عـيـنـاكِ... المَـعْـبَـد

 

أمَـيْـمَـة الخـش

 

اعتاد أن يدخل غرفة عميد الكلِّية كلما حلا له ذلك، أو كلما كان العميد خارجها، مشغولاً بإلقاء المحاضرات أو بالحديث مع الطلبة. إنه قريبه، ولقد فوَّضه حقَّ استخدام الغرفة في حال غيابه أو حضوره، إلا أنه كان يفضل دخولها في غيابه أكثر الأحيان، حيث يتصرف داخلها بحريته الكاملة.

يجلس وراء المكتب الكبير. يدخن الغليون. يدير جهاز التسجيل الصغير، ويستمع إلى أغانٍ يفضِّلها – على طريقته! فبعد أن يغلق باب الغرفة ويتخذ مكانه خلف المكتب، يضغط على زر التشغيل ويدير مفتاح الصوت إلى أعلى درجة ممكنة.

الاستماع إلى الأغاني، بتلك الطريقة، يستهويه، ويجعله يحس بالمرح وبالسعادة، فيردِّد كلماتِها، وهو في نشوة الطرب، من غير ما وعي أو تركيز. ينتظر، وهو في غمرة سعادته، بينما عيناه لا تفارقان باب الغرفة، دخولَ بعض الطلبة، الذين باتوا يعرفون مكان وجوده الدائم. يأتون إليه فرادى، بحسب تعليمات مسبقة منه. فهو لا يريد أن يطَّلع المجموعُ على ما يدور بينه وبين كلِّ واحد منهم على حدة!

في تلك اللحظة، كان يدخن الغليون ويستمع إلى أغنية رائجة تستهويه. وكان أمره عجيبًا في ذلك! أستاذ محترم في الجامعة تستهويه الأغنياتُ الرائجة، السخيفة. يستمع إليها في شغف ومتعة، ويردِّد بعض كلماتها التافهة من غير ما حرج!

قُرع باب الغرفة في هدوء. أطلَّت من ورائه سناء، طالبة في السنة الرابعة. لم تتخرج من الكلِّية ذاك العام. بقيت "تحمل" مواده الأربع من أعوام سابقة، على الرغم من نجاحها في المواد الأخرى كلِّها، وبشكل جيد تمامًا!

فوجئ بالزيارة! تقدمت سناء، ووقفت أمام مكتبه، فنظر إليها في دهشة:

-       ماذا تريدين، يا سناء؟

الحزن يقطر من عينيها، لكن صوتها جاء واضحًا كلَّ الوضوح:

-       أستميحك العذر، يا دكتور، إن كنت قد قطعتُ عليك خلوتك الثمينة. لكنني أود أن أُعلِمَكَ بأنك عطَّلتَ تخرُّجي هذا العام، وبأن أهلي ينتظرونه بصبر فارغ!

أطرقتْ بنظرها إلى الأرض:

-       أنت تعرف أننا فقراء، معدَمون، لكنك تتجاهل، وتدير وجهك، وتعيق تخرُّجي!

رفعتْ عينيها الحزينتين، فلامستْ نظراتُها شغاف قلبه، الذي كان عامرًا بالسعادة منذ قليل.

-       لقد فكرتُ في أمرك كثيرًا، يا دكتور، طوال الأيام الماضية... ثم قرَّرت!

في لمحة خاطفة مدَّت يدها إلى حقيبتها الجلدية الصغيرة، فأخرجت مبلغًا من المال وضعتْه على طاولة المكتب.

-       استدنتُ هذا المبلغ... انتظرتُ طويلاً حتى استطعتُ الحصول عليه. أما بقية التسعيرة، يا دكتور، فسوف أقدِّمها لك بالطريقة التي تفضِّلها... وفي أيِّ وقت تحدِّده!

صعقتْه المفاجأة! سناء، الطالبة المُجِدَّة، ذات العينين السوداوين، الحزينتين، المتحديتين، والأنف الشامخ، تأتيه... وتركع! وهل يركع الشموخ أبدًا؟!

حدَّق إلى وجهها في قوة، وقد فاضت عيناه دهشةً واستغرابًا. تكلمتْ... تكلمت، بسرعة، ووضوح، ومن دون تأثر! عيناها فقط هما الحزينتان، لكنه حزن صلب، قاسٍ، ومتحدٍّ. وما إن أنهت جملتها الأخيرة حتى راح جسمُه ينتفض في شدة. الأغنية في جهاز التسجيل تصدح بقوة تصمُّ الآذان، لكن صوت سناء في سمعه أقوى، أوضح، وأشد صخبًا!

ومع اهتزازات طبقة الأصوات المتضاربة، بدأ قلبُه يضرب بعنف، وبدأ يحس بارتفاع خفيف في حرارة جسمه، تلتْها برودةٌ قاسية.

تاهت نظراتُه في صفحة الوجه الجميل أمامه، ثم تاه عما حوله! لم يعد يسمع صوت الأغنية المرتفع – ولا صوت سناء. كان في داخله صمتٌ هادئ، عميق. بدأت عيناه تتيهان عن الأشكال أمامهما، فلم تعودا تريان إلا عينين سوداوين، حزينتين، تتكلمان، وتتحديان.

"ما أروع هذا الوجه، يا سناء! كيف لم أحس بروعته طوال تلك المدة الماضية؟! كيف غابت صفحتُه البيضاء عن ناظريَّ التائهين، المشغولين دائمًا بالقشور عن روعة اللباب؟ كيف لم أنتبه لهذا الحزن الدفين كلِّه في عينيك الصامتتين، الواثقتين؟ وكيف كنتُ مشغولاً بتحطيم هذه النظرة المتحدية، التي عشقتُها من دون أن أدري؟!

رباه!... لِمَ لم أنظر إلى عينيك، يا سناء، قبل اليوم؟ لِمَ لم أغُصْ في قرارهما السحيق، فأرى الله، وأرى نفسي؟ لِمَ لم يعلِّمني حزنُهما الطاهر كيف أحب، كيف أتعرى، كيف أتحرر، وكيف أنزع الحواجز التي أدمنتُ على وضعَها بيني وبين عالمي العميق؟ لِمَ لم يعلِّمني سوادُهما كيف أرى بياض الأشياء، وصفاءها، وكيف أسمع همس القلوب ونداء الأرواح؟ لِمَ لم يعلِّمني كيف أستغني عن جدار الصخب الذي يسوِّر حياتي التافهة، فلا أسمع إلا من خلاله، ولا أرى إلا من وراء شقوقه الضيقة؟

رباه!... الآن، في هذه اللحظة، وأنا أدفن ذاتي القديمة في عمق هاتين العينين الحزينتين، المتحديتين، أرى أعماقي، ويهولني ما أرى! أنا أستاذ الجامعة "الكبير"، تُطرِبُني الأغاني الصاخبة، فأنسى تغريد الطيور! تستهويني الوجوه المقنَّعة، المريضة، فأنسى صفاء القلوب! ويشدُّني بريق القروش في أكفٍّ مغلولة! أنا المعلِّم، والمربي، الحاكم والمتنفِّذ، أفرض، بصولجاني الباهت، تسعيرة نجاح مزيف! وأرتشي... أرتشي! أعبُّ، وأعبُّ من دماء طلبتي وعرق جباههم – حتى الثمالة... حتى السكر... حتى النشوة – ثم لا أنتشي! وهل يثمل الإنسان... ولا ينتشي؟!

أنا كذلك، يا سناء! لكن عينيك السوداوين الحزينتين، المتحديتين، في هذه اللحظة بالذات، تمنحانني النشوة، فأطير مع رفَّة أهدابهما الكحيلة إلى سماوات علوية، وأحس بنفسي حرًّا، طليقًا، يغمرني الهدوء والسكينة، وتعلو شفتيَّ بسمةُ الرضا، وأحس بقلبي مغتبطًا، سعيدًا. لقد حررتْني عيناك، لأنهما دخلتا أعماقي، وكشفتا الحُجُب الكثيفة عنها، فرأيتُ دنيا الله، وعرفتُ الإنسانَ الذي ضاع منِّي في غمرة الصخب، والبريق، والجشع.

أنا فقير مثلك، يا سناء. لكنني فقير جشع! فقير لم يعجبه أن يركب الحافلات المتواضعة، تُقِلُّه إلى مركز عمله، ولم يُرْضِه أن يلبس الثياب البسيطة يظهر بها أمام الناس، ولم يجذبه غناءُ الطيور العذب! أراد مركبةً فارهة، وقميصًا مطرزًا، وتاق إلى صخب الأصوات، تحجبه عن نفسه، عن أعماقه، فبقي فقيرًا، كما ترين، وبقيتِ أنتِ الغنية!

حاولتُ أن أحطِّم شموخك، فتحطمتُ... حاولتُ أن أنزع عن عينيك الحزينتين نظرة التحدي الآسرة، فضيعتُ نفسي، وفقدتُ ذاتي! لكني لن أضيِّعك، يا سناء، ولن أضيِّع أمثالك. ليس بعد اليوم... ليس بعد اليوم أبدًا. فلقد علَّمتْني عيناك كيف أجد نفسي من جديد... وإلى الأبد!"

بحركة هادئة، مدَّ يده، فأطفأ جهاز التسجيل إلى جانبه، وبرفق شديد، تناول النقود الموضوعة على الطاولة وقدمها لسناء، الناظرة إلى وجهه بكلِّ دهشة عينيها الجميلتين، الحزينتين. قال:

-       ليس بعد الآن، يا سناء... فلقد أصبحتُ غنيًّا بما يكفي!

1993

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود