قصة أيوب

 

دارين أحمد

 

والإنسان الحر الذي حرر نفسه من نير السلطة - السلطة التي تهدد وتحمي -
هو وحده الذي يستطيع استخدام قوة عقله، وادراك الكون، ودوره فيه ادراكًا
موضوعيًا، دون وهم، وبقدرة على التطور وعلى استخدام القدرات الكامنة فيه.
إريك فروم

الاستبداد أي التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى.
عبد الرحمن الكواكبي

 

خلقَ الله الإنسان وأعاد الإنسان خلق الله. الله-الخالق ما يزال برسم المعرفة، غير مترفعٍ عنها، يسمى الحياة، يسمى الطبيعة، يسمى الكون، يسمى الله؛ المهم أنه وقوانينه واحدٌ لاخلاف فيه، وهو، فيما يتعلق بموضوعنا، حيادي، وحياده هذا يُسمى العدالة الإلهية؛ أما الله-المخلوق فكامل "معرفيًا"، لا يأخذ ولا يعطي إلا ما شاء وحده. لا يمكن التواصل معه إلا عبر الخضوع لمنظومة كماله المفترض. هو الجبار بانغلاقه على كماله كشيء منفصل عن الكون، متسيد عليه وعلى الحياة التي تحتويه، منفصل عن الحياة ذاتها حتى ليبدو عدوًا لها. أناني وطفولي كتعبير منطقي عن الوعي الذي ابتكره. ولذلك فإن عدالته عدالة متحيزة لأنها قائمة أصلاً على اختيار، والاختيار رغائبي بمعنى أنه يميز بين كائن وكائن حسب قرب هذا الكائن أو بعده عن رغبته حتى لو كانت هذه الرغبة شيئًا شديد "الإجلال" كالإيمان مثلاً؛ كما أنها عدالة مزاجية تجد تمثيلها الأفضل في قصة أيوب محور هذا المقال؛ أي أنها عدالة المستبد المانح الآخذ وفق قوانينه وحده، إذ أن الله-المخلوق يمثل صورة عصره، هذا العصر الموسوم بوضوح شديد، حتى عهد قريب على الأقل حيث بدأت تظهر بوادر انحسار، بالاستبداد.

أيوب أحد أكثر الشخصيات حضورًا وتأثيرًا في الوعي الشعبي في مجتمعات ما يزال الصبر فيها ملح الحياة اليومية، أي في مجتمعات استبدادية تقهر الإنسان وتضعه في حالة من اللاأمن الدائم، حالة بدون منافذ إلا القوى العلوية التي لا يطالها الاستبداد، والمنزهة عن الظلم الذي يشكل الواقع اليومي بدون الانتباه إلى أن أيوب ذاته هو، إضافة إلى كونه نتيجة، أحد أسباب استمرار هذا الواقع من خلال ترسيخه قبول القهر اللامبرر والممارس، بمقتضى الهوى، عليه؟ فأيوب كان يقوم بجميع واجباته بإخلاص وتبعية كاملين حتى كان المثل في عبوديته، ورغم ذلك فقد ابتلي ببلاء يلائم زنديقًا شديد الأذى؛ فهل أراد الله من هذا البلاء إيقاظ أيوب من سباته التكراري ليقف وجهًا لوجه أمام أسئلة الوجود - وهذا أحد الجوانب الفلسفية من القصة -، أم أراد إثبات العجز البشري عن معرفة متطلباته ورغباته، والتأكيد على أنه يمنح ويأخذ وفق هذه الرغبات فقط - وهذا هو جانب الاستبداد -؟ هل وضعت قصة أيوب لإلباس الله لبوس السلطة وبالتالي تبرير سلوك المتسلط عبر التشبه بسلوك الله وضياع المؤمن البسيط والخائف بين القهرين: السماوي والأرضي، أم كانت نتيجة طبيعية لواقع فرض نفسه كواقع مراتب يُمارس فيها الاستبداد من الأعلى إلى الأدنى، فكان لابد من تمثيل الله - الأعلى والأقوى - كأول مرتبة في هذه المراتب، وهي مرتبة تحتفظ بحق الغموض والأمل لارتباطها بالعدالة التي لا يطالها شك، أي "العدالة الإلهية" رغم الالتباس؟

ولكن، من جهة أخرى، تعد قصة أيوب استعراضًا إنسانيًا مذهلاً لبلاء الكائن البشري بمحدوديته الذهنية والجسدية، بالزمن القصير الممنوح له، والإمكانيات الفردية الضئيلة للفهم مقابل الامتداد اللامتناه للكون؛ أي هي اعتراض على الشرط البشري ذاته في محدودية قدراته على الإحاطة بالتعقيد الذي تنطوي عليه الحياة ويشكل دعامتها الأساسية، في ضعف جسده وهشاشته مقابل القوى التي يشعرها في روحه وقلبه. وما مكافأة الله إلا الحل الذي ابتكره الأمل، مقابل حلول أخرى كحل الكارما أو حل التقمص، لعقدة محدودية الفهم. وحتى هنا يمكننا فهم هذه المكافأة كمانع لا دافع من أجل تغيير الإنسان لشروط واقعه نحو واقع يصبح فيه من الإمكان الثقة بالعدل الأرضي أولاً قبل انعكاس هذه الثقة على العلاقة مع السماء أو الألوهة.

فأن يفهم المرء سبب بلاءه، أو يحدسه، أو يتأمل فيه، يعني انتقاله من موقع العاجز إلى موقع المسؤول بكل ما يحمله هذا الانتقال من ألم إضافي ناتج عن حذف القوى العلوية من المسألة كلها، وهو انتقال يمهد على الأقل الطريق نحو الواقع الإنساني الآخر الذي يجب أن يكون، أي الواقع الآمن الذي لا يضطر فيها المرء على ملازمة الخوف من فقدان ملكه، أي ما عملت يداه؛ وهو فقدان أساسي في قصة أيوب.

ولكن، تبرز هنا مسألة المرض الجسدي أو البلاء الجسدي وهو ما ينتقل بالقصة من مستوى السلطة وفقدها إلى مستوى الفلسفة التي تتساءل عن العدالة الإلهية ولكن عبر تشبيهها بالعدالة الأرضية وعبر اسقاط الظلم الممارس من قبل المستبد بالسلطة على عدالة الله-الخالق التي ذكرنا سابقًا أنها الحياد، ليس تجاه المجموع البشري فحسب، بل تجاه كل المخلوقات قاطبة، وليس للإنسان امتياز فيها على الحيوان.

الاعتراض على الشرط البشري، ومساءلة الله عن أسس عدالته الخفية، يظهر بوضوح في النسخة التوراتية لقصة أيوب، وأقل في النسخة الأكادية، وهو يتعارض مع ما يُشاع عن أيوب بأنه كان عبدًا صالحًا حتى في الضُّرِّ الذي أصاب جسده، وربما هذا هو سبب تجاهل القصة القرآنية للتفاصيل والاكتفاء بفرضين قاطعين: أيوب كان نبيًا "مخلصًا"، وقد تمت مكافأته على صبره. أي تم تبسيط القصة في النسخة القرآنية لتكون مثالاً للرحمة فقط. وهو مثال ذو وجهين بدوره: إيجابي من خلال تقديمه معونة روحية مؤقتة لا تعطل الإنسان عن السعي إلى تغيير واقعه والتعمق في معرفة وتفهم هذا الواقع، وسلبي في ظلِّ الخلط السهل بين، حسب تسمية عبد الرحمن الكواكبي، "جل شأنه" وجليل الشأن.

إذًا، نحن أمام قصة متشابكة يمكن فهمها على أكثر من وجه. ويمكننا هنا تلخيص الوجوه الأساسية التي يمكن التحرك فيها، في فهم هذه القصة، بثلاثة محاور أساسية: الاستبداد، الاعتراض على الشرط البشري، الرحمة. وقد اعتمدنا تصنيف هذه المحاور بناء على النسخ الثلاث المكتوبة المتوفرة للقصة حيث لكل نسخة مركز ثقل يتناسب مع التصنيف السابق. هذه النسخ الثلاث هي، بدءًا من الأسبق: النسخة الأكادية المعنونة بـ"لأمجدن سيد الحكمة" أو "العادل المعَذّب"، النسخة التوارتية المعنونة بـ "سفر أيوب"، والمتفرقات القليلة المذكورة في القرآن في سور النساء، الأنعام، الأنبياء، ص.

ولكن بالإضافة إلى النسخ المكتوبة لدينا القص الشعبي الذي يضيف إلى القصة ويختلف فيها بين تأكيد محور الاستبداد كما في القصة المذكورة في تفسير ابن كثير للآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر أيوب، حيث يكرر أيوب ظلم الرّبّ له بظلمه لزوجته؛ وبين تأكيد قيمة أخرى يمكن إضافتها كمحور رابع لفهم القصة هي قيمة التعاون والمشاركة الإنسانية كما في القصة الشعبية المصرية.

أن يكون لكل نسخة مكتوبة مركز ثقل لا يلغي بالطبع حضور المحاور الأخرى، فإذا كانت نسخة العادل المعَذّب تؤكد على محور الاستبداد عبر التماثل الكبير الذي تقدمه بين الله والملك، وعبر اللغة المستخدمة للتعبير عن البلاء، فهذا لا يعني أنها لا تتضمن أيضًا أسئلتها عن العدالة ورؤيتها عن المكافأة أو جزاء الصبر، وكذلك الأمر بالنسبة للنسخ الأخرى. إلا أننا سنتحدث عن كل محور من هذه المحاور بالاتكاء على القصة التي تحمله كمركز ثقل.

أيوب النسخة الأكادية: لأمجدن سيد الحكمة أو العادل المعَذّب[1]

تُظهر هذا النسخة الاستبداد عاريًا إلا من قليل من التأويلات الفلسفية، ويختلط فيها الله بالملك اختلاطًا يجعل من المرجح، على اعتبار أنها النسخة الأقدم، أن تكون أهمية القصة قد نشأت من واقع استبدادي فعلي وتأرجحت بين كشفه وتبريره، وهو شيء معروف ومألوف في ظل هكذا نظام حيث يصبح الرياء والتقية أساسًا من أسس الثقافة والتعامل مع الواقع. نعلم أن أحد أهم فقدانات أيوب هو فقدان السلطة أو الملكية، وهذا ما يمكن رؤيته من زوايتين: الأولى، كما ذكرنا سابقًا، فقدان نتاج عمله الذي يعد سمة من سمات مجتمعات الاستبداد حيث لا يأمن الإنسان على ما حققه بجهده إلا عبر صلات وعلاقات مع ممثلي السلطة التي تمنح وتأخذ بمقتضى الهوى، وهذا ما ينقلنا إلى الزاوية الثانية، حيث يكون هذا الفقدان ليس الفقدان السابق لنتاج العمل بل فقدان السلطة، الممنوحة أصلاً بشكل غير شرعي، التي تتدرج صعودًا وهبوطًا حسب تشعب وعمق العلاقات المذكورة آنفًا، وهذا ما نراه واضحًا في النسختين الأكادية والتوراتية والقصة الشعبية الإسلامية عبر التصوير الواضح، في النسخة الأكادية، لفقدان السلطة وفقدان المكانة والهيبة في القصر وأمام الملك وأعوانه، وعبر التضخيم المبالغ فيه لثروة أيوب في النسخة التوراتية ونسخة القصة الشعبية الإسلامية حتى ليبدو لنا البطل ملّاكًا رفيع الطراز.

يعود النص الأكادي إلى نهاية الألف الثاني قبل الميلاد أي قبل النسخة التوراتية بحوالي ألف سنة. عُثر عليه في مدينة نفّر منذ عام 1875 وأعلن رسميًا عام 1954 توازيه مع قصة أيوب التوراتية. وقد جمع من ست لوحات أو أجزاء لوحات اثنان منها محفوظتان في متحف استنابول وأربعة في متحف فيلادلفيا. يبدأ النص بشكوى الرجل العادل من فقدان ثروته ومكانته وهيبته وتحوله إلى فقير منبوذ من قبل الجميع، ثم تكمل اللوحة الثانية الشكوى من الأمراض والآلام التي حلت به وأنهكت جسده، ثم في اللوحة الثالثة تظهر شخصيات حلمية تطهره وتتوسط من أجله أمام الإله مردوك لمنحه الغفران والسعادة. يتم ذلك وينتهي النص بتمجيد الإله وتقديم القرابين والصلوات.

فلننظر أولاً إلى بعض من استعراض البطل كيفية فقدان مركزه السياسي وسلطته في اللوحة الأولى:

والملك نفسه، الكائن الإلهي، وشمس شعبه
لسوء طالعي، لم أستطع تهدئة غضب قلبه.
رجال البلاط، لا يكفون عن مراكمة العداء ضدي
يجتمعون ليتبادلوا فيما بينهم أشياء لا يحسن قولها،
كأن يقول الأول: "سوف أقضي على حياته
!"
ويصرخ الثاني: "سوف أفقده مركزه
!"
وأما الثالث فيقول: "سوف استولي على
ما أُسند إليه
!"
"سوف أنفذ إلى بيته
!" يعلن الرابع
.....

وثانيًا كيف يتعامل المجتمع والقصر معه حيث يبتعد عنه الجميع ويُكرّم من يؤذيه ويُعاقب من يقف معه - وهي حالة مألوفة في حال غضب سلطة مستبدة على أحد رعاياها -:

....
يُعين الإله من يتحدث عني بأقوال لا يستحسن قولها
ولكن الذي يتشفع لي، يستعجل الموت طريقه إليه
!.
.....

وثالثًا كيف أن الآلام والأمراض حلّت به وأنهكت جسده رغم أنه:

كان الدعاء بالنسبة لي حكمة،
وكانت التقدمات شرعتي.

يوم تبجيل الإله كان يوم بهجتي.
ويوم تطواف الآلهة كان كسبًا وفائدة لي،
وكنت أجد كل فرحي في الصلاة من أجل الملك.
وكانت سعادتي في الاستماع إلى الموسيقى الموجهة إليه.

عودّت بلدي على احترام طقوس الإله
وعلّمت أهلي على محبة اسم الإلهة
وجعلت مديح الملك يماثل تسابيح الإله.
وعلمت الشعب خشية القصر.
وكنت اعتقد حقًا أن ذلك كان مرضيًا للإله.

وأخيرًا عند مقطع يصف فيه مرضه:

لسعني سوط مملوء شوكًا
والمنخس الذي طعنني كان ذا رؤوس حادة
طول اليوم مضطهدٌ يعذبني
وفي الليل لا يترك لي لحظة لأتنفس
!

في الواقع، إن قراءة نص العادل المعذّب بدون صور مسبقة عن أفضال الصبر المترسخة في أذهاننا عن قصة أيوب يضعنا وجهًا لوجه أمام قصة موالٍ تمت معاقبته تأديبًا لغيره ربما، أو لأي سبب مجهول، من قبل سلطة جائرة، وتم منحه الغفران لاحقًا بدون أسباب واضحة كذلك سوى تشفع بعض الشخصيات له أمام الله-الملك. لكن هذا لا يمنع حضور بعض الأسئلة الفلسفية عن العدالة الإلهية من مثل: هل ما هو حسن لنا مسيء للإله؟ من يمكنه معرفة الإرادة الإلهية؟ كيف يكون الإنسان مبتهجًا ثم في لحظة ثانية يتفجع؟ كيف أن الإنسان عندما يسعد يصل السماء وعندما يشقى يصل الجحيم؟ يقف البطل حائرًا أمام هذا التناقض في كون الإنسان الجحيم والجنة معًا، وينتهي بأن لا أحد يمكنه معرفة قوانين العدالة الإلهية.

أيوب العهد القديم: سفر أيوب

ينتقل أيوب التوارة إلى مستوى الفلسفة حاملاً معه النسق الأساسي للقصة: بلاء "مجهول السبب"، فقدان السلطة والثروة، الأمراض التي تنهك الجسد، ومن ثم الغفران وإعادة الصابر المؤمن إلى ما كان عليه من مكانة وهيبة وجاه. هذا الانتقال يظهر منذ البداية التي تحاول توصيف الأجواء العلوية التي تم فيها اتخاذ قرار إنزال البلاء بأيوب من خلال حوار غريب ضمن التعميم المطلق لديانات التوحيد الرسمية عن العداوة الأزلية بين الخير والشر أو بين الله والشيطان، حيث:

وحدث ذات يوم أن مَثَلَ بنو الله أمام الرَّبِّ، فاندسَّ الشيطان في وسطهم. فسأل الرب الشيطان: "من أين جئتَ؟" فأجاب الشيطان: "من الطَّواف في الأرض والتَّجوُّل فيها". فقال الرَّبُّ للشيطان: "هل راقبت عبدي أيوب، فإنه لا نظير له في الأرض، فهو رجل كامل صالح يتَّقي الله ويحيد عن الشَّرِّ". فأجاب الشيطان: "أمجانًا يتقي أيوب الله؟....

وهكذا حتى يسلَّمَ الرَّبُّ الشيطانَ مُلْكَ أيوب أولاً ومن ثمَّ جسده دون نفسه. من الصعب تفهم هذا النص ضمن الثنوية التوحيدية التي تتعامل مع الله كخير وعدل مطلقين ومع الشيطان ككائن مطرود من الأجواء العلوية وملعون إلى الأبد، إذ كيف تمكن الشيطان من الانضمام إلى الحلقة السماوية وإقناع الرب نفسه بإلحاق الأذى بعبد مطيع مثل أيوب؟ الجواب الرسمي هو أن الله أراد اختبار إيمان أيوب، ولكن السؤال هنا هو: كيف لم يعرف العارفُ دخيلةَ عبده الناصعة، خاصة وأن "الجوهرة واضحة للعيان وليس من حاجة إلى ضربها بالمطرقة للتأكد"[2]؟ في الواقع، مثل هذه الأسئلة لا تتناسب مع القيمة التي تم تعميمها من خلال القصة، والتي عبر عنها الله في خطابه مع أيوب، فهو، أي الرّبّ، عارف كل شيء وقادر على كل شيء، فاعل ما يشاء دون مساءلة، حتى لو كان ذلك خرق قوانينه ذاتها، ولا يحق للإنسان العاجز والضعيف والقاصر عن الفهم التساؤل عن أسباب هذه الأفعال...الخ. هنا، في هذا المستوى من الفهم، يتلاقى أيوب التوارة مع أيوب أكاد. إلا أن أيوب التوارة، وكما ذكرنا سابقًا، يدخل مناطق فكرية أخرى رأينا، بعد تفكر طويل، أنه يمكن قراءتها من منطلق غنوصي يستند أساسًا على المقطع المذكور سابقًا من جهة وعلى رفض أيوب للشرط البشري ومقيداته بما فيها اعتراضه على الله الذي "عَهِد بالأرض إلى يد الشرير". وقد انطلقتْ فكرة قراءة النص على أنه نص غنوصي اعتبارًا من جملة النسخة العربية للإنجيل "مَثَلَ بنو الله أمام الرَّبِّ" حيث نلمس فيها تمييزًا بين الله والرّبّ[3]؛ هذا التمييز الذي هو، باختلاف المسميات، في المركز من الفكر الغنوصي[4]. من المعلوم أن الغنوصية لم تتأسس كدين واضح ومنته بل هي مجموعة من الاتجاهات الفكرية المختلفة التي يجمعها، بحسب إدوارد مور، رفض لهذا الكون المتناقض المحكوم من قبل إله جاهل ومعتد بنفسه، وهو رفضٌ كثيرًا ما يلتبس، حسب إدوارد مور أيضًا، بالثنوية. وفي الواقع، مفهوم الثنوية في الفكر الغنوصي مفهوم شديد التعقيد والاختلاف إلا أنه متأسس أولاً على تنزيه الله "الإله المجهول" عن الشرِّ وذلك من خلال تعاليه المطلق عن الكون بمجمله، هذا الكون المخلوق والمحكوم من قبل إله غير معصوم. هنا يمكننا فهم العلاقة بين الرّبّ والشيطان والتي من خلالها سلَّم الرّبّ الشيطان رقبة أيوب دون حق، فهو، أولاً، إلهٌ غير معصوم عن الخطأ وعن الوقوع في شرك الشهوة التي تمثلها هنا السلطة والقوة. وقد ذكر أليفاز في حديثه مع أيوب موضعين يعرض فيهما، بشكل غير مباشر، إمكانية خطأ الله عبر المقارنة بين الرّبّ ومخلوقاته:

أيمكن أن يكون الإنسان أبرَّ من الله، أم الرجل أطهر من خالقه؟ ها إنه لا يأتمن عبيده، وإلى ملائكته ينسب حماقةً، فكم بالحريِّ المخلوقون من طين، الذين أساسهم في التراب، ويُسحقون مثل العثِّ؟

وأيضًا

فإن كان الله لا يأتمن قدِّيسيه، والسماوات غير طاهرة لديه، فكم بالأحرى يكون الإنسان الشَّارب الإثم كالماء مكروهًا وفاسدًا.

كما أن أيوب ذاته كان مدركًا لوقوع الله في خطأ الموافقة على مشورة الشرير:

أيحلو لك أن تجور وتنبذ عمل يدك، وتحبِّذ مشورة الأشرار؟

كما كان مدركًا للشهوة التي تحكمت به عندما قرر أن يعاقبه:

إن كانت القضية قضية قوة، فهو يقول متحدِّيًا: هأنذا.

قد ذكرنا في مقدمة المقال أن إيقاظ أيوب من سباته التعبدي التكراري، والذي قد يكون مسبب البلاء الذي أصابه، يمثل أحد الجوانب الفلسفية من القصة، وهو هنا يتماثل مع فكرة الغنوصيين عن إيقاظ آدم وحواء وفتح أعينهما على المعرفة التي ستكشف لهما محدودية الإله الذي حبسهما في جهل طبيعتهما النورانية الحقة. وهنا طبعًا يحدث التباس كبير من خلال التماثل بين الإله "اللاموصوف" في الغنوص، والشيطان في الديانة الرسمية؛ إذ من يزيّن لحواء وآدم الأكل من شجرة المعرفة هو شيطان الديانة الرسمية وإله الغنوص، وفي قصة أيوب يلعب الشيطان دورًا مماثلاً إلا أنه يلعبه على الرّبِّ ذاته مستغلاً شهوته إلى القوة والسلطة المطلقة حيث يزيّن له الموافقة على ابتلاء أيوب بمصائب لا تتلائم مع تعبده، هذا الابتلاء سيكون المحرض الذي سيقوم أيوب على أساسه باكتشاف الواقع الفعلي للإنسان ومن ثم رفضه. لكن رفض أيوب ليس رفضًا غنوصيًا واضحًا، بمعنى أنه لا يذكر شيئًا عن وجود إله آخر أشمل من الإله الذي يكشف عن نفسه في قصة أيوب، وتغلب عليه ملامح رفض عدمي يركز على حياة الإنسان القصيرة وسبله الضيقة وهشاشته ووحدته "لا يشعر بغير آلام بدنه، ولا ينوح إلا على نفسه"؛ كما أنه رفض مشروط بالحالة التي آل إليها بطل قصتنا ويزول بزوالها "أينهق الحمار الوحشيُّ على ما لديه من عشب، أم يخور الثَّور على ما لديه من علف؟"؛ إلا أنه في المقابل يطرح رؤية ميتافيزيقية لما وراء الحياة المادية:

هناك يكف الأشرار عن إثارة المتاعب، وهناك يرتاح المرهقون. هناك يطمئن الأسرى جميعًا، إذ لا يلاحقهم صوت المُسخِّر. هناك يكون الصغير كالكبير، والعبد متحررًا من سيده.

وهو يذكر في هذا المقطع المعنون بـ لاحياة بعد الموت أن الإنسان لن يستيقظ إلا حين تزول السموات:

لأن للشجرة أملاً، إذا قطعت أن تفرخ من جديد ولا تفنى براعمها. حتى لو شاخت أصولها في الأرض ومات جِذعها في التراب، فإنها حالما تستروح الماء تفرخ، وتنبت فروعًا كالعرس. أمَّا الإنسان فإنه يموت ويبلى، يلفظ آخر أنفاسه، فأين هو؟ كما تنفد المياه من البحيرة، ويجفِّ النهر، هكذا يرقد الإنسان ولا يقوم، ولا يستيقظ من نومه إلى أن تزول السموات.

وفي كلي المقطعين السابقين يمكن فهم هذا الطرح الميتافيزيقي على وجهين: الأول عدمي يبتّ بأن لا حياة بعد الموت عبر الربط بين استيقاظ الإنسان وفرض مستحيل مثل زوال السماوات، أو يمكن فهمه من زواية رؤيتنا الحالية للقصة على أنه استذكار لحالة الحرية والعدل المحققة في الكون الأعلى الذي لن يعود الإنسان إليه إلا بعد زوال سماوات إله الكون المادي وزواله.

أيوب القرآن

يرد ذكر أيوب في أربعة مواضع من القرآن، في موضعين منهما يرد الاسم فقط مخبرًا عن أيوب أنه كان نبيًا من الأنبياء، كما في الآيتين التاليتين:

إِنَّا أوحينا إليكَ كما أوحينا إلى نوحٍ والنَّبيِّين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيُّوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زَبُورًا. (النساء - 163).

و

ووهبنا له إسحق ويعقوب كُلاًّ هدينا ونوحًا هدينا من قَبْلُ ومن ذرِّيَّته داوود وسليمان وأيُّوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجْزِي المُحْسِنِينَ. (الأنعام - 84).

حيث لا يمكننا هنا معرفة أي شيء عن أيوب وعن قصته، وحيث يرد في القرآن في الآية التالية للآية التي ذُكر فيها أيوب في سوة النساء أن هناك قصصًا قصها القرآن وقصصًا لم يقصها. وتعد قصة أيوب من قصص المجموعة الثانية التي لم يقصها القرآن بل أشار إليها فقط في الموضعين الآخرين الذين يرد فيهما ذكر أيوب؛ ففي سورة الأنبياء، الآيات 83 و84، يتوضح ملمح من ملامح القصة حيث يطلب أيوب الرحمة من ربه بسبب الضُّرِّ الذي أصابه، ويستجيب الرّبّ لذلك:

وأيوب إذا نادى ربه إني مسني الضُّرُّ وأنت أرحم الرحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضّرّ وءاتينه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعَبدين.

وفي سورة ص، الآيات 41 و42 و43 و44، يُعاد نفس الملمح مع استبدال الضّرّ بالشيطان، ومع إضافة ملمحين آخرين: الأول هو المغتسل البارد، والثاني هو قَسَمٌ ما لا نعرف عنه شيئًا؛ وأيضًا هناك إضافة أساسية تمثلها الجملة الأخيرة التي تتحدث عن "توبة" أيوب:

واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه إني مسني الشيطان بنصب وعذاب. اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب. ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب. وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنّا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب.

ما الذي يمكننا استنتاجه من هذه الملامح خاصة وأننا، في هذا المقال، نتعامل مع القرآن ككتاب مستقل بذاته دون الاستعانة بالتفاسير أو أسباب النزول، إذ سنضيف التفسير إلى باب القص الشعبي للحكاية؟ أيوب تعرض للضّرّ بسبب الشيطان وتوجه إلى الله يسترحمه ويطلب معونته فقدمها له الله مضاعفة بسبب صبره وتوبته. تطرح فكرة التوبة هنا، في ظلِّ غياب أي توضيح عن كيفية الضر الذي أصاب أيوب، وفي ظلِّ الثنوية الإسلامية المطلقة، رؤية معاكسة للرؤية التوراتية للقصة إذ يبدو أن أيوب الإسلام هو الذي ارتبط بعلاقة مع الشيطان وليس الله، وحضور الله في القصة هو حضور المخلص الذي راقب ورأى أن عبده قد أدرك خطأ خياراته وتحمل النتائج القاسية لهذه الخيارات أو صبر عليها فعوضه كي يكون مثالاً على رحمته.

من وجهة النظر هذه، يبدو أن القصة القرآنية تحمل ملامحًا فاوستية يؤكدها تركيز القرآن على أن الله منح أيوب "أهله ومثلهم معهم" دون أي ذكر لأعطيات مادية أخرى مثل ثروات أو سلطات أو ما شابه، وهي قصة تنحو إلى تبيان وجه الإله الخيّر والرحيم فقط بحيث يمكننا القول إن الله، في قصة أيوب القرآنية[5]، هو إله الرحمة فقط حتى أمام خطأ كخطأ فاوست، وهو أيضًا إله وسط بين إلهيّ الغنوص فهو من جهة مرتبط بالكون بدليل استجابته لمطلب أيوب ومن جهة أخرى منزه عن الخطأ الذي وقع فيه أيوب باختياره الذاتي.

تبقى مسألة القَسَمَ وكفارته وهي مسألة غائمة جدًا توحي بضرورة العودة إلى التفسير الذي يعيد القصة إلى منطقتها السابقة من حيث أن الله أنزل عقوبة بعبده المؤمن دون سبب وحرره منها لاحقًا لما رآه منه من صبر وتقوى - دون أي ذكر لدور الشيطان مما يجعلها تقترب من أيوب أكاد-، ومن حيث أن أيوب سيقوم بدوره، مقلدًا إلهه، بفرض عقوبة على زوجته المخلصة دون وجه حق، ليعود بالاتفاق مع هذا الإله إلى تخفيف العقوبة تحت مسمى الرحمة. ولكن، وقبل الانتقال إلى الفقرة التالية، سنطرح سؤالاً حول الآية الإشكالية: لنلاحظ أن القرآن يستخدم، في الآيات المذكورة أعلاه من سورة ص، ضميري المخاطب والغائب على التوالي، أما في الآية المعنية فيستخدم الضميرين معًا "وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث إنّا وجدناه صابرًا نعم العبد إنه أواب"، وهذا من الناحية المنطقية اللغوية يعني أن هناك شخصين معنيين بالجملة أحدهما عليه أن لا يحنث بالقسم والآخر هو الأواب؛ فإذا كان أيوب هو الأواب فمن المعني بالقسم؟ إن دخول هذا المنطقة التفسيرية هو خارج نطاق المقال لذلك نكتفي بإيراد السؤال فقط.

أيوب القص الشعبي

يتحرر القص الشعبي من قيود الثقافة الرسمية -إلا في حال خدمته لها-، وهو ما يتيح للقصة امتدادات غالبًا ما تنفيها هذه الثقافة مقابل تعميم قيمة ما. إحدى القيم الرسمية المعممة من خلال قصة أيوب هي الصبر على الشدائد، وهذا ما لاخلاف عليه طبعًا، ولكن هذه القيمة ليست منفصلة عن القيم الأخرى الأكثر أساسية والمتمثلة، كما سبق وذكرنا، في أن الرحمة قادمة من السماء وليس من الأرض، وفي أن الإنسان عاجز عن أي فعل إلا الصلاة من أجل هذه الرحمة. يضاف إلى ذلك تخصيص البطولة بالرجل فقط واستبعاد المرأة تمامًا منها أو وضعها في موقع تلعب فيها دورًا يتسق مع المنظومة الكلية لديانات الرب الذكر. ففي أيوب العهد القديم تبرز الزوجة في مقطع واحد فقط تأتي فيه وتقول لأيوب ساخطة أن: جدف على الله ومت، وفي أيوب القرآن لا حضور للزوجة إلا عبر موضوع القسم الغامض الذي يحيل إلى النسخة الشعبية الرسمية لقصة أيوب وهي نسخة تحتفظ بملامح حرية القص الشعبي إلا أنها تحمل أيضًا ملامح القسر الذي مورس عليها لتتلائم مع كونها قصة رسمية أي لتتلائم مع دورها في دعم قيم الثقافة الرسمية. وهذه القصة هي كالتالي:

يذكر تبارك وتعالى عبده ورسوله أيوب عليه الصلاة والسلام، وما كان ابتلاه تعالى به من الضّرّ في جسده وماله وولده حتى لم يبق في جسده مغرز إبرة سليمًا سوى قلبه، ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه، وما هو فيه، غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله تعالى ورسوله، فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوًا من ثماني عشرة سنة، وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة في الدنيا، فسلب جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها، ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها، فإنها كانت لا تفارقه صباحًا ومساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبًا. فلما طال المطال، واشتد الحال، وانتهى القدر، وتم الأجل المقدر، تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال: (إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين). وفي هذه الآية الكريمة قال: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب) - قيل بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي. فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله، ففعل فأنبع الله تعالى عينًا وأمره أن يغتسل منها فأذهبت جميع ما كان في بدنه من الأذى. ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينًا أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت جميع ما كان في باطنه من السوء، وتكاملت العافية ظاهرًا وباطنًا. ولهذا قال تبارك وتعالى: (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب). قال ابن جرير وابن أبي حاتم جميعًا: حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين. قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب عليه الصلاة والسلام: لا أدري ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق. قال: وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام أن (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب)، فاستبطأته، فالتفتت تنظر، فأقبل عليها وقد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى، فوالله القدير على ذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحًا. قال: فإني أنا هو. قال: وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله تعالى سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض". هذا لفظ ابن جرير رحمه الله.

وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما أيوب يغتسل عريانًا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه، فناداه ربه عز وجل: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى. قال عليه الصلاة والسلام: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك. انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرزاق به. ولهذا قال تبارك وتعالى: (ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب). قال الحسن وقتادة أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم.

وقوله عز وجل: (رحمة منا) أي به على صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته، (وذكرى لأولي الألباب) أي لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج والمخرج والراحة. وقوله جلت عظمته: (وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث)، وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته، قيل باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه، فلامها على ذلك، وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة، وقيل لغير ذلك من الأسباب. فلما شفاه الله عز وجل وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب، فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثًا، وهو الشمراخ فيه مائة قضيب، فيضربها به ضربة واحدة وقد برت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه. ولهذا قال جل وعلا: (إنا وجدناه صابرًا نعم العبد إنه أواب) أثنى الله تعالى عليه ومدحه بأنه (نعم العبد إنه أواب) أي رجاع منيب، ولهذا قال جل جلاله: (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا. ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرًا) واستدل كثير من الفقهاء بهذه الآية الكريمة على مسائل في الإيمان وغيرها. وقد أخذوها بمقتضاه والله أعلم بالصواب.

بطلا هذه النسخة هما أيوب وزوجته الذين تعاونا معًا على تجاوز المحنة من خلال "عمل الزوجة"، وقد تم ذلك بمعونة السماء التي قدمت علاجًا وذهبًا لأيوب وضغثًا للزوجة. ونلاحظ هنا أن أيوب كان غنيًا، كما في نسخة أكاد ونسخة العهد القديم، وأن تقدمات الله تركزت، إلى جانب العلاج، على ثروات طائلة لم يرد أي ذكر لها في القرآن، وبأشد الطرق عجائبية وغرابة، وأيضًا أن الزوجة التي لعبت دورًا أساسيًا، مختلف عن دورها في نسخة العهد القديم، طالتها رحمة عجيبة تمثلت في ضربها ضربة واحدة بدلاً من مئة ضربة.

مسألة الثروات الطائلة وجحود أيوب لتضحية زوجته تختفي من النسخة الشعبية غير الرسمية للقصة ليحل محلها قيمة أخرى هي التعاون على الشدائد. وفي الواقع، تختلف هذه القصة اختلافًا جذريًا عن قصص أيوب السابقة في إسناد البطولة للمرأة والرجل معًا وفي ابتعادها عن أية أنساق دينية أو سياسية؛ فهي حكاية دون مبالغات عن البلاء أو الجزاء وفيها يكون مرض أيوب مرضًا إنسانيًا عاديًا ويتم علاجه بأعشاب الأرض وليس بمعجزة سماوية. في اختصار، هي قصة أرضية تتحدث عن الصبر الإنساني العادي وعن التعاون على تجاوز المحن، ليس عبر الدعاء بل عبر العمل. وقد وجدت نسخةً منها في مدونة بعنوان مشوار حياة جد وجدة، يقول فيها كاتب أو كاتبة القصة إن "ست الحبايب" قد روتها له أو لها عندما سأل عن نبات "رعرع أيوب"؛ وأيضًا في مقال لأحمد زكي، منشور في موقع كفاية، بعنوان الحجاب: ناعسة وأيوب المصري، حيث يَذكر الكاتب أن هذه القصة قد "سجلتها الإذاعة المصرية في صورة أوبريت غنائي شهير كان يذاع كثيرًا في الستينات". وبما أن القصة غير مدونة بشكل نهائي إنما هي حكاية تختلف حسب الرواي فإني سأوردها هنا استنادًا إلى ما قد قرأت عنها:

كان أيوب يعمل كراع للغنم، وكان إنسانًا سعيدًا، ومن أحد أسباب سعادته وجود زوجته ناعسة التي كان يحبها وتحبه كثيرًا. كانت ناعسة امرأة جميلة جدًا خاصة عيناها الواسعتان وشعرها الطويل الذي حسدتها عليه كل النساء. في يوم من الأيام ابتلي أيوب بمرض جلدي معد أحرق جلده، ونصح أهل ناعسة ابنتهم بتركه إلا أنها رفضت، وبدأت تبيع الأغنام واحدة تلو الأخرى كي تتمكن من علاج أيوب. بعد عدة سنوات فقد الزوجان كل ما يملكان ولم يعد لديهما شيء. وبعد أن أعيت سبل العيش الزوجة طلبت مساعدة أهل البلدة التي كان الرجال فيها يحسدون أيوب على زوجته والنساء يحسدن ناعسة على شعرها؛ ولذلك فإنها عندما طلبت المعونة ساومها أهل البلدة على شعرها فقصته وأعطته لهم، ثم ذهبت بالطعام إلى أيوب فلم تجده، إذ أنه كان يتعبد على ضفة نهر حين رأى زرعًا أخضر أخذ منه قبضة وخلطها بطين النهر ودلّك بها جلده المريض فبدأ المرض بالتلاشي. وكانت ناعسة في هذا الوقت تبحث عنه حتى وجدته وقد شُفيّ من مرضه، ووجدها وقد قصت شعرها الجميل.

خاتمة

تطرح سيمون فايل في مقالة الخبرة مع الله: حب الله والبلاء[6] منظورًا آخر لأيوب العهد القديم يربط بين المحبة والبلاء حيث يكون البلاء هو يد الله التي تصافح يد المبلَتى بقليل من القوة، وهي رؤية عبر عنها الصديق أكرم أنطاكي بقوله: رؤية الفيلسوف الصارم والمؤمن. في المقابل يرى أيوب أكاد أن بلاءه هو إهمال الله له وتحوله عنه. في النظرة الأولى تحضر محبة الله حتى في بلاءه وفي الثانية تغيب المحبة حين يغيب وجه الله. ولكن، بما أن هذا المقال متوضع على مستوى آخر من التفكير لم نتوسع في هذه الرؤى إنما كان الهدف عرضًا مجملاً لقصة أيوب بعيدًا عن الفلسفة الروحانية وأقرب إلى النقد المتوجه نحو الواقع. لقد ذكرت سيمون فايل في مقالتها أن:

لا يكون هناك بلاءٌ حقًا عندما لا يكون هناك بأي شكل من الأشكال انحطاطٌ اجتماعي أو خشية من انحطاط مماثل.

وهذه هي القاعدة التي بني عليها هذا المقال: حدس الانحطاط الاجتماعي عبر مسلمة دينية وفكرية شائعة، وفي نفس الوقت محاولة إعطاء الجانب الفلسفي والإنساني منها حقه ولكن خارج الأطر الجاهزة.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  النص مأخوذ من كتاب ديوان الأساطير: سومر وأكاد وآشور، الكتاب الثاني، الآلهة والبشر، ترجمة قاسم الشوّاف، دار الساقي، ط 1، 1997.

[2]  بتصرف عن ثربانتس، دون كيخوته، الجزء الثاني.

[3]  التمييز الوارد في هذه الجملة نجده في نسخة اللغة العربية ونسخة اللغة الألمانية: (Nun geschah es eins Tages, da kamen die Gottessöhne, um vor den Herrn hinzutreten)، في حين تستخدم النسخة الإنكليزية كلمة angels و"LORD": One day the angels came to present themselves before the LORD. ولكن لنلاحظ أن اللغة الانكليزية تطلق مسمين أيضًا على الخالق: God، وLord التي تعني السيد. وأيضًا في اللغة الألمانية هناك: Gott، وHerr التي تعني السيد كذلك. في نفس السياق، ميّز الباحث وليد عبدالله بين الألوهية والربوبية في دراسة منشورة في معابر بعنوان: صراع المفاهيم وصناعة الأرباب في الدين الإسلامي، حيث الرب هو "الاختيار الإرداي للإنسان في تكوين صورة الله في العالم"، وهو تمييز يتوازى، نسبيًا، مع التمييز الذي قدمناه في بداية المقال بين الله-الخالق والله-المخلوق.

[4]  المراجع المعتمدة هنا لقراءة الفكر الغنوصي هي:
مقال الفلسفة والوحي، إدوارد مور، ترجمة أسماء جلال الدين، معابر. انظر الرابط:
http://www.maaber.org/issue_february05/spiritual_traditions1a.htm
مقال الكاثاريون: محاولة تأريخية وفلسفية، أكرم أنطاكي، معابر، انظر الرابط:
http://www.maaber.org/issue_october03/spiritual_traditions1.htm
كتاب الوجه الآخر للمسيح: موقف يسوع من اليهود واليهودية وإله العهد القديم ومقدمة في المسيحية الغنوصية، فراس السواح، دار علاء الدين، ط 1، 2004.

[5]  لابد أن نضيف ملاحظة هنا تتعلق بأهمية عدم تعميم هذه الفكرة على إله القرآن كليًا، ففي مواضع أخرى يأخذ هذا الإله وجوهًا أخرى مختلفة.

[6]  الخبرة مع الله: حب الله والبلاء، سيمون فايل، ترجمة محمد علي عبد الجليل، معابر، انظر الرابط: http://www.maaber.org/issue_june09/spiritual_traditions2_a.htm

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود