هل الإلحاد إحدى طرائق تشكُّل الإيمان؟

 

حمزة رستناوي

 

تأتي هذه المقالة استكمالاً لمقال سابق منشور في معابر تحت عنوان مقالة في الشكل الإلهي[1]، وهي تحاول الإجابة على التساؤل التالي: إذا كان الإيمان بالله – الإلوهية – شكلاً وطريقة تشكُّل، فماذا يكون الإلحاد وإنكار الإلوهية؟

الإلحاد atheism، في أبسط تعاريفه، هو إنكار وجود الله أو الآلهة، أي أن الله، وفقًا للملحدين، غير موجود. والإيمان faith على النقيض منه يقوم على التسليم بالإيمان، بناء على أسباب شخصية ذاتية، بوجود الله.

وإذا سلَّمنا أن الإيمان بالله ليس جوهرًا بل هو شكل، طريقة تشكل للإيمان، وهو كذلك صيرورة حركية احتمالية نسبية؛ وأن هناك طرائق تشكُّل تختلف بين إيمان وإيمان آخر؛ وأنه لا يوجد إيمان شخص يطابق إيمان شخص آخر، بل إن هذا الإيمان يختلف بين لحظة ولحظة عند نفس الشخص؛ فإن الإلحاد يمكن اعتباره إحدى طرائق تشكُّل الإيمان، وهو طريقة تشكُّل بالنفي، فإحدى الاحتمالات الممكنة للإيمان بالله هي نفي الإيمان، مثلما أن إحدى طرائق التشكُّل الكمّية للتفاحات هي وجود تفاحة واحدة، اثنتان، صفر تفاحة.

والإلحاد يتماثل مع الإيمان في كونه شكل، وطريقة تشكُّل، وصيرورة حركية احتمالية نسبية؛ فلا يتطابق إلحاد شخصين في الوجود مثلما لا يتطابق إيمان شخصين في الوجود. الإلحاد صيرورة تاريخية إذ لا يولد الإنسان ملحدًا، وعلينا تفهُّم الإلحاد ضمن سياقات طرائق تشكُّل الكينونة المختلفة. المؤمن قد يتحول إلى ملحد والعكس كذلك.

أحد أكثر الأدعية، في العقد الفئوي الإسلامي، تكرارًا على لسان المؤمنين يؤكد الصيرورة التاريخية للإيمان والكفر: "اللهم، يا مقلب القلوب، قلب قلوبنا على دينك، وأرنا الحق حقًا، وأرزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وأرزقنا اجتنابه". وكذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس: "... فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".

* * *

ومثل الإلحاد كمثل الإيمان أمر نسبي، فالنظر إلى الملحد يختلف بين إنسان وآخر، ومجتمع وآخر. ومفهوم الإلحاد، بحدِّ ذاته، متبدِّلٌ تبعًا للبعد الزمكاني وسياقات التشكُّل الثقافية.

وينبغي التمييز هنا بين الإلحاد كإنكار لوجود الله أو الآلهة، وبين طرائق التشكُّل المختلفة التي ينظر بها البشر إلى الله، رغم أنه، على نطاق واسع وشعبي، يتمُّ الخلط بينهما. فمن ينكر وحدانية الله هو مشرك، ومن ينكر قدرته هو معطّل. ومن ينكر انفصال الله عن خلقه هو قائل بوحدة الوجود. وكل ما سبق ليس سوى طرائق تشكُّل للإيمان.

إن الإلحاد هو إحدى طرائق التشكُّل الكمّية لله "الآلهة" بينما الشرك، وما يوصف بـ"الكفر" هو إحدى طرائق التشكُّل النوعية "صفات وخصائص". ولكن كلاهما ليسا سوى طرائق تشكُّل للإيمان بالله، وليس لله.

وكل معلوماتنا – نحن البشر – عن الله والإلوهية تقوم على مبدأ قياس الغائب على الشاهد، ولا يخفى القصور الذي يعتري هذه النظرة.

والإلحاد في اللغة هو "الميل عن القصد والعدول عن الشيء"، وكثيرًا ما يلتبس، على الصعيد الشعبي، بين الإلحاد والكفر، فيتم نعت، على سبيل المثال، كلٍّ من سقراط، أفلاطون، ابن رشد، ابن سينا، أبي العلاء المعري، السهروردي، الحلاج بالإلحاد؟!

والإلحاد تحول في الثقافة العربية الإسلامية إلى حكم قيمة، وليس إلى حكم وجود فقط، رغم أنه، بحدِّ ذاته، ليس أكثر من توصيف (لمنكري القول بوجود بالله "الآلهة"). وربط الإلحاد بحكم قيمة سلبية هو تعميم لمرجعية غير برهانية، فالإلحاد، كموقف معرفي، غير ملزم للآخرين برهانيًا ومنطقيًا مثلما أن الإيمان كذلك. وقد ميز المعجم الفلسفي بين الإيمان واليقين، فالإيمان "تسليم النفس بالشيء تسليمًا راسخًا لا تقل قوته، من الناحية الذاتية، عن قوة اليقين، والفرق بينه وبين اليقين هو أن اليقين مستند إلى أسباب موضوعية، في حين أن الإيمان مبني على أسباب شخصية ذاتية. وما كان اقتناعك به مبنيًا على أسباب ذاتية فإنه من الصعب عليك إقناع غيرك به"[2].

وفي ورقة لاحقة سوف نقوم بمقاربة صلاحيات الإيمان آخذين بعين الاعتبار كون الإلحاد إحدى طرائق تشكُّل الإيمان ليس إلا.

*** *** ***


 

horizontal rule

[2] المعجم الفلسفي، جميل صليبا، دار الكاتب العربي، ص 187.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود