قطوف من شجرة الحياة 7

 

اسكندر لوقــا

 

كثيرًا ما نشبّه الأرض بالأم الحانية التي تعطي وتعطي ولا تتوقف عن العطاء، والتي يزداد حجم عطائها بمقدار ما تُعطيها من رعاية، سقاية، تسميد، جهد. الأرض لا تدّعي أن لها فضلاً على الإنسان، لأنها وجدت، أصلاً، لتؤدّي دورًا وُجدت من أجله، وما تأخذه من صاحب الأرض جهده لا أكثر، ولهذا بمقدار ما يكون الجهد يكون التعويض على صاحبه. ولأن العطاء من صفات الشجعان من الناس، فإن الأرض، من هذه الناحية، تحاكي الكبار منهم، الذين تركوا بصماتهم في سجل التاريخ بحيث يبقى الناس يرددون أسماءهم إلى أمد غير محدود وإن غيبهم الموت منذ قرون طويلة. الأرض الطيبة هذه إذا ما قورن عطاؤها بعطاء من يتبجحون أمام الناس كي يرتدّ عليهم صداه ثناء ومديحًا، يقارب الفارق بين هطل المطر على حقل يعاني من عطش فتنغمس مياهه في عمق تربته، وبين قطرة ماء تقع على سطح مائدة طعام سرعان ما تندثر.

***

يتناسى الناس، في أوقات وأماكن كثيرة من عالمنا، أن العديد من الإنجازات في تاريخ البشريّة تمت مصادفة بطريقة أو بأخرى، وذلك تحت وطأة إلهام مداهمة في لحظة معينة، وربما لم تكن منتظرة. ثم إن البعض من هؤلاء الناس يصرون على الاعتقاد بأن النجاح، في هذا السياق، مردّه فقط إلى لمعان الفكرة في الرأس ولا بدّ أن تعطي ثمرًا متى شاؤوا. لا شك أن اقتناص الفرصة المواتية لجعل الفكرة واقعًا على الأرض خطوة مبررة، بيد أنه لابد من أخذ توافر عناصر ترجمتها إلى الواقع المرتجى بعين الاعتبار، لأن إنجازًا، هو مجرّد نتاج أمنية أو هواية غير مبنيّة على العلم والمعرفة، لم يتم عبر التاريخ البشري. ولهذا الاعتبار ثمة العديد من التجارب التي مني أصحابها بالفشل لاعتقادهم بأن معادلة "كن فيكون" يمكن إخضاعها لإرادتهم، بل هي كافية كي تستجيب لهم. إن بناءً، مهما أحسن الرسام تصوّره، لا يمكن أن يشاد على سطح ورقة بالقلم أو بالريشة، بل لا بد من وجود أرض صالحة لإشادته عليها بمستلزمات بنائه المعروفة.

***

من الأمور البديهية في الحياة أن يوجد العدل منقوصًا في مكان ما وفي زمان ما لسبب من الأسباب. ومن البديهيات أيضًا أن تعمل المجتمعات المتحضرة على إزالة تداعيات هذه المعادلة غير العادلة وصولاً إلى الوضع الأكثر مثالية وذلك بغية إنصاف الكلّ لا الجزء فقط من أبناء المجتمع الواحد وإلى أمد غير محدود.

تأسيسًا على هذه الرؤية، في اعتقادي، يشكّل الظلم والتمييز بين شخص وآخر معيارًا لانهيار الإنسان في الإنسان. ويزداد هذا المعيار وضوحًا وخصوصية عند بعض من الناس إلى حدّ معايشة واقعهم كما لو أنهم صاروا جزءًا من قضية المصير العام، لا من قضية طارئة يمكن أن تحدث ومن ثم تندثر آثارها مع مرور الوقت. ولهذا الاعتبار يبقى العدل المنقوص أو المنتقص، بإرادة الحاكم أو المقتدر، صورة من صور اغتيال أحلام الغير وقتلهم ظلمًا وهم أحياء. وفي صلب المجتمعات العنصريّة، في عالمنا اليوم، حكايات لا تنتهي في هذا الصدد.

***

في حالات عديدة ومعيّنة، نردّد القول الشائع غالبًا بيننا، وذلك من قبيل نصح من نحب، وهو أن خير عادة للإنسان ألا تكون لديه عادة. إن في مثل هذا القول الكثير من عناصر الموضوعيّة والواقعية معًا، وفوق ذلك كله فيه الكثير من المصداقيّة. وثمة حالات معينة تقتضي منا ترديد هذا القول على مسمع ممن نحرص عليه كونه فردًا من العائلة أو صديقًا يعنينا أمره. ومن العادات التي يدّعي حاملها بأنه غير قادر على التخلي عنها التدخين، ومعاقرة الخمر، والثرثرة، وإضاعة الوقت في المقاهي، والسهر حتى ساعات متأخرة من الليل، وسوى ذلك على سبيل المثال لا الحصر. إن اكتساب عادات الغير بدافع المحاكاة عادة  سيئة بطبيعة الحال، ولكن ماذا عن إخضاع المرء نفسَه لعادة لم ولا يسعى للتغلب عليها وهو يعلم علم اليقين بأنها أكثر إيلامًا من عادة مكتسبة بدافع المحاكاة؟

***

مهما حاول المرء أن يصور أو أن يتصور نفسَه فوق الآخرين مرتبة أو قيمة، تبقى هناك نقطة ارتكاز لديه هي الأهم في اعتقادي، بمعنى إصابته في هذه الحالة بمرض الـ "أنا" حيث يسقط في شباك هذا المرض المتفشي في بعض المجتمعات المصابة بداء الغرور من حيث يدري أو لا يدري، ومن ثمّ نادرًا ما ينجو من تبعات المرض المؤثرة في شخصه.

وفي هذا السياق لا يحق لأحد منّا تصنيف هكذا شخصية بأنها تملك، بالفعل لا بالقول، ما لا يملكه الآخرون إلا إذا استحق هذا التصنيف بعمق ثقافته وعلمه ومعرفته. وفضلاً عن ذلك فإن تصورًا كهذا، في حال افتقد صاحبه عناصر التفوق لديه على الآخر لا لعلة الجهل فقط بل بسبب من خداع الذات، هو سبيل دربه لضياعه بين اللونين الأبيض والأسود، وبالتالي يسهل سقوطه صريع مرض لا شفاء منه.

***

من حيث المبدأ، إن وضوح الرأي خلال مناقشة قضية ما مطروحة على بساط البحث يعبر عن وضوح الشخصية ذاتها من حيث علاقاتها مع من هم حولها. إن الوضوح، بهذا المعنى، يقرب المسافات بين الناس مهما بعدت، بل ومهما تضاربت مشاربهم وكانوا على شفا خلاف حول مسألة من المسائل المطروحة أمامهم. من خلال الوضوح وحده تتبدّى أبعاد الشخصيّة ولا يبقى شيء خاف منها على الغير. ومن الأولويات، في هذا السياق، القول إن ظهور الإنسان على حقيقته، وإن خسر بعضًا مما كان يرمي إلى امتلاكه، أفضل من امتلاك هذا الشيء أو ذاك عن طريق الاختباء وراء قناع يخفي معالم شخصيته. إن شيئًا من هذا القبيل يمكن إيراده فيما يخص المرأة، على سبيل المثال، من حيث ظهورها بمظهر يرتبط بمناسبة اجتماعيّة ما أن يُسدل عليها الستار حتى تزول المساحيق التي تكون قد لجأت إليها لإخفاء تجاعيد الوجه، وسوى ذلك، لتعود إلى حقيقتها.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود