|
الحِوارُ
الدِّينيُّ عَربيًّا وشُروطُ فعَّاليَّته توصَّل
الحوارُ الديني في المنطقة
العربية، وبخاصة في لبنان، إلى درجة عالية
نسبيًّا من الثبات والتواصل، ولكنه في حاجة
إلى مزيد من التصويب والتركيز والفعالية.
فإذا اقتصر هذا الحوارُ على الشؤون الدينية
العقيدية dogmatiques
وما يرتبط بها مباشرة وحسب، فهو يتجاهل
البُعد العلائقي relationnel
الذي لا ينحصر في المعرفة والإدراك، بل يطاول
السلوك والتعامل مع المعرفة الدينية
وإدراكاتها وتصوراتها. حوار
في ثلاثة أبعاد تتضمن إشكاليات
العلاقة بين الأديان ثلاثةَ أبعاد: 1.
البُعد
الديني–الثقافي: يشمل
قضايا لاهوتية وفقهية وتربوية وصورًا ذهنية
متبادلة. لكن التراث الديني في المنطقة
العربية قد يتحول إلى عبء إذا انزوى في عقيدية
مغلقة وحقيقة أحادية، في حين أن الحاجة هي إلى
تحرير الإيمان من بعض أشكال التديُّن والحؤول
دون تحوُّله إلى وعاء للنزاعات وكيانًا
سلطويًّا. 2.
البُعد
الدستوري والحقوقي: يشمل شؤونًا
حقوقية أساسية في سبيل الإدارة الديموقراطية
للتنوع الديني في الأنظمة العربية اليوم.
فإذا اقتصر الحوار على الإيمان وعلى أبعاده
الثقافية وعلى المنمَّطات والصور الذهنية،
الإيجابية أو المشوَّهة، وعلى الاختلاط في
حوار الحياة، فإن هذه المكتسبات، التي هي
ثمرة قرون من الجهد المشترك، قد تنهار إذا
تنامى إدراكٌ بالغبن والعَزْل وعدم المشاركة. هناك أربع
قضايا جوهرية في حقوق الإنسان مرتبطة
بالأديان وتشكِّل عنصر خلاف في الشرعات
العربية لحقوق الإنسان، وهي: أ.
حقوق
المرأة، ب.
الأحوال
الشخصية، ت.
الحريات
الدينية، و ث.
المشاركة
السياسية. تشكِّل هذه
القضايا عنصر خلاف لدى جميع المجموعات
الدينية، مع كلِّ ما يرتبط بذلك من حقوق
ثقافية وتعليم ديني ومشاركة سياسية. لكن
التراث العثماني، والعربي عامة، طوال أكثر من
أربعة قرون، يوفِّر نماذجَ معياريةً وقابلةً
للتطبيق في الكثير من المجتمعات اليوم، شريطة
العمل على تطويرها وعصرنتها. 3.
البُعد
السياسي: يشمل هذا البُعد تطييف (من
"طائفة") التبايُنات الدينية في التنافس
السياسي والتعبئة السياسية. ينتشر في العالم
خبراء واختصاصيون في المناورات والتعبئة
النزاعية من خلال استغلال التباينات الدينية.
يتطلب بناء السلام، تاليًا، تنمية ثقافة
المناعة والمقاومة ضد استغلال الدين في
التنافس السياسي. إن للهيئات الدينية،
مسيحيةً وإسلامية، في المجتمعات العربية
مؤسساتٌ منظَّمة واسعة الانتشار؛ وهذه
المؤسسات هي جزء واسع من تكوينات المجتمع
الأهلي العربي، وتتمتع، تاليًا، بالقدرة على
التأثير الإيجابي في التفاعل بين الأديان
والسلام العالمي وثقافة حقوق الإنسان. لكن
دور الأديان بات أكثر ارتباطًا، ليس بمجرد
لقاءات وندوات ومؤتمرات (مفيدة ولا شك، لكنها
ذات فاعلية محدودة)، بل بدور الفاعلين acteurs
أنفسهم في هذه الأديان. فالشكوى من صورة نمطية
للإسلام وللعرب عامة في العقل الغربي لا
يقابلها سعيٌ جِدِّي من الفاعلين لتصحيح
منابع هذه الشكوى. يعني ذلك اعتمادَ نهج متجدد
في دراسة العلاقات بين الأديان من خلال أمثلة
نموذجية واقعية وإيجابية، ومن خلال طرح
القضايا، ليس في شمولية (عَلمانية، طائفية،
دين ودولة، إلخ)، بل حالةً بحالة، من خلال رصد
المظالم ومعالجة حالات وقوعها. يسمح هذا
المسار بتفكيك منمَّطات stéréotypes
وتصورات وإطلاقيات، وبمباشرة حوار جِديٍّ
فعال حول قضايا معيشة، هي غالبًا مصدر ظلم
يطاول أفرادًا وجماعات. وعندما يُطرَحُ
السؤال: لماذا تهتم الدوائر الغربية الرسمية
بالحريات الدينية بشكل خاص؟ فإن الجواب هو: إن
الحريات الدينية هي، من منظور تاريخي
وعملاني، أم الحريات وحقوق الإنسان بعامة. أولويَّات
الحوار الديني عربيًّا أبرز أولويات
الحوار الديني عربيًّا اليوم الشؤونُ
الأربعة الآتية: 1.
التزام
الهيئات الدينية قضايا حقوق الإنسان: المؤسَّسات
الدينية والمؤمنون مدعوون لمزيد من الالتزام
في سبيل العدالة والسلام في عالم تجتاحه
مخاطرُ حروب غير تقليدية، وتفاوُتٌ متزايد
بين شمال وجنوب، وانتشارُ "خبراء"
سياسيين في استغلال الدين في التنافس السياسي. أبرز مضامين
هذا الالتزام النبذُ العلني والصريح لكلِّ
أشكال العنف "باسم الله" أو "الدين".
يجوز طبعًا، في حالات عديدة حصرية، اللجوءُ
إلى المقاومة ذودًا عن السيادة والاستقلال
ودفاعًا عن النفس، ولكن باسم القانون والحقوق
أو غيرها من الاعتبارات الحقوقية أو
الإنسانية التي أجمعت عليها البشريةُ في
شرعات دولية. أما اللجوء إلى العنف باسم الله
أو الدين فهو انتحال النيابة عن الله وممارسة
"الدينونة" على البشر قبل الدينونة، دون
ضمانة أن البشريَّ الذي يُنزِلُ "القصاص"
هو "ناطق رسمي" باسم الله، يحمل صكًّا
رسميًّا بذلك ولا يتخطَّى حدود توكيله
المفترض، وأنه مطلق الطهارة والتجرد والعدل. 2.
حماية
التنوع الديني من خلال مسارات ديموقراطية:
ما يثير الاستغراب هو الخطاب العربي في
تحفُّظ أو تردُّد حول القواعد الدولية لحقوق
الإنسان من هيئات دينية، بينما الشعوب
العربية هي الضحية الكبرى للظلم في السياسات
الدولية منذ نشوء إسرائيل. الحاجة في الدول
العربية هي إلى بناء علاقة تَكامُل وانسجام
بين الأديان وبين حقوق الإنسان. 3.
القدس:
إن مستقبل القدس محوري للأديان الثلاثة ذات
المنبع الإبراهيمي، ليس كمساحة جغرافية، بل
كرمز للالتقاء الروحي الجامع والقائم على
احترام متبادل وقبول وتواصل خلاَّق،
انسجامًا مع تجربة تاريخية طويلة في إدارة
التنوع الديني والمذهبي في المنطقة العربية. 4.
استخلاص
نموذج عربي مشترك في العلاقة بين الدين
والسلطة:
الحاجة ماسة إلى ترشيد "السياسات
الدينية"، وبخاصة أن عبارتَي "الفصل بين
الدين والدولة" و"الإسلام دين ودولة"
فيهما اختزال وتبسيط وتمويه لعلاقة معقدة،
مأساوية غالبًا، بين الدين والسياسة. نحو
نموذج عربي في تنظيم علاقة تمارس كل دولة
ديموقراطية ثلاث وظائف دينية أساسية: أ.
إدارة
التنوع الديني من خلال التشريع. ب.
حماية
الحريات الدينية من خلال قضاء مستقلٍّ ومجال
عام محايد، حيث يستطيع كل فرد أن يؤمن أو لا
يؤمن أو يؤمن على طريقته، دون مساس بالنظام
العام. و"النظام العام" هذا ليس نظام
الدين السائد (كما في أكثر البلدان العربية)،
بل النظام الذي يحافظ على قواعد العيش معًا
وعلى الحقوق الأساسية للجميع دونما استثناء. ت.
صفة الدولة
كمحور تفاوُض وتقرير لاحتواء النزاعات التي
تتعلق بالأديان أو تتخذ طابعًا دينيًّا في
حال انتقال النزاعات من المجال الخاص إلى
المجال العام. يفتقر العالم
العربي إلى نموذج في تنظيم العلاقة بين الدين
والسياسة وفي رسم الحدود بينهما، على الرغم
من غنى التجربة العربية، تاريخيةٍ ومعاصرة.
يظهر هذا الفراغ في تأرجُح المنظِّرين ضمن
العموميات المعروفة في الدين والدولة
والشريعة والطائفية والعَلمانية إلخ. وتسمح
الدراسة الميدانية، وخصوصًا دراسة حالات،
باستخلاص نموذج يشكِّل إطارًا في التنظير كما
في الممارسة. إن "بيان
علماء المسلمين" الذي ألقاه في 2 كانون
الثاني 1989 [المرحوم] الشيخ أحمد متولي
الشعراوي يشدِّد على ثلاثة مفاهيم تشكِّل
إطارًا في بناء نظرية العلاقة بين الدين
والدولة، وهي: أ.
أولياء
الأمور، ب.
حدود
الولاية، و ت.
الضوابط. وقد جاء في
البيان: اتفق
العلماء أن تغيير المُنكَر باليد واجب على
وليِّ الأمر وعلى كلِّ إنسان في حدود ولايته،
وأن تغيير المُنكَر، إذا أدى إلى مفسدة أشد،
كان التوفيق واجبًا، لأن إباحة تغيير
المُنكَر بغير ضوابط يؤدي إلى شيوع الفوضى في
المجتمع ويضر بمصلحة الدين والوطن. [...]
الثابت في كلِّ العصور أن الذي يقوم بتنفيذ
الحدود وتغيير المُنكَر باليد هم أولياء
الأمور وحدهم. تفترض المفاهيم
الأساسية الواردة في هذا البيان اختصاصًا
سياسيًّا بامتياز، أي فصلاً وظيفيًّا بين
السلطة السياسية والهيئات الدينية. خلاصة إنَّ الحوار
الديني عربيًّا، الذي حقق إنجازات عدة في
ظروف صعبة، بات في حاجة الآن، في آنٍ معًا،
إلى مزيد من التركيز والتصويب والتأصيل،
وبخاصة في الشؤون الآتية: أ.
الإدارة
الديموقراطية للتنوع الديني، ب.
التمايز
بين الشريعة والتشريع، وصولاً إلى "عَلمنتنا
نحن" (بحسب تعبير للسيد هاني فحص)، ت.
بناء ثقافة
مناعة حيال الاستغلال السياسي للدين
والتعبئة السياسية الدينية، ث.
تنقية
الأديان عربيًّا من التلوث الإيديولوجي
والعقيدي، مع ج.
ممارسة نقد
ذاتيٍّ دون خوف على الدين، بل حرصًا عليه. ***
*** *** عن
النهار، السبت 2 تموز 2006
|
|
|