الحقيقيُّ والشكليُّ في حِوَار الأديَان

 

خالد غزال

 

يشكِّل حوارُ الأديان منذ عقود أحد عناوين الجدل الفكري والسياسي الدائر في العالم. انعقدت حوله مؤتمراتٌ متعددة بين ممثلي الديانات التوحيدية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلامية، استُحضِرَتْ فيها قضايا الخلاف وإمكانات التوافق. تشكلت في الجامعات معاهد أكاديمية متخصصة في الدراسات والأبحاث الخاصة بالمنظومات الدينية ومذاهبها. من الناحية النظرية، باتت غالبية المرجعيات الدينية تعترف بضرورة هذا الحوار وتشجع عليه. كرَّس الڤاتيكان في المجمع الثاني في العام 1965 أهمية الحوار مع الإسلام، كما أكَّد الأزهر أهمية التواصل أيضًا. لم يغبْ لبنان عن هذا الموضوع، فكانت له هيئاته وممثلوه ومرجعياته الطائفية.

إن مجرد الدعوة إلى سيادة الحوار بين الأديان يمثل، في حدِّ ذاته، مسألةً بالغة الإيجابية. فالحوار وسيلة للتفاهم وفضِّ النزاعات بالوسائل السلمية، وطريق للاعتراف المتبادل ومنع التكفير والنبذ، إضافةً إلى المساهمة في تحقيق التسويات. هكذا بات الحوار وسيلة مركزية من وسائل الديموقراطية وسعيها لإقامة علاقات عادلة يسودها الاحترام المتبادل بين البشر. في هذا الإطار، يطرح الحوار بين الأديان تساؤلاتٍ عن المدى الذي بلغه المتحاورون في شأنه. فما الحقيقي في هذا الحوار وما الشكلي؟

هل استطاع المتحاورون فعلاً ملامسة المسائل الخلافية الأساسية بين الأديان؟ وهل كانت لديهم الجرأة على وضع اليد على أسباب النزاعات الفعلية؟ هل يدور الحوار حقًّا حول المسائل الدينية، أم يتجاوزه إلى قضايا سياسية واجتماعية تبتعد عن الجانب الديني هربًا من مواجهة معضلاته الحقيقية؟ ثم لماذا راوح هذا الحوار في مكانه وعجز عن التوصل إلى حلول، على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على بدئه؟ لماذا يتجنب المتحاورون مواجهة الانبعاث الأصولي في الديانات التوحيدية الثلاث؟ ولماذا، أخيرًا، تخرج المؤتمرات والاجتماعات دائمًا بخلاصات تؤكد غلبة الخلافات والتباينات وضيق هامش نقاط التوافق؟

بعض الملاحظات الاعتراضية

يثير حوارُ الأديان ملاحظاتٍ هي أقرب إلى التحفظات والاعتراضات:

1.     تتصل الملاحظة الأولى باحتكار المرجعيات الدينية للتاريخ باعتباره تاريخًا للمسيحية والإسلام على العموم، واليهودية في بعض الأحيان. إنه تصنيف للتاريخ البشري يتجاهل حقيقة أن الأديان التي سادت، وبالأخص منها المسيحية والإسلام، كانت على الدوام أدوات في يد الدولة السائدة وسلطاتها، تقوم بوظيفة تسويغ شرعية السلطة وإصدار الفتاوى اللازمة لتبرير قراراتها وحضِّ الناس على التزامها. ينطبق الأمرُ نفسه على اليهودية التي يضطلع تيار رئيس من تياراتها اليوم بتأمين الغطاء الإيديولوجي للحركة الصهيونية ولاغتصابها أرض فلسطين وإقامة دولة يهودية عليها.

2.     تطال الملاحظة الثانية تصنيف البشر انطلاقًا من انتمائهم الديني أو الطائفي. وتكمن الخطورة فيه أنه ينطوي على رفض ضمني للفصل بين الدين والسياسة، وبالتالي لفكرة الإنسان–المواطن. كان تحقُّق المُواطَنة واحدًا من أبرز إنجازات صراع الديموقراطية مع الدولة الاستبدادية المستندة إلى الحاكمية الإلهية ومؤسستها الدينية؛ وهو صراع أمكن فيه انتزاع حرية الإنسان في اختيار الدين والعقيدة التي يشاء وحريته في أن يكون متدينًا أو غير متدين.

3.     تتعلق الملاحظة الثالثة باختزال المتحاورين للدين إلى المرجعيات التي يمثلونها. ليس صحيحًا أن ما يجري هو حوار بين الإسلام والمسيحية أو اليهودية، بل هو حوار يدور بين مسلمين ومسيحيين ويهود؛ والفارق كبير بين المفهومين. يصعب القول بوجود مرجعية واحدة للمسيحية يمثلها الڤاتيكان. فالمسيحية في الحقيقة مجموعة "مسيحيات" تختلف مرجعياتها في الرؤية الثيولوجية وفي الأصل الديني لعدد من المسائل. وهو أمر شهد عليه التاريخ، ولا يزال، عبر الخلافات بين الكاثوليك والپروتستانت والكنيسة الشرقية الأرثوذكسية. ينطبق الأمر نفسه على الإسلام، المتفرِّع هو الآخر إلى "إسلامات" متعددة المذاهب والشيع والمرجعيات. لا يمثل الأزهر جميع المسلمين السنَّة، كما لا تمثل قُمْ أو النجف جميع المسلمين الشيعة. لكلِّ طرف اجتهاداته ونظراته المتعارضة أحيانًا مع الطرف الآخر. كما أن الانتشار الواسع للديانتين الإسلامية والمسيحية يضفي خصوصيةً على كلِّ مجتمع من حيث ممارسة طقوسه ومعتقداته واجتهاداته في قراءة النص الديني.

4.     تتناول الملاحظة الرابعة إصرار المرجعيات الدينية المسيحية والإسلامية على اختزال الدين إليها ورفض الاعتراف بوجود ديانات أخرى ذات انتشار واسع، لا يقل أتباعها عددًا عن أتباع المسيحية أو الإسلام. يستبعد الحوار الديني الدائر حتى الآن التواصل مع الديانات البوذية والكونفوشية والهندوسية وغيرها، وهي أديان تحمل الكثير من نقاط اللقاء مع الأديان التوحيدية، وخصوصًا في الجوهر الروحي والإنساني والقيم التي تدعو البشر إلى الإيمان بها والتزامها.

5.     تشير الملاحظة الخامسة والأخيرة إلى أن فكرة الحوار ومساره لا تزال تُواجَه بتحفظات واعتراضات من مرجعيات دينية، علماء وفقهاء ورجال دين. تتغذى هذه الاعتراضات من موروثات فعلية لم يتجاوزها الزمن، وتتعلق بعدم اعتراف كلِّ دين بالآخر وبالاعتقاد الراسخ بضرورة دخول البشرية كلِّها هذا الدين أو ذاك لتنعم برضا الله وليتحقق لها الخلاص!

معضلات الحوار

لم تمنع التحفظات والاعتراضات الحوار من تحقيق خطوات متقدمة ومن فرض نفسه موضوعًا دائمًا على جدول أعمال المؤسسة الدينية. يدل على ذلك ما تحفل به رفوف المكتبات من عشرات الكتب التي تتطرق إلى هذا الموضوع وتجول فيه من جميع الجوانب. ولا تخفي الكتابات الصادرة والمنشورة حقيقة المشكلات التي واجهها هذا الحوار، ولا يزال، والمعضلات المنتصبة أمام المتحاورين التي جعلتْه يدور حتى الآن على نفسه ويعجز، إلى حدٍّ كبير، عن تحقيق الأهداف المرجوة وتحمُّل مشقة النقاش والسجال ومحاولات الإقناع.

ليس من قبيل المبالغة "اتهام" الأديان، من حيث تحديدُها وتعريفُها، بأنها بعيدة، إلى حدٍّ كبير، عن منطق الحوار. يعود سبب ذلك إلى ادعاء كلِّ دين لنفسه ملكية الحقيقة المطلقة وكون مبادئه ومعتقداته لا تحتمل المساومة أو أنصاف الحلول. يفترض الحوار – كل حوار – التوصل إلى تسويات بتقريب وجهات النظر إلى القضايا الخلافية لدى الأطراف المتحاورين. وفي حالة الأديان، خصوصًا التوحيدية منها، تمثل المنظومات اللاهوتية لكلِّ دين مَحاوِر الخلاف الرئيسية، مما يعني أن الحوار هدفه الوصول إلى قواسم مشتركة حول هذه المنظومات. وقد أثبتت التجربة، حتى الآن، مراوحةً في المكان وتَمَتْرُسًا حول التباينات، وأظهرت ما يشبه الاستحالة في التوصل إلى اتفاقات وتفاهمات. تفسِّر هذه المُراوحة انتقال الحوار بين الأديان إلى قضايا ومسائل ليست من صُلب الأديان ووظيفتها. وليس غريبًا هذا العجز عن الوصول إلى مشترك لاهوتي: فالمنظومات اللاهوتية للديانات التوحيدية مغلقة على العموم، ترفض التنازلات فيما تعتبره جوهر إيمانها ومبرِّر وجودها. إن إلقاء نظرة سريعة على المبادئ اللاهوتية يمكن له أن يفسِّر معضلات الحوار:

1.     يركز اللاهوت المسيحي على مسائل يرى أنه يستحيل على المرء أن يكون مسيحيًّا من دون الاعتقاد والتسليم بها. فالإيمان بالثالوث القائل بوحدة الآب والابن والروح القدس وبصيرورة الله إنسانًا في شخص يسوع المسيح من المسلَّمات غير القابلة للنقاش. كما ترى المسيحية أن العهد الذي أعطاه الله لإبراهيم قد تحقَّق عبر يسوع المسيح، وهو أمر يؤدي إلى التشكيك في نبوة نبي الإسلام محمد. يترتب على هذه المقولة أن خلاص البشر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بشخص يسوع الذي يشكِّل الوساطة الوحيدة بين الله والإنسان. وتفتح مسألة الخلاص الإلهي على شمولية الروح القدس الذي يستحيل على أي إنسان الوصول إلى الابن، ومن الابن إلى الآب، دون وساطته. ومن الطبيعي أن توصل هذه المبادئ إلى اعتبار الانتماء إلى الكنيسة شرط الخلاص البشري ("لا خلاص خارج الكنيسة")، وأن الروح الإلهي يعمل في صميم الجماعات البشرية، ومنها الجماعات الإسلامية، لإرشادها شيئًا فشيئًا إلى يسوع المسيح. ينجم عن ذلك تصور ضمني لدى الكنيسة الكاثوليكية ترى بموجبه انضواء الإسلام تحت المسيحية انضواء الفرع تحت الأصل والجزء تحت الكل.

2.     في المقابل، يحمل اللاهوت الإسلامي نظراتٍ مختلفةً عما تقول به المسيحية: يرفض الإسلام ألوهية المسيح؛ يعترف به نبيًّا ويعظِّم من شأنه ويعتبره روحًا من الله، كما يعظِّم موقع مريم العذراء. لكن الإسلام يرفض رفضًا باتًّا هذه الألوهية في سورة الإخلاص: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن كفوًا أحد". يجزم الإسلام بأن محمدًا خاتم النبيين والمرسلين. وتمثل وحدانية الله ورسالة محمد قاعدة اللاهوت الإسلامي: "أشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". لا يعترف الإسلام بطبيعة الخلاص الذي تقول المسيحية بإنجازه عبر يسوع المسيح، كما لا يوافق على اعتبار الكنيسة المكان الأمثل لفعل الروح في التاريخ. إضافة إلى ذلك، يحمل الإسلام من الشمولية ما يجعله يرى أن خلاص البشرية يتحقق في الانتساب إليه حصرًا بوصفه الدين الحق، المتمِّم والمكمِّل جميعَ الأديان منذ إبراهيم. "إن الدين عند الله الإسلام" [آل عمران 19] تحفر عميقًا لدى معتنقيه وتولِّد من الأفكار والمعتقدات لدى المسلم ما يجعله يصنف غير المسلم في خانة الكفر والإلحاد والوعيد بـ"جهنم وبئس المصير" [آل عمران 162، الأنفال 16، مثلاً]. ففي مقابل الخلاص المتحقق عبر الكنيسة عند المسيحية، يتحقق الخلاص هنا في اعتناق الدين الإسلامي.

3.     أما في خصوص اليهودية، فمازالت تعتبر نفسها أم الديانات، وتعتقد أن الشعب اليهودي هو "شعب الله المختار"، مما يجعل اليهودية ترى إلى نفسها ديانة "فوقية" قياسًا إلى الديانات التوحيدية الأخرى. يتمسك اللاهوت اليهودي بمقولة ترى خلاص البشرية في عودة اليهود إلى أرض الميعاد، بما يسمح بمجيء المسيح إلى الأرض، فيحقق العدالة والمساواة بين البشر. يُضمِرُ هذا الاعتقاد عدم اعتراف بنبوة سائر الأنبياء، وخصوصًا يسوع المسيح ومحمد. وعلى الرغم من أن الصلات الدينية تبدو الأقرب بين اليهودية والإسلام، بالأخص لجهة القول بوحدانية الله المطلقة، إلا أن صعوبة الحوار بينهما محكومة بمسألة اغتصاب الحركة الصهيونية لأرض فلسطين ذات القدسية الخاصة لدى المسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء. ففي شهر آذار 2006، جرت محاولة حوار يهودي–إسلامي في مدينة إشبيلية انتهت إلى خلاف وشجار بين المندوبين اليهود والمسلمين حول الصراع العربي–الإسرائيلي، مما أدى إلى فشل المؤتمرين في التوصل إلى أية اتفاقات، دينية أو غير دينية.

على مدى السنوات الماضية، لم ينغلق المتحاورون من المسلمين والمسيحيين دون مناقشة بعض القضايا اللاهوتية التي كان الاقتراب منها سببًا للتباعد وتعميق الخلافات. لقد بدا النقاش في هذه القضايا كأنه دعوة من كلِّ طرف للالتحاق بدين الآخر. وقد تسبَّب هذا النقاش مرات عديدة في انبعاث موروثات تاريخية تستحضر الصراعات الدينية والسياسية التي عرفها التاريخ بين الطرفين. هكذا حضرت في النقاش الفتوحات الإسلامية واحتلالها لمناطق أوروبية، والحروب الصليبية، والاستعمار الغربي لديار الإسلام، مما كان يستدعي دعوات متتالية لوضع القضايا الخلافية جانبًا والسعي إلى حصر الحوار في قضايا يمكن التوصل فيها إلى اتفاق. ونجم عن ذلك أيضا تركيز النقاشات على قضايا سياسية واجتماعية وأخلاقية، بعضها يتصل بالأديان وبعضها لا علاقة له بها وبالحوار فيما بينها.

الحوار الإسلامي–المسيحي في لبنان

يعود تاريخ الحوار الإسلامي–المسيحي في لبنان إلى منتصف ستينيات القرن الماضي. أطلقتْه "الندوة اللبنانية" عبر مجموعة من المثقفين من ذوي الحضور الثقافي والسياسي. ولم يتخذ أصحابه آنذاك لأنفسهم صفة المرجعية الطائفية أو الدينية، بل أتى حوارهم في سياق النقاش الدائر حول الدولة والوطن والنظام والإصلاح السياسي. لكن هذا الحوار توقف إبان سنوات الحرب الأهلية بعدما انكفأ أصحابه إلى مواقعهم السياسية والطائفية.

تجددت الدعوة إلى الحوار بعد توقيع اتفاق الطائف في مطلع التسعينيات، وتشكلت لجانٌ لمتابعته. وعلى خلاف انطلاقة الستينيات، نصَّبت المرجعيات الطائفية الرئيسية نفسَها مسئولة عن الحوار، وعيَّنت لها ممثلين في هذه اللجان. وقد أتى التشكيل انعكاسًا للتركيبة السياسية الطائفية القائمة في البلد، بحيث تقوم المؤسسات السياسية بوظيفة حماية حقوق الطوائف وإعادة تركيب التوازنات انطلاقًا من مصالحها.

لم يكن الحوار، منذ بدايته، حوارًا بين الديانتين المسيحية والإسلامية بمقدار ما كان حوارًا بين الطوائف المهيمنة. لذلك بدا طبيعيًّا أن يدور الحوار حول المسائل السياسية والاجتماعية والمصالح الخاصة. استخدمت المرجعيات الروحية وممثلوها الحوار عنوانًا للاندراج في إطار الهيئات المقرِّرة لمسار الحياة السياسية في البلد، فدعت أطروحاتها إلى إدراج الحوار في سياق السلم الأهلي اللبناني وإلى تحويله إلى مسائل فكرية ذات موقع متميز في مشاريع الدول والمنظمات وبرامج الأحزاب والمؤسسات السياسية والأهلية. اعتبرت اللجنة المشكَّلة في العام 1993 أن من صلب مهماتها صياغة مشروع ثقافي جديد في لبنان يؤسس للعيش المشترك بين الجماعات اللبنانية، مستفيدًا من تجارب الحرب ومن المآل الذي وصل إليه البلد. طالب أعضاء اللجنة بتحويلها إلى مؤسسة وطنية عامة تقوم بمهمات اقتراح الحلول الآيلة إلى تجنب الخلل في العلاقات المسيحية–الإسلامية في لبنان وإلى الحد من انعكاس الأحداث الخارجية ذات البعد الطائفي والمذهبي على وحدة اللبنانيين، ومكافحة التعصب الطائفي، والسعي لإعادة تاريخ لبنان الواحد، وتعميق الحوار بين الدولة والمواطنين. وقد وصل طموح بعض أعضاء اللجنة بهم إلى تحويل هذا المشروع الثقافي إلى نموذج للحلول المطلوبة على المستوى العالمي!

قدم الشيخ محمد مهدي شمس الدين تفسيرًا بالغ الوضوح لضرورة هذا الحوار بالقول:

انطلاقًا من فشل الحضارة على صعيد الإنسان، على الرغم من وعودها السخية وتبجحاتها الكبيرة، وفي غمرة هذا الإدراك المتنامي للواقع البائس ووعي أبعاده وأخطاره المستقبلية على الإنسان، واعتقادًا بأن مسألة الحضارة المادية والأخطار التي تنطوي عليها بالنسبة لمصير الإنسان هي من أخطر مسائل عصرنا إن لم تكن أخطرها على الإطلاق [...]، ولد الشعور بالحاجة إلى حوار بين المسيحية والإسلام.[1]

على الرغم من التعثر الذي أصاب أصحاب الحوار ومن الخلافات التي نشبت فيما بينهم ومن عدم القدرة على تحقيق نتائج إيجابية، إلا أن المحاولة تستحق بعض الملاحظات:

1.     أولى هذه الملاحظات تقول إن الأهداف التي حددتها اللجنة لنفسها، بموافقة مرجعياتها الدينية، هي مهمات لأحزاب سياسية وحركات اجتماعية أكثر منها مهمات حوار ديني عليه معالجة الخلافات اللاهوتية التي تُبعد معتنقي الأديان بعضهم عن بعض ويسعى إلى تقريب المسافات في ما بينهم. وهو ما يفسِّر بقاء الحوار على الهامش على الرغم من حجم المؤتمرات والاجتماعات الكبيرة والمتعددة. ولأن هذا الحوار كان واحدًا من المقولات السياسية، شأنه شأن القضايا الأخرى المطروحة في البلد، سرعان ما تحول تلقائيًّا إلى سجال طائفي حول حقوق الطوائف ومصالحها وامتيازاتها في وجه طوائف أخرى، وهو سجال لا علاقة له بالدين من قريب أو بعيد.

2.     ثانية هذه الملاحظات أن مرجعيات الحوار وممثليها لم تتعاطَ مع لبنان على أنه مساحة تضم اتجاهات فكرية وثقافية متعددة، كما أنه يضم أيضًا منوعات من أتباع الديانات والطوائف وغير المنتسبين إلى التصنيف الطائفي القائم، مما يعني صعوبة اختزال الحوار إلى المسلمين والمسيحيين وحدهم. إنه حوار إنساني شامل يتجاوز منطق الأديان وانغلاقها على نفسها. لا يساهم احتكار الأقطاب الدينيين والسياسيين لهذا الحوار في إنهاض الوطن وتطويره الحضاري والثقافي بمقدار ما يهدف إلى الحفاظ على التركيبة الطائفية في البلد.

3.     ثالثة هذه الملاحظات أن أقطاب الحوار أعوزتهم الجرأةُ على تناوُل كيفية استخدام النص الديني في لبنان الذي تقوم إحدى وظائفه بتعميق الخلافات الطائفية والمذهبية. فلم تصدر دعوات خاصة بمراجعة كلِّ دين لنصوصه اللاهوتية، بل ظل التركيز مشدودًا إلى كيفية تأمين مصالح الطوائف وحسب. فمثلاً، أثارت الدعوة إلى نظام موحد للأحوال الشخصية ينظِّم حياة اللبنانيين في معزل عن النص الديني، بما يكفل المساواة بين المواطنين، استنفارًا بين أهل الحوار. فقد انعقد في وجه هذه الدعوة حلفٌ إسلامي–مسيحي أعلن صراحةً أنه يقف لها بالمرصاد دفاعًا عن "حرمات" الديانتين في وجه كلِّ متنطح لتجاوزهما. لم يكن الأمر في حقيقته دفاعًا عن الديانتين، بل عن المصالح الطائفية الضيقة والإصرار على إبقاء اللبناني أسيرًا في قمقمها.

4.     آخر هذه الملاحظات أن الحوار الإسلامي–المسيحي عجز عن تخفيف الاحتقان الطائفي والمذهبي المندلع منذ سنوات، الذي يحفر عميقًا في مؤسسات المجتمع اللبناني. بل إننا نشهد اليوم غيابًا كاملاً له واختفاءً لجميع الهيئات التي قامت باسمه. أما القمم الروحية التي عُقدت فقد ظلت تدور في إطار پروتوكولي، مكرِّسةً التقاليد اللبنانية القائمة على "تبويس اللحى" والإعلان عن مواقف لا تتصل بحقيقة الخلافات والمواقف التي يضمرها كل طرف للآخر.

من أجل حوار حقيقي بين الأديان

لا تهدف هذه الملاحظات إلى رأي ينفي ضرورة الحوار بين الأديان أو يقول باستحالة قيامه. إن المهمات التي يضطلع بها الدين في الحياة الإنسانية وفي المجتمعات تفرض إيلاء الحوار بين الأديان أهميته التي يستحق. وتشكِّل مسألة الحوار الذاتي داخل كلِّ دين والتصدي لقضاياه الخاصة والخلافية مع الأديان الأخرى الأساسَ الفعلي للوصول إلى قواسم مشتركة بين الأديان والتفاعل في ما بينها. واستقامة الحوار تفترض أن تتوفر فيه الشروط التالية:

1.     أول شروط الحوار أن يراجع كل دين منظومته اللاهوتية. تحوي المنظومات اللاهوتية معتقدات خاصة بمعتنقي هذا الدين أو ذاك تدخل في باب الإيمان الشخصي والحر، كما تحوي أيضًا معتقدات تمس العلاقة بسائر الأديان. المنظومات اللاهوتية الحالية هي وريثة معتقدات كانت لها ظروفها التاريخية، وقد تجاوَز الزمنُ الكثيرَ منها وجعلت التطوراتُ تعديلَها واجبًا. فإذا كانت المسيحية تسعى فعلاً إلى إقامة علاقة حقيقية مع الإسلام، فلا تقوم هذه العلاقة في حين ما يزال التشكيك في نبوة نبي الإسلام قائمًا ضمنًا؛ كما لا تستقيم هذه العلاقة في ظل الإصرار على أن الخلاص الإلهي محصور في الكنيسة، مشروط بالانتساب إليها. في المقابل، لا يستطيع الإسلام إقامة علاقات سليمة مع المسيحية وهو محمَّل موروثَ تصنيف العالم إلى "دار للإسلام" و"دار للكفر"، أو بالإصرار على أن خلاص البشرية مرهون بدخولها الإسلام. ولاستقامة العلاقة أيضًا، تجب مراجعة أحكام فقهية أو دينية تجاه التعامل مع غير المسلمين، بما يلغي مفهوم "أهل الذمة" ويعيد قراءة آيات الجهاد والتكفير بمنطق العصر الراهن. بالمثل، سيصعب تعامُل اليهودية مع الديانات الأخرى في ظل الإصرار على أنها وحدها الدين الحقيقي وأن المسيح المنتظر لم يأتِ بعد. كما سيكون على اليهودية تفكيك العلاقة الإيديولوجية بالحركة الصهيونية، بصفتها حركة عنصرية توظف الدين اليهودي لأهداف استعمارية وقمعية.

2.     ثاني شروط الحوار يتصل بمراجعة تاريخية واجبة يقوم بها كلُّ دين للعلاقات التاريخية التي تسببت في صراعات سياسية ودينية لا تزال آثارها ماثلة في التاريخ الراهن. لا تستطيع المسيحية التهرب من مُراجعة حروبها الدينية بين طوائفها ومذاهبها، ولا تجاهُل الآثار السلبية التي تركتها الحروب الصليبية، أو ما ولده الاستعمار الغربي من آثار على الشعوب الإسلامية، وخصوصًا إذا جرى الاعتراف باقتران السيطرة الاستعمارية مع التبشير الديني في البلاد المستعمَرة. في الوقت عينه، لا يستطيع الإسلام تجاهُل مرحلة الفتوحات والسيطرة على بلاد لا ينتمي أبناؤها إلى الإسلام، وما ساد هذه السيطرة من تمييز ضد الأقليات غير الإسلامية. أما اليهودية، فهي مواجهة بالخلاص من عقدة الاضطهاد، التي تحولت ذريعةً وسببًا لاضطهاد شعوب أخرى، وبضرورة الفصل بين القيم الدينية لليهودية وبين الحركة الصهيونية التي شوَّهت اليهودية.

3.     تنجم عن هذين الشرطين حاجةٌ ماسَّة إلى إصلاح ديني متجدد ومتواصل داخل كلِّ دين. لا بدَّ أن يتوافق هذا الإصلاح مع تطورات العصر وتقدم القيم الإنسانية، وعلى الأخص منها المساواة بين البشر والاعتراف المتبادل بالآخر وبحقِّ كلِّ إنسان في اختيار الدين الذي يشاء وممارسة معتقداته في حرية، واحترام خصوصيات كلِّ معتقد، ومنع فرض ما يخالف حرية الرأي الآخر. يكتسب هذا الإصلاحُ أهميةً مضاعفة مع انبعاث الأصوليات داخل الديانات التوحيدية الثلاث، بما يهدد مكتسبات التقدم والتطور والعقلانية والعلاقات المتبادلة بين أبناء الإنسانية. إذ تستثير هذه الأصوليات الغرائز وتنبش أحقاد الماضي وتحوِّل العلاقات بين الديانات إلى علاقات عنفية وإرهابية خطرة، ستكون من أهم نتائجها ارتداد البشرية إلى عصور الظلام والانحطاط.

4.     لا يكتمل هذا الإصلاح من دون تحقق العَلمانية الديموقراطية وسيادتها، بالتالي، كنظام عام. تؤدي العَلمانية إلى فصل الدين عن الدولة وتمنع استخدام الدين في الصراعات السياسية والاجتماعية، وهو استخدام يضرب عميقًا في العصر الراهن في الدول والمجتمعات كلِّها. وتضع العَلمانية الدين في موقعه الحقيقي، فتعيد الاعتبار إلى جوهره الروحي والإنساني، وتساهم في تحرير العقل البشري ومعالجة الغيبيات، وتُحِلُّ مفهوم الفرد والمواطن محلَّ مفهوم الرعية والطوائفية.

بتحقق هذه الشروط، يصبح حوار الأديان مطلبًا ضروريًّا لسلامة العلاقات المتبادلة. لكن الأمر يحتاج قطعًا إلى تغييرات في الفكر والسياسة والثقافة، وإلى سيادة فهم عقلاني ومتنوِّر للدين من جوانبه كلِّها.

*** *** ***


[1] من تقديم لكتاب سعود المولى الحوار الإسلامي–المسيحي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود