حقول الآلهة وعلى رؤوس الجبال، ولم يترك إلا بوابةً واحدة تركن على ذروة الشاهق المدثَّر بالثلج، موطنِ الأرباب فوق الغيوم. هناكَ أوقدَ نارَه، يمضي ليله في الأزيز، ناظرًا وجهَ الربِّ، تؤنسُه بعضُ ذئاب.

 

5

سِـفْـرُ التَّـوبَـة

صحا الربُّ على جرحه، وقد رأى ما جلبَ إليه النداءُ وما فعل. تارا، بعد لأيٍ في الغيب، بات قلبُها لا يعودُ الجسد. تلكَ المعشوقةُ بالطين، على نُسَغ الفؤادِ طلَّت، بريح أجاءَها البلل. تألَّمَ الإلهُ، فجاد في النَّجْدِ، وفي حمَّى المساس والطلل، لهجَ القلبُ: تارا عندَ المغيب لاحت، كسرب ضوءٍ يرعشُ في ثنايا العتمة، على الأنام عَرَف. ثم بعين اللهيب الذاهب بالوصل إلى العماء مَحَت، وإلى قلب سالا الفراغ، بالندهةِ لا بدَّ سَرَتْ. لها وجهُ الغيابِ خضَّبَه النُّهى، ودأب، مغمضَ السَّيل، لاعجَ الفؤاد بها الطريقَ عَرَج. ولأمرٍ جاء يُذريه ذرًّا، ربَّةُ الأسرار منه سالا إلى المغيضِ دَنَتْ، ثم في الرسم غابت، وعينُها للوصل ما قد حَنَتْ. هكذا أخبرَ السرُّ مَن ولَج التيهَ في الجسد، وفي بلِّ الطين خريرَه قد ذَرَح.

أجهش الربُّ العويلَ، ونَحَب، وعند جرف السؤال صوتُه سال في الثَّعَب، ثمَّ اللسانَ بحدِّ العليل منهُ جَرَح، وعلى نصلِ الذَّكاء الصاعد خار وقَرَح:

يا التي أنتَ قالت لكَ نجدُ البريق،

ما سرُّ غيم إلا شوق ذاكَ العتيق،

كلَّما نارَ سرٌّ عنكِ زادَ الحريق.

توجَّعَ بشَدِّ النحيبِ نُهى، أزاد على صدعه أورو العواء، رأى قلبَه الفقيدَ يضطرمُ بأحشائه موجًا لاهبًا، يجوحُ في فضائه كنيزكٍ مضطرب. تألَّم الربُّ ساهمًا، ينوءُ ظهرُه بما حمل. سار بين المجرات تاركًا عرشَه الغاربَ وهائمًا، له الشمسُ في الفؤاد مادت وشاحَ قمر. أطلَّ على وجه البسيطة، وكانت له الطَّلل. لاح بعين أورو عجوزًا هرمًا، أشعلت حمرةُ المغيب قلبَه الذبيح. أتى على عصاه متكئًا، راجفًا، لا يولي سؤالَ الطَّيرِ عن جرحه أمرًا أو مُجيب. على وَقْعِ ذرِّه بين التلال البعيدة صاحت، وأتى لها الخبر: مَن مسَّه الطينُ عاد! هكذا، سار الردُّ في الصدى حين سَقَب، ثقيلاً، وئيدًا، متهدلاً على جنبيه، وعلى يديه قامَ الربُّ ونهض. بخطى قدمين مرتجفتين وطئ التراب، شائحًا السيرَ نحو عصاه المغروزة في الطين، وإليه دأب، قابضًا عصاه، يشتِّمه، ذائقًا الطَّعمَ، بالغًا منه الأنينَ، وإذ به الروحَ، ماكثًا فيه، قد ثَقَب.

 

6

سِـفْـرُ الصُّـعـود

: ما عاد بكَ إلى الأديم، يا نُهى؟ سالا في قلبه أرعشت. قال: بأمري ذاهبٌ إلى أورو فملاقيه. نادت: حذارِ... مما إليه صبوت! قالَ: هو الموت! فإن قتلني، أراحني من فجيعة البعاد، وإن قتلتُه، فزتُ بنبضه لباسًا، وبه إلى تارا أعود.

كانَ القمرُ محاقًا عند صعوده أولَ الجبل. لم يأتِ من بوابة الملك، ولو أراد فعل. متقدًا بما إليه جاء، وعليه نوى، ينهدُ، بساعديه الطريقَ حَفَر، يطلبُ من نجمة الرعاة الدليلَ ونَظَر. علا السفحَ، نتوءاتِ الصخر، صدرُه يشقِّقه الصقيعُ، وعلى ظهره ينوء الفقدُ داميًا كحجر.

سالا للضوء أوشمتْ وشاحَ القلب برسم تارا، تُبدِّلُ الأعرافَ على وجهِ قمر. أورو تنادى على غريمِه بشوقٍ، من ريحِه يشتمُّ توجُّسَ الصور، بينما الربُّ يسنُّ عصاه بنصلٍ، أوقد النيرانَ في الحجر. يقدحُ الظلَّ بقرني ثورٍ، على جنبيه أشباح رمق. أورو على حدور الصخر تواثبَ كفهدٍ، ينأَمُ ناظرًا، كالذبيح ذأب. دخلَ البدرَ حين تارا منه لاحت، وعلى صهده الذئابُ بالوعيد عَوَتْ.

هذا الوحشُ الناظرُ إليه كان هو، حين طوى الطريقَ إلى تارا، يدركُ الروحَ التي للريح حَوَتْ. عذرًا، يدي، ما القلبُ جنى إلاَّ عشقَ هذا الليل للسحر: ألولاه، تارا، نُهى الطينَ قد جَبَل، أو كان أوروأورو القرين – إليكِ سال عن ذاكَ الجبل! تألَّمَ الربُّ حين رأى وعدَ الفقيد على ذؤابة هذا الزَّلل. أجل، دخلَ الدبيبَ الذي ينبضُ في الطين منذُ الأزل. أهذا الشقيُّ، رَبَّاه، أنا... ومَن وجَد! في عين تارا الذهابَ إليه قد وَعَد. قال: أنتَ مَن دخل الوهمَ، وعَرَف... عنه أسالَ الطريقَ، وفي الهوى اللَّجِبِ السؤالَ ذَرَح.

 

7

سِـفْـرُ المَـنـيَّـة

بلغَ ذروةَ الشاهق داميًا، يخنُّ الأنفاسَ، لاهثًا في النَّصَب، بينما أورو ينأَمُ بصوته هادرًا، عند بوابة الغيب ينتظر. نادى الربُّ على أورو، فنظر. بثوب العشق واجفًا رآه، وعلى محيَّاه يلوح الخبر. أنُهى الذبيحُ إليَّ أتى بقرنيه وعصاه التي قد سَحَر؟! قال: لو أردتُ لجئتُ برقًا، ما أنقضُّ عليكَ، إلا وَذَر. لكنني إلى قلبكَ جئتُ أسعى، وإلى تارا أمثلُ فيه – أمرٌ بات هو منه لا مَفَر.

: فامكث على هيئتكَ حين عشقتَ، يا نُهى، إليكَ سيأتي الخطبُ منِّي، وقد نَذَر. صاح: لم يبقَ إلا التناهدُ في البطحاء بيننا، به عن قلب تارا تنجلي الصور. تحلَّقَ بالزئير مجلجلاً: ملعونٌ أنتَ، يا نُهى، ثمَّ نَهَر: وإنني قاتلك، ولو فزتَ عن مدارك الغيب أو السَّفَر. فردَّ الإله المتيَّمُ: آتِني بهذا الشَّهد، إذن... لأجلها جرحتُ الماءَ، يا أورو، وفي اللسانِ منِّي لَجَب. وإنني لا محالة قاتلك، حتَّى نهرُه يفيضُ في الثَّعب.

حينها تبدَّى وجهُ الإله عن فارس قديم، تألَّقَ على صدره مخلبُ نسرٍ جُرِح. عصاه بزنده سَرَتْ رمحًا، في الريح سَعَر، يحدِّق في عين الذئب، التي شذرُها بالضوء لَمَع. فأطلق له الوحشُ النابَ السخيَّ، كجلمودِ صخرٍ نحوه ذَرَع.

ترائيا في قلب سالا. إليهما بالنَّعيبِ تضرَّعت، وفي سوْرةِ القلبِ تارا، كغمامٍ يهمي، إلى غمدها أرجعت أنينَها الذي يصارعُ الريحَ، تمتشق العواءَ، وتسبق الصريعَ إذا صَدَع. أخفقتْ أفئدةُ النسور في عروشها بجلجلة الفراغ، وأنذرت من عمائها النجومَ إذا ربَّ الأوثانِ أنجدت. تسارع في الغابات دقُّ طبلٍ يرعى نُذُرَ القرين. إلى تارا الزفافُ، صاحَ لها الحرثُ، جاءَ والصَّبَب. ها ابن التراب ثبَّ في الهواء عاليًا، نحو الغريم كالشهاب جَنَح. عضَّ زنده، وبالرمح ألقى، يغرز في لحمه النابَ، وبالرِّضاب منه قد جرح.

تلقَّاه نُهى بقرنيه، فأدمى له الصدر! وفي العرق برح، لكنه راغ من بطشه، ملتويًا، الحلقَ منه قد لَمَح، وانكبَّ عليه كالريح عاتيًا، يمزِّق النحرَ، يجذُّه بالأنياب جذًّا، وبالنواجذِ قَطَع. جثا الإلهُ على الأرض خائرًا، فانشق البدرُ، وعن وجه تارا صَدَع، يصدُّ الطبلَ عن الدبيب، والريحُ بالخوارِ ذَرَع. نُهى، بالزفرات إليها، أنطقَ الروحَ، وشَرَع. منِّي سالَ الرحيقُ، وفي التراب لكِ الوجدَ زَرَع.

ندبنَه العجائزُ في مضاجعهن، حين صفيرُ النَّسرِ سَطَع. سالا من بئرها أدمعت ندفًا أزال الروحَ عن الجسد، ففاضَ الذبيحُ بنوره عشقًا، به الوحشُ الرابضُ إلى السماء سَرَب. أفضى جرحَه إلى تارا، وعلى رَهَج الفؤاد ذهب. سالا في البعيد نادت: أي نُهى... في جِنانِ البدر، سالَ منكَ الجرحُ، وإلى تارا قد صَرَع.

تمَّت في ليلة 23 كانون أول 2005، غزة

*** *** ***


[1] كاتب فلسطيني غزاوي، إيميله: kalaedeen@yahoo.com.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود