العقل في منظور الفيزياء الكوانتية وفلسفة الطبيعة
العقل هو مسيرة الطبيعة لمعرفة ذاتها

نـدره اليـازجـي

 

يُحتمَل ألاَّ تكون للإنسان روحٌ خاصةٌ به، لكنه، على الأقل، جزءٌ من روح كبرى، هي روحٌ واحدةٌ شاملةٌ تخص كلَّ إنسان.
– جون شتاينبك

 

مـقـدِّمـة

يؤكد العلماء الذين انشغلوا بدراسة الكون وجودَ العقل في مستويات ثلاثة:

1.    المستوى الأول: هو مستوى السيرورات المادية الأولية في الميكانيكا الكوانتية – وهذا لأن المادة، وفق ما هي عليه في الميكانيكا الكوانتية، ليست جوهرًا غير فعال أو عاطل، بل عامل أو قوة فعالة تفعل دائمًا في عملية اتخاذ القرار وسط احتمالات التعاقب أو التناوب بحسب القوانين الاحتمالية. والحق أن كلَّ تجربة كوانتية تُلزم الطبيعة على القيام بـعملية اختيار. وهكذا يبدو أن العقل، كما يتجلَّى على نحو طاقة قادرة على اتخاذ القرار، يكون، إلى حدٍّ ما، متأصلاً في كلِّ إلكترون.

2.    المستوى الثاني: هو المستوى الذي يكون فيه العقل على نحو ما ندعوه بـ"مستوى التجربة الإنسانية المباشرة". فوفق هذا المستوى، تظهر عقولنا وكأنها أجهزة تعمل لتوسيع المكوِّن الأساسي للعقل الفاعل في الخيارات الكوانتية التي تضعها الإلكترونات أو الذرات داخل رؤوسنا. وهذا يشير إلى أن الكون، في كلِّيته، ملائم لنموِّ العقل.

3.    المستوى الثالث: هو المستوى الذي نشاهد فيه المكوِّن العقلي الأساسي للكون. يقول فريمان دايْسون: "إننا، إذ نعترف بوجود هذا المكوِّن العقلي للكون، نعترف، في الوقت ذاته، بأننا أجزاء صغيرة من الجهاز الكوني الذي يشير إلى حقيقة الوعي الكوني."

أولاً. هنري مارغِناو والعقل الكوني

يسهل علينا أن نجد العديد من الصوفيين والشعراء والفلاسفة ممَّن آمنوا بالطبيعة اللاَّمركزية أو اللاَّمحدودة للعقل والشبيهة بالروح. لكننا، في المقابل، لا نجد إلا القليل من العلماء ممَّن انشغلوا بهذا الإيمان من وقت إلى آخر.

لذا يُعتبَر هنري مارغناو، الذي كان أستاذًا فخريًّا للفيزياء والفلسفة الطبيعية في جامعة ييل، عالمًا فذًّا تحدث صراحةً عن شمولية العقل. وقد استهل مارغناو، الذي قام باختباراته في الفيزياء الذرية والنووية، دراستَه وهو يتقصَّى حقيقة الأسُس الفلسفية للعلم الطبيعي، فاستطاع أن يوسع وجهة نظره الكلِّية والشاملة إلى الفيزياء، معلنًا أن الفيزياء تهدف إلى إبراز حقيقة تتجلَّى فائدتها في شمولية تحتوي أبعاد الحياة قاطبة. وفي وفاق مع هذا المنظور الشامل، يُعَد كتاب مارغناو معجزة الوجود أطروحةً لا يقتصر ما جاء فيها على الفيزياء وحدها، بل يتعداها إلى الحديث عن الحقيقة المطلقة. ففي كتابه هذا يتماثل مصطلح "العقل الكوني" مع مصطلح "العقل اللاَّمركزي" الذي نعتمده في هذا المقال.

إذا كان الصوفيون كثيرًا ما تحدثوا عن الوحدة التي تكتنف الوجود فإن العلماء النظريين عاينوا هذه الوحدة الشاملة في تماثُل خصائص المكوِّنات الأولية أو البدئية للمادة. وفي هذا الصدد، يقول مارغناو:

ثمة في الطبيعة تماسُك مذهل ووحدة تدعو إلى الدهشة – وهذا لأن جميع ذرات الأكسجين يتصف بالكتلة وبالوزن ذاتهما، ويتصف جميع الإلكترونات بالكتلة وباللف spin وبالشحنة عينها، الأمر الذي يشير إلى وجود دقة يعجز الإنسان عن إنجازها في الأشياء التي يصنعها. وينطبق هذا التماثل التام على جميع خصائص المكوِّنات الأساسية للمادة. وعندما نجد هذا التماثل والوحدة في العالم الماكروسكوپي وفي عالمنا اليومي، ندرك أن العقل الإنساني هو الذي صمَّمها. على هذا الأساس، نستنتج وجود كيانات أساسية للفيزياء الذرية والنووية، ونعلم أن العقل الذي أبدعَها ليس العقل الإنساني.

في سبيل توضيح الوحدة التي نتحدث عنها، يستعمل مارغناو مصطلح onta اليوناني الأصل الذي يعني الكينونة أو الوجود. وقد دلت بحوث الفيزياء النووية على أن onta مختلفة يتحد بعضها مع بعض ويفقد هويته في ظروف معينة؛ وهذا يعني وجود وحدة في أعمق مستويات الطبيعة. ومع ذلك، تكون هذه الوحدة مركَّبة: فعلى الرغم من فقدان الـonta "هويتها" لا تندمج كليًّا بحيث تفقد تمايُزها، بل، على غير ذلك، تحتفظ بـ"عددها". وهكذا تحتفظ "الفردية" بوجودها، على نحو تناقُض ظاهري، داخل الحركة باتجاه الوحدة في هذا المستوى الماثل في الطبيعة.

في سبيل الوضوح، يتحدث مارغناو عن سلوك النوترونات والپروتونات، فيقول:

عندما تنفصل في المكان بحيث لا تكون متفاعلة، يكون أحدها محايدًا فيما يحمل الآخر شحنة موجبة. وعندما يقترب أحدهما من الآخر اقترابًا كافيًا تختفي هويتهما، وتندمج خصائصهما، ويصبح التمييز بينهما أمرًا مستحيلاً، ومع ذلك، يكونان onta اثنين.

وبالإضافة إلى ذلك، يشير مارغناو إلى حقيقة هي:

يفترض العلماء المحدثون وجود قوى أساسية مختلفة بين مكوِّنات العالم النووي. وتعتمد قدرة هذه القوى على طاقة الكيانات المتفاعلة. وعلى مستوى الطاقات الصغيرة للتفاعل، تختلف شدة هذه القوى كثيرًا.

ويتابع مارغناو حديثه قائلاً:

يُدهشنا أن نعلم أن قيم هذه القوى الثلاث تتعادل، كما يؤكِّد العلم، في الطاقات العالية جدًّا. ويُعَد هذا المثال إشارةً إلى وجود الوحدة.

يؤكد مارغناو بأنه يستطيع، كونه عالم فيزياء، أن يتحدث عن الوحدة التي، كما تحدِّثنا إلهامات العلم، تشمل المستويات القصوى للطبيعة. ويدعِّم مارغناو وجهة نظره بوجهة نظر كلٍّ من ڤيرنر هايزنبرغ وديڤيد بوهم. فقبيل وفاته، تحدث هايزنبرغ عن بعض التصورات الميكانيكية الأساسية المألوفة، مثل "كونها مؤلَّفة من" و"كونها أجزاء متمايزة يمكن لنا تسميتها". وقد عبَّر ديڤيد بوهم عن هذا الشعور ذاته في العبارة التالية:

يبلغ الإنسان في تصوره وجود وحدة متصلة أو كلٍّ متصل وغير مجزأ يتجاوز الفكرة التي تشير إلى تحليل العالم الكائن إلى أجزاء منفصلة ومستقلة.

وفي هذا الصدد، يتحدث مارغناو، وهو يرى انهيار الفكرة الداعية إلى تحليل الأجزاء أو انفصالها على المستوى الذري، على النحو التالي:

إذا كانت الأجزاء، على الرغم من انفصالها المزعوم، تنضوي في كلٍّ متصل وغير قابل للتجزئة، فإنما يعني هذا أن العقول المنفصلة تُضاف إلى العقل الكلِّي الشامل.

يؤكد كلٌّ من مارغناو وهايزنبرغ وبوهم أن مفهوم وجهة النظر الكلِّية لا يتحدَّد في النطاق الذري وحده. فإذا كان التفكير بانفصالية الأجزاء غير ملائم في نطاق المستوى الذري فإنه يكون كذلك على مستوى العقول أيضًا. فإذا ما سألنا: كيف يكون العقل مجردًا من الأجزاء؟ أجبنا: هو العقل الواحد أو العقل الكلِّي الشامل.

يعتقد مارغناو أن الدليل القاطع على وجود العقل الكلِّي الشامل يكمن في حقيقة هي أن جميع البشر يدركون، عبر حواسهم، عالمًا واحدًا، ويشاركون، على نحو جمعي، في إنشاء صورة متماسكة ومترابطة للعالم. وفي هذا الصدد، يقول مارغناو:

تحتوي هذه الوحدة، التي نعزوها إلى الكل، شمولية العقل. ويقوم هذا التصور على معرفتنا بأن المادة هي بناء يشيِّده العقل.

وبذا يمكن لنا أن نقول إن علماء النفس الإدراكيين، أي الذين استمدوا معلوماتهم عن طريق الإدراك الحسِّي، وعلماء الأمراض العصبية وفلاسفة العقل قد عاينوا هذه الإمكانية الهامة معاينةً متساوقةً ومتناغمةً أو أطلوا عليها على الأقل. وإذا كنَّا، كما يميل علماء الأعصاب إلى التأكيد، لا نعلم شيئًا إلا عبر الحواس، فإنما يعني هذا وجود عالم مختلف لكلٍّ دماغ. والحق أن الأدمغة ليست متشابهة، حتى لدى التوأمين المتماثلين. ويمكن لنا أن نضيف إلى قولنا هذا ما يلي: يستطيع الدماغ الواحد أن يدرك المنبِّه الواحد إدراكًا مختلفًا بين لحظة وأخرى، فينشئ بذلك صورة مختلفة للعالم. وإذ نتأمل الاختلاف الجذري بين الصور التي تستطيع أدمغتنا إنشاءها، نعلم أن الصور التي ننشئها عن العالم تبدو مترابطةً على نحو ما هي عليه. وفي هذا السياق، يحدثنا مارغناو عن السبب الذي يجعلها مترابطة على النحو التالي:

ليست هذه الصور مترابطة لأن عقولنا متشابهة أو لأنها تعمل بطريقة واحدة، بل لأن عقولنا هي عقل واحد. والحق أن وعيًا واحدًا ينشئ صورة واحدة للعالم. ويذهلنا أن نعلم أن هذا الوعي الواحد ينشئ صورة واحدة من الصور التي تنشئها العقول الإنسانية عن العالم. لذا نجد أن عقلاً واحدًا، هو العقل الكلِّي الشامل، هو العقل القادر على جمع هذه الصور في صورة واحدة. إذًا لا بدَّ أن يكون هذا العقل الواحد لامركزيًّا ولامحليًّا ولامحدودًا، وهو يحقق هذه الصورة الواحدة بهذه الطريقة لأنه عقل يقع فيما يتعدى العقول الفردية والأجسام الفردية. ولو لم يكن العقل الواحد يعمل وهو يصوغ الكمَّ الواسع من المعلومات والبيانات الحسِّية التي تنجزها العقول الكثيرة وهي تعالج سلسلة العمليات المتعاقبة في هذا العالم لتوقَّعنا وجود صور عديدة مشكَّلة عن العالم على نحو يُعجِزُنا عن تجميعها لأنها متفاوتة ومتباينة بحيث يتعذر إبلاغها.

على نحو مغاير، يعلِّق معارضو هذا المنظور قائلين: إن الصور التي نُنشئها عن العالم هي صورة واحدة لسبب هو وجود عالم واحد نُنشئ صورة عنه. وعلى غير ذلك، يطلب منَّا مارغناو، تمامًا كما تقتضي الفيزياء الحديثة، أن نتجاوز هذا الاعتراض إلى ما هو أكثر وأبعد – وهذا لأن الحقيقة غير موجودة "خارجًا" هناك بحيث نعتبرها خارجنا كلِّيًّا، وليست موضوعية وواحدة لكلِّ إنسان. لذا توجد سمة للحقيقة أعمق من الموضوعات "الخارجية" وتقضي بأن يكون العقل مضمونًا فيها. وتكون هذه الحقيقة، في أعلى مستوياتها، حقيقة الكيان الواحد، أي العقل الكلِّي الذي هو التعبير الشامل عن الحقيقة السامية.

إن اعترافنا بالعقل الكلِّي الشامل أو اللاَّمركزي الذي تحدث عنه مارغناو لا ينقذنا من التجربة المريرة التي اعتدنا أن نجد أنفسنا، من خلالها، منفصلين عنه – وهذا لأننا نثابر على اعتقادنا الذي يجعلنا نعتبر الواحد–الكل كما نعتبر الأشياء أو الموضوعات، كالشجرة أو الصخرة أو غروب الشمس. هكذا يصبح الواحد–الكل في نظرنا "شيئًا" كباقي الأشياء؛ وهكذا نختزل مفهوم العقل الكلِّي الشامل ونجعل منه "شيئًا واحدًا كبيرًا". والحق أن الواحد–الكل لا يمكن له أن يكون "شيئًا واحدًا". وفي هذا الصدد، يقول كِنْ وِلبر:

إننا نجد في حديثنا عن الحقيقة واعتبارها الواحد–الكل مقولة تريحنا وتُطمئننا. وفي هذا الاعتبار ندرك إدراكًا مجازيًّا أن الحقيقة هي الخلفية الواحدة المطلقة للظاهرات كلِّها. وهكذا يتحدث الحكماء عن "الواحد–الكل" دون أن يقصدوا التحدث عن "الواحد" حرفيًّا. فقد قصدوا أنه التعبير الأمثل للتعالي عن الثنائية الظاهرية. وهكذا لا تشير هذه المقولة إلى الوحدانية المحدَّدة أو إلى الحلولية بقدر ما تشير إلى التجربة التي نختبر فيها عدم وجود الثنائية.

يمكن لنا أن نقول: إن مفهوم العقل الواحد يتوافق مع معطيات الفيزياء الحديثة ومع رؤى الحكماء الكبار. وإذا كان الواحد–الكل هو "العقل الواحد" ذاته، فإنما يعني هذا بأننا لسنا مجرد "جزء" منه. فعلى غير ذلك، يجب علينا أن نتجاوز الاعتقاد بأن عقلنا "جزء" من أيِّ شيء أصلاً ونأخذ بما قاله إرڤن شرودنغر:

إذ نبلغ المستوى العقلي الذي نعاين فيه الحقيقة ندرك أننا العقل الواحد. فإذا كان أي شيء، بما فيه أنفسنا، هو هذا العقل الواحد فإنما يعني هذا أنه لا يمكن أن يكون "الواحد والكلِّي والكامل والمطلق".

والحق أن وجهة نظر مارغناو لا تختلف عن وجهة نظر شرودنغر في شيء؛ فهو يعي السيرورة التي ينطوي من خلالها "الجزء" في "الكل". وفي هذا الصدد، يقول مارغناو:

أعتقد أن كلَّ إنسان هو جزء من الحقيقة السامية أو جزء من العقل الكلِّي الشامل واللاَّمركزي. ومع ذلك، أراني أتردَّد في استعمال مصطلح "جزء من" بسبب قصوره وعدم إمكان تطبيقه على الفيزياء الحديثة ذاتها. لذا أسمح لنفسي بأن أعبِّر عن هذه القضية تعبيرًا أفضل فأقول: كل واحد منَّا هو عقل شامل مُبتلى بالتحديدات التي تحجب جزءًا من معالمه وخصائصه.

ثانيًا: العقل بوصفه حقلاً

تختلف الفيزياء الحديثة، على غير الحال السائدة في العلوم الحيوية (كالبيولوجيا والطب)، في أنها تتحدث عن الكيانات أو الموجودات اللاَّمادية. فقد تقبَّل علماء الفيزياء الحديثة التصور الذي يعترف بوجود كيانات "غير مادية" وأطلقوا على غالبيتها مصطلح "حقول" fields. وعلى الرغم من أنها غير مادية، لكن معظمها، مع ذلك، مرتبط بالمادة أو متماهٍ معها. وعلى سبيل المثال، تشمل هذه الحقول الفيض المتدفق لسائل متحرك، الحقول الكهرطيسية المحيطة بالأجسام، الحقل الحراري للجو، إلخ. ومع ذلك، توجد حقول لا تتطلب وجود المادة، وليست متصلة أو مرتبطة بالأشياء المادية، ولا يمكن وصفها بـ"المادية". على سبيل المثال، نذكر الحقول المترية في نظرية النسبية العامة وحقول الطاقة المشعة وحقولاً أخرى تجريدية تحدث في الفيزياء النووية. وإلى هذه الحقول، يضيف مارغناو "حقول الاحتمال" probability fields التي توجد بين ما يمكن رصده في الفيزياء الكوانتية وفي مقادير مثل الموقع والسرعة والكتلة والطاقة. والحق أن حقول الاحتمال تسم جوهر الفيزياء الكوانتية وتلعب دورًا هامًّا في صوغ النموذج الذي يُلحقه مارغناو بالعقل الكوني الشامل واللاَّمركزي.

لم يرحِّب علماء البيولوجيا المحدثون بالفكرة التي تشير إلى إمكانية كون العقل حقلاً لاماديًّا قادرًا على إحداث تغييرات مادية في العالم. وقد بدأ علماء البيولوجيا يعتقدون، على نحو حذر ومتروٍّ، بأن العقل لا يتكل، ماديًّا، على الدماغ والجسم وبأن الإنسان ليس قادرًا على فهمه من خلال كيمياء الدماغ وعلم التشريح. وفي هذا الصدد، يقتبس پول ديڤيس، عالِم الفيزياء المرموق، العبارة الهامة التالية التي ذكرها البيولوجي هارولد مورويتنر:

يتجاوز علماء الفيزياء الأنماط الميكانيكية للكون إلى وجهة نظر ترى العقل وهو يقوم بدور تكاملي في جميع الأحداث الفيزيقية.

على الرغم من معارضة علماء البيولوجيا وجهةَ نظر مارغناو عن طبيعة العقل اللاَّمادية يؤيد علماء الفيزياء وجهة نظره. وفي هذا الشأن يقول نيلز بوهر:

لا نجد في الكيمياء والفيزياء ما يشير، من قريب أو بعيد، إلى وجود الوعي.

وعلى نحو مماثل، يقول معاصرُه ڤيرنر هايزنبرغ، الذي أبدع مبدأ اللاتعيُّن indetermination principle في الفيزياء الحديثة:

لا شك أن "الوعي" لا يحدث أو لا يوجد في الفيزياء والكيمياء ولا ينتج عن الميكانيكا الكوانتية.

وهكذا يعبِّر مارغناو وبوهر وهايزنبرغ عن وجهة نظرهم على النحو التالي: لا نستطيع أن نعزو وجود الوعي إلى العلوم الفيزيقية كما نفهمها في الوقت الحاضر.

يتساءل علماء البيولوجيا، وهم يعارضون وجهة نظر مارغناو حول الطبيعة اللاَّمادية للعقل: كيف يستطيع كيان "لامادي"، وهو مستقل عن المادة تمامًا، أن يؤدي أيَّ فعل؟ هل تستطيع "الأشياء اللامادية" أن تفعل في الأشياء المادية؟ يجيب مارغناو عن هذا التساؤل كما يلي:

توجد تفاعلات بين ما هو لامادي وبين ما هو مادي. والحق أن هذه التفاعلات تحدث في كثرة في الفيزياء الحديثة. وبالفعل، نحن نعلم أن كلَّ مولِّد كهربائي يعتمد على مبدأ التفاعل. وبالمثل، تؤثر حقول الاحتمال على سلوك الكيانات الذرية.

وفي سبيل توضيح التفاعل بين العقل اللاَّمادي والدماغ المادي نقول: عندما يحدث عمل بين كيانين متفاعلين ينتقل مقدارٌ من الطاقة بينهما. ومع ذلك نقول: لا تتميَّز جميع التفاعلات التي تحدث في العالم الفيزيقي بطبيعة التبادلات الطاقية. ونستطيع أن نخلص إلى النتيجة التي بلغها مارغناو وهو يتحدث عن تأثير العقل اللاَّمادي في الدماغ المادي:

يُحتمَل أن يكون العقل اللاَّمادي حرًّا ومستقلاً تمامًا عن الدماغ المادي، ومع ذلك، يكون قادرًا على التأثير فيه تأثيرًا تامًّا دون أن يكون ملزمًا بالإتيان بأية طاقة مطلوبة في التفاعل بين الاثنين. وإذا كانت البيولوجيا تنكر التفاعل القائم بين العقل والدماغ فإن الفيزياء الحديثة تعترف بهذا التفاعل.

وهكذا تكمن الإجابة عن هذا التفاعل بين العقل والدماغ أو الجسم في المبدأ التالي: لا تصدر طاقة من العقل اللاَّمادي لكي يؤثر في الدماغ أو في الجسم، بل تصدر من الدماغ. ضمن هذا المنظور، يتحدث مارغناو عن العقل الكلِّي الشامل، فيقول:

تشتمل معرفته على الحاضر، بكلِّيته وشموله، وعلى الأحداث الماضية برمَّتها. وإذا كان عقلنا قادرًا على فحص كلية المكان وتقييمها ومعرفتها فإن العقل الكلِّي الشامل قادر على الارتحال ذهابًا وإيابًا في الزمان كما يشاء.

إذا كانت عقولنا جزءًا من العقل الكلِّي أو الواحد فلا بدَّ أن تكون، مثله، لا تُحَد مركزيًّا بالزمن والمكان. لِمَ نشعر، إذن، بفرديتنا واحتجازنا داخل أجسامنا؟ ولِمَ نتعذب ونحن نطرح سؤالاً استغرق آلاف السنين لنعلم إن كنَّا نمتلك، عن حق، حرية الاختيار أو إن كانت حياتنا قد خضعت للبرمجة منذ البدء؟ لِمَ نشعر بالمحدودية ونحن على ما نحن عليه؟ ولِمَ يتملكنا شعورٌ طاغٍ بالحاضر وشعور آخر بالاحتجاز في هذا المكان الحالي؟ والحق أن هذه التساؤلات لا تجد موضعًا لها في العقول التي تؤمن بأنها جزء من العقل الكلِّي الشامل واللاَّمحدود.

يعتقد مارغناو أن التحديدات والتقييدات المادية التي تفرضها أجسامنا تحجب عنا شعورنا بشموليتنا وكونيَّتنا. وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يدعو إلى تجاوُزها لسبب هو أنها ليست مطلقة في ذاتها. ومع ذلك، يعترف مارغناو بواقعية التحديدات والتقييدات. وفي هذا الصدد، يتحدث عن التحديدات الثلاثة التالية:

1.    يستعمل مارغناو، مجازًا، مصطلح "شق الزمن الطولي"، ساعيًا إلى توضيح قدرتنا على رؤية شريحة صغيرة من المشهد الكامل للزمن وإلى الاعتراف بأننا لا نستطيع أن نرى من الطيف الكهرطيسي الكامل غير شريط ضيق ندعوه "الضوء". وبالمثل، لا نستطيع أن نُخضع لحواسنا أكثر من شريحة صغيرة من الزمن ندعوها "الآن". لذا يُسهم هذا التحديد لمعرفة كلِّية الزمن في إحساسنا بأننا مساقون إلى الوقوع في شرك الزمن، بمعنى أننا محدودون أو مقيدون بفترة حياتية واحدة، الأمر الذي يجعلنا نشعر بأننا كائنات يائسة وفانية محكوم عليها بالموت.

2.    يتحدث مارغناو عن "الجدار الشخصي" الذي يعيقنا عن استعمال عقولنا استعمالاً شموليًّا وكونيًّا غير محدود. فهو يعتقد أن هذا "الجدار الشخصي" يولِّد فينا إحساسًا طاغيًا بعزلة فردية، ويزوِّدنا بالهوية التي تتأصل في مركزية الأنا، وفي حدِّه الأسوأ، يخلق فينا الإحساس الحتمي الأليم بالانعزال والوحدة.

3.    ثمة تحديد أو معوِّق آخر يحول دون تماهينا مع العقل الكلِّي الشامل ويشكِّل الخاصية الملازمة لشرطنا البشري. ويثير فينا هذا التحديد الإحساسَ بهيمنة العشوائية وعدم اليقين في الوضع البشري. ويعزو مارغناو هذا الإحساس المقيِّد أو المعوِّق إلى كون العالم، في المستوى الذري الصامت غير المنظور، عالَمًا لامتعينًا ولايقينيًّا. وعلى غير ذلك، يؤكد مارغناو أن الأمر مناقض لما يُعتقَد، وهذا لأن لاتعيُّنية العالم هي التي تتيح لنا، على الأقل، إمكانية الاحتمال في نطاق حرية الإرادة الإنسانية.

وبالإضافة إلى عدم التعيُّن indetermination واللاَّيقين uncertainty، نحتاج إلى عنصر آخر هو حرية الاختيار. وهكذا يتحدث مارغناو عن عاملين يجعلان من الحرية الإنسانية حقيقة وواقعًا، هما:

أ‌.       حرية الاختيار

ب‌.  التأثير في المصادفة أو العمل على اختزالها

على هذا الأساس، يؤكد مارغناو عدم وجود تحديد يعوق الإنسان عن بلوغ أعلى مستويات العقل. وفي هذا الصدد، يقول:

لا نجد أثرًا لِـ"شق الزمن الطولي" أو لِـ"الجدار الشخصي" في العقل الكلِّي الشامل الذي لا تتقيد معرفته بالاحتمالات الكوانتية. والحق أن العقل الكلِّي الشامل، أي الكوني، لا يحتاج إلى ذاكرة مادامت جميع الأحداث والعمليات الماضية والحاضرة والمقبلة مضمونة داخل معرفته الكلِّية الشاملة.

تحفل مجازية مارغناو، وهو يتحدث عن "شق الزمن الطولي"، بمضامين تُفيد المعرفة الإنسانية، مثل ملَكة الذاكرة. وكلما زاد "الشق الطولي" اتساعًا نقص تقيُّدنا واحتجازنا في نطاق الزمن وزادت قدرتنا على التذكر. وهكذا تعود الذات الواعية إلى أصلها المفترَض والمسلَّم به، الذي هو العقل الكوني أو العقل الكلِّي الشامل. وهذا يعني أن الذاكرة، كونها جزءًا من الحقيقة السامية، تتصف بالقدرة على زيارة جميع معالم تجربتها الأرضية مجددًا.

وفي اختصار، نتمثل وجهة نظر مارغناو في منظور الفيزيائيَين شرودنغر وبوهم. وتشير هذه الرؤية إلى أن النزاع بين العلم والبحث الدائم والأبدي عن حقيقة الإنسانية يُرَد إلى سبب هو أن العلم لم يتقدم في مسيرته التجريبية والاختبارية تقدمًا كافيًا وافيًا. فلو أن تفسيراتنا للعالم المادي توقفت، كما هي في المنظور الكلاسيكي، لرأينا أنفسنا في صورة جزئية تنزع على نحو تنساق فيه إلى "نهاية" في الزمن. أما إذا، عوضًا عن ذلك، أخذنا بمضامين وجهة النظر الحديثة إلى الكون وتطبيقاتها لأصبحنا قادرين على الاعتقاد باحتمال موافقتنا، على نحو توكيدي، على كشوف الحكماء المتكررة بانتظام دائم، لنعلم أننا كيان واحد، أبدي ولانهائي.

ثالثًا: العقل الجمعي في كون هولوغرافي كلِّي

يقول ديڤيد بوهم:

يجب علينا أن نفهم الكون بكلِّيته وشموله، مع كلِّ "جزئياته" وبكلِّ ما تشتمل عليه من كائنات بشرية ومختبراتها، ونراه كلاًّ واحدًا غير قابل للانقسام على نحو لا يجد فيه التحليل إلى أجزاء منفصلة ومستقلة متسعًا.

يعتقد بوهم أن الجزء يحتوي الكل. وفي سبيل توضيح هذه المقولة، يعتمد الأمثلة التالية:

أ‌.       الصناديق الصينية: يُعَد كلُّ صندوق نسخةً مطابقةً عن الصندوق الذي يحتويه، بمعنى أن في كلِّ صندوق نسخةً كاملةً للصندوق الذي يغلِّفه – كل صندوق يحتوي مصغَّرًا تامًّا لذاته.

ب‌.  المرايا التي يواجه كلٌّ منها الأخرى: إنها تعكس سلسلة لانهائية من الصور المتماثلة والمتطابقة، يتضاءل حجمها تدريجيًّا حتى تتلاشى على نحو تتجاوز فيه قدرتنا البصرية.

ت‌.  شجرة السنديان الضخمة التي تنتج لولبًا يحتوي المعلومات كلَّها، لتنطوي وتتكرر في شجرة سنديان ثانية تعيد نسخ ذاتها وتشتمل على نموذج مماثل ينتج لوالبه الخاصة، ليعيد إنتاج ذاته أي ليولِّد ذاته من جديد إلى ما لانهاية.

ث‌.  نموذج أو مثال كلِّ كائن بشري مكتوب في جينات الحُييوين المنوي والبويضة على نحو معلومات مصغَّرة ومركَّزة في جزء يكفي لإعادة بناء الكل.

على الرغم من أن العلم الحديث يعترف بصحة الفكرة التي تشير إلى أن "الجزء يحتوي الكل"، لكن الحكمة القديمة اعترفت بهذه الحقيقة قبل اعتراف العلم بها. وإذا كان غريغور مندل، العالم النمساوي، هو الذي أسَّس مبدأ النماذج الوراثية القابلة للتنبؤ، فإن العلم اعترف بمبدأ الكلِّيات المجسَّدة أو المشخَّصة في الأجزاء. وقد استطاع مندل أن يجعل من حديقة خضرواته كونًا كاملاً. والحق أن نِسَبَه العددية تحولت إلى رياضيات معقدة في كلٍّ من النظريتين النسبية والكوانتية، وأدى وصفُه لنماذج الوراثة الحتمية والقابلة للتنبؤ إلى إبداع الإحصاء ومبادئ الاحتمال. وهكذا طوَّرت الفيزياء الكوانتية تجربة مندل ووسَّعتها لتبلغ المستوى الذي أعلنت فيه أن كلَّ جزء من الكون يحتوي ضمنًا كلَّ المعلومات الماثلة في شمولية الكون ذاته.

يُعتبَر ديڤيد بوهم، زميل أينشتاين، عالمًا من أعظم علماء الفيزياء النظرية في القرن العشرين. ويؤكد بوهم أن المعلومات المنبثة والمنتشرة في الكون الشامل محتواة في كلِّ جزء من أجزائه. ويجد بوهم في مبدأ الهولوغرام hologram المثال الأفضل لرسالة الكون الكاملة. ويُعَد الهولوغرام صورة تُنشَأ على نحو خاص، وتبدو، في حال إضاءتها بشعاع ليزر، معلَّقة في مكان ثلاثي الأبعاد. والحق أن أكثر ما يذهلنا هو أن أيَّ جزء من هذا الهولوغرام يعيد، في حال إضاءته بضوء متواصل، إنشاء صورة الهولوغرام كاملة. وهكذا يختزن الجزءُ جميع المعلومات الكامنة في الهولوغرام كلِّه. ويجزم بوهم أن هذا المبدأ يسري على الكون كلِّه.

يعتقد بوهم أن الكون مشكَّل وفق المبادئ التي تكوَّن بها الهولوغرام. وفي سبيل إقامة الدليل على صحة هذا المبدأ يعتمد بوهم على معطيات الفيزياء الحديثة. وبالفعل، تشير وجهة النظر الفيزيائية الحديثة إلى أن الكون ليس مجرَّد تجميع لكِسَر فردية صغيرة، بل يُعتبَر كلاًّ واحدًا من النماذج والمُثُل وسيرورة دينامية مثابرة واتصالية متواصلة. أما المظهر الخارجي الذي ندركه عن العالم فيُشاهَد في أجزاء معزولة ومنفصلة. وهكذا تظهر الأشياء منفصلة يعوزها الاتصال والتداخل. ومع ذلك، يعتقد بوهم أن هذا الإدراك مجرد "وهم" و"تشويه" للوحدة الكامنة ضمن المشاهد وخلفها، الوحدة الجوهرية والحقيقية للعالم.

يعتقد بوهم أن هذه الوحدة "منطوية" في الكون؛ وهي، في رأيه، تعبير عن "نظام منطوٍ" implicate order. أو هو، كما يعتقد، "نظام منطوٍ" من الموجات الكهرطيسية والموجات الضوئية والأشعة الإلكترونية وأشكال أخرى من الحركة. ويطلق بوهم على هذه الحركة تسمية "الحركة الكلِّية" holomovement. وعلى الرغم من أن العلماء يدرسون مظاهر معينة من الحركة الكلِّية، هي الإلكترونات والفوتونات والصوت إلخ، إلا أن جميع أشكال الحركة الكلِّية تندمج وتُبقي على اتصالها. وهكذا لا تتحدَّد هذه الحركة الكلِّية بأية طريقة معينة أو خاصة، وهذا لأنها تتميز بعدم موضوعيتها وعدم خضوعها للقياس.

يعتقد بوهم أن النظام يستتر أو ينطوي على نحو يُعجِزُ العينَ المجردة عن رؤيته. وبالإضافة إلى ذلك، يعتقد أن الكون تتخلَّله أشكال موجية (يعتبر الضوء إحداها)، ويحتمل أننا نحيا في كون هولوغرافي. وهو يعتقد أن هذا العالم الهولوغرافي يشكل وحدة توجد، فيما يتعدى العالم المرئي، ضمن النظام المنطوي. إنه عالم نعجز عن معرفته معرفة كلِّية. وفي هذا السياق، يقول:

نستطيع أن نتصوره، لكننا لا نستطيع أن ندركه.

وفي رأيه أن الإنسان يعي، أكثر ما يعي، عالم التجلِّيات والظهورات، أي "النظام المنبسط" explicate order الذي هو العالم المرئي للأشياء والأحداث. ويتحدث بوهم عن العقل البشري الذي يعتبر العالم الخارجي واقعًا ويشاهد فيه الانفصال والتجزئة.

في هذه النظرة التجزيئية، تتوطد الانفصالية المكانية التي نشعر بها بين ذواتنا والآخرين – هذه الانفصالية التي تُلزِمنا على الإحساس بأننا عقول منفصلة في أجسام معزولة. ويمتد هذا الإحساس بالانفصالية والانعزال إلى نطاق تقسيم الزمن إلى "مقصورات" compartments أو أجزاء مستقلة هي الماضي والحاضر والمستقبل، الأمر الذي يجعلنا نحتجز ذاتنا داخل أحد هذه الأجزاء المستقلة ونعتبره الحاضر. والحق أننا لا نعتبر هذه المقصورات جوهرية وأصلية، بل، على غير ذلك، نعتبر العالم بنية واحدة تتواشج فيها وتتداخل العلاقات المتصلة التي لا تنقسم ويتحد فيها جميع العقول والأجزاء. وفي هذا الصدد، يقول بوهم:

إذا ما توغلنا إلى العمق، وجدنا الوعي الإنساني واحدًا. وتُعَد هذه الوحدة الكامنة في العمق يقينًا فعليًّا يشير إلى أن المادة واحدة في الفراغ. وإذا كنَّا لا نشاهد هذه الحقيقة فلأننا لا نريد أن نشاهدها. وإن كنَّا نرفض أن نقيم الحواجز المطلقة بين العقول فإنما لنكون قادرين، على نحو إمكان، على توحيدها في عقل واحد.

يمكن لنا أن نقول: إن وجهة نظر بوهم تتجاوز مقولة توحيد الوعي وتبلغ المستوى الذي يعلن فيه خلود العقل. وإلى وجهة نظره تلك يضيف بوهم ما يلي:

يُعَد النظام المنطوي موطن العقل وجميع الأشياء. وفي هذا المستوى، الذي هو الامتلاء أو الحيِّز الممتلئ الأساسي لكلِّية الكون المتجلِّي والظاهر، لا نجد الزمن الخطِّي – وهذا لأن النطاق المنطوي لازمني ولحظاته ليست متجاورة.

على هذا الأساس، يخلص بوهم إلى النتيجة التالية:

في حدِّها الأقصى، تُعَد جميعُ اللحظات واحدة، وبالتالي يكون "الآن" هو الأبدية. وكلُّ شيء، بما فيه الإنسان، يموت في كلِّ لحظة ليتحد مع الأبدية ويولد من جديد.

ثمة تماثُل بين وجهة نظر بوهم ووجهة نظر شرودنغر: فقد أعلن شرودنغر أن "الحياة هي انفتاح اللاَّزمني على اللحظة الحاضرة". وفي توافُق مع وجهة نظر بوهم، يقول شرودنغر:

في كلِّ يوم، لا تلدك أمُّنا الأرض مرة واحدة، بل آلاف آلاف المرات. وفي كلِّ يوم، تغمرك آلاف المرات. وعلى نحو أبدي ودائم لا يوجد سوى الآن: الآن الواحد في ذاته. لذا كان الحاضر هو الشيء الوحيد الذي لا نهاية له.

تُعَد وجهة نظر بوهم، التي تشير إلى توحيد الوعي، حقيقة يعترف بها عددٌ كبيرٌ من علماء الفيزياء الحديثة. ومنهم مَن يؤيد مبدأ العقل اللاَّمركزي واللاَّمحدود، أي العقل الذي لا يتعين بالمكان والزمن، أي العقل الذي لا يُحتجَز في الدماغ أو الجسم، أي العقل الذي هو، في مطلقه، عقل واحد، مع كونه عقلاً فرديًّا، أي العقل الخالد الذي لا يفنى.

خـاتـمـة

تتمثل خاتمة هذا الموضوع في السؤال التالي: كيف يكون العالم الذي يقتضي، بالضرورة، وجود العقل اللاَّمحدود أو اللاَّمركزي، أي العقل الواحد الذي دعا إليه شرودنغر، والعقل الشمولي والكوني الذي دعا إليه مارغناو، والعقل الهولوغرافي الذي دعا إليه بوهم؟ تتمثل الإجابة في العبارة التالية: هو عينه العالم الذي نحيا فيه... العالم، الذي هو، في ذاته، لامركزي ولامحدود.

لم يعترف العلماء، أو بعضهم، بأن العالم هو، في مضمونه وكمونه، عالم لامركزي، وبأن اتصالية لامرئية توحِّد بين الأشياء، مهما تكن متفاوتة ومتباينة، إلاَّ في الفترة الأخيرة من تطور العلم. وقد دعا أولئك العلماء إلى ضرورة فهم العالم فهمًا جديدًا يتحدى المعالم المركزية أو المحدودة للواقع الذي هيمن على الفيزياء منذ نيوتن.

في الوقت الحاضر، تعتقد غالبية الفيزيائيين بإمكان تفسير العالم، تمامًا كما كان يعتقد نيوتن، من خلال العلاقات المركزية والمحلِّية تفسيرًا شموليًّا، وباحتمال تفسير التفاعلات المعروفة من خلال قوى الطبيعة الأساسية الأربع:

1.    القوة النووية القوية

2.    القوة النووية الضعيفة

3.    القوة الكهرطيسية

4.    قوة الثقالة

والحق أن هذه القوى تتصرف وكأن الحقول تسوِّي الخلافات بينها أو تتوسطها... هذه الحقول التي لا تتميز عن القسيمات الأولية elementary particles ذاتها.

على الرغم من اعتبار سرعة الضوء تحديدًا لنظرية العقل أو العالم اللاَّمركزي واللاَّمحدود وإقرارًا بأن السرعة التي نتلقى من خلالها المعلومات، بحسب نظرية النسبية الخاصة special theory of relativity، محددة بسرعة الضوء أو بما هو أقل من سرعته، لكن العلاقات بين الموضوعات أو الأشياء البعيدة، في عالم محدود أو غير محدود، تنعقد بسرعة تفوق سرعة الضوء: إنها تحدث آنيًّا، أي في اللحظة الحاضرة.

يتحدث عالم الفيزياء نِكْ هربرت في كتابه الواقع الكوانتي، الذي يُعتبَر مرجعًا موثوقًا للنتائج اللاَّمحدودة في الفيزياء، عن النتائج اللاَّمركزية على النحو التالي: لا تكون الحقول أو أي شيء آخر وسيطًا بينها. وهذا يعني أن علاقة "ألف" مع "باء"، على نحو لامركزي، تقتضي عدم وجود أيِّ شيء قادر على عبور المكان، وتقتضي، بالإضافة إلى ذلك، أن التأثيرات اللاَّمركزية لا تتناقص نتيجة للمسافة. على هذا الأساس، يعتقد هربرت أن التأثيرات اللاَّمركزية تفعل آنيًّا، أي في اللحظة الحاضرة، وأن سرعة انتقالها لا تتحدد بسرعة الضوء. وهكذا يصل تفاعُل لامركزي بين موضع وموضع آخر دون أن يعبر المكان، ودون أن يتعرض للانحلال، ودون تأخير؛ وباختصار، يفعل التفاعل اللاَّمركزي على نحو مباشر وآني، ويفعل في وسط لا تتوسطه الحقول. أخيرًا، يتحدث هربرت عن وجود عالم لامركزي في المقتطف التالي:

على الرغم من الرفض التقليدي الذي تبنَّاه الفيزيائيون لمبدأ التفاعل اللاَّمركزي، وعلى الرغم من اعتبار جميع القوى المعروفة مركزيةً على نحو لا يقبل الجدل، وعلى الرغم من عدم اعتراف أينشتاين بوجود علاقات تتجاوز سرعة الضوء، لكنني أقر بوجود التأثيرات اللاَّمركزية التي تملأ العالم. وعلاوة على ذلك، ليست هذه العلاقات الخالية من وساطة الحقول حاضرةً في ظروف نادرة وحسب، بل تستغرق أيضًا أحداث حياتنا اليومية. وهكذا نخلص إلى النتيجة التالية: تُعَد العلاقاتُ والتأثيراتُ اللاَّمركزية كلِّية الحضور لسبب هو أن الحقيقة ذاتها لامركزية ولامحدودة وكلِّية الحضور.

*** *** ***

 

مراجع

-          Bohm, David, The Implicate and Explicate Order

-          Davies, Paul, The Mind of God

-          Dossey, Larry, Recovering the Soul

-          Dyson, Freeman, Infinite in All Directions

-          Herbert, Nick, Quantum Reality

-          Margenau, Henry, The Miracle of Existence

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود