من تجربة الفكر/طريق الحقل
الشعر والفلسفة في تداخُل وتقاطُع

 

حنـان عـاد

 

يواصل الشاعر فؤاد رفقة مدَّ الجسر الثقافي الألماني–العربي، مواظبًا على نقل أعمالٍ لكبار الفكر والأدب الألمانيَّين إلى العربية. وقد صدر له في هذا السياق كتابٌ عرَّب فيه للفيلسوف مارتن هيدغِّر كتاباتِه الشعرية من تجربة الفكر ومقالتَه طريق الحقل[*]، حيث يتداخل عميقًا الشعرُ والفلسفة. والأمر ليس بمستغرب، إذ ينتمي هيدغِّر إلى قافلة من الفلاسفة الألمان الذين أفردوا للشعر كذلك حيزًا منيرًا ورحبًا في نتاجاتهم. والأكيد أن الحضارة الألمانية تدين بقسط من فرادتها لكون أبنائها هؤلاء رفعوا فكرهم وعاطفتهم على مذبحَي الفلسفة والشعر في آنٍ واحد، واتسم معظمُهم بمواقف شمولية، رؤيوية، من الحياة والوجود، فلم يكن فصلٌ واضحٌ لديهم بين الفكر والشعر.

يقارب هيدغِّر رؤيته إلى الشعر بما يداني اليقين المقدس بتأثير الشعر على كينونتنا. يقول:

حتى نعثر على معنى الكائن، ولئلا نُرجِع كلَّ شيء للإنسان، ليس ثمة سوى منفذ واحد: إيجاد معنى الحياة من خلال إيجاد لغة الحياة نفسها عبر الشعر. الشعر يحيل الإنسان كائنًا حقيقيًّا بكلمات حقيقية. ينبغي أن نتعلم من جديد أن نسكن العالم بالشعراء، في مواجهةٍ لوهمية عالم يغلب فيه عنفُ المال.

ويستهل رفقة مقدمته بقول هُلدِرْلِن:

الأحَب متجاورين يسكنون،/ ومتعبين، على أكثر الجبال انفصالاً.

ويقتبس من جواب هيدغِّر عن هذا السؤال فيقول:

من هم "الأحب"؟ الفكر والشعر. إنهما حبيبان يتجاوران، معًا يترافقان صوب المنبع الواحد، ومنه معًا يفيضان. وما هو هذا المنبع الواحد؟ إنه الكينونة. ونتيجة لهذه الحقيقة هما في قرابة كيانية، كلٌّ منهما في حوار مع الآخر. في هذا الإطار يقول هايدغر في من تجربة الفكر: "الغناء والفكر جذعان متجاوران/ للشعرية/ إنهما ينموان من الكينونة/ ويبلغان حقيقتها."

ويردف قائلاً:

الغناء في هذا المقطع يلتفت في معناه إلى المفهوم اليوناني القديم الذي يعتبر الشاعرَ مغنيًا والشعرَ غناء. في ضوء هذا المفهوم يسكن الشعر والفكر، بنظر هايدغر، المنطقة الشعرية. على هذا الأساس تصح الإشارة إلى شعرية الشعر وشعرية الفكر. [...] صحيح أن الفكر والشعر يتجاوران، يتحاوران، يرغبان في التلاحم، غير أن هذا التلاحم بينهما مستحيل، لأنهما على "أكثر الجبال انفصالاً"، وبسبب هذا الانفصال الدائم يستمر الحنين بينهما في الاشتعال حتى التعب. [...]

وإذ يعزو رفقة سبب "الانفصال" إلى اللغة، يوضح أن

[...] التجربة الشعرية تترجَم بلغة الغناء في معناه اليوناني الكبير، بينما تترجَم التجربةُ الفكريةُ بلغة الدقة والوضوح. [...] ما هي هذه الكينونة الهايدغرية؟ لستُ متأكدًا إذا كان هايدغر نفسه قادرًا على الإجابة الدقيقة الواضحة. ما يمكن قوله في هذا المجال هو أن مغامرته الفكرية تتجه في البداية صوب هذه "النجمة" الواحدة، وفي كلِّ خطوة تحاول هذه المغامرة أن تقول "الواحد الثابت" في صورة أدق. ومع هذا، في مناطق هذه المغامرة وأدغالها، تحوم على المسالك والتخوم ضبابيةٌ شعرية.

إذا كانت الفلسفة تعني حب الحكمة والمعرفة والذهاب بالأسئلة إلى ضفة البرهان والإقناع والمنطق، فإن الشعر يكاد أن يدانيها من حيث التوق إلى المعرفة والحكمة والنزعة القوية إلى التساؤل المستمر، مع فارق أن الشعر لا يطرح بالضرورة أسئلته عن سابق تصور وتصميم، ولا يأبه بالضرورة أيضًا للعثور على أجوبة منطقيًّا. عظمته في مجانيته، في أفقه المفتوح الذي لا تضاهي رحابتَه رحابةٌ. ولعل ذلك ما دفع هيدغِّر إلى الانتقال أحيانًا من غمار الفلسفة إلى راحة منشودة في أحضان الشعر، وإن يكن الشعر الذي يكتبه فيلسوفٌ محمَّلاً بالرموز والمناخات الفلسفية. وهذا جليٌّ في نصوصه في من تجربة الفكر. كما أن طريق الحقل التي لها شكل مقالة تحلق عاليًا، في مقاطع منها، في فضاء الشعر شديد التواطؤ مع النفَس والرؤية الفلسفيَّين:

تجهُّم العالم لا يصل أبدًا/ نور الكينونة./ متأخرين نجيء الآلهة، ومبكرين/ نجيء الكينونة. قصيدتها المبتدئة/ هي الإنسان./ صوب نجمة أن نمضي، فقط هذا.

ويقول رفقة إن "راعي الأفق" يعتبر الكينونة هي نفسها "النجمة" التي يمضي صوبها أهلُ الفكر والشعر، وهي أيضًا التي يسميها، في طريق الحقل، "الحقيقة الثابتة".

من تجربة الفكر يتجاذبه جوَّان، وتتوزع النصوص في ضوئهما. ثمة نصوص تكاد أن تكون محض فلسفية، لولا نبرتها التأملية وانسكابها على نحو شذرات فكرية غير مكتملة تمامًا:

التفكير هو التقيُّد في فكرة واحدة،/ في سماء العالم/ تظل واقفة كنجمة منذ القدم.

وتعبُر نصوصًا مماثلةً عباراتٌ لها إيقاع الحكمة أو القول المأثور ذي اللمعة الشعرية، كقوله:

في الصبر الطويل/ ينمو الكرم.

أما المناخ الثاني فيبدو غالبًا شعريًّا بامتياز و"متحررًا" من النبض الفكري الفلسفي:

تحت سماء ماطرة منفرجة/ عندما فجأةً على ظلمة المراعي/ شعاعُ الشمس يتسرَّب...

ثمة تغليب هنا لشعرية الفيلسوف: يترك هيدغِّر للصورة الشعرية هنا أن تقود قلمه؛ وكذا يفعل في مواقع أخرى كثيرة عن مؤلِّفه الآنف ذكره:

قبل بداية الصيف بقليل/ عندما نرجسات منفردة، في المرج مختبئة تزهر،/ وتحت شجرة القيقب وردة الجبل تضيء...
في خشب الكوخ/ عندما الريح، متحولةً بسرعة، تهدر/ والطقس عابسًا يصير...
حين ساقية الجبل في سنة الليالي/ عن سقوطها على الصخور تحكي...
في مكان من الغابة/ عندما ضوء المساء/ وامضًا يذهِّب الجذوع...

من النصوص هذه، المقتضبة شكلاً، الكثيفة مضمونًا، يمكن استخراج ثلاثة قواسم مشتركة: تحديد المكان، تحديد الزمان، النقاط الثلاث المتتالية في آخر النص، بل في لانهائية النص، فضلاً عن الألق المشهدي الشعري الجميل المتجلِّي في كلٍّ منها. كأن هيدغِّر يحدِّد الزمان ("عندما..."، "حين...") والمكان ("في خشب..."، "في مكان...")، ليخلُص كلَّ مرة (في هذه النصوص وأخرى مماثلة في من تجربة الفكر) إلى ترك المشهد الشعري المرتبط بهما مفتوحًا على الماوراء، على أيِّ لغز محتمل، على أيِّ أفق مفترض: "وردة الجبل تضيء..."، "الطقس عابسًا يصير..."، "ضوء المساء وامضًا يذهِّب الجذوع...". ولعل في المقطعين الأول والثاني من هذه المقاطع الخمسة إشارةً إلى لانهائية الضوء، إلى أزليته، إلى عصيانه على أيِّ تحديد أو حدود. وفي المقابل، في المقطع الثالث إشارة إلى ما ينقر الضوء: العبوس، أي القتامة، أي ما قد يشبه العتمة؛ وبالتالي، مثل الضوء، العتمة أيضًا يتركها هيدغِّر بلا أفق، معلَّقة على المصير اللانهائي. ولعل تلك النقاط الثلاث المتتالية، التي تعود مرارًا فتفرض ذاتها على هيدغِّر الشاعر، تكبح شاعريته وتظهر لتذكيره بذاته الفيلسوفة المفكرة، مما جعل نصَّه الشعري مشرَّعًا دومًا على رحاب تلك النقاط المتتالية... تمامًا كما تلبث الفلسفة مشرَّعة على السؤال.

طريق الحقل، الجزء الثاني من كتاب رفقة، نص تأملي يشتبك فيه أيضًا الشعر والفكر على إيقاعات إيمائية صوفية لا تخلو من رموز لاهوتية مسيحية، مثل: عظة، عيد الميلاد، عيد القيامة، "صليب" الحقل. ويُستشف من المناخ والسياق العامين للمقالة أن هيدغِّر يناجي مجازًا الفيلسوف الفائق، "المفكر الأول" على الإطلاق، ويخاطب الحكمة الأسمى؛ يمجِّد نظام الطبيعة والخلق ليتغنى بمن وراءهما؛ يشير إلى البساطة التي منها وإليها تعود العظة. ثمة تنبيه مضمَر إلى مبدعين يردُّون إبداعهم إلى ذواتهم، إلى أناهم المنتفخة بنرجسيتها، متجاهلين "طريق الحقل" أو "النجمة" التي لا تنفك تنير لهم تلك الطريق. يقول:

على هذا المقعد وضع مفكرون عظام أحيانًا هذه الكتابة أو تلك التي حاولت أن تفك مسألة ناشئة تبعث على الحيرة. حين توالت الأحجيات وما من مخرج، قدَّم العونَ طريقُ الحقل، لأنه يقود القدم على درب ملتوية بهدوء في أبعاد الأرض القاحلة. [...] ذلك أن الطريق يبقى قريبًا من خطوة المفكِّر قُربَه من خطوة المُزارع الذي يمضي في الصباح الباكر إلى الحصاد.

ثم يثير موضوع

[...] الحقيقة الثابتة التي تقف دائمًا وفي كلِّ مكان عند طريق الحقل.

فعن أية "حقيقة ثابتة" يتكلم؟ قد يكون الجواب الخفي هنا:

عبثًا يحاول الإنسان بمخططاته ترتيب أمور الكرة الأرضية إذا لم يتناغم مع عظة طريق الحقل. والخطر المنذر هو أن الإنسان المعاصر ثقيل السمع بالنسبة إلى لغتها. [...]

الحقل رمز من رموز الطبيعة؛ الطبيعة ثمرة أولى لعملية الخلق. لكن ما هي "عظة طريق الحقل"؟ وما هي "لغتها"؟ أتراها عظة "الحدَّاد الخبير في أحجيات الوجود"، كما يسميه هيدغِّر؟ حتمًا هو الله الخالق الذي يعنيه حين يقول:

الإشراقة العارفة مدخلٌ إلى الأبدي، بابه يدور في المفاصل التي حدَّدها حدَّاد خبير في أحجيات الوجود.

وفي خاتمة المقالة أيضًا، حيث يتجلَّى الله على أنه "الحقيقة الثابتة":

كل شيء يحكي التنازل للحقيقة الثابتة. [...]

هنا يُثبت هيدغِّر، المقترن اسمُه بالفلسفة الوجودية، أن الوجودية ليست من مُرادفات الإلحاد، على عكس ما يعتبر بعضُهم، بل هي على ارتباط كذلك بالصوفية. كما يُثبت في هذه المقالة تحديدًا أنه ليس عدميًّا، على ما وصفه بعضُهم الآخر.

من تجربة الفكر وطريق الحقل عملان ثمينان جدًّا لمارتن هيدغِّر، أتاح لنا الشاعر فؤاد رفقة النهل من مَعينهما في سخاء، وخاصة أن الترجمة على قدر عالٍ من الحرفية، شكلاً ولبًّا، كون رفقة شاعرًا أصيلاً، من ناحية، وكونه، من ناحية ثانية، صاحبَ مسيرة طويلة ومنتظمة في تعريف العالم العربي إلى كنوز الأدب الألماني، لا من خلال لغة ثالثة وسيطة، بل من "لغة أم" إلى لغة أم.

*** *** ***

عن النهار، السبت 8 أيار 2004


 

horizontal rule

[*] مارتن هايدغر، من تجربة الفكر/طريق الحقل، بترجمة وتقديم فؤاد رفقة، دار النهار، بيروت، 2004.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود