مدخل إلى القبالة

 

ندره اليازجي

 

-1-

1- القبالة تعني "تلقّي المعرفة السرّانية"، وهي حكمة سرّانية تعمد إلى تفسير الدين تفسيرًا صوفيًا.

2- مبادئها الرئيسة:

تبحث هذه المبادئ في:

         ‌أ-         الكائن الأعلى والأسمى: طبيعته، رموزه وصفاته المميّزة من وجهة نظر اللغة.

      ‌ب-      أصل الكون: بنيته ونواميسه.

       ‌ج-       إبداع الملائكة والإنسان.

        ‌د-        مصير الملائكة والإنسان.

         ‌ه-        طبيعة الروح.

        ‌و-        العناصر الأولية الجوهرية، طبيعة الملائكة والأبالسة.

        ‌ز-       معنى، مضمون، وأهمية الشريعة الملهمة.

       ‌ح-       الرمزية الفائقة والسامية للأعداد.

       ‌ط-       الأسرار المميّزة والمتضمنة في الأحرف البصرية.

3- أهم المؤلفات:

         ‌أ-         كتاب الإشراق The Book of Splendor

      ‌ب-      كتاب السرّ المكتوم، أو سرانية العرفان The Book of Concealed Mystery

       ‌ج-       كتاب الفيوض The book of Emanations

        ‌د-        توازن الإيجاب والسلب Equilibrium in Balance

4- تتمثل القبالة في فهم التطورات والمفاهيم الملحقة بـ "الله" Ein Sof، وبـ "الفيوض" ٍSefiroth  أي الصدورات أو الإنبثاقات. والحق إن فهم Ein Sof يعني فهم المعنى المتضمّن في الكينونة على نحو عام. وثمة تأكيد على أن هذا الفهم لا يتحقق إلا بفهم الرموز. أما مصطلح Ein Sof فإنه يفسَّر كما يلي: Ein أي اللاّمحدود، وSof أي نهاية أو حد. وهكذا يمثل Ein Sof إله القبالة الذي يرمز إلى الوحدة الكلية، الشاملة والمتجاوزة لأي إدراك.

وفي هذا الكيان اللامحدود، وهو الله، توجد جميع التعارضات، أي الأضداد الظاهرية، أي الأقطاب المتقابلة على نحو إسقاط الفروق أو الاختلافات القائمة بينها، وتحيا في سكينة أو وحدة تتجاوز الإتحاد أو التجمّع، وتتسامى على إمكانية أو احتمال وجود الفروق والاختلافات. في هذا المنظور، يعتقد القباليون أن Ein Sof هو اللاشيء الذي يتجاوز التعيين والتحديد، وهو العدم أي الوجود المحض-الخالي من الصفات. وهذا يعني أنه لا يتعين بمحدودات الوجود وصفات الأشياء، وبالتالي، لا يمكن سبر عمقه، ولا يمكننا أن نتحدث عنه أو نصفه، أو نشخّصه أو نصنفه أو نذكر أنه كيان أو لاكيان. وإن أقصى ما نستطيع أن نقول: إنه يوجد في لاوجوده، وإنه في لاوجوده يوجد. هذا، لأنه لا وجود روحي يتجاوز محدودية الوجود. هكذا، ننفي عنه الصفات والتحديدات على النحو التالي: لانهائي، لامحدود ولاموصوف. يعتقد القباليون أن Ein Sof سابق للإله الخالق. لذا، لا يمكننا تحديده بالزمان والمكان. وهذا يعني أن Ein Sof لم يكن خالق العالم المادي الذي أوجد الإنسان على صورته ومثاله. هذا، لأن Ein Sof هو ذاته... إنه امتلاء الفراغ أو الفراغ الممتلئ.

في هذا المنظور، لا نستطيع تشخيص Ein Sof. هذا لأن التشخيص لا ينطبق إلا على الفيض الأخير الذي أدى إلى وجود الخلق. وعلى هذا الأساس، نعلم أن Ein Sof لا يُعتبر الإله الشخصي أو الإله المتكلم. هذا، لأن أي كلام منسوب إلى Ein Sof ينطبق على إله الفيض الأخير، أي الإله الذي خلق العالم المادي. يمكننا أن نتحدث عن Ein Sof على النحو التالي: هو الحياة التي تسري في كل الفيوض. ومع ذلك، يبقى كيانًا أو كينونة Entity مستترة وغير مرئية. ويمكننا معرفة وجوده في الفيوض Sefiroth، إنما لا نستطيع فهمه. أما حياته وحركته داخل كيانه فإنها تؤدي إلى تدّرجات الفيوض Sefiroth وهذا يعني أن حياة Ein Sof التي نرمز إليها بالفاعلية، يمكننا اختبارها على نحو غير مباشر عبر، أو من خلال، حركات الفيوض والعلاقات المتداخلة بينها.

هكذا، يجدر بنا أن نقول، إن الله، وفق مفهوم القبالة، يتسامى على الإله الخالق المذكور في التوراة. هذا، لأن Ein Sof، أي الله، هو لاوجود بمعنى أنه كيان لا يتعيّن بحسب صفات الوجود، وتشخيصاته وتحديداته، وإذا كان عليه أن يخلق، فلا بد أن يخلق لاوجودًا مثله، أي كما هو، أي يخلق لاشيئًا، أي ما لا يمكن وصفه أو تشخيصه أو تحديده. وهكذا، يكون على نقيض إله التوراة، الإله الخالق الذي خلق العالم والأشياء والإنسان على صورته ومثاله. وهكذا، تتمثل الفعالية الوحيدة في Ein Sof في انبثاق شعاع من النور منه، وليس أكثر من ذلك. وتؤدي فعالية هذا الشعاع النوراني إلى وجود الفيوض. على سبيل المثال، يحدثنا القبالي اسحق لوريا Isac Luria عن فعالية Ein Sof، وهو الكيان اللانهائي، اللامحدود واللاموصوف، انسحب من حلبة الوجود وانطوى ضمن كيانه في كيانه، وترك ورائه، في ذلك الحيز الذي عيّنه على نحو ما هو، فراغًا نتيجة لانسحابه من الحيّز اللانهائي إلى جوهر أولي واحد لانهائي في صغره، هو جوهر الطاقة والقدرة المحض.

يتابع لوريا حديثه، فيقول: لو لم ينسحب الله Ein Sof ويقلّص نفسه في جوهر لامتناهي في الصغر لما وُجد حيّز أو مكان لفعالية تؤدي إلى إحداث التكوين. وعندئذ، انبثق من Ein Sof شعاع إلى المكان أو الحيّز المخلوق أو المكوَّن نتيجة لتقلّصه. وعلى سطح ذلك المكان أو الحيّز، وُجدت الشرارة الأولى للنور التي أدت إلى الفيوض. وهكذا، لا يمكن تحقيق الخلق إلا بحدوث تقليص وتركيز لكل الطاقات في مركز. وعندئذ، يحدث التوسّع. يمكننا أن نتمثل فعالية Ein Sof على النحو التالي: يسترد المتأمل الطاقات المعيّنة بحركة أعضاء الحس المشتت في العالم، ويركزها على مركز معيّن في جسده. وبعد ذلك، يوقظ المتأمل حزمة الطاقات الروحية الغافية في قاعدة العمود الفقري لكي يحررها. هكذا، تفعل الفيوض ضمن كيان Ein Sof.

يجدر بنا أن نتحدث عن فعالية Ein Sof على مستوى العقل الإنساني: تعد روح الإنسان جزءًا من Ein Sof أي من الوحدة المضمونة داخل كل إنسان على نحو كمون بالقوة، والمتجاوزة للبعد الإنساني. وهكذا تشير القبالة إلى العمليات التي يؤديها العقل الإنساني في أعمق أعماق مستواه حيث يندمج أو يتحد مع الروح الكلية.

يعتقد القباليون أن الفيوض غير منفصلة عن Ein Sof، هذا، لأن الفيوض تمثل الأعضاء النفسية لـ Ein Sof ومتى انبثقت إلى الوجود لن تعود قادرة على الانفصال عنه... إنها هو، كما أن أعضاء الجسد تمثل الجسد ذاته. وإذا كان العلماء يسعون إلى فهم سرّ الكون، أو سرّ الخلق، فإنما يعني أن سعيهم يتجه إلى معرفة الله Ein Sof. يجدر بنا، وقد بلغنا هذا المستوى من البحث، أن نسعى إلى المزيد عن الفيوض.

يعتقد القباليون أن الفيوض العشرة انبثقت عن أو فاضت من Ein Sof. لذا، لا يمكننا تسميته أو معرفته إلا بهذه الأنوار. لذا، يعرّف القباليون الفيوض بأنها كيانات أو وجودات مجردة يحدث، من خلالها، كل تغيير أو تعديل في الكون. ويعتقدون بأنها تتّسم بسمتين: سمة الثبات وعدم التغيّر، وسمة القدرة على إحداث أي تغيير أو تعديل. وإن أفضل سمة تتصف بها هي النور المنبثق من النور... إنها حاملات النور إلى الكون. وعلى هذا الأساس، نتحدث عن النور المنبثق من Ein Sof والنور القائم في الطبيعة.

هكذا، يكون النور الإلهي هو جوهر الله في ذاته، ويكون نور الطبيعة النور الذي يتجلّى لكل ما هو موجود. في هذا المنظور، يمكن لأحدنا أن يعاين سمة معينة من السمات العامة للفيوض، إنما المهم أن يعاين جميع السمات في اتحاد، أي جميع السمات في وحدة تأليفية. وإذا استطاع الإنسان أن يتعمق في معرفة العلاقات الوثيقة المتداخلة للفيوض العشرة، أو معرفة العمليات التي تقوم بها في العالم وفي ذاتها، يُصبح قادرًا على إدراك التألّق الكامل للنور في الطبيعة... هذا النور الذي يستمد منه العالم جوهر مادته.

في هذا المنظور، يعتبر النور في الطبيعة، كما تعتبر الفيوض، القوى الفاعلة في Ein Sof ذاته. وعلى هذا الأساس، يعتبر الخلق تطورًا خارجيًا لـ Ein Sof وتجليًا نعجز عن التعبير عنه... إنه حدث تمّ في وسط نتمكّن من معرفة آثاره.

هكذا، تتجلّى أنوار الفيوض. وهذا يعني أن الفيوض تكشف عن ذاتها في ثلاثيات ثلاثة، بحيث أن كل ثلاثية تمثل قيمة خاصة تمامًا كما كانت محتواة في Ein Sof على نحو كمون.

ترمز الثلاثية الأولى إلى الوظيفية الديناميكية لعملية فكرية سابقة لوجود العالم: إنها نموذج النمط البدئي، أي العملية الفكرية لله. أما الثلاثيتان الأخريان فإنهما تمثلان العمليات المقدسة لله Ein Sof في العالم. تشتمل الثلاثية الأولى على مخطط الكون كله، ويكمن فيها مفهوم الوحدة الكونية.

يعتقد القباليّون أن ظهور الثلاثية الأولى يمثل الاندفاع الأول لله باتجاه الظهور والتجلّي. ففي هذه الثلاثية الأولى، تكمن جميع الأقطاب المتقابلة، أي الأضداد الظاهرية، في اتحاد ودّي وسلمي يحتويه الانسجام. إنها توجد وتحيا في حالة من الانفصال الكامن أو الوجود بالقوة. ولا يتحقق التوازن بينها إلا بعد انبثاق الفيضين التاليين أي الثلاثيتين التاليتين إلى الوجود.

هكذا، تمثل الثلاثية الأولى التوازن على نحو قوة كامنة في نقطة الارتكاز. وبتعبير آخر، تعتبر هذه الثلاثية الأولى مركز الطاقة الروحية التي تتضمّن قدرة الأضداد، أي الأقطاب المتقابلة التي تحيا في سلام وسكينة الوحدة.

المرحلة الثانية: تشير هذه المرحلة التي تتمثّل في تطور العلاقة بين الأضداد، إلى الصراع، والنزاع، والتناقض والنقيض. في هذه المرحلة، تقف الأضداد مقابل بعضها في صراع مُعلن.

المرحلة الثالثة والأخيرة: تشير إلى علاقة الأضداد على نحو انسجام وتناغم. منهما يتعاونان في محبة على الرغم من تمايزهما.

هكذا، ترتبط الفيوض الثلاثة الأولى وإرادة التكوين مع بعضها على نحو ودّي بطرق عديدة. أما الفيض الثالث فهو الفيض الذي يكشف عمّا استتر في هذه الوحدة.

في هذا المنظور القبالي، نخلص إلى ما يلي:

1- في الثلاثية الأولى تتجلّى معالم المعرفة.

2- في الثلاثية الثانية تتجلّى قدرة الله الأخلاقية وتكتمل.

3- في الثلاثية الثالثة تبدأ ثنائية الذكورة والأنوثة الممثلة بآدم وحواء.

تمثل هذه الثلاثية الثالثة، على نحو رمزي العالم المادي في كثرة أشكاله، وتنوّع التعبير وكل حركة تحدث فيه.

أما الفيض العاشر، أي الملكوت، فإنه أنثوي في جوهره ومنفصل في طبيعته. وعلى نحو رمزي، يمثل النسخة المطابقة الأنثوية للألوهة... إنه الـ Shekinah أو السكينة التي، من خلالها، تعبُر النعمة الإلهية إلى العالم الأدنى.

يعتبر هذا العالم حصيلة التناقض في نوعية العوالم السابقة. هذا، لأن الفيض الأصلي، الذي استهل صدورها أي انبثاقها، يصبح أكثر كثافة. وهكذا، تتجمع التلوثات لتشكل هذا العالم الذي هو العالم المادي، عالم السلب الذي يحرّض على الشرّ. وهذا العالم هو عالم الطبيعة والوجود الإنساني. في هذا العالم، تحيا السكينة على نحو نقي بين الناس، وتتنافس الأرواح الشريرة بين بعضها للسيطرة على أرواحهم... (يتبع)

*** *** ***

الثلاثيات الثلاث

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود