دُنـوُّ النهاية

 

ليف تولستوي

 

الأسبوع الماضي تلقّيت ورقةً أُؤمَر فيها بالحضور إلى مجلس البلدية ليتمّ تسجيلي في الحرس القومي بحسب القانون. وكما لاحظتم، ربما، لم أحضر. وهذه الرسالة غايتها تبليغ معاليكم، بصراحة ودون لفٍّ ودوران، بأنْ لا نيّة لي بالمثول أمام المجلس.

أعلم جيدًا أنني أُعرِّض نفسي لمسؤولية ثقيلة، وأنكم تستطيعون معاقبتي، ولن تتوانوا عن استخدام حقّكم هذا. ولكنّ هذا لا يُخيفني؛ فالأسباب التي دفعتني إلى اتّخاذ هذا الخيار السلبي تشكّل، بالنسبة لي، ثِقلاً كبيرًا يعادل هذه المسؤولية.

إنني - أنا غير المسيحي - أفهم، أفضل من معظم المسيحيين، الوصية التي هي عنوان هذه الرسالة، والتي فُطرت عليها طبيعة الإنسان وعقله. فعندما كنت طفلاً تمكّنت من تعلّم مهنة الجندي: فنّ القتل، لكنني أرفضها الآن! وبشكل خاص لا رغبة لي في القتل تبعًا للأوامر، وهو ما يُعدُّ قتلاً مناقضًا للضمير، ويخلو من أيّة دوافع شخصية، أو أيّة مسوّغات. فهل يمكنكم تسمية أيّ شيء مُذلّ للكائن الإنساني أكثر من جرائم قتل أو إعدامات من هذا القبيل؟ لا يمكنني أن أقتل أيّ حيوان، أو مشاهدة قتل أيّ حيوان، ولكي لا تُقتل الحيوانات صرتُ نباتيًا. في الوقت الراهن يمكنهم أن يأمروني بإطلاق النار على أناس لم يسيئوا إلي قط: إذ لا أعتقد بأنه يتمّ تدريب الجنود لكي يطلقوا النار على أوراق الأشجار وأغصانها. لكنكم قد تقولون لي إنّ الحرس القومي يجب عليه، وقبل أي شيء آخر، الحفاظ على الاستقرار الداخلي.

سيدي القائد، لو أنّ الاستقرار سائد حقًا في مجتمعنا؛ ولو أنّ الجسم الاجتماعي سليم فعلاً، بكلمات أخرى: لو لم تكن هناك تلك المظالم الصارخة في العلاقات الاجتماعية، ولو لم يكن مسموحًا بأن يموت أحدهم من الجوع في الوقت الذي يَسمح فيه آخر لنفسه بالتمتّع بشتّى الرغبات المترفة – حينذاك كنت ستراني في الصفوف الأولى لحُماة هذا الاستقرار، لكنني أرفض رفضًا باتًّا المساعدة على ما يسمّى استقرارًا في الوقت الراهن. لماذا – يا سيدي القائد - نذرّ الرماد في عيون بعضنا؟ إذ كلانا يعلم معنى الحفاظ على هذا الاستقرار: دعم الأثرياء في مواجهة الكادحين الفقراء الذين بدأوا يعون حقوقهم. ألم نشاهد الدور الذي لعبه حرسكم القومي أثناء إضراب روتردام الأخير: دون أيّة مبررات، كان على هذا الحرس أن يتواجد في الخدمة لساعاتٍ طويلة لكي يحمي أملاك الشركات التجارية المهدَّدة. فهل يمكنك أن تفترض، ولو للحظة واحدة، بأني سأهبّ للمشاركة في الدفاع عن الذين – حسب رأيي المتواضع – يؤيّدون الحرب بين رأس المال والعمل؛ بأني سأطلق النار على العمال الذين ينشطون ضمن حدود حقوقهم تمامًا؟ لا يمكنك أن تكون أعمى إلى هذا الحدّ؛ فلماذا تعقيد الأمر إذًا؟ إذ لا يمكنني، في الواقع، السماح لنفسي بأن أصبح حرسًا قوميًا مطيعًا على النحو الذي تريدونه وتحتاجون إليه.

بناءً على هذه الأسباب كلها، وخاصةً أني لا أُطيق القتل تبعًا للأوامر، أرفض أداء الخدمة كحرسٍ قوميّ، سائلاً إياكم ألاّ ترسلوا لي بزّةً رسمية، ولا سلاحًا، حيث لا نيّة لي على الإطلاق لاستخدامهما.

أُحيّي معاليكم، سيدي القائد.

إي. ك. فان دِر فِر

* * *

لهذه الرسالة معنى كبير جدًا، برأيي. فقد بدأت حالات رفض أداء الخدمة العسكرية في البلدان المسيحية منذ بداية ظهور الخدمة العسكرية في الدول المسيحية، أو بالحري، منذ أن اعتنقت الدول، التي تقوم سلطتها على العنف، الدين المسيحي دون أن تنبذ العنف.

من حيث الجوهر لا يمكن للأمر أن يكون غير ذلك؛ فالمسيحي، الذي تأمره عقيدته بالوداعة، وعدم مقاومة الشرّ بالعنف، ومحبة الكلّ بمن فيهم الأعداء، لا يمكنه أن يكون محاربًا، أي أن ينتمي إلى شريحة الناس الذين مهمتهم فقط قتل أمثالهم من الناس. ولهذا، فقد رفض المسيحيون الحقيقيون دائمًا أداء الخدمة العسكرية.

لكنّ المسيحيين الحقيقيين كانوا أقلية دائمًا؛ فقد عُدَّ معظم سكان الدول المسيحية مسيحيين فحسب حين اعتنقوا العقيدة الكنسية التي لا يجمعها شيء مع المسيحية الحقّ سوى الاسم. وإذا كان من النادر أن يظهر شخص واحد، من بين عشرات الآلاف من الملتحقين بالخدمة العسكرية، يرفض أداء الخدمة، فإنّ هذا لم يمنع مئات الألوف، بل ملايين البشر، من الالتحاق بالخدمة كل عام.

«لا يمكن للأكثرية الهائلة كلها من المسيحيين الملتحقين بالخدمة العسكرية أن تكون على ضلال، وأن يكون الحقّ فقط إلى جانب ضعيفي التعليم غالبًا، ممن يرفضون أداء الخدمة العسكرية، في الوقت الذي يقرّ فيه المطارنة والعلماء باقترانها مع المسيحية» - يقول أناس الأكثرية باطمئنان، معتبرين أنفسهم مسيحيين، ويلتحقون بصفوف القتلة.

ولكن، ها هو إنسان غير مسيحي، كما يعلن عن نفسه بنفسه، يرفض أداء الخدمة العسكرية، لا لأسباب دينية وإنما لأكثر الأسباب بساطةً ومفهوميةً، والمشتركة بين جميع البشر، أيًّا كانت دياناتهم وجنسياناتهم: كاثوليك، مسلمون، بوذيون، كونفوشيوسيون، إسبان، عرب، يابانيون... الخ.

لم يرفض فان دِر فِر أداء الخدمة العسكرية لأنه يتّبع وصية "لاتقتل"، أو لأنه مسيحي، وإنما لأنه يعتبر أنّ القتل يتعارض مع إدراك الإنسان. إنه يكتب ببساطة بأنه لا يطيق شتى أنواع القتل، ولا يطيقه إلى درجة أنه صار نباتيًا لكي لا يكون شريكًا في قتل الحيوانات؛ والأكثر أهميةً هو حين يقول إنه يرفض أداء الخدمة العسكرية لأنه يعتبر القتل تبعًا للأوامر، أي وجوب قتل الناس الذين يُؤمَر بقتلهم (وهو ما تنحصر فيه الخدمة العسكرية بشكل خاص)، عملاً منافيًا لكرامة الإنسان. وعلى الاعتراض المعتاد بأنه إذا لم يؤدِّ الخدمة فسيقتدي به آخرون، وسينهار النظام القائم، يجيب بأنه لا يريد المحافظة على النظام القائم لأنه نظام رديء، حيث يتسلّط فيه الأغنياء على الفقراء، ولا ينبغي لهذا أن يكون بحيث أنه، إذا كان لديه شك في وجوب أو عدم وجوب أداء الخدمة العسكرية، ففقط فكرة أنه، إذ يؤدّي الخدمة العسكرية، بالسلاح وبالتهديد بالقتل، يساند الأغنياء المضطهِدين ضدّ الفقراء المضطهَدين، كان لها أن ترغمه على رفض أداء الخدمة العسكرية.

لو أنّ فان دِر فِر نَسَبَ سبب رفضه القيام بواجبه إلى أيّ من العقائد المسيحية لكان بإمكان الناس، الذين آن أوان التحاقهم بالخدمة العسكرية، أن يقولوا: «أنا لست طائفيًا، ولا أدين بالمسيحية، لذا لا أعتبرني مضطرًا إلى التصرّف على هذا النحو». لكنّ الأسباب التي يوردها فان در فر من البساطة والوضوح والشمولية لكلّ الناس بحيث يستحيل على المرء عدم تطبيقها على نفسه. ولكي لا يعتبر هذه الأسباب ملزمة له عليه أن يقول: «أنا أحب القتل، ومستعد أن أقتل ليس الأعداء فقط بل ومواطنيّ المضطهَدين والبؤساء، ولا أجد أي سوء في أن أعِدَ بقتل كل من يأمرني أول آمر ألتقيه بقتله».

الأمر بمنتهى البساطة. حيث يعيش شاب وسط أسرةٍ ما، وأيًا كان دينه، يعلّمونه بأنّ عليه أن يكون طيبًا، وأنّ من الحماقة البالغة ليس فقط ضرب وقتل إنسان بل وحيوان؛ يعلّمونه بأنّ على الإنسان أن يُثمّن كرامته، والكرامة تكمن في أن يتصرّف تبعًا لضميره. يتمّ تعليم هذا للجميع: الصيني، الكونفوشيوسي، الياباني الشنتوي أو البوذي، التركي المسلم. وفجأةً، بعد أن علّموه هذا كله، يلتحق بالخدمة العسكرية، حيث يُطلب إليه أن يتصرّف عكس ما علّموه إياه: يأمرونه بأن يكون مستعدًا لتعذيب وقتل البشر، وليس الحيوانات، يأمرونه بنبذ كرامته الإنسانية، والإذعان لأناسٍ يجهلهم ولا يعرفهم في عمل القتل. فما الذي يمكن لإنسان زماننا أن يقول ردًّا على ذلك؟ من الواضح أنّ عليه أن يقول شيئًا واحدًا: «لا أريد، ولن أفعل».

وهذا ما فعله فان دِر فِر. ويصعب التفكير في كيفية الردّ عليه. ويجب على كل من يكون في وضعه أن يتصرّف على النحو ذاته.

من الممكن عدم رؤية ما لم يتمّ الانتباه إليه بعد، وعدم فهم معنى التصرّف ما دام مبهمًا، ولكن ما دام قد تمّ إظهاره وتوضيحه لم يعد جائزًا عدم رؤيته، أو الادِّعاء بأنك لا ترى ما هو جليّ تمامًا.

يمكن أن يوجد الآن كذلك شخص لا يفكّر فيما يفعل حين يلتحق بالخدمة العسكرية؛ ويمكن العثور على أناسٍ يريدون قتال الشعوب الأخرى، أو يرغبون في مواصلة اضطهاد العمال؛ بل حتى هناك أناسٌ يحبون القتل لأجل القتل. يستطيع هؤلاء الناس أن يبقوا مقاتلين، ولكن في الوقت الراهن حتى هؤلاء الناس لا يمكنهم ألاّ يعلموا أنّ هناك أناس، هم الأفضل في العالم أجمع، وليسوا مسيحيين فقط بل ومسلمين وبراهمانيين وبوذيين وكونفوشيوسيين، ينظرون إلى الحرب والمحاربين باشمئزاز واحتقار، وأنّ عددهم يزداد ساعةً بعد ساعة. لا يمكن لأية حجج أن تدحض الحقيقة البسيطة القائلة بأنه لا يجوز لإنسان يحترم نفسه أن يصبح عبدًا لسيّدٍ يجهله، أو حتى يعرفه ولكن له أهداف مميتة. وفي هذا فقط تكمن الخدمة العسكرية بانضباطها.

وماذا عن المسؤولية التي يتعرّض لها رافض أداء الخدمة؟ - يقولون لي – الأمر سواء بالنسبة له، أنت العجوز الذي لم يعد مرغمًا على خوض هذه التجربة، ويضمن لك وضعك أن تبشّر بالشهادة، ولكن ماذا بالنسبة للذين تعظهم، إذ يصدّقونك يرفضون أداء الخدمة، ويُهلكون شبابهم؟» – لكن ماذا علي أن أفعل؟ أردّ على الذين يقولون لي ذلك. هل يُعقل، لأني عجوز، ألاّ أشير إلى الشرّ الذي أراه بوضوح ويقين فقط لأني عجوز، ولأني عشت وفكّرت طويلاً؟ تُرى، إذا كان شخص ما على الجهة الأخرى من النهر، ولذا لا تصل إليه يد المجرم، ويرى أنّ هذا المجرم يحاول إرغام أحد الناس على قتل شخص آخر، فعليه ألاّ يصرخ بالقاتل بألاّ يفعل ذلك، ولو أدّى هذا التدخل إلى إثارة غضب المجرم أكثر؟ عدا عن أني لا أرى مطلقًا لماذا الحكومة، إذ تُعذِّب الذين يرفضون أداء الخدمة العسكرية، توجِّه لومها إلي معتبرةً إياي المحرّض على حالات الرفض هذه. إنني لست عجوزًا إلى هذا الحدّ بحيث لا أتعرّض للتعذيب ولشتّى أنواع العقوبات، ووضعي لا يحميني على الإطلاق. ففي كل الأحوال، سواء سيقومون بإدانتي وملاحقتي أم لا، وسواء قاموا بملاحقة وإدانة الذين يرفضون أداء الخدمة العسكرية أم لا، ما دمت على قيد الحياة لن أتوقّف عن قول ما أقول لأني لا أستطيع الكفّ عن التصرّف تبعًا لضميري.

إنّ المسيحية، أي المسيحية الحقّ، جبّارة ولا تُقهر لكونها، من أجل التأثير على البشر، لا يمكنها الانقياد لأيٍّ من التصوّرات الخارجية. فسواء كان الإنسان شابًّا أم عجوزًا، وسواء كان معرّضًا للتعذيب أم لا، الإنسان الذي استوعب فهم الحياة المسيحي، أي الفهم الحقّ، لا يمكنه التنازل عن مطالب ضميره. وفي هذا يكمن جوهر المسيحية وتميّزها عن كافة التعاليم الدينية الأخرى، وقوّتها التي لا تُقهر.

يقول فان دِر فِر إنه ليس مسيحيًا، لكنّ دوافع رفضه مسيحية: إنه يرفض أداء الخدمة العسكرية لأنه لا يريد أن يقتل أخاه؛ وهو لا يخضع للآخرين لأنّ قيادة ضميره ملزمة له أكثر من أوامر البشر. ها هنا تكمن أهمية رفض فان در فر البالغة. ويشير هذا الرفض إلى أنّ المسيحية ليست طائفة أو دينًا يمكن لبعض الناس اعتناقها، ولبعضهم عدم اعتناقها، وإنما يشير إلى أنّ المسيحية ليست سوى اتّباع نور البصيرة الذي ينوِّر الناس جميعًا. ولا تكمن قيمة المسيحية في أنها حددت للبشر هذه التصرّفات أو تلك، وإنما في أنها أبصرت، وأشارت إلى، الدرب الذي على البشرية كلها أن تسلكه، وقد سلكته.

الناس الذين يتصرّفون بطبيعة وعقلانية في الوقت الراهن لا يتصرّفون على هذا النحو لأنهم يتّبعون مواعظ المسيح، وإنما لأنّ ما قيل، قبل 1800 سنة، على أنّه هَدي للبشر قد أصبح وعيهم في الوقت الراهن.

لهذا أعتقد - أنا أيضًا - أنّ لتصرّف فان دِر فِر قيمة كبيرة. فمثلما أنّ النار المندلعة في سهلٍ أو غابة لا تنطفئ حتى تحرق كل ما هو ميت وجاف، وبالتالي قابل للاحتراق، كذلك الحقيقة، ما دام قد أُفصح عنها بالكلام، لن تتوقّف عن الفعل إلى أن تقضي على الباطل القابل للهلاك، والذي يحجب الحقيقة ويحيط بها من جميع الجهات. تكون النار جمرًا لأمدٍ طويل، ولكنها ما إن تشتعل حتى تحرق كل ما هو قابل للاحتراق بسرعةٍ شديدة. وكذلك الفكرة تحاول، لفترة طويلة، الانطلاق خارجًا دون أن تجد تعبيرًا عنها، لكن يكفيها أن تجد تعبيرًا واضحًا عنها في الكلمة حتى يُزهق الباطل والشرّ بسرعة شديدة.

إنّ إحدى تجلّيات المسيحية المميزة هي قولها أنّ بإمكان البشر العيش دون عبودية، ورغم أنها كانت متضمنة في عقيدة المسيح، إلاّ أنها عُبّر عنها – كما أعتقد – بوضوح فقط لدى كتّاب القرن الثامن عشر. فقبل ذلك العهد، ليس فقط الوثنيين القدماء – أفلاطون وأرسطو – بل حتى الناس الأقرب عهدًا إلينا، وكذلك المسيحيين، لم يكونوا قادرين على تصوّر المجتمع البشري دون عبودية. بل إنّ توماس مور لم يستطع تصوّر حتى اليوطوبيا من دون عبودية. كذلك بالضبط، لم يستطع أناس قرننا الحالي تصوّر حياة الإنسانية دون حروب. وفقط بعد الحروب النابوليونية عُبِّر بوضوح عن فكرة إمكانية عيش البشرية دون حروب. وها قد مرّت مائة سنة منذ أنْ عُبِّر بوضوح عن الفكرة القائلة بإمكانية عيش البشرية دونما عبودية، ولم تعد هناك عبودية بين المسيحيين. ولن تمرّ مائة سنة على الإفصاح بوضوح عن إمكانية عيش البشرية دون حروب، حتى تنتهي الحروب. ومن الممكن جدًا ألا تنتهي الحروب كليًا، كما لم تنتهٍ العبودية كليًا. من الممكن جدًا أن يبقى العنف الحربي كما بقي العمل المأجور بعد القضاء على العبودية، لكن في كل الأحوال سوف تنعدم الحروب والجيوش بشكلها الفظّ الراهن المناقض للعقل والحسّ الأخلاقي، القائم في الوقت الراهن.

وإنّ مؤشّرات قرب أوان ذلك كثيرة. وهذه المؤشرات تتجلّى في الوضع المستعصي للحكومات التي تُصعّد من وتيرة تسلّحها باستمرار، وفي ثِقل الضرائب المتنامي، وسخط الشعوب، وفي الأسلحة التي تمّ إيصالها إلى أقصى درجات الفتك، وفي أنشطة ومؤتمرات وجمعيات السلام، وبصورة خاصة في رفض الأفراد أداء الخدمة العسكرية عمومًا. وفي هذا الرفض يكمن مفتاح الحلّ كله.

«أنتم تقولون إنّ الخدمة العسكرية ضرورية، وإنها إذا لم تكن موجودة لعانيتم من كوارث مخيفة. هذا كله محتمل، ولكن من منطلق مفهوم الخير والشرّ، المشترك بين جميع البشري الآن بمن فيهم أنتم أنفسكم، لا يمكنني قتل الناس تبعًا للأوامر. وبالتالي؛ إذا كانت الخدمة العسكرية ضرورية جدًا، كما تقولون، فنظّموها بحيث لا تناقض ضميري وضمائركم. وما دمتم لا تفعلون ذلك، وتطلبون مني القيام بما يناقض ذلك، فلا يمكنني الانصياع على الإطلاق» - هكذا يجب، من كل بدّ، وعاجلاً جدًا، أن يجيب الناس الشرفاء والعقلاء، ليس في العالم المسيحي فقط بل والإسلامي، وفي العوالم المسماة وثنية: البراهماني والبوذي والكونفوشيوسي. قد يصمد العمل العسكري لبعض الوقت بسبب قوة العطالة، لكنّ المسألة قد حُسمت في وعي البشر، ومع مرور كل يوم، كل ساعة، يزداد أكثر فأكثر عدد الناس الذين يتوصّلون إلى هذا الحلّ، ولم يعد بالإمكان إيقاف هذه الحركة على الإطلاق.

إنّ إدراك البشر لأية حقيقة كانت، أو بالحري تحرّرهم من أية ضلالة كانت – وقد حدث هذا أمام أعيننا فيما يتعلق بالعبودي – دائمًا يصل إلى حدّ الصراع بين استجلاء وعي البشر وبين قوة عطالة الوضع السابق. في البداية تكون العطالة بالغة القوة ويكون الوعي بالغ الضعف إلى درجة أنّ المحاولة الأولى للتحرر من الضلال تُقابل بالدهشة فحسب. فالحقيقة الجديدة تعدُّ جنونًا. «هل الحياة ممكنة دون عبودية؟ من سيعمل؟ هل الحياة ممكنة دون حروب؟ سيأتي الجميع لاحتلالكم». لكنّ قوة الوعي تزداد باستمرار وقوة العطالة تضعف باستمرار، وتحلّ السخرية والازدراء محلّ الدهشة. «الكتب المقدّسة تعترف بالسادة والعبيد. وهذه العلاقة قائمة منذ الأزل، وفجأةً يظهر أناسٌ متذاكون يريدون تغيير العالم كله» - هذا ما قيل عن العبودية. «كل العلماء والحكماء أقرّوا بشرعية، بل حتى بقدسية، الحرب، وفجأةً يجب أن نصدّق بأنّ القتال ليس ضروريًا» - يُقال عن الحرب. لكنّ الوعي ينمو ويبرز أكثر: عدد الناس الذين يعون الحقيقة يزداد أكثر فأكثر، ويحلّ المكر والكذب محلّ السخرية والازدراء. الناس، المتشبّثون بالضلالة، يتصنّعون بأنهم يفهمون ويدركون لامعقولية وقسوة المبدأ الذي يدافعون عنه، ولكنهم يعتبرون أنّ التخلّص منه مستحيل في الوقت الراهن، ويؤجّلون ذلك إلى أجلٍ غير مسمّى. «من لا يعرف أنّ العبودية شرّ، لكنّ البشر غير مؤهلين للحرية بعد، والتحرر سوف يسبّب كوارث مخيفة» - قيل عن العبودية قبل 40 سنة. «من لا يعرف أنّ الحرب شرّ؟ لكن ما دامت البشرية متوحّشة إلى هذا الحدّ، فسيتسبب التخلّص من الجيوش شرًا أكثر من الخير» - يقولون الآن عن الحرب. لكنّ الفكرة تعمل عملها؛ إنها تتنامى وتحرق الباطل، وسيأتي يوم يصبح فيه جنون وعبثية وضرر ولاأخلاقية الضلالة من الجلاء بمكان (هكذا كانت الحال، حسبما نتذكر، مع العبودية في الستينيات في روسيا وأمريكا) بحيث لا يعود الدفاع عنها ممكنًا. وهكذا هي حال الحرب الآن. فكما أنهم لم يحاولوا آنذاك تبرير العبودية بل فقط تشبّثوا بها، كذلك الآن لا يحاولون تبرير الحرب والجيوش، عارفين جدًا بأنّ مؤسسة القتل هذه، العنيفة واللاأخلاقية، التي تبدو كأنها لا تُقهر، قابلة للانهيار في أية لحظة، بحيث لا تقوم لها قائمة بعد ذلك أبدًا. إذ يكفي أن تتسرّب قطرة ماء واحدة من السدّ، أو أن تسقط قرميدة واحدة من بناءٍ ضخم، أو أن تنحلّ عقدة واحدة في أكثر الشبكات متانةً، وسينهار السد، ويسقط البناء، وتتفكك الشبكة. وبالنسبة لي، يعتبر رفض فان در فر، الرفض الذي دوافعه وأسبابه مشتركة بين البشر أجمعين، قطرة الماء هذه، وذلك الحجر، وتلك العقدة المحلولة. فعلى أثر رفض فان در فر، سوف تتوالى أكثر فأكثر حالات رفض كهذه، وما إن تغدو كثيرةً حتى يقول، فورًا، أولئك الذين كانوا يقولون البارحة (اسمهم: الكذّابون) بعدم إمكانية العيش دون حروب، بأنهم، منذ زمنٍ بعيد، يتحدثون عن جنون ولاأخلاقية الحرب، وسينصحونكم بالتصرّف كما تصرّف فان در فر، ولن يبقى من الحروب والجيوش، بالشكل التي هي عليها الآن، سوى الذكرى. وهذا الوقت قريب.

 

ياسنايا بوليانا، 24 أيلول 1896

ترجمة: هڤال يوسف

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود