«الأصول» التي تُعطّل الحياةَ... وتأسر العقول

أدونيس

 

(على هامش ما أثير حول حديثي في تلفزيون «ال بي سي»)

- 1 -

لكلّ ثقافةٍ «أصولها». غير أن أهمية هذه الأصول ليست في أن تبقى «ثابتة»، كما كانت في نشأتها، بل، على العكس، في قابليتها أو قدرتها على التكيف والتحول مع التغيرات الزمنية والتاريخية في جميع الميادين.

ويؤكد الحراكُ الثقافي والسياسي والاجتماعي في المجتمع العربي أننا نحن العرب، خلافًا لجميع الشعوب، منغرسون في أصولنا إلى درجةٍ لا تُعتقلُ فيها حياتُنا، وحدها، وإنما تُعتقلُ كذلك عقولنا.

هكذا أزداد يقينًا، منذ صدور كتابي الثابت والمتحول في مطلع سبعينات القرن الماضي، أنه يتعذّر فهم الجغرافية الاجتماعية الثقافية في المجتمع العربي، عملاً وفكرًا، إلا في ضوء فهمنا جغرافيته السماوية - الدينية، معتقدًا ومآلاً. ويتعذر، تبعًا لذلك، أي تغيير خلاقٍ على الأرض، إلا إذا تم التحرّر كليًا من القيود التي تفرضها الأصوليات، في مختلف أنواعها، على الحياة والفكر.

اللافتُ الغريبُ العجيبُ هنا هو أن جميع الحركات التي قامت في المجتمع العربي، باسم تمدينه وتحريره، على نظرياتٍ «ثوريّة» سياسية، أو «ثوريّة» فكرية، منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى اليوم، تحوّلت هي نفسها، في معظمها، إلى «أصولٍ» ثابتةٍ، كما لو أنها هي الأخرى أصولٌ «ميتافيزيقيّة - دينيّة». هكذا نبدو، نحن العرب، بعد حوالى خمسة عشر قرنًا، كأننا لم نخرج بعد من سرير طفولتنا الأولى.

- 2 -

من أين تجيء قوّة «الأصل»؟

من ضمور الطاقة الخلاقة أو ضعفها عند الإنسان؟ من الانشداد غريزيًّا ونفسيًّا إليه، بوصفه منشأً كاملاً، وماضيًا كاملاً ومثاليًا؟ أم من شيءٍ آخر يحتاج إلى تأمّلٍ طويلٍ وبحثٍ طويل؟

أَيًا كان الأمر، فنحن العرب ننظر إلى «الأصل» بوصفه رمزًا للوجود - الحياة، وللمصير - المعاد، وبوصفه موطن الحقيقة التي لا حقيقة بعدها، أو التي هي «أمّ» الحقائق جميعًا. ولهذا ينحصر معنى الواقع في كونه مجال اختبار لتطبيق الدلالات والمعاني التي ينطوي عليها هذا الأصل.

أولئك الذين قاموا بالحركات الثوريّة التي أشرت اليها، اتخذوا من فكر الثورة، كلٌ بحسب اتجاهه، «أصلاً» - لم يكن في العمق والممارسة، إلا شكلاً من أشكال الأصول الدينية. هكذا كان كلٌ منهم يرى أن «الخلاص» كامنٌ في الأصل الذي يؤمن به، ويدعو إليه، وليس الإيمان بغيره إلا طريقًا لا تؤدي بصاحبها إلاّ إلى «الجحيم». ربما نجد في ذلك ما يفسر صراع هذه الحركات، الذي كان صراع «تكفير» فيما بينها، لا صراعَ «تفكير» و«انفتاح» و«تآزرٍ» في المشترك المعلن بينها، وهو العلمانية والمدنيةُ على الأقل، وإنما كان صراع «إقصاءٍ وإلغاء». ربما نجد فيه كذلك ما يفسّر اقتتالها، الوحشي غالبًا، و«أكل» بعضها بعضًا، شأن «الفرق» الدينية.

وكما أن الضوء الذي ينبجس من جغرافية السماء هو، وحده، الذي يضيء، في نظر أصوليي الدين، جغرافية الأرض (البشر، الثقافة، القيم، العلاقات... الخ)، فإن ضوء «الثورة»، في نظر أصولييها، هو وحده الذي يبدد ظلمات العالم، ويحقق التقدّم.

وعلى هذا تتأسس الثقافة الأصولية (الدينية، والثورية): المسألة فيها ليست كيف نسأل ونفهم ونكتب، وإنما هي كيف نؤمن ونبشّر ونجتذب. القيمة هنا ليست في الشيء بحد ذاته، ليست «فكريّة» أو «فنيّة»، وإنما هي «تبشيرية». الدّين، الفكر، الفن - هذا كله يتحوّل في هذه الثقافة «الأصولية» إلى نوعٍ آخر من «المال»، أي إلى «وسائط» و«وسائل».

- 3 -

يفترض التفاعل بين «الأصل» و«الواقع» مسافةً بينهما يلغيها الفكر الأصولي، بشكليه الديني والثوريّ. ويُحلّ الأصل محل الواقع. هكذا تتحول ثقافة الأصل إلى أعمالٍ وأقوالٍ طقوسيّة تملأ ساحة الواقع، بحيث يحل «المشهد» محلّ الواقع.

يبدو الدّين، اليوم، مثلاً (لا في البلدان العربية - الإسلامية، وحدها، وإنما في العالم كله، تقريبًا)، كأنه ليس تجربة روحية - إنسانية، تجربة أعماقٍ وكشوفات وإبداعات في المجالات الإنسانية - اللاهوتية، وإنما هو، على العكس، نشاطات مشهديةٌ - طقوسية، أو هو ميدانٌ للقيام بمثلها، كما هو الشأن في الثورات السياسية والفكرية. لا نرى في الحالين إلا «الأعيادَ» و«الأعراس» و«الولائم» و«المسارح» ولا نرى وراء ذلك إلا إرادة السلطة. لا نرى أي تأمّلٍ كياني في الإنسان والوجود، وفي أحوالهما وأسرارهما، أو أيّ تطلّعٍ إلى تحقيق مزيدٍ من الكشف المعرفيّ.

- 4 -

يعتقد الأصوليون أن «الأصل» لا يتجدّد، ذلك أنه هو نفسه التجدّد، كما يعتقدون أيضًا. وهذا يعني أن «الأصل» ثابت، يشعّ ويضيء. يدور التاريخ حوله بوصفه بدءًا له، وبوصفه مركز الكون.

لكن، كيف لا يعي الأصوليون أن الأصلَ يتضمن بُعد الممارسة حتى في نشأته وتكوّنه؟ والممارسة تاريخ. والتاريخُ تغيُّرٌ متواصلٌ بوصفه سيرورةً للتعاقُبِ والتحوّل. هكذا يتحول «الأصل» في الممارسة إلى «صورة» أو صُورٍ، تبعًا للجماعات ونزاعاتها وتناقضاتها وسياساتها. بل إن الأصل في الممارسة «ينشق»، وفي هذا الانشقاق ما يُضيء نشوء العنف والطغيان في صراع الجماعات من أجل أن تفرض كلٌ منها ممارستها الخاصة، أو انشقاقها الخاص، وفهمها الخاص لهذا الأصل. ولا يحلّ هذه المسألة اللجوء إلى «التكفير» المتبادل، أو «النبذ» و«التهميش» المتبادلين. القتل الفرديّ أو الجماعي هو نفسه كذلك لا يحلّها. الحرب هي كذلك ليست حلاً. وهذا ما تؤكده التجربة التاريخية.

لا حلَّ إلا في الحريّة وبالحرية.

دون هذا الوعي، ستظلّ الثقافة الأصولية تدفع البشر إلى العيش والعمل والتفكير خارج الواقع الإنساني الموضوعي، وإلى إحلال الاستيهام محلّ الواقع. وستظلّ تحرّكهم لكي يتظاهروا بأن ما يملكونه حقًّا ليس ملكًا لهم، أو بأنهم على العكس يملكون ما لا يملكونه حقًّا.

إضافةً إلى هذا كله، أو بفعله، نُلاحظ في الكتابات الأصولية أن الله مجرّد «لفظة» وليس فكرةً، وأن الواقع هو كذلك لفظةً لا فكرة. وهو ما نراه عند الأصوليات الثوريّة التي حوّلت الثورة نفسها إلى مجرد «لفظة».

هذا العقل في شقيهِ «الديني - الأصولي»، و«الثوري - الأصولي»، آخِذٌ في تحويل «الأصول» إلى معتقل، وتحويل العقل إلى مجرد آلةٍ عمياء.

- 5 -

يتأكّد، في ضوء ما تقدم، وفي ضوء التجربة التاريخية، أو الوقوف عند الجوانب السياسية، وحدها، في الحركات الأصولية، وبخاصةٍ ما اتصل منها بالعنف والإرهاب، أمرٌُ يكشف عن مسألتين: الأولى، تتمثّل في فهم الأصولية فهمًا ضيّقًا، ومحدودًا، وناقِصًا.

والثانية، تتمثّل في استمرار الفكر العربي المعاصر في عزوفه، بحجةٍ أو بأخرى، عن مجابهة الأصولِ والأسس التي بُني عليها المجتمع العربي، واستمراره في معالجة القضايا الإنسانية العربية، معالجةً أفقية، سطحيّة، وذات طابعٍ «دينيّ - تبشيريّ».

في هذا المنظور، يمكن القول إن الفكر العربيّ الحديث الذي يتصدّى لبناء مجتمع عربي حديث، مدنيّ وعلمانيّ، إنما هو، باستثناءاتٍ قليلة ونادرة، جزءٌ من مشكلات هذا المجتمع، أعني أنه «أصوليةٌ» أخرى، و«قيدٌ» آخر، و«حجابٌ» آخر.

- 6 -

هكذا، يُمثّل الواقع العربي، اليوم، على الصعيد الفكريّ، حالةً ثقافيةً عربيّة لم يعرفها العرب، سابقًا. فهو، من جهةٍ، «واقعٌ» لا يُدرك إلا من حيث أنه «خيال». وهو، من جهةٍ ثانية، «خيالٌ» لا يُدرك إلا من حيث أنه «واقع».

إنه خريطةٌ ترسمها وتُعيدُ رسمها رِيشةُ السّديم.

- 7 -

فلسطين قلبُ هذه الخريطة، وحبرٌ من محابر هذا السّديم: حبرٌ خاصٌ، غريبٌ أليفٌ، ملتبسٌ واضح. وهو إلى ذلك ساخرٌ وتراجيدي في آن.

دم فلسطين يتدفّق:

أمّا العين فلا تراه، وإنما ترى «السلطة» و«الرّاية» و«الكرسيّ».

وأما اللغة فلا تلامِسُ إلا «المظهر»، ذلك «السلاحَ» السّاهر الحارس، في مختلف ثيابه وقُبَّعاته،

وأمّا الآراء - الأحكام فلا تقتربُ من الشيء في ذاته، بما هو وكما هو، وإنما تقف عند حدود «استخدامه» و«الإفادة» منه، و«وظيفته»، في «لغاتٍ» فائضة،

في شهواتٍ لاقتناء ما لا حاجة له،

في «اختراع» غاياتٍ تفيض هي الأخرى عن الغاية الحقيقيّة، و«تمحوها»،

في «واقع» ليس إلا رُكام ألفاظٍ حول الموت الفلسطيني - العربيّ، اليومي، المتواصل منذ أكثر من نصف قرن.

- 8 -

العرب، اليوم، في ظلّ هذا «الواقع» يعيشون في فراغٍ «واقعي». فراغٌ يمكن أن يفسّر، إلى حدٍّ، يقظة الاستيهام، والاستِسلاف، والأصل. ففي ذلك ما يتيح التوهم بأنّنا نمتلكُ بأحلامنا ما أضاعته أيدينا.

لكن هذه اليقظة محكومةٌ، قطعًا، بأن تكون يقظةً - فراغًا، بوصفها نوعًا من العودة إلى الوراء. كلّ عودة إلى الوراء ارتكاسٌ. أو هي شكلٌ من أشكال السقوط يُشبّهُ لنا، لضعفنا وفقرنا، أنه شكلٌ من الصعود.

يصير التوهّم الجمعي هو نفسه الحقيقة، وتصير الألفاظ هي نفسها المعرفة. وتصير الخصوصية الفرديّة، خروجًا وهرطقة.

العماءُ، وفقًا لمنطق هذا «الواقع»، يجب أن يكون شاملاً وكليًّا.

هكذا يفرغ الواقع من واقعيّته ويتحوّل إلى «صورةٍ»، تتماهى مع «الأصل»: «صورة» تنطوي على كلّ شيء، وتجيبُ عن كل شيء. ولئن كان «الأصل» أجاب في الماضي، كما يعتقد الأصوليون، فلا بُدّ، إذًا، من أن تجيب «صورته» عن الحاضر وعن المستقبل.

ولا يكون الواقع مرجعًا أو معيارًا. على العكس، تصبح الصورةُ - الأصل، المرجعَ والمعيار، لا في السياسة وحدها، وإنما كذلك في الثقافة، علومًا وآدابًا وحقوقًا وقيمًا.

ولا يعود الحلُّ يُلتمسُ في ما هو أو في من هو «حاضِرٌ» «حيّ» في مُجمل شروطه، وإنما يُلتمسُ، على العكس، في «الغائب» وفي «الغياب» خصوصًا، في «الأبطال» الذين ماتوا. لا يعود الحلّ، بعبارة ثانية، موجودًا في الحياة، بل في الموت. ذلك أنّ الموت هو وحده الذي يوحّد بين «الصورة» و«أصلها» ويوحّد بين «الجمع»، من جهة، والصورة - الأصل، من جهةٍ ثانية، خالِقًا في الحالين «وهمَ» الحلّ.

- 9 -

الصورة - «الأصل»، البطل - «الأب»، هو دائمًا، تبعًا لمنطق هذا «الواقع»، «آخر» الأبطال، سواءٌ كان سياسيًّا أو قائدًا أو شاعرًا، و«آخر» العظماء. وما أكثر «آخر العظماء» في تاريخنا العربيّ الحديث.

هكذا، تحلّ في المجتمع العربي الصورةُ - الأصل محلّ الواقع، متضمنةً الحقائقَ كلّها - لا جانبها الغيبيّ وحده، وإنما كذلك جانبها «الواقعي»، الإنسانيّ. صورة - أَصلٌ: ثنائيٌ ينظر اليه، بوصفه مُتعاليًا حتّى في مُحايثتهِ. ومعنى ذلك أن الحياة تكونُ تجسيدًا لهذا الثنائيّ، أو لا تكون إلاّ باطِلاً. لا يعود الكلام ذا معنى إلاّ بدءًا من هذا الثّنائيّ: انطلاقًا منه، واستنادًا إليه، تحقيقًا لاستيهاماتِ الجمع والجماعة.

والحق أن الكتابة العربية الراهنة، بمختلف تجلياتها، وباستثناءاتٍ نادرة، لا تقيم علاقاتها مع الواقع، بقدر ما تقيمها مع هذه الاستيهامات.

وفقدان الواقع الذي يحجبه هذا الثنائيّ هو، بمعنى ما، فقدانٌ للذات.

- 10 -

الأصولي «الدّيني» و«الثوري»، إذًا، مأخوذٌ بتكوين الفرد المتبع، المقلّد، بتكوين الشبيه والقرين و «المثل»:

ثقافيًّا، يعمل القائد الأصوليّ على إنتاج الفكر المُماثِل،

فيزيولوجيًّا، يعمل «الأب» الأصوليّ على إنتاج الابن الذي ينشأ، مثله «أبًا»، لا ابنًا.

تناسُلٌ ثقافي يتم بنوعٍ من «الانشطار» الفكريّ،

وتناسُلٌ فيزيولوجي يتمّ بنوعٍ من الانشطار الخلويّ،

ولا مكان هنا للأنثى إلا بوصفها رحِمًا.

إنكارٌ كاملٌ لكل تعدديّةٍ، ولكل اختلاف.

كأنها ثقافة استنساخٍ من نوعٍ آخر. وكأن التراث مجردُ «شيفرةٍ» وراثية.

حقًّا، المشكلة العربية الأساسية، من هذه الزاوية، هي، في المقام الأول، فكريّة - ثقافية.

وكلّ فكرٍ أو أدبٍ لا يُواجه حتّى الزَّلزلة، ذلك الثنائي، فكرٌ أو أدبٌ لا يُعوّل عليه. ولن يكون إلاّ جزءًا من المعضلة.

الخميس، 10 سبتمبر 2009

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود