شـعريَّـة الفلسـفة

 

بشـير ونيسـي[*]

 

الفلسفة، في لحظة البدء، محبة. والمحبة علاقة الكائن بالوجود، بكلِّ شيء. ولذلك فإن الفلسفة تنطلق من لحظة التجلِّي وإشارات العشق إلى معرفة الإنسان ومدى تطابُقه مع سرِّ المعرفة. الفلسفة إرادة المعرفة وفهم الأشياء باللغة. والفيلسوف يشتهي المعرفة بجسمه وبأسئلة الوقت. الوجود قمر الذات. الذات قمر الوجود. لحظة الكشف تومئ إلى الوحي الذي يصوغ معطيات الفكر. إن الفلسفة، عبر تطورها، منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو، تبحث عن معرفة الذات لنفسها. والمعرفة تشكِّل صورتَها عبر التهكُّم أو المحاكاة أو المنطق. وليس غريبًا عن الفلسفة أن تبحر في طقس الشعر لتعرف كُنْهَ الوجود من خلال الخيلولة التي تبعث الكينونة.

ولعل ما نجده في أفلاطونيات أثينا يكشف عن إقصاء الشعراء من "المدينة الفاضلة" التي الحُكم فيها للفلاسفة، باعتبارهم أصحاب المعرفة والحكمة وبوصفهم اكتشفوا، بحدسهم الخلاق، وَهْمَ ظلال الشمس لحظة التقيد في "الكهف". ومنه فإن قصدية النفي للشعر من طرف أفلاطون هو عدم تطابُق الخيال مع جوهر المعرفة والواقع.

الشعر، في البدء، محبة تتوحد بكلِّ شيء، تندمج بالعالم. إنه طقس الروح التي تورَّطت في سراب الجسد. ويبدأ التجاوز بالتخيل من أجل الفوز بالوصل. الوصل شمس الروح، قمر التجلِّي في عتمة الجسد، نجم الوحي في سراب الوجود. بالشعر يبتكر الشاعرُ العالم، يرسم شكل الوجود الذي يريد، يبعث الإشارات التي تكوِّن برازخ جنَّة التجلِّي. ما يبقى يجسِّده الشعرُ بالرؤيا، والرؤيا بالفناء، والبقاء بالتوحد والتفرد.

الشعر محبة الجمال. والذات تتحسَّس الجمال في كلِّ شيء يمسح القبح والبشاعة، تعلن ميلاد الجنَّة الضائعة. الشعر صورة الذات حين تتوحد، صورة الجسد حين يتألم، صورة النفس حين تطفح بالخطيئة وجحيم البقاء، صورة الروح التي تتعلق بشجرة النور. والشاعر، بين النار والنور، يشكِّل باللغة والخيال الوجودَ الذي يشتهي بين العدم والوجود، يرى لحظة التجلِّي والتشظِّي بين الموت والحياة، بين الملائكة والشياطين، يرسم شظايا الجسد عبر الوقت. إنه يتأرجح بين العلوِّ والسقوط، يريد اسمًا لكلِّ شيء، يفعل ما يظهر له، يكون متى يريد.

إن علاقة الفلسفة بالشعر تشبه علاقة الوردة بالعبق، علاقة الروح بالنور. فالشاعر يتوحد بالفلسفة حين يريد معرفة الوجود؛ والفيلسوف يتوحد بالشعر حين يريد معرفة الجسد – وبين الجسد والوجود تنعكس اللغة لتشكِّل العالم الذي يتجلَّى لكلٍّ منهما. عالم الفلسفة محبة الوجود؛ وعالم الشعر وجود المحبة بين المكوِّن والوجود. يتشكَّل فردوس البدء بلغة المحو والإثبات، وتعلن الفلسفةُ المعرفة–الجنة، ويعلن الشعرُ الخيال–الجنة.

لقد اتفق الفلاسفة، منذ عصر النهضة، على أن الشعر، كخلق بالحب، من مصادر الفلسفة، مثله مثل العلم والفن والرياضيات والسياسة سواء بسواء. وقد جاء ذلك في "بيان العقل" – الـCogito الديكارتي: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، وفي عبارة أخرى: أنا أشعر أني أرى.

فالفلسفة تبدأ بالسؤال: الحرية، الهوية، الوجود، الكائن، الفيزيقا، الميتافيزيقا – وهذه المعطيات–المقولات تسري في جوهر الشعر الخالص. ولذلك فإننا اخترنا نماذج من الفلسفات انطلقت من الشعر لتصل إلى فلسفة الوجود والإنسان. ونحدِّد هذه الفلسفات في

1.    فلسفة نيتشه

2.    فلسفة كيركِغور

3.    فلسفة برغسون

ونريد أن نقرأ كلَّ واحدة على صورتها الخاصة ومقولاتها الأساسية:

1.    فلسفة نيتشه: تبدأ اللحظة النيتشوية بالعبارة التالية: أنا أتشظَّى في التجلِّي لأشكِّل وجودي الأبدي...

هي شعرية الإرادة، الكتابة بالدم، تجاوُز لعنة الإله الأبله بالسوپرمان، والعَوْد الأبدي، وخروج المعرفة من فردوس اليقين. نيتشه يريد أن يحطِّم أصنام الفلسفة ليبدأ بإنشاء مملكة الخيال بالشعر. لذلك اختار الجنون، وجنح به إلى شعرية الحياة لحظة عَوْدها الأبدي في كلِّ لحظة. تتوحد ذاته في اللحظة الشعرية مع كلِّ شيء، وتعود بإرادة القوة. وهذا يحقق نبوءة السوپرمان – هذا الكائن الذي يريد ما يرى ويجسِّد، بوحي من القوة، العالم الرائع المدهش. إنه يتشظَّى، يرفض، يبدِّل، يخوض، يبدع، يكفر، يلحد...

في منطق زرادشت، الإرادةُ سماءُ الذات، شمس الجسد، قمر الدم والروح، شظايا النور التي تنسج العالم من الشعر. أراد نيتشه أن يبرهن على الخلاص من الكفر المعرفي الذي اتفق عليه الفلاسفة، فتفلسف بمطرقة الشعر. الشعر، في نظره، لحظة هدم من أجل بناءٍ أفضل.

2.    فلسفة كيركِغور: تبدأ اللحظة الكيركِغورية بالعبارة التالية: أنا أتجلِّى، فيتشظَّى وجودي وأتلاشى...

شعرية الكائن في الوجود تجسَّدت عنده من خلال حياته وعلاقته بأبيه وبحبيبته ريجينا وصراعه مع رجال الدين. وتمثلت رؤيته في الوجود من خلال "إما" أن تجد ذاتك "وإما" أن تضيع منك. أبحر في سرِّ الحياة من خلال الفعل، أنشد مشروع الفكرة التي من أجلها يحيا و/أو يموت، وكتب بلغة السيرة والشذرات والنفحات والتجلِّيات طقوس الوجود المتأرجح بين "إما... وإما". قامت فلسفته على التفرد الوجودي للذات في كلِّ شيء وفي سرِّ الوجود الذي هو جوهر الأنا الخلاق: به يرى همس التجلِّي الوجودي والصيرورة ومنطق التحولات والتغيرات التي تهجم على الوجود، ثم التوتر القَلِق الذي يكشف حالة العدم والوجود لحظة الوقوف أمام الله وجهًا لوجه، يدًا بيدٍ قد تقبض على وجودك المؤنس لك.

كيركِغور أراد الوجود، لكنه أفلت منه، فاسترجعه بالشعر وإشارات البوح التي تطفح على ذاكرة الجسد. أراد أن يكشف اسمه الخفي في زوبعة الوجود بالشعر؛ اشتهى لحظة التجلِّي للتخلِّي عن الخطيئة. فالشعر أبدع له الوجود الذي يريد.

3.    فلسفة برغسون: تبدأ اللحظة البرغسونية بالعبارة التالية: أنا أرى ما يتشظَّى فيَّ بالتجلِّي، فأتطوَّر في الحياة...

شعرية برغسون تتمثل بالحدس والكشف وحساسية الذات لحظة التوغل في باطن الوجود. إنه الحدس الشعوري بالزمن يلازم الإنسان منذ حالة الرؤيا. في هذه الحالة، الرؤيا حياة الروح، شبق الجسد، "دفعة الحياة"، ديمومة البعث الشعوري التي تتجلَّى في لذائذ متنوعة ومتطوِّرة ومبدعة؛ وعلى الجسد أن يحدسها ويرسم أشكالها في صفاء، وبذلك يتوحد ويتجدَّد عبر أشكال الحياة وتجلِّيات الجسد. وتتميَّز هذه الديمومة بخصائص كثيرة، نذكر منها: الفيض الخلاق المتفرد، المختلف، غير المتكرر في الصورة، المنسجم في وحيه، اللحظات وجوهر الاتصال بعضها ببعض، التغير والتبدل وعدم التجانس والخلق المستمر في حالة إبداع.

هذه الفلسفة تنطلق من الشعر: برغسون يتفلسف بالشعر، يريد أن يقبض على ديمومة الخلق بشعرية الصفاء والشعور المشرق الذي يضيء عتمة هذه اللحظة. برغسون يريد بالشعر أن يجسد فلسفة الخلق وديمومة إيقاع الحياة بالخيال، فيتوغل ويتوحد ويبحر في الشعر، لعلَّه يمسك بلحظة الخلق التي تفلت من الذات حين يغيب الحدس الشعري.

من خلال ما تقدَّم، يمكن لنا أن نقول بأن الفلسفة تتوحد في التكوين والنشأة مع الشعر؛ والشعر يريد من الفلسفة معرفة الوجود من أجل الوصول إلى جنَّة الحياة والفردوس المفقود. ولعل الذي ذكرناه تحدَّد في فلاسفة–شعراء، وليس شعراء–فلاسفة، مثل المعري وهُلدرلِن.

وما يمكن لنا أن نختم به هذا المقال الموجز أن الشعر فتح للفلسفة الإنسان/الوجود وأن الفلسفة فتحت للشعر الوجود/الإنسان.

والخلاصة: ما جسَّده نيتشه رسمه شعرًا: الوجود عنده عَوْدٌ أبدي، والسوپرمان إنسان أعلى؛ وما جسَّده كيركِغور رسمه وجوديًّا في أشكال الضياع والتيه والإنسان – كائنًا متفردًا قلقًا يتحرك في صيرورة المحو والإثبات؛ أما برغسون فقد جسَّد الوجود في الحياة وحالاتها: على الإنسان أن يحرِّك ديمومة الخلق ليكتشف شكل الحياة المدهش.

*** *** ***


 

horizontal rule

[*] "دار الثقافة"، الوادي، سوف، الجزائر؛ إيميله: bacharsouf@yahoo.fr.com.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود