|
التنجــيم بالأبــراج
شغلتْ ظواهرُ السماء ومتغيراتُها – من حركات الكواكب والنجوم ومواضعها، إلى كسوف الشمس وخسوف القمر، إلى تعاقُب الفصول وطولها واختلاف مواضع شروق الشمس وغروبها على الأفق، وغير ذلك من الظواهر – اهتمامَ الإنسان القديم. ولأنه لم يكن لديه آنذاك تصورٌ صحيحٌ عن الكون، ولا فهمٌ لماهية أجرامه وتطورها، ولأنه كان يفتقر إلى فهم حقيقة ما يشاهِد في السماء، بدأ بنسج أساطير وخرافات افترضت أن لنجوم السماء قدرةً على التحكم في مصير الإنسان وحياته وأنها تتحكم في الفعاليات الأرضية كلِّها. آنذاك لم يكن هناك فصلٌ بين علم الفلك وبين التنجيم الذي يدِّعي التنبؤ بالغيب استنادًا إلى حركات أجرام السماء، وذلك دون اعتماد المنهج العلمي. علم الفلك astronomy، من ناحية ثانية، نهج علمي يختص بدراسة كلِّ شيء في الكون (خارج الأرض). وكلمة astronomy يونانية الأصل، وتتألف من مقطعين: astro (نجم) وnomos (قانون). أما كلمة فلك عند العرب فتعني مدار النجم. وكان يُطلَق على علم الفلك عندهم علم الهيئة أو علم النجوم، دون فصله عن التنجيم. والأمر نفسه في خصوص المنجِّم: فهو الذي يشتغل بأحد العلمين أو بكليهما؛ فالمنجِّم هو نفسه الفلكي. يقول المسعودي (ت 956 م): صناعة التنجيم، التي هي جزء من أجزاء الرياضيات، وتُسمَّى باليونانية أسترونوميا، تنقسم قسمةً أوليةً إلى قسمين: أحدهما العلم بهيئة الأفلاك وتراكيبها ونصبها وتأليفها، والثاني العلم بما يتأثر عن الفلك. وأما التنجيم astrology فهو التنبؤ بمصير البشر وتحديد الصفات الفردية لكلٍّ منهم بدراسة التأثيرات النجمية. والتنجيم ليس علمًا لسبب أصيل هو أنه لا يعتمد المنهج العلمي: فهو ليس كالعلم الذي يصوغ فرضيةً ما حول الواقع أو الحقيقة، ليعمل بعدها على التثبُّت من صحة هذه الفرضية باختبارات نظرية وحدسية. صحيح أن المنجِّمين يستعملون الرياضيات في حساباتهم، لكن لغتهم الرياضية هي أبعد ما تكون عن الفكر الرياضي والمنطق النقدي. لعل الأقدمين معذورون على أخذهم بتلك الأفكار لقلَّة معلوماتهم وأدواتهم. غير أننا لا نجد اليوم ما يسوِّغ ذلك الإسفاف الذي تطالعنا به الفضائياتُ والإذاعاتُ والصحفُ عبر تقديمها مَن يسمون أنفسهم "علماء فلك"! ونستغرب كريتشارد فاينمان – وهو من أكابر علماء الفيزياء في القرن العشرين – حين قال في إحدى محاضراته حول ميكانيكا نيوتن: إن الإلمام بقانون التثاقل لا يتعدى تطبيقاته التي تخطر ببالي: التنقيب الجيوفيزيائي والتنبؤ عن المدِّ والجزر؛ وهو يفيد اليوم في دراسة محارك الأقمار الصنعية وسابرات الفضاء التي نرسلها عاليًا بين النجوم؛ وأخيرًا – وهذا عصري أيضًا – يفيد في حساب مواقع الكواكب، مما يخدم جدًّا التنبؤات التنجيمية التي ينشرها المنجِّمون في الصحف. عجيب أمر هذا العالم الذي نعيش فيه والذي لا يستعمل تقدُّمنا العلمي الجديد إلا لتخليد سخافات بالية عمرها آلاف السنين! بداية الاعتقاد بالتنجيم ارتبطت أمورٌ كثيرةٌ في حياة الأقدمين بالأجرام السماوية – وخاصة بالأفلاك السبعة المعروفة آنذاك، وهي: القمر، المريخ، عطارد، المشتري، الزهرة، زحل، الشمس –، لكنْ دون أن يستطيعوا التمييز بين الكوكب والتابع والنجم! فهُم كانوا يظنون أن الأجرام السماوية لا تخضع للقوانين الأرضية نفسها، حتى إنهم كانوا يعتقدون أنها مكونة من مواد "أثيرية" تختلف كليًّا عن المواد الأرضية! وقد أطلقوا أسماء آلهتهم عليها، وربطوا أيامهم وسنيهم بها، وقسموها إلى أفلاك سعد ونحس وحرب وخير وزراعة وتجارة وجمال، حتى إن بعض الحضارات قدَّس أرقامها، كالرقم سبعة؛ وبعضها أوجد ابتهالات وصلوات لحوادث الكسوف والخسوف، وأوجد علاقات وهمية بين ارتصاف هذه الأفلاك ومواعيد شروقها وغروبها وظهور "النجوم ذات الشعر" (ونعرف اليوم أنها ليست نجومًا، بل مذنبات comets) وبين ولادة الملوك والقادة والشعراء ووفاتهم أو بين نشوب الحروب والكوارث والأحداث العظام. وكان فيثاغوراس وأتباع مدرسته قد قدَّسوا العدد 4 tetraktis (وهو عدد الأرقام 1، 2، 3، 4 التي يساوي مجموعها العدد 10، المميَّز أيضًا). وعمد أرسطو بعدئذٍ إلى تقسيم مواد الطبيعة إلى أربعة عناصر أو إسطقسات: تراب وماء (وهما ينزعان إلى السيلان) ونار وهواء (وينزعان إلى الارتفاع)، وقال أيضًا بالسوائل الأربعة وبالطبائع الأربعة (اليبوسة والحرارة والرطوبة والجفاف). أما اليوم، فيتعامل الفيزيائيون مع أربع قوى أساسية، هي: قوة الثقالة والقوة الكهرطيسية والقوتين النوويتين الشديدة والضعيفة. ومع ذلك، لا نزال نرى المنجِّمين اليوم يقولون لك إنك من برج كذا، وهو برج "ناري" أو "ترابي"! ما هي حقيقة هذه الأبراج؟ ولماذا لم يتخلص منها العلم حتى الآن؟ ما الأبراج إلا لُصاقات اسمية لتشكيلات نجمية (وعندما نقول "نجم" نعني شمسًا). لماذا "لصاقات"؟ لأن نجوم هذه الأبراج لا علاقة فيما بينها على الإطلاق، وهي يبعد بعضها عن بعض، وعنَّا، مسافات هائلة. فقد يحتوي برج ما على نجمين مختلفين، أحدهما كبير جدًّا، لكنه بعيد جدًّا، والآخر صغير، لكنه قريب، فنشاهد هذين النجمين من على الأرض بالتألق نفسه، وضمن قطاع رؤية واحد، فنظن أنهما من الحجم نفسه ويبعدان عنَّا المسافة ذاتها. كذلك كانت حال الأقدمين عندما شاهدوا القمر (وهو صغير جدًّا وقريب من الأرض) والشمس (وهي بعيدة وكبيرة) بالحجم الظاهري نفسه، فاعتقدوا أنهما من الحجم نفسه ويبعدان عن الأرض بالقدر نفسه؛ فيما نحن نعلم اليوم أن الشمس تبعد عن الأرض أكثر من بُعد القمر عنها بحوالى 400 مرة، وقطرها أكبر من قطر القمر بحوالى 400 مرة، وكتلتها أكبر من كتلته بحوالى 27 مليون مرة! إن مَن يعرف الأبراج في السماء يجد أن الأشكال التي تتخذها تكاد لا تشبه مسمياتها: فلعل برج "الدب الأكبر"، مثلاً، أشبه بمغرفة ذات يد، حتى إن العرب أطلقوا عليه اسم برج "بنات نعش"؛ والأمر ذاته نلحظه مع برج "البجعة"، حيث إن العرب أطلقوا عليه اسم "الدجاجة"، لكنه يحمل اسمًا آخر هو "الصليب الشمالي".
برج الدب الأكبر في القبة السماوية لنصف الكرة من الصعب جدًّا الجزم بسبب تسمية كلِّ برج من البروج؛ فنحن لا ندرك تمامًا كيف اختيرت أسماؤها. غير أن معظمها قديم العهد ويرقى إلى آلاف خلت من السنين. وهناك ارتباط بين تسميات البروج والفصول الأربعة، وكأن بعضها سُمِّي ليكون وسيلة تذكِّر القدماء بقدوم الفصول لتعلُّق أعمالهم الملاحية والزراعية بها. فمثلاً، نجد أن بداية أشهر الشتاء العاصفة، حيث يصير الإبحار محفوفًا بالمخاطر، كان ينبئ عنها ظهورُ الشمس في برجَي "الحوت" و"الدلو"، وهما برجان "مائيان" وارتباطهما بالبحر والماء واضح. أما ظهور الشمس في برج "العذراء" فكان يدل على فصل الصيف وموسم الحصاد (حيث إن برج "العذراء" طالما صُوِّر على هيئة الإلهة پروسيرپيني Proserpine وهي تحمل حزمة الحصيد). وفي الأسطورة الإغريقية–الرومانية القديمة هي إلهة العالم السفلي Hadès، وزعموا أن الربيع يحل مع صعودها إلى الأرض والخريف مع رجوعها إلى العالم السفلي؛ وقد استمر التنجيم في العصر الوسيط في اعتماد هذه الرمزية نفسها.
رسم من مخطوط وسيطي قديم يمثل لبرج الفكرة هنا هو أننا، كبشر، – وهو أمر متجذِّر فينا – نميل إلى توخِّي التناسق في أيِّ شكل تقع عليه أعيُننا. ولعل هذا يرتبط بكيفية عمل دماغنا، حيث إننا نعيد أيَّ شيء نراه إلى مثال أو صورة نعرفها، كما نُسقِط مفاهيمَنا ومفرداتِ حياتنا الأرضية على نجوم السماء وأبراجها – هذه التي ظل البشر، حتى عهود قريبة، يعتقدون بارتباطنا بها وخضوعنا لتأثيرها.
الأبراج الاثنا عشر، على الترتيب
(من اليسار إلى اليمين): أما عدد الأبراج فليس 12 فقط، كما يزعم معظم المنجِّمين. ففي القرن الثاني الميلادي، كان بطليموس قد أحصى 48 برجًا؛ وقد أضيف إليها فيما بعد 40 برجًا ليصبح العدد 88، وهو معتمَد اليوم في جميع الخرائط الفلكية. وقد أبقى العلماء على استعمال هذه الأبراج لأنها دخلت في جميع الأزياج الفلكية القديمة، ولأنها تفيد في تقسيم الخارطة السماوية، كما تساعد على معرفة مواقع النجوم ومواعيد شروقها. أما الأبراج الـ12 فهي الأبراج التي تقع على ما يُسمَّى "دائرة البروج"، وهي النطاق من سماء الأرض الذي تعبُره الشمس على مدار السنة نتيجة دوران الأرض حول الشمس مرة كلَّ عام. وادِّعاء المنجِّمين، هنا أيضًا، ليس دقيقًا: فعدد الأبراج على دائرة البروج ليس 12 بل 13؛ ولا تمكث الشمس في كلِّ برج مدة 30 يومًا، كما يدَّعون، بل تتراوح هذه المدة بين أقل من عشرة أيام إلى أكثر من أربعين يومًا!
إن معلوماتنا اليوم عن حالة نجوم الأبراج تقتصر على معرفة تاريخها القديم. فمثلاً، عندما ننظر اليوم إلى نجم "النسر الواقع" Vega في برج "القيثارة"، فإنما نشاهد حالة هذا النجم الأزرق قبل نحو 26 سنة لأنه يبعد عنَّا 26 سنة ضوئية تقريبًا؛ أي أن الضوء الذي نشاهده اليوم انطلق منه بسرعته المعهودة (300000 كم/ثا) منذ 26 سنة. وهناك نجوم أبعد بكثير، مثل نجم "الذنب" في برج "الدجاجة" الذي يبعد عنَّا حوالى 1400 سنة ضوئية؛ أي أن ما نشاهده اليوم هو نجم "الذنب" كما كانت حاله في القرن السابع الميلادي! لم يقدَّر للإنسان قبل القرن العشرين، وقبل نسبية أينشتاين، أن يدرك أن "الآن" غير موجودة في القاموس الكوني. لذا فإننا لن ندرك التغيرات الحاصلة في نجوم الأبراج (التي يتشدق المنجِّمون بأنها تتحكم في عالمنا!) ولن نتلمس آثارها – إنْ كان لها أثرٌ غير مفعولها الثقالي المهمَل بالنسبة إلينا – وفوتوناتها الضوئية إلا بعد مضي مئات السنين من اللحظة التي حصل فيها هذه التغير. أمر آخر: إن المشهد السماوي الذي نراه اليوم – وهو لا يختلف كثيرًا عما شاهده الإنسان القديم – ليس ثابتًا: فهو يتغير مع مرور الوقت، لكنه يحتاج إلى مُدَد زمنية كونية – لا بشرية. هذا التغير يحدث لعدة أسباب، منها: 1. حركة نجوم الأبراج التي، لبُعدها الكبير، ظن القدماء أنها مثبتة على القبة السماوية. ومثالها نجم "أركتوروس" الذي يبعد عنَّا حوالى 37 سنة ضوئية: فهو يتحرك حركة مُعامِدة لحركة الحشد الذي يضم شمسنا؛ لذا فإن أركتوروس لن يعود مرئيًّا لناظر من الأرض بعد 450 ألف سنة.
"القوس إلى أركتوروس". 2. هذا بالإضافة إلى حركات الأرض المتعددة الخاصة بها والمشتركة مع نجمها المركزي. وأبرزها تأثيرًا على هذا المشهد: · ترنُّح محور دوران الأرض حول نفسها الذي ينجز دورةً واحدةً كلَّ 25800 سنة. · حركة الأرض (بمرافقة الشمس طبعًا) حول مركز المجرَّة: وتنجَز هذه الدورة كلَّ 250 مليون سنة. · نوسان الشمس، ومعها أفراد أسرتها، المُعامِد لمدارها حول مركز المجرَّة: وتستغرق النوسة الواحدة حوالى 28 مليون سنة. · تغيُّر مهم آخر على المشهد السماوي، يتمثل في ابتعاد القمر عن أرضنا – هذا الابتعاد الذي يقدَّر بحوالى 2 سم سنويًّا، وسيسفر عن تخلُّص القمر من قبضة الثقالة الأرضية بعد حوالى 30 مليون سنة؛ وبعدها ستنعدم أحداث الكسوف والخسوف، ويزداد تعرُّض الأرض للقصف النيزكي، وستختفي ظاهرتا المدِّ والجزر وتنخفض، بالتالي، معدلات حتِّ الشواطئ، كما سيتسارع دوران الأرض حول نفسها (من الغرب إلى الشرق)، مما قد يسبِّب رياحًا شديدة (من الشرق إلى الغرب) تؤثر على التنفس وعلى المبادلات الحرارية بين الكائن ومحيطه، وكذلك على الأصوات المسموعة. غير أن جميع هذه الآثار المهمة وغيرها لن تحصل فجأة، بل ستحتاج إلى فواصل زمنية من مرتبة عدة عشرات من ملايين السنين! وبالإضافة إلى الآثار السابقة المترتبة عن فقدان القمر، فإن لوجوده الحالي آثارًا مميَّزة على الحياة الأرضية، ومعظمها ينجم عن قوة جذبه الثقالي. من أبرز هذه الآثار تلاؤم بعض الكائنات البحرية، كالمحار، مع دورية ظاهرتَي المدِّ والجزر؛ كما أن هناك رابطًا بين الشهر الشمسي للقمر (أي المدة الفاصلة بين وضعين متتاليين يكون فيهما القمر على استقامة واحدة مع الأرض والشمس، وتساوي 29.5 يومًا) وبين متوسط طول الدورة الشهرية عند المرأة. ولا شكَّ أن للشمس أيضًا تأثيرًا هامًّا على الأرض: فبالإضافة إلى أن كوكبنا يسير في مداره في الفضاء تحت تأثير جذبها الثقالي، فهي مصدر طاقتنا؛ كما أننا عرضة للتغيرات التي تطرأ عليها، كالبقع والرياح الشمسية. إلا أن هذه التأثيرات وغيرها للشمس والقمر، على أهميتها، لا يمكن أن تبرِّر لنا ما ينسبه المنجِّمون من خضوع الإنسان لتحركات الأفلاك وقِراناتها. إحصاءات المنجِّمين يقول المنجِّمون إن الصفات المرتبطة بشخص مولود عندما تكون الشمس في برج "الحمل" هي القوة والطاقة؛ وبالتالي، يكون مواليد هذا البرج طموحين جدًّا، مفعمين بالحماسة، ومتصلِّبين! وهكذا قام المنجِّمان إيزابيل باجان وآلان ليو بجردٍ لأسماء مشاهير مواليد برج الحمل (ليوناردو داڤنشي، يوزف هايدن، هنري جيمس، ڤينسنت ڤان غوخ، أرتورو توسكانيني، تشارلي تشاپلن، مارلون براندو...)، لـ"يبرهنوا" بذلك على تنبؤات الطوالع النجامية. والرد على مثل هذه الإحصاءات المخادعة والساذجة بسيط: فكم من المواليد ممَّن ولدوا مع كلٍّ من هؤلاء المشاهير في اللحظة عينها إنما كانوا بلا طموح ولم يحققوا نجاحات تُذكَر؟! بل كم من التوائم كانت حياتهم مختلفة بنسب عالية في إنجازاتها وطبائعها؟ وقد جَرَدَ عالم الفلك آلن هينك موسوعة العلماء الأمريكية لمعرفة تاريخ ولادة أكبر عدد منهم، وتبيَّن أن هذه التواريخ موزعة عشوائيًّا على الأبراج كافة.
صيغة ناپوليون الفلكية عند ولادته. مثال آخر: شخصية ناپوليون. بحسب قولهم، يكشف وجود زحل عند ولادته (15/08/1769) عن صعوده السريع إلى السلطة، الذي يشير أيضًا إلى سقوطه السريع والحاد؛ ويضيف وجود القمر شكلاً مأساويًّا وكارثيًّا لنهايته، ويشير وجود المريخ إلى نجاحاته العسكرية. وعلى الرغم من أن هذا التفسير وهذا العرض الذي خرجوا به من التشكيلات النجمية عند ولادة ناپوليون تنطبق على مراحل حياته، لكن كم من الآلاف ولدوا وقت ولادة ناپوليون وكان مصيرهم مختلفًا تمامًا عن مصيره؟! التنجيم عند العرب كان يُطلَق على المشتغلين بالتنجيم عند العرب اسم "العرَّافون" أو "الكهَّان"، وكانت مهمتهم استطلاع الغيب والتنبؤ بالمستقبل. ولعل أصول هذه المعتقدات كانت – وهي بسيطة على كلِّ حال – تعود إلى تواصُلهم النقلي مع الكلدان والبابليين في بلاد الرافدين، هؤلاء الذين هم أول مَن عُرِفَ عنهم اهتمامُهم بعلم الفلك والتنجيم. ويدل على ذلك الكثير من الكلمات العربية الموافقة للأصل الكلداني: فالكاهن، مثلاً، كان يسمَّى بالعربية حزاءً أو حازيًا، وهي لفظة كلدانية تعني "الناظر" أو "البصير"؛ كما أن اسم "مريخ" مأخوذ من اسم الإله مردوخ؛ ونجد أيضًا كلمات أخرى مثالها أسماء الأبراج العربية وما يقابلها في الأصل الكلداني:
وقد كان لكلِّ كاهن عند عرب ما قبل الإسلام قَسَمٌ يفتتح به نبوءته، ويعتمد فيه سجعًا خاصًّا يحلف فيه بعناصر الطبيعة وبظواهر السماء، مثل العرَّافة زبراء القضاعية من بني رئام، وكانت تحلف بـ"الليل الغاسق، واللوح الخافق، والصبح الشارق، والنجم الطارق، والمزن الوادق"، وسطيح الكاهن الذي كان يقول قبل نبوءته: "أقسم بالشفق وبالغسق بأن ما أخبر به هو الحق." وقد تراجع الاهتمام بالتنجيم في صدر الإسلام والعهد الأموي بسبب نهي الرسول والخلفاء الراشدين عنه وقرب الناس من عهدهم. ونرى صدى استنكار الناس للتنجيم في تلك الفترة في كثير من الأشعار، فنرى الخليل بن أحمد يقول:
وقال آخر:
لكن مع عهد أبي جعفر المنصور عاد الاهتمام بالتنجيم، حيث كان المنصور أول مَن جمع المنجِّمين في بلاطه، واقتدى به خلفاؤه، فأصبح المنجِّمون بمثابة فئة من موظَّفي الدولة، تُجرى عليهم رواتب وأرزاق. وقد اتخذ المنصور لنفسه منجِّمًا فارسيًّا اسمه فضل بن سهل النوبختي كان يصطحبه معه دائمًا، حتى إنه طلب منه أن يختار مكانًا لبناء بغداد، عاصمة الدولة الجديدة بعد الكوفة، ليدرس مواضع النجوم كي يحول دون التأثيرات المشئومة ويحدِّد ساعة وجوب الشروع بالعمل. وهكذا عمل رهط من الفلكيين (ما شاء الله اليهودي وإبراهيم الفزاري وعمر بن فرخان الطبري)، برئاسة نوبخت الفارسي، على وضع خارطة تنجيمية ليقترحوا بدء العمل في البناء يوم 15 ربيع الثاني سنة 145 هـ. وقد زعم المنجِّمون أن طالع هذه المدينة يُنبئ أنه لن يموت فيها خليفة؛ وقد شاع ذلك، حتى قيل فيه:
وصادف أن أكدت الأحداثُ التي تلت ذلك تلك النبوءةَ – ولكنْ إلى حين: فقد مات المنصور في طريقه إلى مكة، ومات المهدي بماسبندان، ومات الهادي بماساباد، ومات هارون الرشيد بمدينة طوس؛ ثم حدثت الفتنة بين الأمين والمأمون، ليُقتَل الأمين بشارع باب الأنبار في بغداد، ويظهر فسادُ قول المنجِّمين الذي قيل فيه:
وعلى الرغم من أن العرب لم يفصلوا بين التنجيم وعلم الفلك، كغيرهم من الحضارات القديمة، لكنْ ظهرتْ بينهم مجموعةٌ كبيرةٌ من العلماء الذين رفضوا التنجيم، ومنهم الفارابي وابن سينا وابن حزم الأندلسي. وهذا الأخير قال في كتابه الشهير الفصل في الملل والأهواء والنحل: زعم قوم أن الفلك والنجوم تعقل وأنها ترى وتسمع؛ وهذه دعوى بلا برهان. وصحة الحكم أن النجوم لا تعقل أصلاً وأن حركتها أبدًا على رتبة واحدة لا تتبدل؛ وهذه صفة الجماد الذي لا خيار له. ليس للنجوم تأثير على أعمالنا ولا عقل لها تدبِّرنا به؛ إلا إذا كان المقصود أنه تدبِّرنا طبيعيًّا، كتدبير الغذاء لنا، وكتدبير الماء والهواء، ونحو أثرها في المدِّ والجزر، وكتأثير الشمس في عكس الحرِّ وتصعيد الرطوبات. فالنجوم لا تدل على الحوادث المقبلة. الفصل بين علم الفلك والتنجيم امتدَّ الاعتقاد بالتنجيم إلى عهود قريبة، حتى إن الفلكي الدنمركي تيخو براهي عمل به، ومعاصره الألماني يوهانس كپلر ألَّف في بداياته عدة أزياج تنجيمية أطلق فيها عددًا من التنبؤات لأنه كان يرى أن ثمة نوعًا من العلاقة الغامضة تقوم بين مصير فعاليات الإنسان وبين حركات النجوم والكواكب. لكن كپلر نبذ اعتقاده آخر الأمر، خصوصًا بعد اكتشافه قوانين حركة الكواكب وقبوله بمنظومة كوپرنيكوس للكون (التي تخالف منظومة بطليموس التي قامت على أساسها الحسابات التنجيمية والتي تفرض أن الأرض تقع في مركز الكون، وهي محاطة بما يشبه قبة زجاجية ملصقةً عليها النجوم)، ليكون كپلر آخر العلماء الذين عملوا بالتنجيم.
أما "أبو الفيزياء العصرية" (والتعبير لأينشتاين) الإيطالي غاليليو غاليليي فلم يأخذ بهذا الرأي: فهو، في كتابه حوار حول المنظومين الرئيسيين، على لسان ساغريدو وسلڤياتي، يشير إلى أن تنبؤات المنجِّمين غالبًا ما تكون غامضة ولا تُفهَم إلا عندما تتحقق، حيث يتم استخلاص التنبؤات من بروج السماء، لكن بعد تحقق النبوءة. وبعد غاليليو، أتى إسحق نيوتن العظيم الذي، على الرغم من أنه، في بداياته، اعتنق بعض المعتقدات الغيبية فيما يخص التنجيم، إلا أن ما أنجزه في تفسير العالم عبر قوانين الميكانيكا وقانون الثقالة كان السبب الرئيس في الفصل بين الخرافة والعلم، وبالتالي، الفصل بين التنجيم وعلم الفلك.
وتراجعت شعبية المعتقدات التنجيمية كثيرًا في القرن الثامن عشر الذي شهد اكتشافات فلكية كثيرة، حيث اكتُشف الكوكب أورانوس، كما اكتُشفت أقمار لزحل، لينهار النظام القائم على السماوات السبع والأجرام السبعة. وقد تتالت الاكتشافات (نپتون وپلوتو وحزام الكويكبات وسحابة المذنبات وأبعاد النجوم والمجرات إلخ)، لتنهار تمامًا صورةُ النظام القديم، وليغدو كوكب الأرض واحدًا من عدة كواكب تدور حول شمس، هي واحدة من عدة مئات من آلاف ملايين النجوم في مجرَّة هي، بدورها، واحدة من عشرات آلاف ملايين المجرَّات الأخرى!
رسم تمثيلي لمنظومتنا الشمسية كما نعرفها اليوم. قال يوهانس كپلر، أشهر منجِّمي عصره وآخر علماء الفلك المشتغلين بالتنجيم: إن الأسترولوجيا [التنجيم] هي ابنة غبية من دون شك، ولكن – يا إلهي – ماذا كان بوسع أمِّها الأسترونوميا [علم الفلك] الكبيرة الشأن، الناظمة للعقل، أن تفعل من دونها؟ إن العالم غبي سفيه، ممعن في غباوته وسفاهته، إلى درجة أن الناس سيكذِّبون هذه الأمَّ المحافظة العاقلة وسيفهمون أمورها خطأً، لولا ألاعيب ابنتها وأباطيلها. إن الجوع سيعضُّها بنابه، لولا وجود ابنتها الحمقاء تلك. وقال شكسپير، في رائعته الملك لير، على لسان إدموند: أليس هذا منتهى الحماقة من الناس؟ حينما تضطرب أمورنا – وهذا ما يكون غالبًا نتيجة إفراط في سلوكنا نحن – تجدنا ننحو باللائمة على الشمس والقمر والنجوم ونجعلها هي المسئولة عن كوارثنا! – كما لو كنَّا أشرارًا بالضرورة! حمقى بدافع جبري من السماء! أوغادًا ولصوصًا وخونة بتأثير سلطان الأفلاك علينا! سكيرين وكذابين وزناة بسبب طاعتنا الحتمية لأوامر الكواكب! وكما لو كان كلُّ شرٍّ في نفوسنا نتيجة دافع علوي خارج عن إرادتنا! وهكذا يجد الإنسان الفاسق مهربًا رائعًا لنفسه، فينسب مزاجه الشهواني إلى فعل نجم من النجوم. [...] ولعل أفضل ما نختتم به خلاصةً يقدِّمها العالِمان فوريس وديكستر هور بقولهما: لقد قضى علم الفلك الجديد على علم التنجيم، ولكن التنجيم ساعد في أثناء العصور الوسطى على مضاعفة المشاهدات الفلكية وعلى تحسين أدوات الفلكيين. وهو يستحق لهذا السبب تبوأ مكانة في تاريخ العلوم. *** *** *** [*] عضو محاضر في الجمعية الكونية السورية.
|
|
|