نحو عالم أفضل٭
لغة الألوان

 

قيصـر زحكـا

 

من أول الملاحظات التي تلفت الانتباه حول الألوان: لماذا يتميز النبات والكلوروفيل بلونه الأخضر، ويتميز الدم بلونه الأحمر؟ والغريب أن اللونين هما لونان متكاملان، بمعنى أن مزج ذبذبات اللون الأخضر والأحمر معًا ينتج اللون الأبيض لإشعاعات الشمس. يبقى العلم عاجزًا عن هذه الإجابات. لقد درس العلم بإسهاب فائدة اللون الأخضر للكلوروفيل ودوره الرئيسي في الاستقلاب الضوئي والحياة، لكن الباحثين حول اللون الأحمر للدم لم يصلوا عمليًا إلى أي تفسير جوهري. يسأل مثلاً Allendy:

إذا كان الدكتور اللون الأحمر للدم يشير إلى الإشعاعات الأكثر قوة في ضوء الشمس، فهل هذه مصادفة ذات أهمية؟ وهل كون الحديد، وهو المعدن الأكثر أكسدة بأملاحه الحمراء، هو ما تستعمله العضوية من أجل الهدم الاستقلابي مصادفة أيضًا؟

يمكننا اعتبار الأمر برمته مصادفة والسكوت عليه، ولكن كما يقول كتاب ماذا أعرف "Que- sais- je?" لـ Montaigne:

إن الأسوأ أن نعتقد أنه لا يوجد مشكلة ولا نبحث عن تفسير.

أو كما يقول الكيميائي Ostwald:

من الممكن أن نخسر الكثير من الاكتشافات العلمية بمجرّد جلوسنا وظنّنا أنه لا يوجد شيء للتفسير.

لقد ذكر القرآن الكريم في سورة النحل:

بسم الله الرحمن الرحيم. وما ذرأ لكم في الأرض مختلفًا ألوانه. إن في ذلك لآية لقوم يذكرون. كلي من كل الثمرات فاسلكي سبيل ربك، ذلك يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس. إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون. صدق الله العظيم.

لقد لاحظ هيراقليطس، أثناء زيارته مصر، أنه كان لرجال الدين الفرعونيين ثلاث طرق مختلفة للتعبير عن أفكارهم، فنفس الكلمة قد يكون لها معنى محددًا أو رمزيًا أو تصاعديًا من خلال تطبيق منهج توت- هرمس، والذي يبحث عن قانون واحد يحكم العالم الطبيعي والإنساني والإلهي في نفس الوقت، أو كما يقول العلماء David Bohr وKarl Pribram وFred Alan Wolf بوجود عوالم متوازية Parallel Universes، أو كما في الصلاة الربانية المسيحية: "كما في السماء كذلك على الأرض". كل هذا يجعلنا نتساءل عن وجود حكمة أزلية في الطبيعة، لمستها الحضارات والأديان من زوايا مختلفة، أو كما يسميها Portal اللغة الهرمسية نسبة إلى الإله هرمس الذي كان يعتبر رسول الآلهة إلى البشر. لقد تعجب Portal من تشابه أهمية ورمزية الألوان في الحضارات والأديان المختلفة. كل هذا يجعلنا نفكر مليًّا في نظريات عالم النفس الشهير Carl Jung حول الأنماط البدئية Archetypes. فهل الألوان المختلفة، والأرقام المختلفة، ونوطات السلم الموسيقي المختلفة، والعناصر الكيماوية والطبائع النفسية (قيادي حربي، قيادي معلّم أو صاحب طريقة أو فلسفة، تدخّلي intruder، استهزائي intimidator، انعزالي aloof، معتدل الخ ...)، والجنسية المختلفة (أيضًا من 1-7 حسب الميل الكامل وفقط نحو الجنس الآخر، إلى الميل الكامل وفقط نحو الجنس نفسه)؛ هي تعبير فيزيائي عن أنماط بدئية أساسية في المستويات أو العوالم الأعلى؟

هل هناك فعلاً لاوعي جمعي Collective subconscience حسب المحللين النفسيين، أو روح كونية Anima Mundi حسب الخيميائيين، أو وعي كوني حسب علماء الفيزياء والديانات الشرقية، يتخلل كل ما في الكون من أشجار وأشنيات وطحالب وحيوانات وجماد الخ، وأن النفس هي إحدى تعبيرات هذه الروح الكونية؟ وأن الإنسان يحتوي في داخله - إذا عرف كيف يبحث عنها - كل الاكتشافات التي وضعها نيوتن أو باستور أو غيرهم؟ هل هذه الوحدة الكونية تعبر عن نفسها من خلال ثنائية أزلية، أو توازن لقوى متضادة أسماها الصينيون الين واليانغ؟ تلك الوحدة والثنائية ترفعان الستار الأسطوري عن الثالوث الذي تحدثت عنه أديان مختلفة مذكرة إيانا بفيثاغورث والفلسفة الأزلية.

أما بالنسبة للأنماط البدئية، فالألوان تبدو لنا كعلامات على مدخل كوني، وتقودنا إلى المفهوم الأفلاطوني للأفكار على أنها صور، أو إلى التعبير الأرسطوطاليسي عن الأنماط البدئية والتي استند إليها Carl Jung في دراساته النفسية؛ فالألوان تعبّر عن نمط بدئي للجوهر الأحمر مثلاً أو الجوهر الأزرق في العالم النفسي، والذي يشكل الركيزة أو الـ Infrastructure للعالم الفيزيائي. الرموز هي الأنماط البدئية، أما الألوان والأصوات والروائح والأحلام والأشكال الهندسية وحتّى الأفكار ليست سوى تظاهرات لهذه الأنماط البدئية. اعتبر أفلاطون في كتاب الجمهورية أن السعادة والألم ليست إلا تحركات، الأولى تشير إلى الامتلاء والثانية إلى الفراغ. لقد اعتبر قوس قزح يومًا ما على أنه جسر بين السماء والأرض. الألوان هي نوع من اللغة والتعبير لهذه الروح الكونية Anima Mundi. إنها مفتاح يسمح لنا بفتح أسرار أزلية وباكتشاف الهوَ Id المندثرة تحت الأنا Ego. إن ميتافيزيقيا الألوان هي ملتقى المحللين النفسيين مع الشعراء، وهي التي تسمح للواحد فيهما أن يفهم الآخر، وهي تسمح بلم شمل إنساني من الصعب تخيل الحياة من دونه. أما إذا أردنا النظر إليها على أنها فقط تظاهرات لا قيمة لها، نكون مثل القدماء الناظرين إلى رداء الإلهة Isis ناسين أن هذا الرداء يستر وراءه الألوهة أو الحقيقة غير المجزأة.

مبدأ الثنائية ومبدأ الثالوث

لقد ذكرت معظم الحضارات هذين المبدأين بنسب وأهمية مختلفة، ولكن اتفقت كلها على وجود هذين المبدأين. ركّز الصينيون والزردشتيون (وبالتالي الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام) على أولوية مبدأ الثنائية، واعتبروها أساس الخير والشر، أو الجنة وجهنم. قال الصينيون إن هناك مصدرًا أو طاقة إلهية بدئية، والتي هي مصدر كل شيء مرئي وغير مرئي في هذا الكون. عندما تبدأ هذه الطاقة الخلاّقة بأخذ طابع ما، يظهر قطبان تعبيريان يعطيان كل الثنائيات الموجودة في العالم. يطلق على هذين القطبين، أو الثنائية، أسماء مختلفة فقد نسميهما: 1- الروح أو الأب أو اليانغ. 2- المادة أو الأم Matter or Mother أو الين. من امتزاج الأب والأم ينجم الابن أو النفس. من الواحد نشأ الاثنان، ومن الاثنين نشأ الثلاثة، والثلاثة معًا تمثل الواحد. إن جوهر اليانغ يتظاهر بالإيجابية والذكورة والسيطرة والحركة النابذة والمنطق، ويعبر عن رغبة التكوين والتوسع وبالتالي النمو؛ بينما يتظاهر جوهر الأم أو الين بالسلبية والأنوثة والاستقبال والحركة الجاذبة والإرهاف في الإحساس والرعاية، وتعبر عن حكمة التركيز وجلب الأضداد معًا من أجل رعاية بذور الخالق من أجل ولادة جديدة واستمرار الحياة. يحصل اتحادهما من خلال قوة الانجذاب أو المحبة وينجم الابن أو النفس، والمحبة توحّد وتؤدي إلى زوال العزلة. إن طاقة الإرادة طاقة كهربائية إيجابية أو سلبية، أما المحبة فهي طاقة مغناطيسية تجذب الأب نحو الأم، أو الذكورة نحو الأنوثة، أو اليانغ نحو الين وبالعكس؛ ومن اجتماع المحبة مع الإرادة تتولد طاقة كهرطيسية.

أما الحضارة الهندية، ومعظم حضارات الشرق الأوسط القديمة بما فيها الديانة المسيحية واليونان، فقد ركّزت على أولوية مبدأ الثالوث Trinity، فافترضت وجود مجال شامل إلهي من النقاوة الخالصة والغير متغيرة. وأنه لما كانت طبيعة الحقل الموحّد وعي نقي كامل، فمن الطبيعي أن يكون واعيًا مدركًا، ولمن ليس عنده إلا نفسه ليدركه وهو لا يمكن أن يلجم نفسه عن معرفة نفسه. وبهذا يكون الوعي وحده مدركًا لنفسه، وتعود مرجعيته دائمًا إليها. وهنا نجد أنه، بشكل أوتوماتيكي، يصبح الوعي اللامنقسم ثلاثية تعددية هي المدرِك knower، المدرَك Known والمنهج الإدراكي Process of knowing؛ أو المشاهِد Observer، المشاهَد Observed، ومنهج المشاهدة Process of observation. يصبح الوعي هو الفاعل والموضوع والارتباط بينهما، ويكون بنفس الوقت الواحد والثالوث.

الوحدة، أو السامهيتا بالسنكريتية، تتناوب في التحول إلى ثلاثية الـRishi والديفاتا والتشهانداس، والعودة إلى الوحدة من جديد، والعودة إلى الثالوث، والتي هي بالحقيقة طيف من الوحدة، والعودة من جديد إلى الوحدة من خلال ما يسمى بالتواتر اللانهائي Infinite Frequency. هذا التأرجح بين الوحدة والثلاثية يحمل ديناميكية خلاقة ورائعة لمجال كان صامتًا بشكل مطلق، وهنا تبدأ تنوعات الخلق والتكوين، وتتحول الوحدة والتفرّد للوعي النقي إلى تنوع رائع، ويتحول صمت الوعي النقي إلى ديناميكية خلاقة. لقد استُنِد في النهاية على فكرة المدرِك والمدرَك والمنهج الإدراكي في مبدأ الثالوث المقدَّس المسيحي الآب والابن والروح القدس. بمجرّد أن نطق الله كلمة الخلق في الفضاء اللامتناهي، ظهرت الازدواجية الأولى: الله وعملية الخلق، ولكن بمجرّد القيام بعملية الخلق تكوّن المخلوق أو الابن، فهنا نرى أن مبدأ الازدواجية والتثليث حدثا في نفس الوقت. من هذين المبدئين، نشأت في النهاية الأربعة عناصر والفصول، والخمسة والستة والسبعة - وهو رقم الكمال الأرضي-، والاثنا عشر - وهو رقم الكمال الكوني-، والأرقام الأخرى.

إطلالة الألوان

كل عملية تكوين أو خلق تحتاج إلى إرادة تأمر، محبة أو عاطفة أو دافع لتبارك، وعقل لينفّذ. شاء الخالق فأوجد من كيانه، أي من نوره، كونًا، وهذا الكون تكوّن على عدة مستويات، فكان المستوى الروحي، وكان المستوى العقلي، وكان المستوى العاطفي أو الكوكبي - باختلاف التسميات -، والمستوى الأثيري الطاقي، والمستوى المادي. كلّما نزلنا درجة أو مستوى، ازدادت كثافة الطاقة وقلّت ذبذبتها إلى أن تحولت إلى مادة. كان على طاقة التكوين هذه أن ترتدي جسدًا أو كيانًا من المستوى الذي انخفضت إليه، لأنها لم تعد بنفس حالة الصفاء والنور النقي الذي كانت فيه، وهذا الجسد هو الألوان. كلما كان المستوى أعلى، كلما كان اللون أكثر شفافية ونورانيّة، وكلما كان المستوى أخفض، كلما كان اللون أكثر كثافة. أخذت الإرادة الإلهية (الآب) لها طليعة اللون الأحمر الأرجواني (الذي لا يرى طبعًا بالعين المجرّدة)، وأخذت المحبّة الإلهية (الروح القدس) طليعة اللون الأزرق النوراني جسدًا لها، وأخذ العقل الكلّي طليعة اللون الأصفر رداء له.

كأنما النور الإلهي الحقيقي الخالص انطلق من وراء الشمس شعاعًا نورانيًّا صافيًا، لكنه يحوي سائر الألوان في ذاته، أو هي كامنة في أعماقه بالقوّة. ما إن فاض هذا النور أو دخل النظام الشمسي، حتى تثلّث، أو تحلّل إلى ثلاثة أشعة كونية في لمحة أبدية. وكأن مروره الخاطف، عبر الازدواجية، جاء ليثبت أن الازدواجية كامنة في النور بالقوّة، وفي الأشعة الثلاثة بالفعل. وكما تقول العلوم الشرقية، خاصة الهندية، عن التواتر اللانهائي بين الوحدة والثالوث، حدث هذا باستمرار مع الألوان. فالنور الحقيقي الخالص الذي بقي لبرهة محافظًا على وجوده الأحادي أثناء انعكاسه في الطبقات الأدنى، اتخذ اللون النيلي رمزًا له، والألوان الثلاثة - وبما أن الازدواجية كامنة فيها بالقوة - ازدوجت وانعكست في ثلاثة ألوان أخرى كانت أقل نورانية بسبب هبوطها إلى مستوى أخفض هو المستوى الروحي، وبالتالي أكثر كثافة، فتحول الأحمر الأرجواني إلى قرمزي، والأزرق النوراني إلى أزرق سماوي، والأصفر النوراني إلى أصفر شمسي أو ذهبي؛ وبالتالي تكون ثالوث جديد روحي. ومع الهبوط أكثر إلى المستوى المادّي، ومع قابلية المزج الهائلة، امتزج الأحمر مع الأصفر ليعطي البرتقالي، والأزرق مع الأحمر ليولّد البنفسجي، والأصفر مع الأزرق لينبثق الأخضر. أما اللون النيلي، صلة الوصل بين الأشعة اللونيّة الأصيلة والثالوث الروحي، فهو حاصل اندماج الألوان الثلاثة الأساسيّة - الأحمر والأزرق والأصفر معًا -، أو اتحاد ثالوث الألوان في الطبقات الروحية والمادية على أنواعها. وبما أن الكيان المادّي في عالم الأرض لا يكتمل كلّيًا إلا بالعدد 12، كان لا بدّ أن تظهر خمسة ألوان جديدة هي الزهري، الفضّي، البنّي، الترابي، والـMauve أي البنفسجي الضارب إلى الزهري.

من هنا، ظهرت ثلاث مراتب من الكمال التي يتوجب على الإنسان بلوغها للوصول إلى الاتحاد في قلب اللّه: كمال مادي عبر الثالوث المادّي، وكمال روحي عبر الثالوث الروحي، وكمال إلهي عبر الثالوث الإلهي؛ فالوعي المادّي لا يكتسب من خلال وعي الثالوث المادّي فحسب، بل من خلال وعي أصل هذه الألوان السبعة عبر رموزها، والكمال الروحي يتم عن طريق اكتمال خصائص الألوان السبعة في الثالوث الروحي وفي وحدة النور.

وجدت الألوان أو الذبذبات اللونية مع بدء الوجود، فلا وجود دون ألوان ولا ألوان دون وجود، لأنها دليل على كينونة ما، بل هي تجسيد ذلك الشيء في ذبذبات مادية. الألوان هي تجسيد للذبذبات، أي تفسر مكنوناتها ماديًا. حين خلق الله الكون، انطلقت منه ذبذبات إلهية وانتشرت في كل اتجاه، لكنها تذبذبت بسرعات مختلفة، فعندما تسارعت بالتبذبذب تكون كون لا منظور، وحين تباطأت تشكّل كون أو كلّ منظور.

الذرات هي طاقة الحياة التي لا لون لها في الفضاء الخارجي، لكن حين وصلت تلك الطاقة إلى محيط الأرض، أي دخلت نطاق المادة، كان لا بدّ لها أن ترتدي ثوبًا يتلاءم وطبيعتها، فكما أن ذرات الأوكسجين أو الهيدروجين مثلاً يستحيل عليها التواجد في الطبيعة بشكلها الأحادي، بل يجب أن تكون بشكلها الثنائي، كذلك فوتونات الضوء لا يمكنها أن تظهر في عالم المادة بنورانيتها وشفافيتها الروحية، فلا بدّ أن تكتسب كساء أو جسدًا لها، وكانت أن اختارت الألوان رداء لها؛ فالألوان هي جسد الذبذبات بل جسد الحياة، فلا حياة دون ألوان ولا ألوان دون حياة. إن إهمال الإنسان للألوان لا يعني عدم وجودها، لكنه في البدء لم يدركها، ولكن شيئًا فشيئًا بدأت تتسلل إلى حياته العملية، وظهرت بادئ ذي بدء في ممارسة الطقوس الدينية وخاصة اللون الأحمر القرمزي والأصفر الفاتح والأزرق السماوي، ثم صارت الألوان تستخدم لطلاء المعابد والهياكل المقدسة، وصار لكل لون رمز ومرتبة، فكان اللون البنفسجي والأحمر الأرجواني حكرًا على الملوك والأمراء في بلاد ما بين النهرين، أما الأخضر والأصفر والقرمزي والأزرق فكانت خاصة بالكهنة والمعابد، وكان البرتقالي اللون المميّز للأطباء والعلماء، واللون النيلي خاص بالقضاة والمحامين، أما البنّي والرمادي وغير ذلك من الألوان القاتمة فخاصة بعامة الشعب.

دخلت الألوان بعد ذلك في طلاء المنازل والمفروشات، أي اعتمدها عامة الشعب. بلغ شغف الشعب بالألوان درجة كبيرة، فصار الأحمر الصارخ يدلّ على القتال، والأصفر الداكن يدلّ على الغضب والحقد، أما الأخضر فيشير إلى السلام، والأزرق إلى طيب المودّة وصفاء النيّة، والأبيض إلى السلام. استخدمت الألوان كوسيلة شفائية عند كهنة ما بين النهرين والإغريق ومصر القديمة من خلال ما لها من تأثير مغناطيسي على الجسد، أو على الأجسام الباطنية غير المنظورة.

ماهيّة الألوان

وجدت الألوان منذ بدء الخليقة، وكانت ذبذباتها موجودة أصلاً قبل خلق الإنسان، وبالتحديد منذ باشرت الروح الإنسانية هبوطها وتدركها عبر طبقات الوعي العليا أو مستويات الوجود الحياتي، التي تعتبر الأرض أكثفها... لتتجسّد في عالم المادة. الألوان هي ذبذبات الوعي - كما تشرح علوم الايزوتيريك -، فاللون لا يدل على حاجات أو أشياء ملموسة، بل يرمز إلى مستوى وعي أو إلى ميزة معيّنة (لا يعني طبعًا اللون الأزرق للحائط درجة وعي الحائط، ولكنه يستثير معاني الهدوء والمحبة في الإنسان، وهذا هو المقصود). المقصود بكلمة لون في العرف الباطني هو تلك الذبذبة التي تحمل اللون أصلاً، أي معنى اللون. وهذه الذبذبة ليست مرئية إلا لمن تفتّح لديه البصر الداخلي أو العين الثالثة ليستشف الذبذبات وألوانها على طبيعتها.

ولكل لون رمز لأنه يجسّد وجودًا معيّنًا، فالنور الإلهي الحقيقي الصافي الخالص هو رمز وجود الإله الواحد الذي بثّ الحياة في رمز الوجود وخلق الكون. تظهر الألوان أيضًا في الأجسام الباطنية للإنسان، التي هي فعلاً طاقة الحياة والحيوية والوجود في الكائن البشري، فهذه الأجسام مكوّنة من ذبذبات وعي، ولكل جسم درجة وعي معيّنة، كما أن لكل درجة من درجات الوعي لونًا يمّيزها عن سواها. الأمر الذي يفسّر أن كل جسم باطني يحوي جميع الألوان، لكنّه يتميّز بلون واحد طاغ على الجميع.

ومن جهة أخرى، هناك درجات أو تدرّجات في اللون الواحد، وهذا ما يميّز وعي الجسم الباطني الذي يحوي ذلك اللون من الأجسام الأخرى. فاللون الأزرق مثلاً لديه عدة تدرّجات تتراوح بين الأزرق الفاتح والسماوي والنيلي والفيروزي والقاتم والأزرق المتدرّج في الأخضر الداكن. جميع هذه الألوان تعتبر درجات في اللون الأزرق، ولكن اختلافها يرمز إلى درجة الوعي أو الصفة التي يجسّدها هذا اللون في الجسم الباطني. فكلّما شفّ اللون، دلّ على درجة وعي أسمى، والعكس بالعكس، فاللون الأزرق مثلاً في الجسم الكوكبي أكثف من الأزرق في الجسم العقلي.

الألوان الباردة

في البدء عليّ أن أذكر أنه في علم الرموز كثيرًا ما تظهر بعض الأفكار متعارضة مع بعضها في حال لم نعد إلى الأنماط البدئية Archetypes التي تشرحها، وهذا ينطبق على الألوان، فقد يظهر اللون الأزرق مثلاً ذو علاقة تارة باللون الأبيض (سموّ الألوان) وطورًا بالأسود (فناء الألوان) ما لم نحاول رؤية المحتوى الذي ورد فيه ودرجة اللون. فاللون الأزرق السماوي أقرب للأبيض، أما الكحلي فهو أقرب للأسود. والرداء الأزرق الفاتح هو رداء مريم العذراء، أما الأزرق الغامق والكحلي فهو رداء الحداد والحزن. حسب الرمز المعروف باليانغ والين، عند الصينيين وشعوب شرق آسيا، فإن الذكورة أو اليانغ تتمثّل بطاقة نابذة تسعى نحو التوسّع والخارج وإطلاق الطاقة والنموّ وتتمثّل باللون الأبيض، وفي المقابل فإن المبدأ الأنثوي أو الين يتمثّل بالاستقبال والحضن والطاقة الجاذبة من أجل اختمار بذور الخالق لنموّها من جديد، وتتمثّل باللون الأسود. لكن علينا ألا ننسى أن في داخل كل واحدة دائرة صغيرة من اللون الآخر تعني الاستعداد الدائم لتحوّل الواحدة للأخرى، وكذلك التقاء كل واحدة بالأخرى باستمرار وتداخلهما يعني نفس الشيء. الآن، وُضِع اللون الأزرق الأنثوي بدل الأبيض في بعض المناطق، ووضع اللون الأحمر الذكري بدل الأسود (وفي مناطق أخرى، وضع الأحمر بدل الأبيض والأزرق بدل الأسود)، فهل هذا يغيّر الحقيقة الأصليّة؟ لا طبعًا، لأنه كما سنرى، فإن اللون الأحمر الذكري يسعى نحو الأسود، والأزرق الأنثوي قريب جدًا في معانيه للأبيض، ولكنّه أحيانًا رُبِط بالأسود. ففي النهاية، يوجد مبادئ أو أنماط بدئية أساسية تتجاوز الزمان والمكان، ولكن بمحاولتنا إعطائها تطبيقات محدودة زمنيًا ومكانيًا وتحليلها عقليًا، تختلط علينا الصورة الكلّية الهولوغرافيّة.

لاحظ المحلّل النفسي Carl Jung أن معظم الحضارات لم يكن لها في البداية غير إلهين أحدهما ذكري والثاني أنثوي، وفقط لونين: الأول أحمر- أصفر، والثاني أزرق- أخضر، وأنه في كثير من الحضارات كان الحرف م أو M يدخل في المفاهيم الأنثوية، والحرف ب أو B أو P يدخل في المفاهيم الأنثوية.

اللون الأخضر

إنه اللون الغالب للنباتات وأحيانًا للماء والمستنقعات والبحيرات والبحر. أثبتت التجارب أن لون الماء أكثر زرقة منه خضرة، ولكن، رمزيًا، أعطي الماء اللون الأزرق والأخضر والأسود. اللون الأخضر هو لون الحياة من خلال الكلوروفيل ودوره الأساسي في دورة الحياة. تستعمل الأوراق الطاقة الشمسية، بالأحرى جزءًا منها، في عملية الاستقلاب الضوئي. أي لون؟ إن اللون الأحمر هو ما يستعمل بالدرجة الأولى، لأنه اللون الأكثر حرارة، ولأن الأحمر هو اللون النظير أو المتمّم للأخضر، فلون الجسم يحدث - كما نعرف - من امتصاصه الألوان الأخرى وإصداره ذلك اللون، وكما يقول قانون Grotthus: إن اللون المتمّم للون الجسم هو الذي يحدِث التفاعلات الكيماوية في هذا الجسم. إن غياب الكلوروفيل يحكم على كل الحياة الأرضية بالفناء والاختناق، كما يتيح الكلوروفيل وجود الكائنات الأعلى من حيوانات وغيرها والتي لا تستطيع من خلال المعادن وغاز الكربون والطاقة تكوين المركبات الأعقد.

إن نسبة الماء للون الأخضر بديهية، فالأخضر هو نظير الأحمر، كما أن الماء نظير النار، وكلنا يعرف أن الرطوبة تؤثّر على الكلوروفيل، فالأوراق تكون أكثر خضرة وبريقًا في الأجواء الأكثر رطوبة. إن المزج الضوئي للأخضر والأحمر يولّدان من جديد الضوء الأبيض للشمس أو الوحدة. إن النبات من خلال اللون الأخضر يقوم بأخذ الطاقة من الشمس (أو رمزيًا يجذب الشمس نحو الداخل من أجل استعمالها من قبل الخلايا والتي قلّما تختلف الواحدة عن الأخرى، أو نقولها بطريقة أخرى إن النظام الهرمي والتخصصي عند النبات يكون في أدناه) إذ تلعب كل خلية تقريبًا دورًا مستقلاً، فالأغصان في الشجرة لا تنمو بشكل متناظر، وأية قطعة من النبات تستطيع إنماء نبات كامل من جديد. نسمّي هذه العملية Endothermique أي آخذة للحرارة نحو الداخل أو Centripetal أي جاذبة. مع قلب هذا النظام من جاذب وآخذ للطاقة إلى نابذ ومولّد للطاقة، من عدم الحركة إلى الحركة، من اللون الأخضر إلى الأحمر، استطاعت الحيوانات الأعلى والتي يترأسها الإنسان التغلّب على هذه الفرديّة وكوّنت جهازًا مركزيًا مترأسًا من قبل الجهاز العصبي، وأصبح كل عضو يقوم بمهمّات محدّدة تمامًا، وازداد الوعي والحساسيّة وكل الوظائف المنوطة باللون الأحمر.

لقد كُرّس اللون الأخضر والأسود للإلهة فينوس أو أفروديت اللتين ولدتا في الماء. إنهما رمز الجانب الأنثوي للطبيعة، الأم والمرضع، المعطية للمحبّة، وهي القاعدة الأساسيّة، ولكل الكائنات الحيّة. ينمو الجنين داخل الماء الأمنيوسي، وقد تكلّمت الأديان دائمًا عن المياه التي غمرت الكون في البدء، والتي أعطيت اللون الأسود (ولكن للون الأخضر علاقة وثيقة بالأسود كما سنرى، والاثنان ألوان باردة). اللون الأسود يذكّرنا بالليل والولادة للإنسان والكائنات والكون برمّته. يقول أورفيوس:

أغنّي الليل، الليل هو أم الآلهة والإنسان. الليل هو أصل كل المخلوقات وهو ما نسمّيه فينوس.

يعرف المحلّلون النفسيّون أن الماء يرمز للأم واللاوعي، وأن اللاوعي هو القاعدة التي ينشأ منها الوعي، والذي كثيرًا ما يظهر في الأحلام على شكل البحر. إن الحرف M أو μ باليونانية بشكله المتموّج ولفظه يحمل في طيّاته طبيعة تموّجية، وبالتالي يعبّر عن مفهوم بدئي archetype أنثوي مائي تموّجي، وأن لفظ MA الذي يعني السائل الكوني يبدأ بهذا الحرف، وأن كلمة Mouvement بالفرنسية، أو كلمة Movement بالإنكليزية، وغيرها تبدآن بهذا الحرف. ومعظم تسميات الأم تبدأ بهذا الحرف. إن الحيّة مع حركاتها التموّجية كثيرًا ما رُبطت بالحكمة والسائل الكوني وفكرة الأنوثة. إن برج الدلو يعبّر عن فكرة السائل الكوني. إن الكلمة العبرية Nachash نحاس تعني النحاس بأملاحه الخضراء (بينما الحديد طبعًا بأملاحه الحمراء) وتعني أيضًا الحيّة، وكما نعرف فإن النحاس ولاحقًا البرونز لهما مفهوم أنثوي، مفهوم العالم السفلي، مفهوم الرحم الذي خرجت منه الحياة.

ما أول ما ينطق به الطفل؟ ما MA. ألا نجدها في الكلمة اللاتينية MAMA والتي تعني الأم والمرضع. ألا نجدها في أم، Mère، Madre، Mother، Mommy، Maman، وMader الفارسية. ألا نجدها في كلمة مادّة بالعربية وMatter، Matière، وكلمة Magia، Maïa، Maria والدة الإله؟ وأيضًا في كلمة Mare، Mer أي البحر؟ إن كلمة Miriam بالعبرية تعني مريم وتعني البحر. ما أول شيء نطقه الإله العليّ عندما خلق الكون حسب كتب الفيدا؟ إنه لفظ OM (لنرى التقارب مع كلمة أمّ بالعربية). أليست كلمة آمين - والتي ليس لها أي معنى لغوي محدّد سواء بالعبرية أو بالعربية أو بالآرامية، والموجودة عند كل الديانات الشرق أوسطية - مشتقة من كلمة OM حسب كثير من المصادر. نجد الـ M أيضًا في كلمة Maraka السنسكريتية التي تعني البرج العاشر (هنا بدءًا من بداية السنة) أو العقرب. نجدها في شهر May أجمل شهور السنة حاملاً الاخضرار الرائع معه. إن كلمة الربيع بالفرنسية Printemps تعني الزمن الأول، وبالاسبانية Primavera تعني الاخضرار الأول. إن الحسناء النائمة في غابات الشتاء، أو بياض الثلج Snow white، لا تستطيعان مقاومة أمير الربيع. تأتي الحسناء بثوبها الأخضر لتتّحد بأمير الكون بشعاره الذهبي، فيحدث زواج المادة والروح، الماء والنار، اللاوعي والوعي، الأخضر والأحمر. إن الطبيعة الخضراء عذراء (Virgin، أو Vièrge، Vert، Vie، Venus) كلها تبدأ بحرف V والذي يرمز لشكل الرحم وللرقم 5 في اللاتينية الذي يحمل المعنى الأنثوي، ومعنى نصف الكمال أو العشرة، والذي سيتّحد بنظيره الذكري المقلوب ليشكّلا رقم 10 باللاتينية X. علينا ألا ننسى أن حرف M بحدّ ذاته مشتق شكليّا من حرف V، ولكنّه V ناضجة قد تجاوزت عذريتها لتصبح أمًا حنونًا مرضعة؛ وأن حرف W هو اثنتان من الـ V أو M مقلوبة، وهو الحرف الذي تبدأ به كلمات Wave، Water، Way، Wasser، Weg الخ. أما حرف الـ F، وهو V مضخّمة، فهو حرف ذكري بامتياز Father، Fire، Feuer، Frère الخ. إن الإلهة المصريّة نوت NEITH أو NOUT، وتحت تأثير قبلات إله النار فتاح PHTHA، ولدت الشمس رمز التنوّر. كثيرًا ما رُمز للأنثى بالقطة وللذكر بالكلب. والقطة من خلال عينيها الخضراوين وطبيعتها المغرية والصموتة والسرّية رمزت للاوعي وللعنقاء - رمز السائل الكوني. في كثير من الأديان والحضارات عبّر اللون الأخضر والماء عن الدرجة الأولى في الترقّي الروحي، والأزرق والهواء عن الدرجة الثانية، والأحمر والنار عن الدرجة الثالثة. اللون الأخضر هو لون الهداية والبدء والأمل. إن الأفروديت الاسكاندينافية FREYA، محبة المياه، تحتفل بعيدها يوم الجمعة FREITAG بالألمانية. إن رداء علي رضي الله عنه الأخضر صار رمزًا إسلاميًا هامًا. وما هو أهم يوم؟ إنه الجمعة أيضًا. الأخضر لون يوحنا الإنجيلي الذي تكلم عن الروح القدس. إنه لون التجدّد والتوسّع الأفقي كالماء (أما الأحمر فالتوسع الشاقولي كالنار).

في نفس الوقت، الأخضر هو مزيج الأزرق والأصفر، كما أنه يقع في منتصف الطيف الضوئي، وبالتالي طبيعته مزدوجة. وقد أعطيت، أحيانًا، شياطين القرون الوسطى، في اللوحات، اللون الأخضر. كما اعتقد أنه يولّد مشاعر ساديّة عند نيرون مثلاً، أو انتحاريّة كما وجد عند اليائسين المتأملين في النهر الجاري أو البحيرة، أو لواطية لأنه وجد في بعض الدراسات أن اللواطيين يميلون للون الأخضر وهو لون بارد أو سلبي، بعكس اللون الأحمر الذي يرمز للجنسانية الذكرية.

اللون الأزرق

إذا كان الأخضر هو لون الماء، فإن الأزرق هو لون السماء والهواء. كثيرًا ما اعتبر أن الهواء لا لون له، ولكن نعرف تمامًا أنه لا يوجد أي شيء في الطبيعة شفاف بشكل كامل، وبالتالي فإنه ليس من المستحيل أن يكون للبخار الناتج عن الماء، وبارتفاعات ساحقة، لون. بشكل عام، يعتبر علماء الفيزياء أن اللون الأزرق للسماء هو ظاهرة انكسارية للضوء حيث، خلال مرور الضوء بطبقات الجوّ المختلفة، تقوم الذرات والجزيئات الموجودة بعكس الأمواج الأكثر قصرًا، والتي يغلب عليها اللون الأزرق الذي يبدو أكثر نقاء بسبب الخلفية السوداء لقبّة السماء. حسب الدراسات العديدة، التي أجريت من قبل Freud وJung وغيرهم، فإن في داخلنا غرائز دنيا تسعى دائمًا للسمو والتطوّر، وغرائز عليا سامية؛ أي أننا نحمل في داخلنا جنتنا وجهنمنا. وحسب المدرسة التحليلية ليونغ فإن الحيوانات في الأحلام هي رموز حيّة للغرائز، وأن للألوان دور كبير أيضًا. فارتفاع الغرائز وسموّها يغلب عليه اللون الأبيض والأزرق في الأحلام. الأزرق هو موطن آلهة الأولمب، هو رمز الحكمة الإلهيّة (وأحيانا المحبة الإلهية، ولكن كثيرًا ما ربط الحب والمحبة أيضًا باللون الأحمر). الأزرق هو رمز المرتبة الروحية الثانية، والسائل الكوني MA - NA، والأثير، والروح القدس الذي كثيرًا ما أخذ رمز اليمامة البيضاء، وهذا الأبيض ظهر أحيانًا بلون المحبة الإلهية الحمراء في لهيب العنصرة، وأحيانًا بلون الحقيقة النقية الزرقاء.

كثيرًا ما ارتدى Zeus، إله الآلهة اليونان (والذي يعني اسمه الحياة والحرارة والنار)، رداء أزرق أو أحمر، معبّرًا عن الطبيعة الثنائية للكون. لقد كان ميثراس النارَ الذكرية في الديانة الزرداشتية، أما ميثرا فالنور الأنثوي. وفي الرمز الهندوسي لـ Ignis-Agni التي ترمز للنار الأثيرية، والتي جاءت منها معاني الاحتراق ignition، ignifuge المانع للاحتراق، وجاءت منها الكلمة Ignite بمعنى يشجّع، يلهب الحماس، أو يحدث له تطور روحي فجائي) ظهرت أحيانًا باللون الأزرق أو الأحمر، وكانت أحيانًا تركب الحمل الأزرق ذا القرون الحمراء. وحتّى كلمة آزور Azur التي تعني حديثًا الأزرق، كانت تعني النار. حتّى الإله الروماني جوبيتر والمصري آمون صوّرا كشخص يلبس الأزرق مع رأس حمل.

شمس الربيع، الشمس الجديدة، كلها مصطلحات دلّت على دخول آمون في برج الحمل الذي يبدأ به الربيع، بعد أن تغلّب على ظلمات الشتاء. يسوع المسيح، الحمل الأحجية، الذي ضحّى بنفسه للتغلّب على ظلمات الخطيئة، قد صوّر كثيرًا مرتديًا رداء أزرق خلال سنوات التبشير الثلاثة من حياته. وحسب التقاليد الأيقونية، أعطي رداؤه أحيانًا اللون الأبيض المرتبط بالألوهة، الأسود عند التغلب على الإغراءات، أو الأحمر الدال على المحبّة الإلهية. لقد أعطي الإله الهندي Krishna، الخارج من صدر Vishnou أو أعضائه التنفسيّة، جسدًا باللون الأزرق - لون الهواء. كما أعطي دائمًا للإلهة اليونانية Hera، أو الرومانية Junon، الرداء الأزرق، كما أعطي لاحقًا لمريم العذراء. عُبِّر عن اللون الأزرق كالأخضر بالخط الأفقي، وضعية الإنسان المستلقي، أما الأحمر فالشاقولي، وضعية الإنسان المنتصب. وفي علم الشعارات Science du Blason عُبِّر عن اللون الأحمر بخطوط شاقولية، وعن الأزرق بخطوط أفقية. مع هذا، بما أن الأزرق لون أساسي، وليس كالأخضر، فليس عنده نفس المعاني الازدواجية الموجودة عند الأخضر، بل هو لون أكثر نقاء، أما الأخضر فهو لون الأرض التي نعيش عليها والتي تحمل الازدواجية في كلّ طيّة من طيّاتها. مع هذا فإن كريشنا، بجسده الأزرق، يصبح صاحب جسد أزرق قاتم أو أسود عندما يصبح بشريّا ويخضع للإغراءات، وكذلك ثوب السيّد المسيح يصبح أسود عندما يتغلّب على الإغراءات.

كثيرًا ما اعتبرت البقرة أنثى بامتياز، فقد صُوّرت الإلهة المصرية Athor ببقرة ترضع حورس، وكذلك في الإلهة الجرمانية Audumla، وفي الإلهة الهندوسية Vach؛ والسبب هو غزارة حليبها. ما لون الحليب؟ الأبيض. رُبطت الذكورة بالامتلاء، والأنوثة بالفراغ. لنرى التقارب اللغوي بين Vacca بقرة وVacua فراغ، ومن فراغ الأنوثة وُلدت الذكورة. الأنوثة هي الكون المنكمش أو الصفر، والذكورة هي الكون المنكشف أو الواحد، وكل شيء في النهاية صفر أو واحد، ومنهما نشأ كل شيء. كذلك، كان القمر في معظم الحضارات رمزًا أنثويًا، وكذلك الثعبان، وكذلك التنّين في الحضارات الشرق آسيوية، مقابل النمر الذكري. علينا ألا ننسى أن الذكر والأنثى جاءا من الألوهة الواحدة، وفي كل واحد بذور التحوّل إلى الآخر من خلال الدائرة الصغيرة الموجودة في كل واحد في رمز اليانغ- ين، ومن خلال اتصالهما الأبدي.

تظهر الحيوانات، كما نعرف، حساسية كبيرة تجاه الألوان، فالثور والديك والكلب والحصان والحشرات تستثار كثيرًا باللون الأحمر. وقد استعملت الألوان كثيرًا في معالجة الأمراض، وخاصة النفسية، إذ يوضع مرضى الاكتئاب في أجواء حمراء، بينما مرضى التوتّر والفصام في أجواء زرقاء أو بنفسجية. لقد ذكرت عدة مصادر تأثير الألوان في جو العمل. وذكر أحد مصانع Manchester، التي سبّب اللون الأبيض الناصع فيها توترًا شديدًا بين العمال، أن تحسنًا كبيرًا حصل بعد طلي الجدران باللون الرمادي المزرق. وفي مصانع الأنابيب، حيث يشعر كثير من العمال بضيق المكان والاختناق، وُجد أن طلي الأنابيب باللون الأزرق أو الأخضر يُشعِر بتوسع المكان. إن حمل صندوق أسود يبدو أثقل من حمل صندوق أبيض. إن اللون البرتقالي أو ارتداء شكل هندسي معيّن يحسّن من الهضم، كما يعطي اللون البرتقالي يوفوريا أو سعادة معيّنة.

لقد حاول الكثيرون ربط الألوان بالنوطات الموسيقية، ومنهم فيثاغورث، أرسطوطاليس، أوفيد، نيوتن، وغيرهم. واعتبر Louis Favre، في كتاب Musique des couleurs، أن له الحق في هذه الاستنتاجات، وقبله في القرن الثامن عشر، قام الأب Castel بوضع الكلافسان البصري، وقبله الأب Kircher. إن الموضوع ليس بالضرورة ربط لون معيّن بنوطة معيّنة، لأن اللون في النهاية ليس أمواجًا وحيدة طول الموجة أو الذبذبة، بل هي مجال معيّن لأمواج تختلف قليلاً في طول الموجة والذبذبة، وعليه فإن الطيف الضوئي قد يشمل عدة أوكتافات أو سلالم موسيقية. اللون الأزرق مثلاً يرتبط بأصوات أنثوية أو طفلية أكثر من ارتباطه بأصوات ذكرية في آخر السلّم الموسيقي مثلاً. لقد لاحظ هيرودوت عند زيارته لمصر القديمة أن هناك ناي بصوت خشن يسمّى ذكري، وناي بأصوات حادة يطلق عليه أنثوي. كثيرًا ما تأخذ الأصوات والكلمات معان لونية، فقد قورن الأزرق والبنفسجي بالأصوات الأكثر حدّة للأذن البشرية، وعليه اعتبرت افتتاحية Lohengrin المثال الكلاسيكي لموسيقى تسبح في الأزرق.

وعليه، إذا وضعنا الألوان المرئية بالمقارنة مع مجال الأصوات المسموعة، يمكن في النهاية أن نقول إن الأحمر يتوافق مع صوت Basse - أخفض الأصوات الذكرية، والبرتقالي مع Baryton، والأصفر مع Tenor، والأخضر مع Contralto، والأزرق مع Soprano dramatico، والبنفسجي مع Soprano legero.

علينا ألا ننسى أيضًا دور سرعة اللحن وإيقاعه في التأثير النفسي والمشاعر المختلفة، فموسيقى مارش حربية أكثر حيوية من مارش جنائزية، ونوطة طويلة تحدث شعورًا بالألم. بعض الرقصات الشرقية الصوفية، من خلال التسارع المترقّي للإيقاع، تُحدث سكرة روحية معينة. إن سرعة اللحن لا تخلو من علاقة أيضًا مع الألوان، فالسريع جدًا يتوافق مع الأحمر، والبطيء مع البنفسجي أو الأزرق أو الأسود. وحتى الآلات، من خلال طابعها الخاص، قد ترتبط بإحساسات معينة وألوان معيّنة، فالكمان يرتبط مع البنفسجي، الناي مع الأخضر أو الأزرق. حتّى الأحرف الصوتية تعطي انطباعات مختلفة، فالـ A المنخفضة، التي تملأ كل الجهاز الصوتي، تدلّ على المفاجأة، الفرح، النشوة؛ والـ O قد تدلّ على كل هذا بشكل أكبر، وقد تعبّر عن النشوة التي تهزّ كل كياننا؛ أما الـ I فهي تعبّر عن الألم الحاد، ولكن أيضًا عن الضحك: Hi، Hi.

تطوّر اللون الأزرق الأخضر نحو اللون الأحمر الأسود

رأينا أن النباتات، بشكل عام، وبواسطة الكلوروفيل، أندوترمية أي ممتصة للحرارة والطاقة وجاذبة نحو الداخل مستعملة الطاقة وغاز الكربون والماء من أجل تكوين مركبات كيماوية أكثر تعقيدًا. وعلى العكس، فإن الحيوانات ذات الدم الحار برمزه الأحمر بشكل خاص (أي الثدييات والطيور) قد قلبت هذا النظام بشكل كامل لتصبح اكزوترمية أي مطلقة للطاقة ونابذة لها، أي تستخدم السكريات والدهنيات والبروتينات ذات التركيب الكيماوي المعقد وتحطمها إلى جزيئات صغيرة مستفيدة من الطاقة الناتجة. تسعى هذه الكائنات برمتها نحو التطور، الحساسية، الوعي، الشخصية؛ وبكلمة واحدة نحو الأنا. وعلى هذا، تكون سيطرة النبات على أجزائه وخلاياه في حدها الأدنى، وينمو هذا التحكّم أو السيطرة مع تطور العضوية ليصبح في حده الأعظم عند الإنسان كما يقول كلود برنار، الذي يقول أيضًا إن التطور يسعى دائمًا نحو التنظيم والتخصص للأعضاء المختلفة، ونحو التفرّد الذي يتوجه الإنسان.

ولكن، ألا نرى أن هذا التقسيم ليس صحيحًا دائمًا؟ ألا يقوم النبات بالتنفس وبالأعمال المطلقة للطاقة، وحتى أن أجزاء منه كالأزهار والبذور لا تقوم إلا بالأعمال الاكزوترمية المطلقة للطاقة. وفي نفس الوقت، هناك في الحيوانات، وفي بعض خلاياها، أعمال ممتصة للطاقة وأندوترمية وبانية للمركبات الأعقد. بعبارة أخرى، هناك نبات في كل حيوان وهناك حيوان في كل نبات، كما أنه يوجد ذكر في كل أنثى وأنثى في كل ذكر؛ وأنه لا يوجد ذكر نقي وأنثى نقية، بل يوجد سلم موسيقي من الحالات البينية. هنا ندرك أهمية مخطط اليانغ والين. مع التطور، يصبح من الأصعب على العضوية أن تكاثر نفسها أو أن تولّد الجزء المقطوع منها.

تكمن عظمة الدم الأحمر في الحفاظ على وسط داخلي ثابت الحرارة، وهذا ما يعطي العضوية حياة حرة مستقلة، بينما تكون الحيوانات ذات الدم البارد (أحيانًا لا لون له، وأحيانًا أزرق) ذات حرية أقل بكثير، فمرور غيمة تمنع أشعة الشمس من الوصول إلى الحشرة يكفي أحيانًا لشل حركتها، كذلك يشكل الشتاء فترة طويلة من حياة بليدة عندها، على العكس من الإنسان الذي لا تتعلق حركته بدرجة الحرارة. وجد أيضًا أن الخنافس الذهبية Chrysomelidae، والتي يسيل ضمنها لمف دموي Hemolymph عوضًا عن خضاب الدم، يكون اللمف الدموي لديها بلون أخضر عند الإناث بسبب امتصاصها لجزيئات الكلوروفيل، بينما تقوم أمعاء الذكور بتخريب الكلوروفيل فيكون اللمف الدموي عندهم أصفر باهتًا. الحيوانات الأخرى، ذات الدم الأزرق بسبب ذرات النحاس عوضًا عن الحديد في خضاب الدم، تكون عندها فقط العضلات محتوية على الهيموغلوبين أو الخضاب، لأنها الأعضاء ذات الأكسدة الأكبر والأكثر اكزوترمية أو إطلاقًا للحرارة.

للطيور مثلاً دم أكثر حرارة من الإنسان، ولكن هذا لا يشكل أهمية أمام درجة استقرار هذه الحرارة، فالإنسان توصل إلى أعلى درجات التحكم بدرجة حرارته، وأعلى درجات الاستقلال والوعي؛ وتظاهرت مسيرة التطور كما لو أن الطاقة الممتصة من الشمس عبر النبات مرت عبر حيوانات عديدة لتصل وتتركز في الإنسان، وهنا يصبح الإنسان الكائن الحامل للطاقة، الحامل للنور، (لوسيفر) الملاك الذي تحدى إرادة الله سبحانه تعالى، شيطان الزهو والكبرياء. إن قوة آدم، والذي يعني الكائن الأحمر، ومن خلال الإساءة للقدرات الهائلة التي أعطيت له، ومن خلال كبريائه وغطرسته، أصبحت هي نقطة ضعفه؛ ولم يعد يرى الجانب الكلي له، بل رأى الجانب المادي المسيطر عنده، فسقط في التجربة. وماذا تعني المعمودية المسيحية في النهاية؟ إنها غسيل الأحمر الزائد من خلال الماء الأخضر - رمز التجدّد وبداية حياة جديدة.

إذًا يحمل النمو والتكاثر اللون الأخضر، أما الحركة واستهلاك الطاقة فاللون الأحمر. يوجد هذا التوازن الأخضر-الأحمر عند النبات من خلال الاستقلاب الضوئي والتنفس الذي يحدث أكثر في الليل. لكن يحدث التوقيت بشكل معاكس تمام عند الإنسان والحيوانات العليا، إذ ما هو النوم؟ إنه عودة إلى حياة أقل استقلالاً، أقل تحكمًا، أقل حركة، وأكثر جذبًا وتجميعًا للطاقة، أي أكثر اندوترميّة. وحسب الأساطير اليونانية فإن Thanatos، إله الموت، هو شقيق Hypnos إله النوم. لقد وجد مثلاً أنه في حال قطع ذنب المرموط، خلال السبات الشتوي الأندوترمي، ينمو الذنب، وهذا لا يحدث خلال اليقظة الاكزوترمية. وفي هذا فإن حالة اليقظة والحركة المستهلكة للطاقة هي حال من الترف الشديد لا تستطيع الطبيعة تأمينه باستمرار، ولا بد من حصول توقفات فيه من خلال العودة إلى حياة أكثر بدائية خلال النوم.

نفس الشيء ينطبق على الأزهار التي لا يوجد أي أثر لها في الحياة الأرضية البدئية. إذ خلال الأحقاب التالية ظهرت الأزهار بأشكالها وألوانها الرائعة التي بدت كبنات للضوء نفسه، وظهر الشكل المتميّز لها والذي دلّ على الحياة الأرقى والاكزوترمية. من الملاحظ أن للزهرة درجة حرارة أعلى من بقية النبات، وتتنفس أكثر بكثير، وتظهر الحساسية القصوى. يقول غوته:

إن الزهرة هي المظهر الأكثر إبداعًا في عالم النبات.

في اللغة الألمانية، تأتي كلمة زهرة Blume وكلمة دم Blut من نفس المصدر. من الملاحظ أن الخباء Carpelles في الزهرة (وهي الأعضاء الأنثوية) تحوي على الكلوروفيل، بعكس السداة Etamines (وهي الأعضاء الذكرية) والتي تحوي غالبًا اللون الأصفر الذكري. وكلاهما نشأ طبعًا من البتلات. كذلك لوحظ أن تكوّن السداة مرهون بوجود الضوء، وعلى العكس، فإن التغذية الزائدة للنبات تُحدِث تحولاً تراجعيًا للسداة نحو البتلات.

بشكل عام، تتميز الأنوثة بالنموّ والتكاثر الخلوي لأن الماء والمادة هما أساساها، بينما تتميز الذكورة بأخذها منهج تقليل الماء أو التجفّف لارتباطها بعنصر النار، وهنا يبدأ اللون الأخضر المميز للحياة الأندوترمية الأنثوية بالاختفاء وتميل العناصر الذكرية للون الأحمر. في النبات، كما في الحيوان، تتميز الذكورة بالحركة، أما الأنوثة فبالاستقرار. وحتى في النباتات الأدنى، مثل الأشنيات وغيرها، تتميز النباتات الذكرية باللون الأحمر البرتقالي، والنباتات الأنثوية باللون الميّال للأخضر. عند السرخسيات تكون الأبواغ ذكرية في حال حصلت على الضوء الكافي والآزوت الكافي، ولكن تتحول إلى ثنائية الجنس عندما تنمو في ظروف قاتمة. في معظم النباتات والحيوانات، تتميز الأبواغ والنطاف بصغر حجمها، سرعة حركتها كونها أكثر حموضة، وشحنتها الكهربائية سلبية؛ على عكس البيوض الأكبر حجمًا، والأبطأ حركة، وذات الطبيعة الأكثر قلوية، وشحنتها الإيجابية. علينا ألا ننسى أن هذا يشابه إلى حد بعيد تركيب الذرة وتشكل الأجرام في السماء، فنواة الذرة الكبيرة حجمًا نسبيًا والقليلة الحركة وذات الشحنة الإيجابية، يدور حولها الالكترونات الصغيرة الحجم السريعة الحركة وذات الشحنة السلبية. هل يمكن توسيع هذا الكلام وتطبيقه على جدول Mendeleieff، بحيث تشكل المعادن، والتي تقع في الخانات اليسرى من الجدول وذات الألوان الباردة بشكل عام (باستثناء الذهب والنحاس)، الطبيعة الأنثوية؛ بينما تشكل أشباه المعادن، بألوانها الحارّة، الطبيعة الذكرية؟ أليس من الممكن أن نربط كل عمود من الأعمدة السبعة لجدول العناصر الدورية مع لون معين ومع طبيعة صوتية معينة، وبالتالي تأتي من نمط بدئي محدّد archetype، وبالتالي تكون الألوان الحارة والأصوات الحادة على الجانب الأيمن من الجدول، بينما تكون الألوان الباردة والأصوات المنخفضة في الجانب الأيسر؟ أليس من الممكن أن يكون ترميز الخيميائيين للارتباط الأسمى، بين الملك الكبريت والملكة الزئبق، هو عبارة عن تجسيد للنمط البدئي للذكورة والأنوثة أو اليانغ والين؟

عند الذكور يكون هناك استعداد أكبر لنمو العضلات من الأنثى، بينما يكون الاستعداد لنمو الأنسجة الشحمية عند الأنثى أكبر. تتميز العضلات بأنها الأجهزة الأكثر اكزوترمية أو استهلاكًا للطاقة في الجسم أو الأكثر احمرارًا. وفي الحقيقة، فإن الكلمة اللاتينية للعضلات Musculus تختلف بحرف واحد عن كلمة ذكر Masculus. عند إجراء إخصاء لذكور الحيوانات يزداد الشحم في نفس الوقت الذي يصبح فيه الصوت أكثر حدة ويتساقط الريش. تتميّز الديوك المسمّنة بأنها أخفض بنصف درجة مئوية من حيث حرارة الجسم عن الديوك العادية.

الأحمر والأسود

الذكر، كالزهرة وكالحيوانات ذات الدم الحار، ليس إلا مرورًا عابرًا وحديثًا في تطوّر الكائنات. عندما تتلقّح بيوض الأزهار، تجف الأزهار وتموت. يُحكَم على كثير من ذكور الحشرات بالموت والاختفاء بعد أدائها للعملية الجنسية. يشير الحب للموت، كما يشير لهب الشمعة إلى الرماد الذي يتلوه؛ فالذكورة بأقصاها تحمل في طياتها الفناء أو العدم، مثل رمز اليانغ والين أو تلامس الأضداد. وفي الحقيقة، فإن الرجل ليس إلا أداة استعملتها فينوس الشيطانية أو اللوسيفرية أو Pandemos، فبظنّه المغرور والتطوري والأناني لم يعرف أنه حمل في ثناياه الموت. ألا نرى نفس الشيء في تطور النجوم السماوية؟ وفي سيرورة الفواكه من ألوان زاهية إلى سوداء؟ اللون الأحمر يُرمَز له بالخط الشاقولي، رمز الشخص النشيط والمنتصب، ومن ثم أصبح الرمز Λ رمز الشهيق والارتفاع نحو السماء والروح، بعكس اللون الأزرق والأخضر والخط الأفقي، رمز الإنسان المستلقي والليل والحياة النباتية والجنسية الأنثوية، والذي أصبح الرمز V مشيرًا للزفير وللوعاء أو الكأس وللعضو الأنثوي وللمادة وللرقم خمسة في اللاتينية، رقم نصف الكمال، الذي باتحاده بالرمز الذكري Λ، نحصل على الرقم عشرة X رمز الكمال. تحولت الرموز أيضًا إلى مثلثات مغلقة مثل النجمة السداسية المعروفة عند المصريين - خاصة إذا كان أحد المثلثات أبيض والثاني أسود؛ هذه الفكرة تمامًا مثل فكرة اليانغ والين.

اللون الأحمر

حسب الحضارات القديمة، للنار قدرات هائلة، فهي التي خلقت الكون وهي التي ستهدمه. لقد قام بروميتيوس بسرقة النار السماوية وأعطاها للإنسان ليستفيد منها، فغضب إله الآلهة زيوس وأمر إله النار والبراكين Hephaistos (القريب لفظيًا ومعنويًا من إله المصريين بتاح Ptah)، بالإمساك ببروميتيوس، حيث كُبِّل المسكين إلى صخور القوقاز، وقامت الغربان بقرض كبده (وإلى ماذا يرمز الكبد؟ إلى عضو الاستقلاب الأساسي في الجسم وتوليد الطاقة). بعدها قام Hephaistos - النار الرضية، النار الداخلية - بتكوين Pandora المرأة التي جلبت إلى الإنسانية، في وعاء رمزي، كل أشرار الإنسانية، ولكن أيضًا الأمل معها. كوّن Hephaistos، أو Vulcain، أو إله النار، كل شيء من خلال دوره كحدّاد أيضًا. وبزواجه من فينوس، أعلن الزواج القدسي بين الماء الخضراء ذات الاتجاه الأفقي والنار الحمراء ذات الاتجاه العمودي. نرى الدور الهادم للنار من خلال قصة قايين أو قابيل وقتله لهابيل.

لقد لمست النار دائمًا قلب الإنسان من خلال أشكالها المتعددة وتدرج ألوانها وشاقوليتها التي ترمز للقوة والنشاط. لم يتوانى أفلوطين عن اعتبار النار واحدة من أهم الأنماط البدئية للجمال. تشكل الدورة الدموية دورة ضوئية في نفس الوقت الذي تشكل فيه دورة كيماوية، فالدم بعد طرحه للأوكسجين، يصبح أقرب للون الأزرق أو البنفسجي، وهنا يصبح أقدر على أخذ الأوكسجين الذي يرمز هاهنا للون الأحمر، كأي لون يمتص دائمًا نظيره. لنرى التقارب اللغوي بين كلمة Herôs، وتعني البطل، وكلمة Erôs، وتعني الحب؛ كلمة Cœur، وتعني القلب، وكلمة Courage، وتعني الشجاعة. القلب هو الذي يعطي الحرارة مع الحركة، هو رمز النار في الجسم، ولكنه يستهلك الطاقة أيضًا للقيام بعمله. إنه لجسمنا كالشمس للمجموعة الشمسية.

عندما أعطي مظهر القلب الدامي ليسوع المسيح، فهو ليعبّر عن المحبّة التي يكنّها للبشرية. عندما رُسِم خلال العصور السهم المخترق لقلبين على الأشجار وغيرها، فهو ليعبّر عن نمط بدئي لمعنى المحبّة، هذا المعنى الذي ضاع في غياهب التاريخ. إذا عبّر Bacchus عن الدم والخمر والسُكر الروحي، فإن مارس هو الذي عبّر عن الجانب الآخر للدم وهو المحبّة الإلهية وعن الإله الذكر وعن إله الحرب. لقد قام بإغواء فينوس، وعُثِر عليه بجانبها من قبل Vulcain الذي أراد الانتقام لحبّه الضائع، فأحاط العاشقين بشبكة غير مرئية وجعلهما أضحوكة آلهة الأولمب. هذه الشبكة - إن دلّت على شيء - فهو حتمية اللحم والدم التي تجذب الجنسين نحو بعضهما وتوحدهما في علاقة صعبة الانفكاك. إذا عبّر النحاس عن فينوس الخضراء، والقصدير عن جوبيتر الأزرق، فإن الحديد هو رمز مارس الأحمر؛ ومن الحديد صنعت أسلحة القتال. أليست كلمة جهنّم في الفرنسية Enfer آتية من كلمة حديد Fer؟ أليست كلمة بركان Volcan آتية من كلمة Vulcain إله النار؟ ألا يرمز للشيطان باللون الأحمر؟ لأنه يعبّر عن الإنسان بصلفه وغروره وشبقه وفسقه الذي عوضًا عن الإحساس بالمنبع الإلهي الذي أتى منه، ألّه أناه واكتسب طبيعته اللوسيفرية الشيطانية. كل لون - ومنها الأحمر- يحمل دائمًا معنيين، حسب الاتجاه الذي نعطيه. فالأحمر لون سامٍ إذا توجه نحو الله، فهو لون المحبة والشجاعة، أما إذا توجه نحو أنانا وشيطاننا، فهو يمثل القسوة والغضب والقتل.

في اللغة السنسكريتية، تشير كلمة Vahni إلى النار وإلى رقم 3. وفي اللغة التيبيتية، تشير كلمة Me على نفس الشيء. وقد مثّل الفرس الثالوث من خلال ثلاث عربات، حيث كانت العربة الأخيرة قد جرّتها أفراس متوجة باللون القرمزي، وخلفها مشى الرجال الحاملون للنار المقدسة. يُرمَز للروح القدس في المسيحية بالرقم 3، ويعطى اللون الأحمر عندما يدل على المحبة الإلهية واللون الأزرق عندما يدل على الحكمة الإلهية. لقد كانت ألسنة النار هي التي غطت التلاميذ في يوم العنصرة. بشكل عام، فإن الأرقام المفردة أرقام ذكرية - باستثناء 5 الذي يرمز إلى الأنوثة ونصف العشرة-. لما كان اللون الأحمر هو لون القوة والسيطرة، فكثيرًا ما كان الملوك يلبسون معطفًا ارجوانيًا Pourpre والذي لا يسمح به إلا للمواطنين الشرفاء في روما، أما إذا ارتداه أي شخص آخر، فكان يُحكم عليه بالموت.

كما أسلفت الذكر، فإن الأحمر، رمز الاستقلاب والاحتراق، يقود نحو الأسود رمز الموت كما يقود الاحتراق نحو الرماد، وعلى هذا أطلق هوميروس على الموت Purpurea وبدأت عادة وضع الأزهار الأرجوانية والصفراء على القبور. الطبيعة - ومن خلال مرورها من الأخضر للأحمر رمز الحياة الأرقى -، تستهلك قدراتها وتتحول للأسود، رمز الفناء والعدم. تعود الدورة من جديد من العدم واللاتعبير نحو التعبير في لعبة اليانغ والين ورمز اللانهاية ∞. من خلال الصيف، يحدث انقلاب المعاني والرموز، وتصبح فينوس الخضراء المائية فينوس اللوسيفرية أو الشمس الأخرى حسب تعبير فيثاغورث، فالصيف يرمز إلى جنون الغطرسة والتكبّر من خلال الشمس الساطعة والألوان البهية والتي ستتحول تدريجيًا إلى الأصفر والبني والرمادي والأسود. أليس رمز برج السرطان 69، حيث ترمز 6 إلى الأرض والأنوثة والـ 9 إلى الطاقة القضيبية الذكرية وبالتالي تتعدل كل طاقة منهما بوجود الأخرى. أما الشتاء، بحياته البطيئة، فهو ابن عم الموت وهو مملكة اللون الأسود، لون الظلمات. يبدأ الشتاء ببرج الجدي، الحيوان القافز أمام الضوء، الحيوان الذي رضع منه زيوس إله الآلهة، ويكون الانقلاب الشتوي اللحظة التي وصل فيها الفناء والهبوط إلى النهاية، حيث سيحدث الانقلاب وسيولد الأمل من جديد. ألم يولد السيد المسيح رمزيًا في الشتاء وفي الليل؟ ألا توضع شجرة السرو - وهي الرمز الاسكندينافي النرويجي - وهي الشجرة الدائمة الخضرة، في هذا الوقت؟ إن اخضرار شجرة السرو هو الربيع. إن الشتاء قد أصبح الربيع. من الأسود، نعود إلى الأخضر. الانقلاب الشتوي هو يوم الاحتفال الأساسي الذي كان يحتفل به الزرادشتيون. عند الصينيين هناك رمز الخمسة نمور، ويتمثل الصيف بالنمر الأحمر، النار والظهيرة.

تعبّر فكرة الحية التي تعض ذنبها عن فكرة القيامة والتجدّد والولادة من جديد، ومنها جاء رقم الصفر العربي 0. وأبسط مثال على هذا كلمة "سنة" في اللغات اللاتينية Annus والتي تعني أيضًا حلقة أو دولاب Anneau، وهي نفس رمز الدائرة التي يتوسطها صليب Roue، Rota التي بتغيير ترتيب أحرفها، تصبح Taro أوراق التنجيم الغجرية. ونفس فكرة التجدد نجدها عند المصريين من خلال وضع رمز حيوان الجعل في موضع القلب في المومياءات. وكلمة جعل بالفرعونية Khopirron، Khopri تأتي من فعل Khopron أي يصبح. إن الجعل من خلال تغذيته الأساسية من الرواسب والغائط، وشكل التاو المقدس التي يحملها على ظهره، وألوانه الزاهية وخاصة البقعة الخضراء، تعبّر بشدة عن التجدّد. كذلك صورة صراع الخضر أو مار جريس مع التنين، والثعبانين المتلاحمين لشارة الطب، هرمز وأهريمان، الزواج الأسطوري بين الملك الكبريت والملكة الزئبق عند الخيميائيين، اليانغ والين، النور والظلمات؛ كلها ترمز لفكرة الثنائية والتوازن القائم بين المنهج البنائي والمنهج التقويضي، بين الطريق الصاعدة والطريق الهابطة، بين المثلث الصاعد والهابط في نجمة الفراعنة، بين الأندوترمية والاكزوترمية، بين اللون الأبيض والأسود على المستوى النفسي والفلكي والفيزيولوجي. فلكيًا، عادة ما تكون النجوم في أوائل مراحلها زرقاء بسبب نسبة الهيدروجين العالية، أما ما تسمى بالصفراء ومنها شمسنا، فتكون في منتصف عمرها، ثم نأتي للحمراء التي تعتبر قد وصلت لنهاية تطورها، ومن ثم السوداء أو المُطفأة، ومنها الكواكب، فقد وصلت لنهاية وجودها (رغم أنه ثبت أنها وإن كانت لا تصدر أشعة مرئية، فهي تصدر أشعة طويلة الموجة هرتزية). هذه النجوم السوداء والكواكب تذكّرنا دائمًا ببداية حياة جديدة، سواء من خلال التقائها بنجم آخر، أو بطرق أخرى، ومن هنا جاء تعبير Novae.

كما أسلفت الذكر، كثيرًا ما تُربط أشباه المعادن والأكسجين وبالتالي الحموض والكهربية السالبة بالطيف الأحمر من المجال الضوئي، في حين تُربط المعادن والقلويات والكهربية الإيجابية باللون الأزرق (أو البنفسجي بشكل أقل، لأن البنفسجي هو عادة مزيج من الأحمر والأزرق من السلم أو الأوكتاف نفسه). تعتمد الكثير من الكواشف، وإحداها الـ Anthocyanes على هذا المبدأ، فتصبح حمراء اللون في الوسط الحامضي، وزرقاء في القلوي، وبنفسجية في المعتدل.

لقد وُجد بالتجربة أن الشحنات الإيجابية لها تأثير مهدّئ منعش وضموري، بينما السلبية لها تأثير موتّر مفرط مضخّم لكن في النهاية هدّام. كذلك وجد أن الإشعاعات الزرقاء والبنفسجية مهدئة ومنعشة وحتى مسكّنة ومخدرة، بينما الحمراء موتّرة. لقد قام الكثير من الأطباء عبر التاريخ بعلاج الآلام العصبية بحمامات يسطع فيها اللون الأزرق. قام أيضًا الدكتور Redard في جنيف بجعل مرضاه ينظرون بتثبيت على ضوء أزرق لدقائق كانت كافية لوضعهم في حالة خدر كافية لإجراءات وتداخلات طبية قصيرة. كذلك وجد أن الحموض وأشباه المعادن موتّرة ومخربة، بينما القلويات كالبرودة - وبكميات قليلة طبعًا لأنها تتحول إلى سموم بكميات عالية - لها تأثير مهدئ وضموري.

يمكن الاستنتاج إذًا أننا أمام نمطين بدئيين، تشكّل في الأول الكهربية الإيجابية والألوان الباردة والبرودة والمعادن والقلويات والحياة النباتية والأندوترمية والنوم والماء والسكون والجنسية الأنثوية نمطًا واحدًا، أما النمط الثاني، فهو الكهربية السالبة والحرارة وأشباه المعادن والحموض والأوكسجين والحياة الحركية والاكزوترمية واليقظة والنار والعضلات والحركة والدم والجنسية الذكرية. هنا يتساءل الكثير، كيف هذا؟ أليست الذكورة مرتبطة بالإيجابية والأنوثة بالسلبية؟ هنا يكمن الخطأ الشائع كما حدث باليانغ والين عندما صبغا بالأحمر والأزرق أحيانًا. إن معنى الإيجابية والسلبية هنا يأتي من الحركة والسكون، من القوة النابذة والجاذبة، وليس من الشحنات الإيجابية والسلبية بمعناها الحرفي العلمي. في النهاية، الأنوثة هي الكسب المادي، وهي ما رُمز لها بالمثلث المتسع ▼ و بـ ♀ علامة فينوس، بينما الذكورة والحركة تترافق مع ضياع مادي والمثلث الصاعد المتضيق ▲ و♂. لذلك من الخطأ أن نرمز للذكورة بـ +، والأنوثة بـ -، بل يجب أن نرمز للنقص بـ I رمز استهلاك الطاقة واللون الأحمر وليس بـ +.

اللون الأصفر

الأصفر هو اللون الحار الذكري الآخر الأساسي. هو لون الشمس والذهب، المعدن الأثمن عبر التاريخ. إن كثيرًا مما قيل عن اللون الأحمر، يمكن أن يقال عن الأصفر، لكن الأصفر يتميّز أنه أكثر إشراقًا وتوهجًا، وبهذا ارتبط بالذكاء أكثر من ارتباطه بالعاطفة والقلب، وأصبحت المحبة عنده أكثر ارتباطًا بالضوء أي الحكمة. وكونه كالأحمر لون حركي، فهو يدمج الفكر بالحركة ويصبح لون الفعل Action، Verbe والمفهوم Concept. في الديانة المزدكية Mazdean أو المجوسية (لاحقًا الزرادشتية)، كان ميثراس - وهو أول الجن السماويين - مصدر كل نور، وهو كلمة الله ورمزه الشمس، يجلس على بساط من الذهب، في أعلى جبال الذهب، ويضرب الجن السيئين بكتلته الذهبية، ومثل الملاك ميخائيل المحاط بهالة الذهب وإله المصريين أنوبيس، فهو يزن أفعال الإنسان على جسر الأزلية الذي يربط السماء بالأرض. إن فكرة الكلمة الإلهية أو الفعل Verbe المرتبطة بالنور معروفة لدى العديد من الديانات. يقول إنجيل يوحنا:

في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس. والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه.

نفس الفكرة الكونية عُبّر عنها في الكتاب المقدس للمصريين Pimandre من خلال أمون أو الفعل:

الضوء هو أنا، الإله الفكرة، الأكثر قدما من المبدأ الساطع في مركز الظلمات، والفعل الناجم عن الفكرة هو ابن الله، والفكرة هي الإله الأب. هما لم يفترقا أبدًا، ووحدتهما هي الحياة.

من الغريب أنه في معظم الحضارات، رُبطت الكلمة بالذهب، فالفعل اللاتيني Orare أي يتكلم، والذي جاءت منه عدة كلمات فرنسية وانكليزية وغيرها Oral أتت من كلمة ذهب Or. في اليونانية والعربية وعدد من اللغات الأخرى، يقال عن متكلم جيد بأن فمه من ذهب. يُطلق في الهند Zéré بمعنى مُذهّب على Om الفعل الإلهي، ومن نفس هذا المعنى جاء اسم Zarathouastra، Zaratas، Zoroastre أو زرادشت. فيشنو عند الهنود، الانبعاث الأول لله هو، في نفس الوقت، الفعل والضوء الأزلي. لقد كان اللون الذهبي هو اللون المخصّص للوسطاء بين السماء والأرض. لقد كُرّس هذا اللون خصيصًا لأنوبيس في مصر، ولاحقًا لتوت، وعند اليونان لهرمس، وعند الرومان لـ Mercure. لقد كان الذهب هو ما وضع على أقدام السيد المسيح عند ولادته من قبل ملوك المجوس. إن التنين، وهو ابن الأرض أو الظلمات، هو الذي يحرس ملكوت الله مانعًا الوصول للتفاح المذهّب. التنين يشير ههنا إلى غرائزنا المنحرفة، أكاذيبنا وسيئاتنا التي تمنعنا من تذوّق ثمر الحكمة الإلهية. لقد كان على هرقل من أجل الحصول على تفاح الذهب أن يمر بالحوريات رمز الماء وبروميتيوس خاطف النار، أي مرحلتين من مراحل الاستنارة الروحية: التعميد بالماء وبالنار، الدورة الخضراء والحمراء. وصل البطل إلى موريتانيا - التي قد تشير لأطلانطس الضائعة، قتل التنين رمز الظلام، وحصل على تفاح الذهب، وأكمل الواجب الثاني عشر المطلوب منه. قد يدل رقم 12 على رقم الكمال، والدرجات 12 التي على المتطوع عملها للوصول على الاستنارة، وقد تدل على الأشهر والأبراج الـ 12، والتي آخرها في التقويم الشمسي برج الجدي، الحيوان القافز الذي ابتدأ الانقلاب الشتوي، معبّرًا عن انتصار النور على الظلمات من خلال حليب المعزة أمالتيا.

للأصفر أيضًا معان مزدوجة. الشيطان، وهو ملاك النور، هو في النهاية شيطان الزهو والكبرياء. ولطالما اقتتل الناس طويلاً للحصول على الذهب، الذي أصبح من أكثر المعايير بعدًا عن الله سبحانه تعالى. ولا ننسى قصة عبادة العجل المذهّب عند أهل إسرائيل الذي رمز للانحطاط الأخلاقي والبعد عن الله. الأصفر لون الثقة والإيمان والزواج، ولكنه قد يتحول إلى لون الخداع والزنى، كلون أنثى الوقواق التي تضع بيوضها في أعشاش أخرى، والتي كثيرًا ما أعطي اسمها في لغات متعددة من أجل الأزواج الخائنين Coucou. والقرون التي كثيرًا ما اعتبرت رمز القوة والذكورة عند الحيوانات، وحتى رمز الهالة والقدسية كما في حالة موسى، أصبحت رمزًا للأزواج المخدوعين من قبل زوجاتهم. اعتبر العرب الأصفر الذهبي لون الحكمة، والأصفر الشاحب لون الخداع والغيرة والخيانة. إن الكبريت ملك العناصر (الزئبق الملكة) أصبح رمز غضب الله سبحانه تعالى عندما أمطره على سدوم وعمورة. في الفولكلور الشعبي، كثيرًا ما يرمز للشيطان بأبخرة خانقة من الكبريت. إن الأصفر هو لون البول، يصبح أكثر احمرارًا عندما يكون أشد حموضة، ويكون بشكل عام أقل حموضة عند المرأة وعند الحيوانات غير اللاحمة المتغذية بالنباتات.

اللون الأورانج أو البرتقالي

يحمل بعض صفات الأصفر من جهة وبعض صفات الأحمر من جهة أخرى. كلمة أورانج آتية من العربية نارنج مع وضع كلمة ذهب Or. هو لون محبّب للنفس، يحمل معاني الحب مثل الأحمر، ولكن مختلطًا بالحكمة المنيرة للأصفر. هو لون الإلهام والحدس كما أن آلهة الموسيقا Muses كانت تلبس ثيابًا زعفرانية. لكن للأسف، فإن اللون البرتقالي والزعفراني هو أيضًا لون الخيانة الزوجية، ولكن من خلال الأحمر فيه، الذي يعطي الخيانة معاني الغضب وإراقة الدماء. أصبحت زهرة الذريون مرتبطة بالأزواج الخاطئين.

كليّة الألوان: اللون الأبيض

في الحقيقة، اللون الأبيض ليس بلون، بل هو خليط جميع الألوان، في حال كونها ألوان إشعاعية ضوئية، أما في حال كونها ألوان مادية، فإن مزج ألوان الطيف، لا يكوّن إلا اللون الرمادي أو الأسود. اللون الأبيض هو الأكثر إضاءة وبالتالي هو رمز الضوء، رمز الألوهة. يسمّي فيرجيل في الجيورجيات الله بـ Pan وتعني الكلّ، ويقول عنه إنه أبيض كالثلج، وهو مبدأ الحياة والضوء الأزلي والنار الأزلية. يقول فيرجيل لاحقًا إن الله قد أغرى القمر، رمز الأنوثة والمادة Magna Mater. إن اتحاد Pan مع القمر، هو اتحاد النار بالمادة، الروح بالحرف، اليانغ بالين. يعزف Pan الناي على سبعة أغصان، والتي تمثل الألوان السبعة، سلالم الموسيقى السبعة، النوطات السبعة، الكواكب السبعة، الأنماط البدئية السبعة للعناصر الكيماوية، الأجسام السبعة للإنسان، السماوات السبعة... الخ.

لقد ارتبط اللون الأبيض بالثلوج وأعالي الجبال. إن كلمة سماء بالألمانية Himmel من نفس مصدر كلمة هيمالايا. والجبال كثيرًا ما تكون مصدر الإلهام الإلهي. فعلى قمة جبل سيناء نزلت الوصايا العشر، وعلى قمة جبل التجلّي حدث تجلي السيد المسيح أمام تلامذته، وقد اعتكف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في جبل النور عند نزول القرآن الكريم. لطالما صوّر الرسل الله مرتديًا رداء أبيض، والرأس وهّاج، والشعر مثل الصوف الأبيض. لقد حمل جوبيتر اسم Leuceus وهو من مصدر Leukos أي أبيض. لقد لبس السيد المسيح رداء أبيض بعد القيامة وخلال التجلّي. إن عادة وضع الميّت في رداء أبيض تعود إلى المصريين. لقد كانت اليمامة البيضاء هي رمز الروح القدس. الأبيض هو لون الأثير، والأثير وأورانوس يرتبطان بالرقم 1 حسب المدارس الفيثاغورثية. يعبّر اللون الأبيض عن الوحدة والألوهة والمعرفة الكليّة والعلم الأزلي، وبكلمة واحدة الحقيقة والحكمة. في اللغة الألمانية، نرى المصدر اللغوي نفسه بين أبيض Weiss والحكيم Weise والمعرفة Wissen، وكذلك في اللغة الانكليزية White، wit، wisdom. إن الحليب للجسد، كالضوء للروح، وبلونه الأبيض، يصبح رمز المعرفة والمادة الأم. حسب الأسطورة، فإن طريق الحليب ما هو إلا بسبب قطرات الحليب من ثديي الإلهة Junon التي تعبّر عن السماء وهي تغذّي هرقل.

كثيرًا ما أعطى اللون الأبيض أيضًا معنى الطهارة والعذريّة، فهو والأزرق كانت ترتديهما مريم العذراء. ولهذا أيضًا، نرى العرائس يرتدين الأبيض في ليلة زفافهن، كذلك أصبحت زهرة الزنبق رمز الطهارة وأحيانًا الخصب مثل زهرة اللوتس. كانت الإلهتان القمريتان Diana وArtemis عذراوتان، وقد حملتا البؤس لكل من يطمع بهما أو يشتهيهما. لقد تحوّل أكتيون لأيل عندما فاجأها في الحمّام، كما عُقص أوريون من قبل عقرب عندما وضع يده عليها. حيوان الأيل يرمز لجنون الجنس، والعقرب حاملاً سمّه في ذنبه، يرمز إلى خطيئة الشهوة، وسقوط الروح في المادة. العنصر الكيماوي الذي يشير للأبيض هو الفضة. رغم أن كثيرًا من صفات الأزرق والأبيض متشابهتان، إلا أن رمزية الأبيض أكثر سموّا من الأزرق وهو يتعدى كونه ذكريًا أو أنثويًا، ليصبح اتحاد الجنسين والأرقام. لقد رُبط شكل المكعّب باللون الأبيض، واعتُبر - حسب فيثاغورث - مثل الرقم 4 يحوي كل الأرقام، فاسم الله عزّ جلاله يكتب بأربعة أحرف في معظم اللغات: الله، آمون، Sire عند الفرس، Orsi عند المجوس، يهوه أو Iod- He- Vau- He، Zeus، Deus، Dios، Dieu، Esar، Gott. لقد رأى يوحنا الإنجيلي أورشليم السماوية على شكل مكعّب شفاف كالكريستال. هناك أربعة عناصر أساسية، أربعة فصول، أربعة مراحل من تطور القمر، أربعة عصور جيولوجية: الذهبي، الفضي، النحاسي، الحديدي؛ أربعة أناجيل... الخ.

إلغاء الألوان: اللون الأسود

اللون الأسود هو غياب كل لون. الأسود هو الظل، العتمة والليل، وبالتالي أصبح رمز الفناء والموت وانعدام الحياة. السماء بيضاء والأرض سوداء، ومن خلال عناقهما ولدت كل الأحياء. الأرض تكشف من جديد القبور، وهي امبرطورية الموتى كما يقول La Fontaine في قصيدة البلوط والقصب. إنها موضع جهنّم حسب كثير من الاعتقادات الدينية. إذا كان اللون الأسود هو لون أعماق الأرض، فهو أيضًا لون أعماق الماء. وعند الصينيين، الأسود هو رمز الشتاء والماء والفوضى. كان يذبح دائمًا ثيران سوداء تقدمة لنبتون، وكثيرًا ما كان ملوك الهندوس يضحّون بثيران وأفراس سوداء في النهر العظيم. اعتبر هوميروس الصفة الأساسية للبحر هو الأسود. في التقاليد الفولكلورية، كثيرًا ما اعتبر ظلُّ الشخص، الجزء منّا المخصّص لجهنّم. هو توأمنا المعتِم. كذلك، اعتبرت الغيوم السوداء أطفالاً لجهنّم، وبالنهاية هي تشكلات مائية، وحيث أنها تأخذ أحيانًا أشكالا حيوانيّة، رُبطت كثيرا بأفراس سوداء، التي عبّرت عن وحوشنا الداخلية التي تمنع ضوء الروح والحقيقة من الوصول. فقط من خلال سحابة يعانقها Ixion يتم القضاء على الوحش الخرافي المعروف بالسانتور أو القنطورس.

يدفع الزمن العالم باتجاه الأسود، من خلال قانون استهلاك الطاقة. إن الإله Saturne عند الرومان، أو Chronos عند اليونان، يسوّد كل ما يلمسه، وقد قام بالتهام أولاده. العنصر المرتبط به هو الرصاص، النتيجة النهائية لكثير من التحولات الإشعاعية، وهو يقع في العمود الرابع من جدول مندلييف مثل الفحم. اليوم المخصص لهذا الإله هو السبت Saturday، نفس اليوم المخصّص عند اليهود ليهوه، والذي له كثيرًا من صفات ساتورن. كان يوم السبت هو اليوم الذي تجتمع فيه الساحرات وعبدة الشيطان، ومن المعروف مدى سميّة أملاح الرصاص. حسب كتاب التكوين الفارسي Boun- De- Mesch فقد خضع الرجل الأول والمرأة الأولى لإغراءات أهريمان، وسقطا من الجنّة ولبسا ثيابًا سوداء.

لكن في المقابل، لا يوجد كلمة نهاية في الطبيعة، فالنهاية ليست سوى بداية جديدة، والليل يفتتح نهارًا جديدًا، والنوم يفتتح يقظة جديدة، والحياة داخل الرحم تهيّء لولادة جديدة. السبات الشتوي ليس إلا حياة بطيئة اقتصادية لتجميع الطاقة، تنتظر إشارة صغيرة للبدء واليقظة من جديد. كثير من الديانات القديمة كانت تضع التلاميذ في تجارب ليلية أو تحت أرضية عليهم اجتيازها ليولدوا روحيًا من جديد، ومن هنا جاء اسم René الذي اجتاز موتًا رمزيًا، موتًا لحياة الأوهام والعواطف السخيفة التي نحياها. الموت والأسود ليسا إلا تغيير في الحالة لنصل إلى حالة وحياة جديدة. لا ننسى أن الإلهة المصرية ايزيس وإلمكسيكية Quetzalcoalt كانتا سوداوتان، وكانت سليفاتهما العذراوات السوداوات. لقد قام نوح بإرسال غراب من سفينته بعد الطوفان. لقد قام غرابان يدعيان الفكرة والذاكرة بمرافقة أودين والرفرفة حول الإلهة Saga ومن ثم بالهمس داخل أذنيه كل أسرار الماضي والمستقبل. إن زحل أو ساتورن هو الكوكب الوحيد الذي يحيط به حلقات، رمز الاستمرار والخلود والتقويم، هو صورة العودة الأزلية. إن المدة الفاصلة بين صلب السيد المسيح في يوم الجمعة وعيد الميلاد، هي حوالي 9 أشهر، الزمن الضروري للحمل وابتداء حياة جديدة. وكذلك كان صلب النبي ماني خلال الاعتدال الربيعي، أي تسعة أشهر قبل الانقلاب الشتوي.

كثيرًا ما اعتبرت الحيّة رمز المرور والتحوّل الذي يرمز له اللون الأسود. لقد جعلت معظم الديانات من الحيّة رمز الاختيار نحو الجيّد أو السيّء، واعتبرها فرويد رمزًا لكثير من التعقيدات النفسية، ولكنّه أكثر التبسيط باعتبارها رمزًا للانشغال الفكري بالجنس وشكلها المشابه للقضيب. لطالما أُعطيت الحيّة معنى الحكمة، من خلال لمسها للأرض باستمرار، وبالتالي ارتبطت معها. ومن خلال حركاتها التموّجية المشابهة للحرف M كما ذكرت سابقًا، ارتبطت بالأم الكونية، الذاكرة الشخصية والذاكرة الكونية. ومن خلال تغيير جلدها، تشير إلى التقمّص والبداية الجديدة. وفي حال الحيّة التي تعض ذنبها، تصبح تمامًا مثل رمز اللانهاية ∞. ومن خلال التقارب الموجود بين شكل الحيّة والحرف S والرقم 6 وهو رمز الأرض، أصبحت لهذه الرموز نفس الدلالات. لقد عبّر المصريون عن الإله خنوف Knooph الذي يرمز للروح الكونية، بحية كبيرة ذات أقدام إنسانية. في العبرية، يقال عن الحية Nachash التي تعني أيضًا النحاس، الرمز الأنثوي للحكمة. اعتبر الهنود الـ Nagas وهي كائنات نصفها إنساني ونصفها ثعباني أسلافنا. كلمة الحكمة باليونانية Sophia قريبة من كلمة حيّة Ophis. دائمًا اعتبرت الحيّة والتنّين (وهما متشابهان) حرّاس كنوز الطبيعة وأسرارها كما في كثير من الحضارات.

لقد كانت الحية هي التي أغرت حواء وباندورا، ووضعتهما على طريق الآلام، فهنا ترمز الحيّة للشيطان، الوجه الآخر للحياة: الشهوة والموت، ومن هنا رُبطت المرأة في كثير من الحضارات بالحيّة.

إن رمز الحيّتين في شعار الطب، ورمز اليانغ والين، يشيران مثل غيرهما إلى دورة الكون والنظم الكوني بين الليل والنهار، الشتاء والصيف، العتمة والنور، الزفير والشهيق، الاسترخاء والانقباض القلبي، الانحلال والتخثّر، الموت والحياة، الصفر والواحد. "لا شيء يضيع، لا شيء يتكوّن من العدم". الأشياء فقط تتبدّل والطاقة تتبدّل، ومهمة الانطلاقة الروحية Initiation هي الانتقال من عالم الظواهر إلى عالم الحقائق، وكما يقول السيد المسيح:

أنا الخبز الحيّ النازل من السماء. من يأكل من هذا الخبز، يعيش حياة أبدية.

الألوان: الأصهب والبني والرمادي

يشكّل اللون البني طبعًا مجالاً كبيرًا من الألوان المختلطة دائمًا بالأسود، فإذا كان الأحمر يمثّل النار بكل نقائها، فالبنّي يمثّل النار المغطّاة بالدخان والرماد. إن النار تحت الأرضية، نار جهنّم هي بلون أصهب أو بنّي. لقد كان المصريون يعبّرون عن الإعصار الاستوائي بهذا اللون. تعبّر هذه الألوان عن فكرة الانحلال والموت مثل ورقة الشجرة المتموّتة. في رؤيا يوحنّا، يصبح الشيطان التنّين الأصهب. وُصف يهوذا التلميذ الذي سلّم المسيح لصالبيه بأن شعره أصهب. الرمادي، وهو مزيج الأبيض والأسود، يحمل في طيّاته معاني الموت ممتزجة بالأبدية، وقد استعمل هذا اللون في القرون الوسطى في لوحات قيامة الموتى، كما استعمل عند كثير من الشعوب ليدلّ على الحداد والحزن العميق.

اللون الزهري

لون جميل رائق، قد خُفِّف فيه اللون الأحمر من خلال الأبيض بكل حكمته ونقائه. يعبّر اللون الزهري عن المحبّة المستمرّة الفَطِنة المحترسة ذات الدم البارد. اللون الأصفر هو أيضًا مزيج من الأحمر والأبيض، لكن الفارق أن اللونين امتزجا امتزاجًا كاملاً غير قابل للفصل في الأصفر، بينما تقدر العين والروح على فصل اللونين في الزهري، فالزهري لون مزدوج أما الأصفر فلون وحيد. يمكن القول إن الأصفر هو محبّة الحكمة أي أن الوسيلة فيه هي المحبّة بطبيعتها الذكرية، أما الزهري فهو المحبّة والحكمة أو حكمة المحبّة وبالتالي تغلب الحكمة والطبيعة الأنثوية. إن كلمة Rose في اللاتينية تأتي من كلمة بمعنى المطر والندى Rosée (Ros)، فالماء الآتي من السماء ذو اللون الأبيض، وبنتيجة عوامل الحرارة الحمراء الآتية من نار الشمس، تحدث المطر والندى. اعتبر المصريون العلوم الإنسانية بمثابة الماء الآتي من السماء. واعتبر اليهود والهنود الندى بمثابة أقوال إلهية. وحتى التعميد في المسيحية، هو رمز للندى، فهو ينقّي ويجدّد. اعتبر غوته الوردة البرّية تظاهرًا للجمال بحدّ ذاته، فمن خلال المحيط الشائك والفقير حولها، تنبت هذه الزهرة الفائقة الجمال. لقد كُرِّست الوردة لفينوس ومينرفا، وأصبحت تعني المرأة المثالية، المرأة السماوية، مريم العذراء، ومن خلال بتلاتها الخمسة، أصبحت رمزًا أنثويًا وسرّيًا هامًّا، وكانت تُحرس دائمًا في الأساطير من قبل وحوش فتّاكة.

اللون البنفسجي

في الطيف الشمسي، يقع اللون البنفسجي بعد اللون الأزرق، ومتوسط طول موجته 406 نانومتر. في الطبيعة، تكون معظم الألوان البنفسجية هي خليط للأحمر مع الأزرق، وهذا الخليط مادي وليس ضوئي، لأن مزج الضوء الأحمر مع الأزرق، يعطي أكثر لونًا قرمزيًا. تبقى رمزية البنفسجي إذًا هي رمزية الأحمر والأزرق ممتزجين، فهو لون من ألوان الحداد، وهو يعبّر عن الفترة الانتقالية بين الحياة والأزلية. وفي المسيحية، هو اللون الذي يغطى به المذبح خلال الجمعة العظيمة، وهو اللون المخصّص للشهداء، وقد أصبح لون الحداد عند ملوك فرنسا والكاردينالات. البنفسجي كالأزرق يعطي رمزية روحانية، ولكن مع بعض الحزن أو الاكتئاب، مشيرًا إلى مصير الحياة الأرضية. زهرة البنفسج هي زهرة التواضع، حيث صُقِل أحمر الأنا من خلال أزرق الحكمة.

الخاتمة

العين، في النهاية، ليست إلا إبداعًا تكوينيًا لكل خلية في الجسم قادرة على تحسّس الألوان. وإن كل شيء في الطبيعة يقوم بإصدار ألوان معينة ويمتص الألوان المغايرة. الإنسان، وهو حامل النور، وهو لوسيفر، قد أكمل في داخله حلقة ضوئية كاملة، تبدأ من الغمامة إلى الوضوح، من الأسود، ومن ثم الأزرق - الأخضر، ومن ثم الأحمر، متساقطة من جديد في الأسود. نفس هذه الحلقة نجدها في الفصول، في أوراق الشجر، في الأزهار والفواكه، في النجوم نفسها، وبهذا يصبح علم الأبراج - إذا أُحسِن استعماله - واحدًا من أهم الرموز وأغناها على هذه الحلقة أو الدورة الطبيعية.

يحوي الإنسان في داخله كل هذه القوى بما تعطيها من أفكار ومشاعر وعواطف، وتصبح كل هذه الحقائق الحيّة للعالم نائمة في لاوعيه على شكل رموز وأنماط بدئية وتقاليد مبهمة. كل هذه الرموز تكلّمه بلغته الأصلية المدفونة. إن أهمية الضوء الفيزيائي تكمن في أنه يعبّر عن الضوء الروحي. إذا صعد الإنسان بالطائرة أو المركبة الفضائية، يظن نفسه قد وصل للإلوهة، ويجعله غروره يظن نفسه ملاكًا، ولكن ينظر من جديد، ليرى مثواه الأرض والتراب، فهو ابن الأرض، وكل ما حملته الأرض خلال تاريخها الكوني والزمني يحمله في داخله. إنه الكائن الأكثر استفادة من الطاقة والحيوية، ولكن في نفس الوقت، هو الكائن الذي تقع عليه المسؤولية والأوزار الكبرى. هذا قدره. إنه شقيق كل ما يحيا، وما كان حيّا وما سيحيا. مثل السماء، فلروحه غيومها ووحوشها التي دفنها عميقًا في أعماق أعماق نفسه. أين هو الإنسان؟ أفي أناه التي تنضج ثم تُمحى، والتي قد يقضي عليها فيروس لا يراه أو سيارة مسرعة أو ربما ضربة اقتصادية؟ فقط الروح موجودة أما الأنا فزائلة. ولكن عندما نتكلم عن الروح، فأين هي روحي، وأين روح الكون، وأين الحدود الفاصلة بينهما؟ لقد رأى روح الكون، روح الطبيعة، الأنيما موندي Anima Mundi ترتعش عند قدميه وتهزّ كيانه بنشوة هائلة. هناك وجد نفسه، من خلال رؤية نفسه ينحدر نحو الظلمات وجهنّم ويتحول إلى رماد أسود، نضج ونما وعيه وعرف حكمة الأقدمين من خلال هرمس المعظّم بالثلاث (كما كان يقول اليونان) التي عرفت وحدة الذرة مع الكون الشاسع، وقالت بأن ما في الأعلى مشابه لما في الأسفل.

إن رموز الديانات هي كالوجوه المختلفة للروح الكونية. وكل ديانة - سواء أكانت وثنية أم توحيدية - قد أعطت حقائق خاصة لم تعطها أو تظهرها سواها. كذلك استندت كل الديانات، في النهاية، على بعضها واستقت من رموز بعضها، فمحاولة رفضنا ونبذنا لديانة معينة، يُفقد الديانة الأخرى كثيرًا من معاني الرموز ومغزاها التي أتت منه. عندنا عينين لكي لا نرى، وأذنين لكي لا نسمع. أفلا يجب علينا أن نحترم ونرى الجمال في كل أجناس البشرية وأعراقها وأديانها وفلسفتها ومعتقداتها؟ أليس حريّ بنا أن نرى أن كل إنسان في هذه الدنيا، سواء أكان طفلاً أم شيخًا، رجلاً أم امرأة، أبيض أم أسود أم أصفر أم رمادي، غنيًا أم فقيرًا، وزيرًا أم شحاذًا؛ له دور معين في هذه الدنيا لا يستطيع غيره أن يقوم به، سواء أكان تجاه عائلة معينة أم أفرادًا معينين أم في مكان عمل معين... الخ؟ لنرتفع فوق الفروق والطبقات. لنكفّ عن صندقة وتعليب الناس والأشياء (أي وضعها في صناديق معينة نكتب عليها مثلاً: هذا جميل وهذا بشع، هذا غني وهذا فقير، هذا مسلم وهذا مسيحي وهذا يهودي وهذا بوذي). من خلال رؤيتنا لمنظر طبيعي أخضر، نتذكر أن الأخضر هو لون الماء والنبات آكل الشمس، وهو لون الأم والمادة، بعكس الأحمر لونه المتمّم، مثلما النار الفلسفية متممّة ومضادة الماء الفلسفي، ومثلما الشحنات السالبة والحموض وذوات الدم الحارّ والذكورة والحركة والعضلات وكل غرائز الانبساط Deroulement، Explicit تعاكس الشحنات الموجبة والقلويات وكل غرائز الطي والانكماش Enroulement، implicit. تتواجد الألوان في كل مكان. وفي كل مكان، هناك رموز وأسرار، سواء في الانبساط اللامحدود، أو الانكماش اللامحدود. وقد رأينا ما فعل الوحش الإنساني عندما نجح بفكّ الانكماش الذري وحولها لطاقة اكزوترمية. لننظر إلى اللغة خلف منظر معيّن والذي رآه الشعراء والفنانين دون دراسة مسبقة. إنها لغة اللاوعي الجمعي، عوالم داخل عوالم، معجزة من الطاقة المخفيّة، من الأرواح الحبيسة. والحيوانات التي ليست إلا صورة عن غرائزنا، والتي فهمها الهنود الحمر خير معرفة. أنا أسف على الإطالة الشديدة في هذه المحاضرة، ولكن عسى أن تجعلنا تغيير نظرتنا للألوان، نستشف ما هو أبعد، حتى نصل يومًا ما، ومن بين الأنقاض التي وضعناها حولنا، إلى أن نرى شعلة نور نشعر من خلالها بالروح الكونية، الأنيما موندي L’Ame du monde نفحة الله عزّ جلاله.

*** *** ***

المراجع المعتمدة:

تم الاعتماد بشكل أساسي على كتاب: Le langage des couleurs: Rene Lucien Rousseau, editions Dangles

أما المراجع الأخرى فهي كالتالي حسب درجة الاستخدام - من الأكثر إلى الأقل:

  1. Les Couleurs pour votre Sante: Gerard Edde
  2. Vibrational Medicine: Richard Gerber; M.D
  3. Dictionnaire d’application des couleurs: Patricia & Jean – Claude Nobis
  4. علم الألوان بالإيزوتيريك، جوزيف مجدلاني.

 

horizontal rule

٭ محاضرة ألقاها الدكتور قيصر زحكا في المركز الثقافي العربي، دمشق، 10-1-2007، لدى الجمعية الكونية السورية، ونقلتها معابر عن موقع الجمعية. الرابط: http://www.ascssf.org.sy/conf-zahka-couleurs.htm

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود