الصفحة التالية

الاقـتـلاع٭ 1
اقتلاع العمال

سيمون ﭭـايل

 

ربما يكون التجذُّرُ الحاجةَ الأهمَّ والأكثرَ تجاهلاً من بين حاجات النفس البشرية. وهي واحدة من بين أصعب الحاجات على التعريف. يكون للكائن الإنساني جذرٌ من خلال مشاركته الحقيقية والفاعلة والطبيعية في الوجود الخاص بجماعةٍ تحافظ على بعض كنوز الماضي وهواجس المستقبل حيةً. هذه المشاركةُ طبيعية، بمعنى أنَّ المكان والمولد والمهنة والمحيط الاجتماعي يفرِضها بصورة آلية. يحتاج كلُّ كائن إنساني إلى أنْ تكونَ له جذورٌ متعددة. يحتاج إلى أنْ يتلقَّى تقريبًا كاملَ حياتِه النفسية والفكرية والروحية عن طريق الأوساط التي ينتمي إليها بطبيعته.

ليست التأثيراتُ المتبادَلةُ بين الأوساط المختلفة جدًا أقلَّ ضرورةً من التجذُّر في المحيط الطبيعي. ولكنْ ينبغي على وسط محدَّد أنْ يتلقَّى التأثيرَ الخارجيَّ ليس بوصفه إسهامًا بل بوصفه حافزًا يجعل حياتَه الخاصة أغنى. ينبغي عليه ألاَّ يتغذَّى بالإسهامات الخارجية إلاَّ بعد أنْ يهضمَها، وينبغي على الأفراد الذين يؤلِّفون هذا المحيطَ ألاَّ يتلقَّوها إلاَّ من خلاله. عندما يذهب رسَّامٌ ذو شأن حقيقي إلى متحف فإنَّ أصالتَه ستتعزَّز بذلك. ينبغي أنْ يكونَ الأمرُ كذلك فيما يخصُّ مختلفَ سكَّان الكرة الأرضية ومختلفَ الأوساط الاجتماعية.

يكون هناك اقتلاع كلما كان هناك غزوٌ عسكري، وبهذا المعنى يكونُ الغزوُ شرًّا دائمًا تقريبًا. ويكون الاقتلاع في أدنى درجاته عندما يكون الغزاةُ مهاجرين migrateurs يستقرُّون في البلد المغزوِّ ويختلطون بالسكان ويتجذَّرون بأنفسِهم. كانت تلك هي حالة الهيلينيين Hellènes في اليونان والكلتيين [الكلت أو القلت أو السلت] Celtes في غالية Gaule والمورو أو المور [الأمازيغ أو البرابرة أو الموريسكيين] Maures في إسبانيا. ولكنْ عندما يبقى الغازي أجنبيًا في الأرض التي يستولي عليها فسيكون الاقتلاع مرَضًا شبهَ قاتلٍ للسكَّان الخاضعين. ويبلغ أعلى درجة له عندما يكون هناك اعتقالات على نطاق واسع، كما حصل في أوروبا التي احتلَّتْها ألمانيا أو في منعطف النيجر la boucle du Niger، أو عندما يكون هناك إلغاء وحشي لجميع الموروثات المحلية، كما في المستعمرات possessions الفرنسية في أوقيانوسيا Océanie[1] (إذا كان علينا أنْ نُصَدِّقَ غوغان Gauguin[2] وآلان جيربو Alain Gerbault[3]).

وحتى بدون غزو عسكري، يمكن لسلطة المال والسيطرة الاقتصادية أنْ تفرِضا تأثيرًا أجنبيًا إلى درجة التسبُّب بمرض الاقتلاع.

أخيرًا، قد تكون العلاقاتُ الاجتماعيةُ داخلَ البلد الواحد عواملَ اقتلاعٍ خطيرةً جدًا. ففي أقطارنا حاليًا، إذا وضَعْنا الغزوَ الأجنبيَّ جانبًا فإنَّ هناك نوعين من السم يجعلان هذا المرَضَ يتفشَّى. الأولُ هو المال. فالمالُ يقضي على الجذور أينما دخلَ، من خلال وضعِه لرغبة الربح مكانَ جميع الدوافع. فهو يتغلَّب بدون عناء على الدوافع الأخرى لأنه يتطلَّبُ جهدَ انتباهٍ أقلَّ بكثير. فلا شيءَ أوضح ولا أسهل من الرَّقَم.

اقتلاع العمال

هناك ظرف اجتماعي معلَّق كاملاً ودائمًا بالمال، ألا وهو الأجور، خاصةً منذ منذ أنْ أَجبرَ الأجرُ على القطعة كلَّ عامل على تركيز اهتمامه دائمًا على عد الفلوس. في هذا الظرف الاجتماعي تحديدًا، يصبح مرضُ الاقتلاع أكثرَ حِدَّةً. وقد كتبَ برنانوسُ Bernanos[4] بأنَّ عمالَنا ليسوا مع ذلك مغتربين كعمال السيد فورد M. Ford[5]. الصعوبة الاجتماعية الرئيسية في عصرنا تأتي من أنَّ العمال هم كذلك بمعنىً ما. فعلى الرغم من أنهم يظلُّون جغرافيًا في مكانهم، إلاَّ أنهم معنويًا مقتلَعين ومنفيِّين ثم مقبولين من جديد، كأنه عن تسامح، بصفتهم أجسادًا نُذِرَتْ للعمل. البطالة هي، طبعًا، اقتلاعٌ من الدرجة الثانية. فلا هُمْ في بيوتهم ولا في المصانع ولا في مساكنهم ولا في الأحزاب والنقابات التي يُزعَم أنها أُنشِئتْ من أجلِهم ولا في أماكن الترفيه ولا في الثقافة الفكرية إذا ما حاولوا استيعابَها.

لأنَّ عامِلَ الاقتلاعِ الثاني هو التثقيف كما نتصوَّرُه اليوم. فقد أدَّت النهضةُ في كل مكان إلى قطيعة بين المثقَّفين والعامَّة؛ ولكنها بفصل الثقافة عن التراث الوطني كانت تغرِس الثقافةَ على الأقل في التراث اليوناني. منذ ذلك الحين، لم تتجدَّد الروابطُ مع الموروثات الوطنية، ولكنْ أصبحَت اليونانُ طيَّ النسيان. نتجَ عن ذلك ثقافةٌ نَمَتْ في وسط ضيِّق جدًا ومنفصل عن العالَم، في بيئة مغلقة، ثقافةٌ متَّجهةٌ كثيرًا نحو التكنولوجيا ومتأثِّرةٌ بها، تَشُوْبها البراغماتيةُ كثيرًا ويُجَزِّئها التخصُّصُ إلى أبعد حد، مجرَّدةٌ تمامًا من التواصل مع هذا العالَم ومن الانفتاح على العالَم الآخر في الوقت نفسِه.

في أيامنا هذه، يمكن للمرء أنْ ينتميَ إلى الأوساط التي تُدْعَى مثقَّفةً بدون أنْ يكونَ لديه أيُّ تصوُّر عن المصير الإنساني من جهةٍ وبدون أنْ يعرِفَ على سبيل المثال أنَّ جميعَ الكَوكبات [مجموعات النجوم] constellations لا تُرى في جميع المواسم من جهة أخرى. عادةً ما نظنُّ أنَّ فلاَّحًا صغيرًا اليوم، طالبًا في المَدْرسة الابتدائية، يعرِف عن ذلك أكثرَ من فيثاغورس، لأنه يردِّد بهدوءٍ أنَّ الأرض تدور حول الشمس. ولكنه في الواقع لا ينظر أبدًا إلى النجوم. فهذه الشمسُ التي يكلِّمونه عنها في الصف ليس لها عنده أيةُ علاقة مع الشمس التي يراها. فهو يُنتزَع من الكون المحيط به كما يُنتزَع صغارُ الـﭙـولينيزيين من ماضيهم من خلال إجبارهم على تكرارِ [عبارة]: "كان لأسلافنا الغاليِّين شَعرٌ أشقر."

إنَّ ما نسميه اليومَ تثقيفَ الجماهير يعني أنْ تؤخذَ هذه الثقافةُ الحديثةُ التي أُعِدَّتْ في وسط مغلَق جدًا وفاسد جدًا ولامبالٍ بالحقيقة إلى أبعد حد ويُنزَع منها كلُّ ما يمكن أنْ يبقى فيها من ذهب خالص، وهي عملية يسمونها التعميم [التبسيط] vulgarisation وتُحشَى الفُضالةُ كما هي في فُرْن ذاكرةِ المنحوسين الذين يرغبون في التعلُّم، كما تُعطَى الطيورُ طعامًا ملءَ مناقيرِها.

ثم إنَّ الرغبة في التعلُّم من أجل التعلُّم، الرغبةَ في الحقيقة، أصبحَتْ نادرةً جدًا. فقد أصبحَت مكانةُ الثقافةِ مكانةً اجتماعيةً بصورة خاصة تقريبًا، سواء عند الفلاَّح الذي يحلم بأنْ يكونَ له ابنٌ مُدَرِّس أو عند المُدَرِّس الذي يحلم بأنْ يكون له ابنٌ خِرِّيج المَدْرسة العليا للأساتذة[6] وسواء عند الناس الذين يتملَّقون للعلماء والكُتَّاب المشهورين.

تمارِسُ الامتحاناتُ على شباب المدارس سُلْطةَ الهوَس نفسَها التي تُمارِسُها الفلوسُ على العمال الذين يعملون بالقطعة. يصبح النظامُ الاجتماعيُّ مريضًا مرضًا شديدًا عندما يعمل الفلاَّحُ في الأرض حاملاً فكرةَ أنه إذا كان فلاَّحًا فذلك لأنه لم يكنْ ذكيًا بما يكفي لكي يصبحَ مُدَرِّسًا.

إنَّ مزيجَ الأفكار الغامضة والخاطئة إلى حد ما والذي عُرِفَ باسمِ الماركسية، ذلك المزيج الذي قلَّما شاركَ به منذ ماركس أحدٌ سوى مفكِّرين ليسوا ذوي شأن، هو إسهام غريب تمامًا عن العمال ولا يمكنهم هضمُه، إضافةً إلى أنه في ذاته مجرَّد من القيمة الغذائية، لأنهم أفرَغوه من الحقيقة كلِّها تقريبًا التي تضمَّنَتْها كتاباتُ ماركس. وأضافوا إليه أحيانًا تعميمًا علميًا ذي نوعية أدنى أيضًا. مجموعُ ذلك لا يمكنه إلاَّ أنْ يجلبَ اقتلاعَ العمال في ذروته.

الاقتلاع هو مرَض من أمراض المجتمعات البشرية أخطر بكثير، لأنه يزداد من تلقاء نفسه. وليس للكائنات المقتلَعة اقتلاعًا حقيقيًا سوى سلوكَين ممكنَين، إلاَّ ما ندَر: إمَّا أنْ تسقطَ في عطالة نفسية معادِلة تقريبًا للموت، مثل غالبية العبيد في عصر الإمبراطورية، وإمَّا أنْ تندفعَ في نشاط ينزع دائمًا إلى أنْ يقتلعَ، بالطُّرُق الأعنف غالبًا، أولئك الذين لم يُقتلَعوا بعد أو الذين اقتُلِعوا جزئيًا.

كان الرومانُ ثُلَّةً من الفارِّين الذين تجمَّعوا في مدينةٍ تجمُّعًا مصطنَعًا؛ وحَرَموا سكانَ حوض المتوسط من حياتهم الخاصة ومن وطنهم ومن تراثهم ومن ماضيهم إلى درجة أنَّ الأجيالَ القادمةَ ظنَّتْهم، بناءً على كلامهم، مؤسِّسي الحضارة على تلك الأراضي. وكان العبريون عبيدًا هاربين، وقد أبادوا جميعَ سكان فلسطين أو استعبدوهم. وكان الألمانُ، في الحقيقة، عندما سيطر عليهم هتلرُ، وكما كانوا يردِّدون باستمرار، أُمَّةً من البروليتاريين [الكادحين]، أيْ: أُمَّةً من المقتلَعين؛ فقد جلبَ لهم ذلُّ عام 1918 والتضخُّمُ والتصنيعُ المفرِطُ والخطورةُ القصوى لأزمة البطالة بصورة خاصة مرضًا أخلاقيًا إلى درجة شديدة أدَّت إلى اللامسؤولية. وكان الإسبانُ والإنكليزُ الذين قَتَلوا سكانًا خِلاسيين [مُلَوَّنين] ابتداءً من القرن السادس عشر كانوا مغامرين لا يكادون يتواصلون مع الحياة العميقة لبلادهم. كذلك الأمر بالنسبة لجزء من الإمبراطورية الفرنسية التي تشكَّلَت مع ذلك في عصر كانت فيه حيويةُ التقاليد الفرنسية قد ضَعُفَتْ. فمن اقتُلِعَ يقوم بالاقتلاع. ومن كان متجذِّرًا لا يقوم بالاقتلاع.

تحت اسم الثورة نفسِه، وغالبًا تحت شعاراتٍ ومواضيعَ دعائيةٍ مماثلة، يختبئ مفهومان متعارضان تعارضًا تامًا. الأول يقوم على تحويل المجتمع بحيث يتمكَّنُ العمالُ من أنْ يكونَ لهم جذورٌ فيه؛ والثاني يقوم على نشر مرض الاقتلاع الذي فُرِضَ على العمال وذلك في كل المجتمع. ينبغي ألاَّ نقولَ أو نفكِّرَ بأنَّ العمليةَ الثانيةَ يمكنها أبدًا أنْ تكونَ تمهيدًا للأولى؛ فذلك خطأ. إنهما اتِّجاهان متعارضان، لا يلتقيان.

المفهومُ الثاني أكثرُ شيوعًا اليومَ من المفهوم الأول بين المناضلين وبين جماهير العمال في الوقت نفسه. ومن البديهي أنْ يَنزِعَ إلى التغلُّب أكثرَ فأكثر كلما امتدَّ الاقتلاع وازداد فتكًا. ومن السهل أنْ نفهمَ أنَّ الشرَّ يمكنه من يوم إلى آخر أنْ يصبحَ غيرَ قابل للإصلاح.

فيما يخصُّ المحافظين، هناك التباسٌ مشابه. في الواقع، يرغب عددٌ قليلٌ في إعادة تجذُّر العمال؛ وتترافقُ رغبتُهم فقط بِصُوَرٍ أغلبُها، بدلاً من أنْ يكونَ متعلِّقًا بالمستقبل، يُستمَدُّ من ماضٍ جزءٌ منه وهميٌّ أيضًا. ويرغب الآخرون ببساطةٍ في أنْ يحافظوا على الظروف ذات الطابع الإنساني والتي تُختزَل الطبقةُ الكادحةُ فيها أو في أنْ يزيدوها.

وحتى أولئك الذين يرغبون في الخير حقًا، وقليلٌ ما هُمْ أساسًا، يَضعُفون أيضًا بانقسامهم إلى معسكَرَينِ متعادِيَين لا يشتركان في شيء.

إنَّ سقوط فرنسا المباغِت، والذي فاجأَ الجميعَ في كل مكان، قد أظهر ببساطة إلى أية درجة كانت البلاد مقتلَعة. فالشجرة التي تكون جميعُ جذورها تقريبًا منخورةً تسقط عند أول صدمة. وإذا كانت فرنسا قد قدَّمَت مشهدًا أكثرَ إيلامًا من أي بلد آخر في أوروبا فذلك لأنَّ الحضارة الحديثة بسمومها كانت قد استقرَّت فيها قبل أنْ تستقرَّ في أي مكان آخر، باستثناء ألمانيا. ولكنْ في ألمانيا كان الاقتلاع قد اتَّخذَ الشكْلَ العدوانيَّ، وفي فرنسا اتَّخذَ شكْلَ السُّبات والغيبوبة. يُعْزَى الفرقُ إلى أسباب خفية إلى حد ما، ولكنْ يمكننا العثورُ على بعضها بلا شك إذا ما بحثْنا. على العكس، فإنَّ البلد الذي صمدَ أفضلَ صمود بما لا يقارَن أمام أول موجة من الرعب الألماني هو البلد الذي كان فيه التُّراثُ أكثرَ حيويةً وأفضلَ حمايةً، أيْ: إنكلترا.

في فرنسا، أوصلَ اقتلاعُ الظرف البروليتاري جزءًا كبيرًا من العمال إلى حالة خمول لا حياةَ فيه وألقى جزءًا آخرَ في حالة حرب ضد المجتمع. فالمالُ الذي كان قد قطعَ الجذورَ بوحشيةٍ في أوساط العمال هو نفسُه الذي قضمَ هذه الجذورَ في الأوساط البرجوازية، لأنَّ الثروة لا وطنَ لها cosmopolite؛ فالتعلُّق الضعيف بالبلد والذي كان من الممكن أنْ يبقى فيها بدون أنْ يتأذَّى قد طغى عليه طغيانًا كبيرًا، وخاصة منذ عام 1936، الخوفُ من العمال وكراهيتُهم. وكان الفلاَّحون، همْ أيضًا، شِبْهَ مقتلَعين منذ حرب عام 1914، يُحبِطُهم الدَّورُ الذي كانوا قد لعبوه وهو دَور العتاد البشري، يُحبِطُهم المالُ الذي كان يأخذ من حياتهم جزءًا يتزايد باطِّراد على الدوام ويحبِطُهم احتكاكٌ متكرِّر كثيرًا مع فساد المدن. أمَّا العقل فيكاد يكون منطفئًا.

وقد أخذَ هذا المرضُ العام للبلد شكْلَ نوعٍ من النوم الذي هو وحدَه منعَ الحربَ الأهلية. لقد كرهَتْ فرنسا الحربَ التي كانت تُهدِّدُ بمنعها من النوم. فبعدما كادت أنْ تنهكَها الضربةُ الفظيعةُ في أيار/مايو وفي حزيران/يونيو عام 1940، ارتمَتْ بين ذراعَي ﭙـيتان Pétain لكي تتمكَّنَ من مواصلة النوم في مظهر من الأمن. منذ ذلك الحين، حوَّلَ اضطهادُ العدوِّ هذا النومَ إلى كابوس مؤلم إلى درجة أنها اضطربَتْ وانتظرَت بقلقٍ المددَ الخارجيَّ الذي سيوقظها.

بلغَ مرضُ الاقتلاع في كل أوروبا بفعل الحرب شدةً تجعلنا نرتعب منه رعبًا مبرَّرًا. إنَّ المؤشر الوحيد الذي يعطي بعضَ الأمل هو أنَّ المعاناة أعطتِ الذكرياتِ التي كانت منذ عهد قريب شبهَ ميتةٍ درجةً معيَّنةً من الحياة، كذكريات عام 1789 في فرنسا.

أمَّا في بلدان الشرق حيث حملَ البِيضُ إليها منذ عدة قرون، بل منذ خمسين سنة بصورة خاصة، مرضَ الاقتلاع الذي يعانون منه، فقد أظهرَت اليابانُ بصورة كافية أيةَ شدةٍ يَبْلُغُها الشكلُ النشيطُ للمرض عندهم. والهند الصينية [شبه الجزيرة الهندية الصينية] l'Indochine مثال على الشكل الخامل. لقد أصابت العدوى الهندَ التي مازال فيها تقليد حي إلى درجة أنَّ الذين يتكلمون أمام الملأ باسم هذا التقليد يحلُمون هم أنفسُهم بإقامة أُمَّة على نمط غربي وحديث على أرضهم. الصينُ يكتنفها غموضٌ مطبق. وكذلك روسيا التي كانت دائمًا نصف أوروبية ونصف شرقية؛ لأنه لا يمكننا أنْ نعرِفَ إنْ كانت الطاقةُ التي تغلِّف روسيا بالمجد تنبثق، على غرار الوضع عند الألمان، من اقتلاعٍ من نوع نشيط، وقد يحمل تاريخُ الخمس والعشرين سنة الأخيرة على الاعتقاد بذلك في بادئ الأمر، أو أنَّ الأمر يتعلق بصورة خاصة بالحياة العميقة للشعب المنبثق من أعماق العصور والتي بقيَت في السر على حالها لم تُمَسَّ.

أمَّا القارة الأمريكية فبما أنَّ إعمارَها يقوم منذ عدة قرون على الهجرة قبل كل شيء فإنَّ التأثيرَ المسيطر الذي ستمارسه على الأرجح يفاقِمُ الخطرَ كثيرًا.

في هذا الوضع شبهِ الميئوس منه، لا يمكن أنْ نجدَ في هذا العالَم نجدةً إلاَّ في جُزُر الماضي الصغيرة التي ما تزال حيةً على سطح الأرض. لا يعني أنه ينبغي أنْ نوافقَ على الضجة التي أحدثَها موسوليني حول الإمبراطورية الرومانية وأنْ نحاولَ استخدامَ لويسَ الرابع عشر بالطريقة نفسها. إنَّ الفتوحاتِ ليست من الحياة، إنها من الموت حتى في لحظة حدوثها. إنها قطرات من الماضي الحي والتي يجب حفظُها بحرص شديد أينما كانت، في باريسَ أم في تاهيتي بدون تفريق، لأنه ليس هناك الكثير منها على الكُرَة بِرُمَّتِها.

قد يكون من العبث أنْ نُعرِضَ عن الماضي لكي نفكِّرَ بالمستقبل فقط. إنه لَوَهْمٌ خطير حتى أنْ نظنَّ ذلك ممكنًا. فالتعارض بين المستقبل والماضي أمرٌ غير معقول. المستقبلُ لا يجلب لنا شيئًا، لا يعطينا شيئًا؛ إنما نحن الذين يجب علينا لكي نبنيَه أنْ نعطيَه كلَّ شيء، أنْ نعطيَه حياتَنا نفسَها. ولكنْ لكي نعطيَ يجب أنْ نمتلكَ، ونحن لا نمتلكُ حياةً ولا نُسغًا غيرَ الكنوزِ التي نرثها من الماضي ونهضمها ونتمثَّلُها ونخلقها من جديد. ليس هناك من بين حاجات النفس البشرية حاجةٌ أكثرُ حيويةً من الماضي.

وليس لحب الماضي أيةُ علاقة بتوجُّهٍ سياسي رجعي. فالثورةُ، ككل النشاطات الإنسانية، تستمد نُسْغَها كلَّه من التراث. لقد لمسَ ماركسُ ذلك إلى درجة أنه حرص على أنْ يُرجِعَ هذا التراثَ إلى العصور الموغلة في القِدَم بجعل صراع الطبقات المبدأَ الوحيدَ للتفسير التاريخي. وفي بداية هذا القرن أيضًا، كانت النقاباتُ الفرنسية، وهي الانعكاسُ الوحيد لدينا عن روح الجمعيات الحِرَفية، أقربَ إلى القرون الوسطى من كثير من الأشياء. إنَّ البقايا الضئيلة من هذه النقابات تُعَدُّ شراراتٍ يصبح النفخُ عليها لتشتعلَ من أكثر الأمور إلحاحًا.

منذ عدة قرون، دمَّرَ البشرُ ذوي العرق الأبيض الماضيَ في كل مكان بصورة حمقاء وعمياء في بلدانهم وخارجَها. مع ذلك، إذا كان هناك في بعض النواحي تقدُّمٌ حقيقي خلال هذه الفترة فليس بسبب هذا الهياج ولكنْ رغمًا عنه تحت تأثير قوة الدفع لقليل من الماضي الذي مازال حيًا.

لن يعودَ الماضي المدمَّرُ أبدًا. فتدميرُ الماضي قد يكون أكبرَ جريمة. ومن المفروض اليومَ أنْ يصبحَ الحفاظُ على القليل المتبقِّي هاجسًا تقريبًا. يجب إيقافُ الاقتلاع الرهيب الذي تُحْدِثُه دائمًا طرائقُ الأوروبيين الاستعمارية حتى بأشكالها الأقل وحشيةً. يجب بعد الانتصار الكفُّ عن معاقبة العدوِّ المهزوم من خلال اقتلاعه أكثر؛ ونظرًا إلى أنَّ إبادتَه غيرُ ممكنة وغيرُ منشودة فستكون زيادةُ جنونه جنونًا أكثر من جنونه. يجب أيضًا أنْ نضعَ نُصْبَ أعيننا، قبل كل شيء، وفي كل جديد سياسي أو قانوني أو تقني قد تكون له انعكاساتٌ اجتماعية، تسويةً تتيح للكائنات الإنسانية استعادةَ جذورها.

هذا لا يعني حبْسَهم ضمن حدود. على العكس لم يكن هناك شيء على الإطلاق أكثر أهمية من جعلهم يتنفَّسون. فالتجذر وزيادة الاتصالات متكاملان. مثلاً، لو كان العمالُ منتشرين وكلُّ واحد منهم يمتلك دارًا وقطعةَ أرض وآلةً أينما تتيح التقنية ذلك – ولقاءَ جهد خفيف في هذا المنحى تتيح التقنيةُ ذلك بصورة واسعة –، ولو أُعيدَ بالمقابل إحياءُ سباق طَواف فرنسا [دورة فرنسا الدولية للدرَّاجات] Tour de France السابقة من أجل الشباب، على المستوى الدولي إذا لزم الأمر، ولو أتيحت للعمال الفرصةُ مرارًا لإجراء دورات تدريبية في ورشة التركيب حيث تتركَّب القِطَع التي يصنعونها مع جميع القطع الأخرى أو للمساعدة في تدريب متدرِّبين مبتدئين، بالإضافة إلى حماية فعالة للأجور فإنَّ شقاء الوضع البروليتاري سيزول.

لن يقوَّضَ الوضعُ البروليتاري بإجراءات قانونية، سواء تعلَّقَ الأمرُ بتأميم المصانع الرئيسية أم بإلغاء الملكية الخاصة أم بالصلاحيات الممنوحة للنقابات لعقد اتفاقيات جماعية أم بمندوبي المصانع أم بمراقبة التشغيل. فجميع الإجراءات المقترحة، سواء كانت تحمل طابعًا ثوريًا أم إصلاحيًا، هي إجراءات قانونية بحتة، بينما شقاء العمال وعلاج هذا الشقاء ليسا على المستوى القانوني. ولو كان ماركس صادقًا مع فكره لكان فهمَ ذلك تمامًا لأنَّ ذلك أمر بديهي يظهر جليًا في أفضل صفحات [كتاب] رأس المال le Capital.

لا يمكن البحث في مطالب العمال عن علاج لشقائهم. فأنَّى لهم، إذا ما غرِقوا في الشقاء بالجسد والروح وحتى الخيال، أنْ يتصوروا شيئًا لا يحمل طابعَ الشقاء؟ وإذا قاموا بجهد عنيف للتخلص منه سقطوا في أحلام تدميرية رهيبة أو بحثوا عن تعويض في توسُّعية عمالية لم يعُدْ لديها شيءٌ تشجِّعه سوى التوسُّعية القومية.

إنَّ ما يمكن البحث عنه في مطالبهم هو مؤشر آلامهم. إذْ إنَّ المطالبَ تُعبِّرُ عن جميع الآلام أو تكاد تُعبِّر عن ألم الاقتلاع. وإذا أرادوا مراقبةَ التشغيل والتأميم فذلك لأنه يستحْوِذ على تفكيرهم الخوفُ من الاقتلاع التام ومن البطالة. وإذا أرادوا إلغاءَ الملكية الخاصة فذلك لأنهم لم يعودوا يحتملون أنْ يُقْبَلوا في مكان العمل كمهاجرين يُمَنُّ عليهم بالدخول. وهنا يكمن الدافع النفساني لاحتلال المصانع في حزيران/يونيو 1936. فخلال عدة أيام، شعروا بفرحٍ خالص، فرحٍ لا تشوبه شائبةٌ، فرحِ أنْ يكونوا في بيوتهم في هذه الأماكن نفسِها، فرحِ طفلٍ لا يريد أنْ يفكِّرَ بالغد. ولم يكنْ باستطاعة أحد أنْ يعتقدَ بصورة عقلانية بأن الغد سيكون حسنًا.

كانت الحركة العمالية الفرنسية المنبثقة عن الثورة صرخةً بصورة أساسية، صرخةَ احتجاج أكثر منها صرخة تمرُّد، أمام قسوة القدَر التي لا ترحم بالنسبة لجميع المظلومين. مقارنةً بما يمكن أنْ نتوقَّعَه من حركة جماعية، كان هناك في هذه الحركة كثير من النقاء. لقد انتهت عام 1914؛ ومنذ ذلك الحين لم يبْقَ إلاَّ أصْداءٌ؛ فسمومُ المجتمع المحيط أفسدَت حتى معنى الشقاء. يجب السعيُ إلى استعادة إرثها؛ ولكنْ ليس في وسعِنا أنْ نتمنَّى إحياءها من جديد. مهما كانت نبرةُ صرخة الألم جميلةً فلا يمكن تمنِّي سماعِها مرةً أخرى؛ فالأكثرُ إنسانيةً هو تمنِّي شِفاء الألم.

تُقدِّمُ القائمةُ الملموسةُ بآلام العمال قائمةً بالأمور التي يجب تعديلُها. يجب أولاً إزالةُ الصدمة التي يعاني منها الصبيُّ الصغيرُ الذي يخرج من المَدْرسة في سن الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمره ويدخل المصنع. فلو لم تتركْ هذه الصدمةُ جرحًا مؤلمًا دائمًا لكان بعضُ العمال سعداءَ جدًا؛ غير أنهم لا يعرِفون هم أنفسُهم أنَّ معاناتَهم آتيةٌ من الماضي. فالطفل في المَدْرسة، سواء أكان تلميذًا جيدًا أم رديئًا، كان كائنًا يُعترَف بوجوده ويُسعى إلى تطويره وتُحفَّز أفضلُ المشاعر لديه. وبين عشية وضحاها يصبح مكمِّلاً للآلة، يصبح أقلَّ من شيء بقليل، ولا يهمُّ بتاتًا إنْ أطاع بتأثير دوافعَ دنيا، يكفي أنْ يطيع. لقد عانى أغلبُ العمال، في هذه اللحظة على الأقل من لحظات حياتهم، من ذلك الانطباع بأنهم لم يعودوا موجودين، ويرافقُ ذلك الانطباعَ نوعٌ من الدُّوار الداخلي، ذلك الانطباعَ الذي لم يصادِفْ أنْ عرفَه المثقَّفون أو البرجوازيون إلاَّ نادرًا جدًا حتى في أعظم الآلام. هذه الصدمةُ الأولى التي تُتلقَّى باكرًا جدًا تطبع غالبًا دمغةً لا تُمحى. فقد تجعل حُبَّ العمل مستحيلاً قطعًا.

لا بد من تغيير نظامِ الاهتمام خلال ساعات العمل وتغيير طبيعةِ الحوافز التي تَدفع إلى التغلُّب على الكسل والإرهاق – تلك الحوافز التي ليست اليوم سوى الخوف والفلوس –، وتغيير طبيعةِ الطاعة وتغيير الكمية القليلة جدًا من المبادرة والمهارة والتفكير المطلوبة من العمال وتغيير عدم تمكُّن العمال أينما كانوا من المشاركة بالفكر والمشاعر في مجمل عمل الشركة وتغيير الجهل التام أحيانًا بقيمة الأشياء التي يصنعونها وبمنفعتها الاجتماعية وبوجهتها، وكذلك تغيير الفصل التام لحياة العمل عن الحياة العائلية. ويمكننا أنْ نطيلَ القائمةَ.

إذا وُضِعَت الرغبةُ في الإصلاح جانبًا فإنَّ هناك ثلاثةَ أصناف من العوامل تؤَثِّر في نظام الإنتاج: تقنية واقتصادية وعسكرية. اليوم، تُقابِلُ أهميةُ العوامل العسكرية في الإنتاج أهميةَ الإنتاج في قيادة الحرب؛ بتعبير آخر، الأهمية كبيرة جدًا.

إنَّ تكديس آلاف العمال في مصانعَ ضخمةٍ كسجون الأشغال الشاقة حيث يقلُّ كثيرًا عدد العمال المؤهَّلين تأهيلاً حقيقيًا هو عبثٌ مزدوج من وجهة نظر عسكرية. تتطلَّبُ الظروفُ العسكرية الحالية من جهةٍ أنْ يكونَ الإنتاجُ الصناعي منتشرًا ومن جهةٍ أخرى أنْ يتكوَّنَ أكبرُ عدد من العمال في زمن السِّلْم من مهنيين متعلِّمين يمكن أنْ يوضعَ على الفور تحت إمرتهم وفي حالة الأزمة الدولية أو الحرب عددٌ كبير من النساء والفتيان والكهول لزيادة حجم الإنتاج زيادةً فورية. لا شيء ساعدَ على شلِّ الإنتاج الحربي الإنكليزي لفترة طويلة أكثرَ من نقص العمال المؤهَّلين.

ولكنْ بما أنه لا يمكن جعلُ مهنيين مؤهلين تأهيلاً عاليًا يؤدُّون وظيفةَ التشغيل اليدوي للآلات، يجب إلغاء هذه الوظيفة إلاَّ في حالة الحرب.

من النادر جدًا أنْ تكونَ الاحتياجاتُ العسكرية متوافقةً غيرَ متعارضةٍ مع أفضل التطلعات الإنسانية إلى وجوب الاستفادة منها.

من وجهة نظر تقنية، تتيح بالتأكيد السهولةُ النسبية لتحويل الطاقة على شكل كهرباء درجةً عالية من اللامركزية.

أمَّا الآلات فليست متطوِّرةً لتحويل نظام الإنتاج؛ إلاَّ أنَّ التعليماتِ الموجودةَ في الآلات الأوتوماتيكية القابلة للضبط والمستخدَمة حاليًا من شأنها أنْ تتيحَ على الأرجح الوصولَ إلى سعر الجهد فيما لو كان هناك جهد.

بصورة عامة، من شأن إصلاحٍ ذي أهمية اجتماعية أكبر بكثير من الإجراءات المصنَّفة في خانة الاشتراكية أنْ يكونَ تحوُّلاً في المفهوم نفسِه للبحوث التقنية. حتى الآن، لم نتصوَّرْ أبدًا أنْ يتمكَّنَ مهندسٌ مشغولٌ ببحوث تقنية خاصةٍ بنماذجَ جديدةٍ من الآلات من أنْ يضعَ نُصْبَ عينيه شيئًا آخرَ غيرَ هدفٍ مزدوج هو: زيادةُ أرباح الشركة التي طلبَتْ منه هذه البحوثَ من جهةٍ وخدمةُ مصالح المستهلِكين من جهة أخرى. وفي مثل هذه الحالة، عندما نتكلَّم عن فوائد الإنتاج فالمقصود هو إنتاج أكثر وأرخص، إيْ إنَّ هذه الفوائد هي في الواقع فوائد الاستهلاك. إننا نستخدم باستمرار هاتين الكلمتين إحداهما مكانَ الأخرى.

أمَّا العمال الذين يعطون هذه الآلةَ قُواهم وطاقاتِهم فلا أحدَ يفكِّر بهم. ولا أحد يفكِّر حتى بإمكانية التفكير بهم. أقصى ما يمكن توقُّعه من وقت لآخر هو أجهزة سلامة غامضة، على الرغم من أنَّ الأصابع المقطوعة وأدراج المصانع المبلَّلة يوميًا بالدم الذي يسيل هي مشاهد تتكرَّر كثيرًا.

ولكنَّ هذه الإشارة الضعيفة التي تدلُّ على الاهتمام هي الإشارة الوحيدة. فلا يفكَّر بالراحة النفسية للعمال، الأمر الذي يتطلَّب الكثيرَ جدًا من الجهد والخيال، ليس هذا فحسب، بل لا يفكَّر حتى بعدم تعذيب أجسادهم. وإلاَّ لاكتُشِفَ شيءٌ آخر للمناجم غير تلك الآلة المروِّعة، وهي مِثْقاب الصخور بالهواء المضغوط [المطرقة الهوائية] marteau-piqueur، والتي ترجُّ بهزَّاتٍ متواصلة خلال ثماني ساعات الإنسانَ المعلَّق بها.

ولا يخطر في بالنا أنْ نتساءلَ عمَّ إذا كانت الآلةُ الجديدة ستزيد الخطرَ العام للبطالة من خلال زيادة تجميد رأس المال وجمود الإنتاج.

ماذا يفيد العمالَ حصولُهم بقوة الكفاح على زيادة الرواتب وعلى تخفيف الانضباط إذا اخترع مهندسو بعض مكاتب الاستشارات، خلال هذا الوقت وبدون أية سوء نية، آلاتٍ تستهلك أجسامَهم ونفوسَهم أو تُفاقِمُ الصعوباتِ الاقتصاديةَ؟ وماذا يفيدهم التأميمُ الجزئي أو الكلِّي للاقتصاد إذا لم تتغيَّرْ عقليةُ مكاتب الدراسات هذه؟ وحتى الآن على حد علمنا لم تتغيَّر العقليةُ أينما كان هناك تأميم. حتى الدعايةُ السوﭭياتية لم تزعمْ قط أنَّ روسيا وجدَت نموذجَ آلةٍ جديدًا كلَّ الجدَّة يَصلُح لأنْ تستخدمَه بروليتاريا مُسْتبِدَّة.

مع ذلك، إذا كان هناك يقين يظهر بقوة لا تقاوَم في دراسات ماركس فذلك لأنَّ تغييرًا في العلاقة بين الطبقات لا بد أنْ يبقى وهمًا محضًا إنْ لم يرافقْه تغييرٌ في التقنية، تغيير يتبلور في آلات جديدة.

من وجهة نظر العمال، تحتاج الآلةُ إلى أنْ تتَّسمَ بثلاث مزايا: أولاً، يجب أنْ يكون بالإمكان استعمالُها بدون إنهاك العضلات ولا الأعصاب ولا أي عضو – وبدون أنْ تقطعَ أيضًا أجزاءً من الجسم أو تُمزِّقَها إلاَّ بصورة استثنائية جدًا.

ثانيًا، مقارنةً بالخطر العام للبطالة، يجب أنْ تكون أيضًا أداةُ الإنتاج في مجملها مرنةً قدر الإمكان لكي تتمكَّنَ من مجاراة التغيرات في الطلب. وبالتالي يجب أنْ تكون الآلةُ الواحدةُ متعددةَ الاستعمالات، متنوِّعةَ الاستخدامات ما أمكن إلى درجة أنْ تكون غيرَ محدَّدة إلى حد ما. وهذه ضرورة عسكرية أيضًا من أجل أكبر قدر ممكن من السهولة في الانتقال من حالة السِّلْم إلى حالة الحرب. وأخيرًا، فذلك عامِلٌ مشجِّع للبهجة في العمل لأنه يمكن بذلك تجنُّبُ هذه الرتابة المملَّة التي يخاف منها العمالُ أيَّما خوف من جَرَّاء الملل والاشمئزاز الذي تسبِّبه.

ثالثًا، يجب أن تتناسبَ الآلةُ عادةً مع العمل الذي يقوم به مهنيٌّ مؤهَّل. وهذه هي أيضًا ضرورة عسكرية، بالإضافة إلى أنَّ ذلك ضروري لكرامة العمال وراحتهم النفسية. إنَّ طبقةً عاملةً تتألَّف كلُّها تقريبًا من مهنيين جيِّدين ليست طبقةَ بروليتاريا.

من شأن التطوير الكبير جدًا للآلة الأوتوماتيكية القابلة للضبط والمتعددة الاستعمالات أنْ يُلبِّيَ إلى حد كبير هذه الاحتياجاتِ. فالإنجازاتُ الأولى في هذه المجال موجودة، ولا ريب في أنَّ هناك في هذا المنحى إمكانياتٍ كبيرةً جدًا. مِثْلُ هذه الآلات تلغي وضعَ التشغيل اليدوي على الآلة. ففي شركة ضخمة مثل رينو Renault، قليلٌ من العمال يبدون سُعَداءَ وهم يعملون؛ ومن بين هؤلاء البعض المحظوظين هناك العمال الذين يهتَمُّون بالدورات الأوتوماتيكية القابلة للضبط بواسطة كامات[7].

ولكنَّ الأساس هو الفكرة نفسها بأنْ تُطرَح بعبارات تخصصية المشاكلُ المتعلقة بانعكاسات الآلات على الراحة النفسية للعمال. وبعد طرحها لا يبقى أمام الفنِّيين إلاَّ حلُّها. فقد حلُّوا غيرَها من المشاكل. يجب فقط أنْ يريدوا ذلك. ولأجل هذا، يجب ألاَّ تظلَّ الأماكنُ التي تُصنَّع فيها الآلاتُ الجديدةُ غارقةً بالكامل في شبكة المصالح الرأسمالية. من الطبيعي أن يكون للدولة تأثير على هذه الأماكن من خلال المساعدات المالية. ولماذا لا يكون للتنظيمات العمالية تأثير من خلال الإعانات المالية؟ هذا عدا عن طرق التأثير والضغط الأخرى. ولو أنَّ النقاباتِ العماليةَ تتمكَّنُ من أنْ تصبحَ حيويةً فعلاً لكان لا بد من أن يكون هناك اتصالاتٌ مستمرة بينها وبين مكاتب الدراسات التي تصمَّم فيها التقنياتُ الجديدة. ربما يمكن التحضير لمثل هذه الاتصالات من خلال توفير بيئة مواتية للعمال في مدارس المهندسين.

حتى الآن لم يكن التقنيُّون يفكِّرون في شيء آخر غير احتياجات التصنيع. ولو أنهم أخذوا يضعون دائمًا في ذهنهم احتياجاتِ الذين يُصنِّعون لكان لا بد لتقنية الإنتاج بكاملها من أنْ تتغيَّرَ شيئًا فشيئًا.

من المفروض أنْ يصبحَ ذلك مادةً تدريسية في مدارس المهندسين وفي جميع المدارس الفنية – ولكنْ مادة تدريسية لها جوهر حقيقي.

ربما لا يكون هناك إلاَّ فوائدُ من الشروع منذ الآن بدراسات حول هذا النوع من المشاكل.

من شأن موضوع هذه الدراسات أنْ يكون سهلَ التحديد. قال أحد البابوات: "تَخْرُجُ المادةُ من المصنع مكرَّمةً ويَخْرُجُ منه العمالُ مهانين." وعبَّرَ ماركسُ عن الفكرة نفسِها بعبارات أجزل. يعني أنْ يكونَ جميع الذين يسعون إلى إنجاز تقدُّم تقني قد غرسوا باستمرار في ذهنهم اليقينَ بأنَّ العيب الذي يجب تلافيه بصورة مُلِحَّة هو ذلك العيب الذي يمكن ملاحظته من بين جميع أنواع العيوب في الحالة الراهنة للتصنيع؛ وأنه يجب عدم فعل أي شيء يُفاقِمه أبدًا؛ وأنه يجب فعل أي شيء لتقليصه. من المفروض أنْ تصبحَ هذه الفكرةُ جزءًا من الشعور بالواجب المهني، جزءًا من الشعور بالشرف المهني، عند من لديه مسؤولياتٌ في التصنيع. من المفروض أن يكون من بين إحدى المهمات الأساسية للنقابات العمالية، فيما لو كانت تلك النقاباتُ قادرةً على القيام بذلك، مهمةُ إدخال هذه الفكرة في الوعي العالمي.

لو كان الجزء الأكبر من العمال مهنيين مؤهلين تأهيلاً عاليًا وكان لا بد أن يُظهِروا في أغلب الأحيان مهارةً ومبادرةً وكانوا مسؤولين عن إنتاجهم وآلاتهم لما عاد لنظامِ العمل الحالي أيُّ سبب لوجوده. ولتمكَّنَ بعضُ العمال من العمل في منازلهم والبعضُ الآخر في ورشات صغيرة يمكنها غالبًا أنْ تنظَّمَ على الطريقة التعاونية. في أيامنا هذه، تمارَس السلطةُ في المصانع الصغيرة بطريقة أكثر قسوةً منها في المصانع الكبيرة، ذلك لأنها تُقلِّد المصانعَ الكبيرة. لن تكون مثلُ هذه الورشات مصانعَ صغيرة، ستكون هيئاتٍ صناعيةً من صنف جديد، حيث يمكن نفخ روح جديدة فيها؛ وعلى الرغم من كونها صغيرة، سيكون بينها علاقات عضوية قوية بما يكفي لكي تشكِّل معًا مؤسسةً كبيرة. هناك في المؤسسة الكبيرة، على الرغم من عيوبها، شاعريةٌ من نوع خاص تروق اليوم للعمال.

لن يكون للحساب على القطعة من مساوئَ فيما إذا أُلغيَ احتجازُ العمال في ثُكْنات. ولن ينطويَ على هاجس السرعة مهما كلَّف الأمر. سيكون الطريقةَ الطبيعية لمنح الأجر على عمل يُنجَز بطريقة حرة. ولن تعود الطاعة خضوعًا في كل لحظة. وسيتمكن العاملُ أو مجموعةُ العمال من الحصول على عدد معيَّن من الطلبات التي يجب تنفيذها خلال مهلة محدَّدة ومن التمتع بحرية الخيار في تنظيم العمل. إنه لشيءٌ مختلفٌ أنْ يعرِفَ المرءُ أنَّ عليه أنْ يكرِّرَ إلى أجل غيرِ محدَّد حركةً واحدةً يفرضها أمرٌ ما إلى أنْ تأتيَ لحظةٌ محدَّدةٌ يأتي فيها أمرٌ جديد ليفرِضَ حركةً جديدةً لفترة زمنية مجهولة. هناك علاقةٌ ما مع الزمن تُناسِبُ الأشياءَ الجامدةَ وعلاقةٌ أخرى تُناسِبُ المخلوقاتِ العاقلةَ. إننا نخطئ عندما نخلط بينهما.

لن تكون هذه الورشاتُ الصغيرةُ ثُكْناتٍ سواء أكانت تعاونيةً أم لا. فيمكن للعامل أحيانًا أنْ يُطلِعَ زوجتَه على مكان عمله وعلى الآلة التي يعمل عليها مثلما كانوا سعداءَ جدًا بالقيام بذلك في حزيران/يونيو 1936 بفضل الشُّغل. وسيأتي الأطفالُ من المَدْرسة ليلاقوا أباهم في مكان العمل ويتعلَّموا العملَ في سنٍّ يكون فيها العملُ أكثرَ الألعاب متعةً وإثارةً للاهتمام بما لا يقارَن. وعندما يدخلون لاحقًا في مرحلة تعلُّم المهنة يكونون أساسًا قد امتلكوا مهنةً تقريبًا، ويمكنهم، بحسب رغبتهم، أنْ يتقنوا هذه المهنةَ أو أنْ يتعلَّموا مهنةً ثانية. وستضفي هذه الدهشاتُ الطفوليةُ على العمل إضاءةً شاعريةً طيلة الحياة بدلاً من أنْ يمتقِعَ لونُ العمل ليأخذَ لونَ الكابوس كلَّ الحياة بسبب صدمة التجارب الأولى.

إذا كان الفلاحون، حتى في قلب الظرف الحالي الذي يُضعِف المعنوياتِ، أقلَّ حاجة من العمال إلى شحذ هِمَمِهم بالحوافز فذلك مردُّه ربما إلى ذلك الفرق. قد يكون الطفلُ بالأصل شقيًا في الحقل وهو في سن التاسعة أو العاشرة، ولكنْ هناك دائمًا تقريبًا لحظةٌ يكون فيها العملُ في نظره لعبةً مدهشةً مخصصةً للكبار.

وإذا كان أغلبُ العمال قد أصبحوا سُعَداءَ فإنَّ عدةَ مشاكلَ تبدو أساسيةً ومثيرةً للقلق لم تُحَلَّ بل أُلغيَتْ. وإذا لم تُحَلَّ فسيُنسى أنها طُرِحَتْ يومًا ما. الشقاءُ هو أرضٌ خصبة ووسطٌ ملائم[8] لمشاكلَ مزيَّفة. إنه يثير الهواجسَ. والطريقةُ لتهدئتها ليس بتقديم ما تتطلَّبه، بل بإزالة الشقاء. فإذا عطِشَ امرؤٌ بسبب جرحٍ في بطنه فلا ينبغي تقديمُ الماء له، بل شفاءُ جُرحِه.

نادرًا ما يكون هناك، للأسف، من شيء يمكن تغييره سوى مصير الشباب. لا بد من تقديم جهد كبير من أجل تأهيل الشبيبة العاملة ومن أجل تعلُّم صنعة أولاً. ستكون الدولةُ مجبَرةً على تحمُّل مسؤولية ذلك، لأنه ما من عنصر آخر في المجتمع قادر على القيام بذلك.

لا شيءَ يُظهِر العجزَ الأساسي للطبقة الرأسمالية أكثر من تقصير أرباب العمل إزاء تعليم المهنة. إنَّ هذا العجز هو من النوع الذي يسمُّونه في روسيا بالتقصير الجنائي. ليس في الإمكان التأكيد أكثر على هذه النقطة ولا يسعُنا المبالغةُ في نشر هذه الحقيقة البسيطة والسهلة على الإدراك والمسلَّم بها أو التي لا مِرْيةَ فيها. لقد نسيَ أربابُ العمل منذ عشرين أو ثلاثين سنة التفكيرَ بتأهيل مِهَنيِّين ماهرين. وقد ساهمَ نقصُ العمال المؤهَّلين، شأنُه شأنُ أيِّ عنصرٍ آخر، في خراب البلاد. وحتى في عامَي 1934 و1935، وفي أوج أزمة البطالة، عندما كان الإنتاج في نقطة العطالة، كانت مصانع الميكانيك والطيران تبحث عن مهنيين ماهرين ولا تجدهم. كان العمالُ يشتكون من أنَّ التجارب كانت أصعبَ من اللازم؛ إلاَّ أنَّ العمال هم أنفسهم لم يكونوا مؤهَّلين بحيث يتمكَّنون من تنفيذ التجارب. فكيف كانوا في هذه الظروف يستطيعون الحصولَ على تسليح كافٍ؟ ولكنْ من جهة أخرى، حتى بدون الحرب، كان لا بد أنْ يؤدِّيَ نقصُ المهنيين، بتفاقُمِه عبر السنين، إلى جعلِ الحياة الاقتصادية نفسِها مستحيلةً.

يجب إعلامُ البلد بأَسْرِه والمعنيِّين أنفسِهم للمرة الأخيرة بأنَّ أربابَ العمل قد بدَوا في الواقع عاجزين عن تحمُّل المسؤوليات التي ألقى النظامُ الرأسماليُّ بثقلها على عاتقهم. إنَّ لهم وظيفةً عليهم أنْ يؤدُّوها، ولكنْ ليست هذه، لأنَّ التجربةَ تُظهِر أنَّ تلك المسؤولياتِ أثقلُ وأعظمُ من أنْ يتحمَّلوها. عندما ندرك ذلك جيدًا لا يعود لدينا خوفٌ منهم، وسيتوقَّفون، من جهتهم، عن مقاومة الإصلاحات اللازمة؛ وسيَبقَون ضمن الحدود المتواضعة لوظيفتهم الطبيعية. وهذه هي فرصتهم الوحيدة للخلاص؛ فلأننا نخاف منهم نفكِّر في أغلب الأحيان بالتخلُّص منهم.

كانوا يتَّهمون العاملَ الذي يتناول مشروبًا مقبِّلاً بالاستهتار، ولكنَّ حكمتَهم لم تصلْ بهم إلى توقُّع أنه إذا لم يؤهَّلْ متدرِّبون فلن يعودَ هناك عمالٌ بعد عشرين سنة، على الأقل لن يعودَ هناك عمالٌ يستحقُّون هذا الاسمَ. يبدو أنَّهم عاجزون عن التفكير لأكثر من سنتين أو ثلاث سنوات قادمة. لا ريب أيضًا بأنَّ مَيلاً خفيًا كان يجعلهم يفضِّلون في مصانعهم وجودَ ماشية من الأشقياء ومن الكائنات المقتلَعة التي ليس لها أيةُ صفة كيفما نظرْنا إليها. لم يكونوا يعرِفون أنه إذا كان خضوع العبيد أكثرَ من خضوع الأحرار فإنَّ تمرُّدَهم أكثرُ فظاعة. وقد خبِروا ذلك، ولكنْ دون أنْ يفهموه.

إنَّ تقصير نقابات العمال في مسألة التدريب المهني هو فضيحة بجلاجلَ أيضًا، مِن وجهةِ نظرٍ أخرى. إذْ ما كان عليها أنْ تنشغلَ بمستقبل الإنتاج؛ ولكنْ، بما أنَّ سبب وجودها هو الدفاع عن العدالة، كان ينبغي أنْ يهزَّها الضيقُ النفسيُّ للفتيان الصغار. في الواقع، لقد أُهمِلَ الجزءُ البائسُ حقًا من عمال المصانع، وهم المراهقون والنساء والعمال المهاجرون الأجانب أو سكان المستعمرات. إنَّ لِجميعِ آلامهم أهميةً أقلَّ بكثير في الحياة النقابية من أهمية مشكلة زيادة الرواتب لفئات تُدفَع لها بالأساس رواتبُ عالية.

لا شيءَ يُظهِرُ بصورةٍ أفضلَ كم يصعبُ توجيهُ حركة جماعية فعلاً نحو العدالة وكم يصعب الدفاع فعلاً عن الأشقياء. فهم لا يستطيعون الدفاعَ عن أنفسهم بأنفسهم، لأنَّ الشقاء يَحُوْلُ بينَهم وبين ذلك؛ ولا يدافِع أحدٌ من الخارج عنهم، لأنَّ الطبيعة البشرية تميلُ إلى عدم الاكتراث بالأشقياء.

تهتمُّ الشبيبة العاملة المسيحية (J.O.C.)[9] وحدَها بشقاء العمال المراهقين؛ وربما يكون وجودُ مِثْلِ هذه المنظَّمة المؤشِّرَ الوحيدَ الأكيدَ على أنَّ المسيحيةَ لم تَمُتْ فينا.

مثلما خانَ الرأسماليون دعوتَهم بأنْ أهملوا إهمالاً يُعَدُّ جريمةً ليس فقط مصالحَ الشعب ولا مصالحَ الأمّة بل حتى أهملوا شعبَهم، كذلك خانت النقاباتُ العماليةُ دعوتَها بأنْ أهملَت حمايةَ البائسين في صفوف العمال لتلتفتَ إلى الدفاع عن المصالح. من المفيد الكشفُ عن ذلك، تحسُّبًا لليوم الذي قد يتورَّطون فيه بارتكاب تعسُّفات في السلطة التي تغويهم. إنَّ كَبْحَ جِماح نقاباتٍ وقد تحوَّلَت إلى منظمات وحيدة وإلزامية كان النتيجةَ الطبيعية والحتمية لهذا التغيير في العقلية. في الحقيقة، كان عملُ حكومة ﭭيشي Vichy بهذا الشأن لا قيمة له تقريبًا. ولم يكنْ اتحاد نقابات عمال فرنسا (C. G. T.)[10] ضحيةَ انتهاك من طرفها. فهي لم تَعُدْ منذ وقت طويل في حالة تجعلها كذلك.

ليست الدولةُ مؤهلةً بصورة خاصة لتقوم بالدفاع عن الأشقياء. بل إنها عاجزة تقريبًا عن القيام بذلك، إلاَّ إذا أجبرَها على ذلك ضرورةُ السلامة العامة المُلِحَّة الواضحةُ جليًا وضغطٌ من الرأي العام.

فيما يخصُّ تأهيلَ الشبان العاملين فإنَّ ضرورة السلامة العامة عاجلة وبديهية أكثر ما يمكن. أمَّا ضغط الرأي العام فيجب إثارته والبدء من الآن باستخدام نَوَى[11] المنظَّمات النقابية الحقيقية [الناشئة] والشبيبة العاملة المسيحية والمجموعات الدراسية والحركات الشبابية، وحتى الرسمية.

لقد أثار البلشفيون bolcheviks الروسُ اهتمامَ شعبهم بأن اقترحوا عليه بناءَ صناعة كبيرة. ألا يمكننا إثارة اهتمام شعبنا بأنْ نقترحَ عليه بناءَ عمال من نوع جديد؟ قد يكون مثلُ هذا الهدف منسجمًا مع الروح الفرنسية.

يجب أنْ يتخطَّى تأهيلُ الشباب العاملين التأهيلَ المهنيَّ البحت. ويجب بالطبع أنْ يشتملَ على تربية، كتأهيل أي شباب؛ ولذلك يُستحسَن ألاَّ يجريَ تعليمُ المهنة في المدارس حيث يجري دائمًا بصورة سيئة، بل يجب أنْ ينغمسَ مباشرةً في الإنتاج نفسِه. مع ذلك، لا يمكن أيضًا توكيلُ المصانع بهذا التعليم. وهنا ينبغي القيامُ بجهود ابتكار. ربما يلزم وجودُ شيءٍ يوفِّق بين مزايا المَدْرسة المهنية ومزايا تعليم المهنة في المصنع ومزايا ورشة الحرفيين من النوع الحالي، وكثير من المزايا الأخرى أيضًا.

لكنَّ تأهيلَ العمال الشباب، وخاصةً في بلد مثل فرنسا، يتطلَّب تثقيفًا أيضًا، مشاركةً في ثقافة فكرية. ينبغي ألاَّ يُحِسُّوا بأنفسهم غرباءَ في عالَم الفكر.

أية مشاركة وأية ثقافة؟ إنه جدل مازال قائمًا منذ وقت طويل. في بعض الأوساط، فيما مضى، كانوا يتكلَّمون كثيرًا عن ثقافة عمَّالية. كان البعض الآخر يقول بأنه ليس هناك من ثقافة عمالية أو غير عمالية، بل هناك الثقافة فقط لا غير. ونتيجةُ هذه الملاحظة باختصار هي معاملةُ العمالِ الأكثرِ ذكاءً وتوقًا إلى التعلُّم المعاملةَ التي نقدِّمها لطلاب الثانوية نصف البُلَهاء. لقد أُتيحَتْ للأمور أحيانًا أنْ تجريَ بصورة أفضلَ قليلاً، ولكنْ هنا يَكْمنُ إجمالاً مبدأُ التعميم vulgarisation، كما نفهمه في عصرنا. هذه الكلمةُ البشِعة مثلها كمثل الشيء الذي تُعبِّر عنه.[12] عندما يصبح لدينا شيءٌ مقبول إلى حد ما ويجب تسميتُه فلا بد من إيجاد كلمة أخرى.

الحقيقة واحدة، أجَلْ، ولكنَّ الخطأ متعدِّد؛ وفي كل ثقافة، باستثناء حالة الكمال التي ليست سوى حالة قصوى عند الإنسان، هناك مزيج من الحقيقة والخطأ. لو كانت ثقافتُنا قريبةً من الكمال لكانت فوق الطبقات الاجتماعية. ولكنْ بما أنها رديئة فإنها إلى حد كبير ثقافةُ مثقَّفين برجوازيين، وبالتحديد أكثر ومنذ فترة من الزمن، ثقافةُ مثقَّفين موظَّفين.

لو أرَدْنا دفْعَ التحليلِ في هذا الاتِّجاه لوجدْنا في بعض أفكار ماركس من الحقيقة أكثرَ مما يبدو لأوَّل وهلة؛ ولكنْ ليس الماركسيون هم الذين يقومون بمثل هذا التحليل أبدًا؛ لأنَّ ذلك قد يتطلَّبُ منهم أولاً أنْ يَنْظروا إلى أنفسهم في المرآة، وهذه عملية تشقُّ على النفس، وللقيام بها تُقدِّمُ الفضائلُ وحْدَها، والمسيحيةُ بنوع خاص، شجاعةً كافية.

إنَّ ما يجعلُ نقْلَ ثقافتِنا إلى الشعب صعبًا إلى هذا الحد ليس كَوْنَها أرفعَ مما ينبغي، بل كَوْنَها أحطَّ مما ينبغي. ويتَّخذون وسيلةً غريبةً بالحط منها أكثر قبل توزيعِها قِطَعًا على الشعب.

هناك عائقان يجعلان وصولَ الشعب إلى الثقافة وصولاً صعبًا. أحدهما هو قلة الوقت والطاقة. فالشعب لديه قليل من الفراغ ليخصِّصَه لجهد فكري؛ والتعبُ يضع حدًا لكثافة الجهد.

ليس لهذا العائق أيةُ أهمية. على الأقل لن يكونَ له أيةُ أهميةٍ إذا لم نرتكبْ خطأَ إيلائه الأهميةَ. الحقيقةُ تنير النفسَ على قدر نقائها وليس على أساس أي ضربٍ من الكمية. فليست كميةُ المعدن هي التي تهمُّ، بل درجةُ السبك. وفي هذا الشأن، قليلٌ من الذهب الخالص يساوي [في الجوهر] كثيرًا من الذهب الخالص. وقليل من الحقيقة الصافية يساوي مقدارَ كثير من الحقيقة الصافية. كذلك يحتوي تمثالٌ يونانيٌّ كاملٌ من الجَمال مقدارَ تمثالَين يونانيَّينِ كاملَين.

كانت خطيئةُ نيوبي Niobé[13] هي عدمُ ِ معرفةِ أنَّ الكمَّ لا علاقة له بالخير، وعوقِبَتْ على ذلك بموت أولادها. نحن نرتكبُ الخطيئةَ نفسَها كلَّ يوم ونعاقَبُ عليها بالطريقة نفسِها.

إذا تعلَّم العاملُ بعضَ الفرضيات الهندسية خلال سنة واحدة من الجهود الطَّموحة الدؤوبة فسيَدخُلُ إلى نفسه من الحقيقة مقدارُ ما يَدخُل إلى نفس طالب كان قد بذلَ الحماسَ نفسَه لهضم جزء من الرياضيات العالية خلال الفترة الزمنية نفسِها.

لا شك في أنَّ هذا من النادر أنْ يصدَّقَ، وقد يكون من الصعب البرهانُ عليه. وكان لا بد على الأقل من أنْ يكون مادةً إيمانيةً عند المسيحيين فيما لو تذكَّروا أنَّ الحقيقةَ هي واحدةٌ من الخيرات المَحْضة التي يشبِّهُها الإنجيلُ بالخبز، وأنَّ من يطلبُ الخبزَ لا يحصل على حجارة.

إنَّ العوائق الماديةَ – قلة وقت الفراغ والتعب ونقص الموهبة الطبيعية والمرض والألم الجسدي – تعيق اكتسابَ العناصر الدنيا أو المتوسطة للثقافة، وليس اكتسابَ الخيرات الأكثر قيمةً التي تتضمَّنُها.

العائقُ الثاني أمام الثقافة العمالية هو أنَّ ظرف العمال، كأي ظرف آخر، تُناسِبُه حالةٌ خاصة من الحساسية. وبالتالي، هناك شيء من الغرابة فيما أعدَّه آخرون ومن أجل آخرين.

علاجُ ذلك هو القيامُ بجهدِ ترجمة. ليس القيام بجهدٍ للتعميم، بل للترجمة، وهو أمر مختلف تمامًا.

لا تؤخذ الحقائقُ المتضمَّنةُ في ثقافة المثقَّفين، والتي هي بالأصل فقيرة إلى أبعد حد، للحط منها ولتشويهها وتفريغها من نكهتها؛ بل ببساطةٍ يُعبَّر عنها، في كمالها، بواسطة لغة تجعلها تؤثِّر في القلب، بحسب تعبير باسكال، لدى أناس يصوغُ الوضعُ العماليُّ رهافةَ مشاعرهم.

إنَّ فنَّ نقلِ الحقائق هو أحد الفنونِ الأكثرِ أساسيةً والأقلِّ معرفةً. وما يجعله صعبًا هو أنه ينبغي من أجل ممارسته أنْ يضعَ المرءُ نفسَه في مركز الحقيقة، أنْ يمتلكَها في عُرْيِها، خلْفَ الشكلِ الخاص الذي ظهرَتْ فيه عرَضًا.

فضلاً عن ذلك فالنقلُ هو معيار الحقيقة. وما لا يُنقَل ليس بحقيقة؛ كذلك فإنَّ كلَّ ما لا يغيِّر مظهرَه بحسب زاوية الرؤية ليس غرضًا ثابتًا، بل مظهر خادع. هناك في الفكر أيضًا فضاءٌ ثلاثي الأبعاد.

من شأن البحث عن أشكالِ نقلٍ مناسبةٍ لنقلِ الثقافةِ إلى الشعب أنْ يكونَ أكثرَ فائدةً للثقافة وللشعب على حد سواء. وسيكون ذلك حافزًا لها لا يقدَّر بثمن. فتخرج بذلك من جو خانقٍ قد حُبِسَتْ فيه. ولا تعود شيئًا تخصصيًا. لأنها حاليًا شيء للمتخصصين، من الأعلى إلى الأسفل، لكنها تنحطُّ كلما ذهبنا نحو الأسفل. فكما نُعامِلُ العمالَ كأنهم تلاميذُ ثانويةٍ بُلَهاءُ قليلاً، كذلك نُعامِلُ تلاميذَ الثانوية كأنهم طلابٌ هدَّهم التعبُ، ونُعامِلُ الطلابَ كأساتذةٍ كانوا قد عانَوا من فقدان الذاكرة ويحتاجون إلى إعادة تربية. الثقافةُ أداة يستخدمها الأساتذةُ ليصنعوا أساتذةً وهؤلاء الأخيرون سيصنعون بدَورهم أساتذةً.

من بين جميع الأشكال الحالية لمرض الاقتلاع، ليس اقتلاعُ الثقافة الأقلَّ إنذارًا بالخطر. فأولُ نتائج هذا المرض هي عمومًا وفي كل المجالات أنْ يُنظَرَ إلى كل شيء، عندما تنقطع العلاقاتُ، كهدف في ذاته. فيسبِّبُ الاقتلاعُ الشِّرْكَ [الوثنية].

إنَّ الهمَّ المشروعَ حتمًا، وذلك كمثال واحد على تشوُّهِ ثقافتنا، في الحفاظ على خاصية الضرورة في استدلالات الهندسة الفراغية يجعلُنا نقدِّمُ الهندسةَ الفراغيةَ لتلاميذ الثانوية كأنها شيء لا علاقةَ له بتاتًا بالعالَم. فقلَّما يتمكَّنون من الاهتمام بها إلاَّ من باب اللعب أو للحصول على علامة جيدة.

يجهلُ أغلبُنا دائمًا أنَّ جميعَ أعمالِنا تقريبًا، البسيطةِ منها أو المرتَّبة بطريقة علمية، هي تطبيقاتٌ لمفاهيمَ هندسيةٍ وأنَّ الكونَ الذي نعيش فيه هو نسيج من العلاقات الهندسية وأنَّ الضرورة الهندسية هي الضرورة نفسها التي نخضع لها في الواقع كمخلوقات محبوسةٍ في الفراغ والزمان. نقدِّمُ الضرورةَ الهندسيةَ بحيث تبدو كأنها اعتباطية. وأي شيء أكثر عبثيةً من ضرورة اعتباطية؟ والضرورةُ، بالتعريف، لازمة.

من جهة أخرى، عندما نريد تعميمَ الهندسة الفراغية وتقريبَها من التجربة فإننا نُهمِلُ البراهينَ. فلا يبقى عندئذٍ سوى بعضِ مكوِّناتٍ لا أهمية لها أبدًا. لقد فقدَت الهندسةُ الفراغيةُ نكهتَها وجوهرَها. فجوهرُها هو أنْ تكونَ دراسةً غرضُها الضرورة، وهذه الضرورةُ نفسُها هي التي لها في الواقع السيادة المطْلَقة على عالَمنا.

من شأن كلا التشويهَينِ أنْ يكون سهلاً تفاديه. لا مجالَ للاختيار بين البرهان والتجربة. إننا نبرهن بالخشب وبالنار بالسهولة نفسِها التي نبرهن فيها بالطبشور.

يبدو أنَّ هناك طريقةً بسيطةً لإدخال الضرورة الهندسية في المَدْرسة المهنية، بربط الدراسة بالورشة. نقول للأطفال: "إليكم عددًا معيَّنًا من المهام التي يجب تنفيذُها (صناعة أغراض تلبِّي هذه الشروطَ أو تلك). إحداها ممكن والآخر مستحيل. نفِّذوا الأشياءَ الممكنة، والأشياءُ المستحيلةُ ألزِموني بأنْ أُقِرَّ بأنها مستحيلة." من هذا الباب يمكن إدخالُ الهندسة كلِّها في العمل. فالتنفيذُ هو برهان تجريبي كافٍ على الإمكانية، ولكنْ ليس هناك من برهان تجريبي على الاستحالة، ويجب وجود برهان على ذلك. فالاستحالةُ هي الشكلُ الملموسُ للضرورة.

أمَّا باقي العلوم فإنَّ كلَّ ما يتعلَّقُ بالعِلْم التقليدي – ولا يمكن إدراج آينشتاين Einstein وفيزياء الكَمِّ les quanta في الثقافة العمالية – ينبثق بصورة رئيسية عن منهج قياسي يقوم على نقل العلاقات التي تسيطر على العمل الإنساني إلى الطبيعة. وبالتالي، هذا يخصُّ العمالَ، إذا عرفْنا أنْ نقدِّمَه لهم، كما يخصُّ بالطبع التلاميذَ.

من باب أَولى، كذلك يكون الجزءُ من الثقافة المصنَّف تحت عنوان "الآداب". لأنَّ الهدف دائمًا هو الوضع البشري، وإنَّ الشعب هو الذي يمتلك خبرةَ الوضع البشري الأكثر واقعية والأكثر مباشرةً.

إجمالاً، عدا الاستثناءات، فإنَّ الأعمال [الأدبية] من الدرجة الثانية تناسب النخبةَ أكثر، والأعمال من الدرجة الأولى تناسب الشعبَ أكثر.

على سبيل المثال، ما أعلى درجةَ الفهمِ الذي يمكنُ أنْ يولَدَ من الاتِّصال بين الشعب والشعر اليوناني الذي ينصبُّ موضوعُه الوحيد تقريبًا على الشقاء! على الأقل يجب معرفةُ ترجمتِه وتقديمِه. مثلاً، لا بدَّ لِعاملٍ لديه قلقُ البطالة حتى العظم أنْ يفهمَ حالةَ فيلوكتيت [فيلوكتيتيس] Philoctète عندما يُنتزَع قوسُه واليأسَ عندما ينظر إلى يدَيهِ العاجزتَين. وسيفهم أيضًا أنَّ إليكترا Électre[14] كانت جائعةً، وهو ما يعجز تمامًا البرجوازيُّ عن فهمِه، إلاَّ في المرحلة الحالية، – بما في ذلك ناشرو دار بوديه Budé[15].

هناك عائق ثالث أمام الثقافة العمالية، إنه العبودية. فالفكرُ، في جوهره، حرٌّ ومطْلَقُ السيادةِ عندما يمارَسُ ممارسةً حقيقية. فأنْ يكونَ المرءُ حرًا وسيِّدًا، بصفته كائنًا مفكِّرًا، لساعة أو ساعتين، ثم عبدًا باقي اليوم هو نزاع يمزِّق القلبَ إلى درجة أنَّه يكاد يستحيل التمسُّكُ، للتخلص من ذلك، بالأشكال الأرقى للفكر.

لو أُنجِزَت إصلاحاتٌ فعَّالة لاختفَت هذه العقبةُ شيئًا فشيئًا. لا بل لكانت ذكرى العبودية الحديثة وبقايا العبودية التي هي في طور الزوال حافزًا قويًا للفكر خلال مسيرة التحرر.

الشرطُ اللازم للثقافة العمالية هو مزيج من هؤلاء الذين يسمَّون المثقفين – وهو اسم فظيع، ولكنهم لا يستحقُّون اسمًا أجمل – ومن العمال. فمِن الصعبِ أنْ يكونَ مثلُ هذا المزيج حقيقيًا. غيرَ أنَّ الوضعَ الحاليَّ مناسبٌ لذلك. لقد أُلقيَ الكثيرُ من الشباب المثقفين في العبودية، في المعامل والحقول في ألمانيا. والآخرون اختلطوا بالشباب العاملين في مخيمات رفاق المهنة camps de compagnons. لكنَّ النوع الأول بصورة خاصة كانت لهم خبرة مهمة. والكثير منهم كانت قد دمَّرَتْه [هذه الخبرةُ]، أو على الأقل أنهكَتْ نفسَه وجسدَه. ولكنَّ البعض منهم ربما كانت قد ثقَّفَتْهم بالفعل.

تكاد هذه الخبرةُ الثمينة جدًا أنْ تضيعَ بسبب الإغراء الذي لا يقاوَم لِنسيانِ الإهانة والشقاء حالما يخرجون منهما. ابتداءً من الآن، من المفروض تقريبُ هؤلاء من أولئك السجناء العائدين وحملُهم على مواصلة الاتصالات مع العمال والتي كانوا قد بدأوا بها تحت الإكراه وعلى إعادة تفكيرهم في خبرتهم الحديثة بهدف تقريب الثقافة من الشعب وبهدف توجيه جديد للثقافة.

من شأن التنظيمات النقابية المقاوِمة أنْ تكون في هذه اللحظة فرصةً لمثل هذه التقاربات. ولكنْ بصورة عامة، إذا كان لا بد من وجود حياة فكرية في النقابات العمالية فيجب أنْ يكون لهذه النقابات مع المثقفين اتصالاتٌ أخرى غير الاتصالات التي تقوم على تجميعهم داخل اتِّحاد نقابات عمال فرنسا CGT ضمن تنظيمات مهنية من أجل الدفاع عن مصالحهم الخاصة. إنها أقصى أنواع العبثية.

قد تكون العلاقةُ الطبيعيةُ هي أنْ تقبلَ النقابةُ كضيوف شرف مثقَّفين يضعون أنفسَهم مجانًا في خدمتها من أجل تنظيم دروس ومكتبات، ولكنْ مع منعِهم من التدخل في المداولات حول العمل.

مِن المحبَّذ جدًا أنْ ينبثقَ في الجيل الذي نجا، نظرًا لفتوَّتِه، من الامتزاج بالعمال في ضغط الأَسْر تيارٌ مماثل للتيار الذي أثار الطلابَ الروسَ منذ خمسين عامًا، ولكنْ بأفكار أوضح، وأنْ يتَّبعَ الطلابُ دوراتٍ تدريبيةً طوعيةً ومطوَّلةً، كعمال يمتزجون بعامة الناس بدون ذِكْر هُويَّتِهم وذلك في الحقول والمصانع.

باختصار يقتصر إلغاءُ الظرف البروليتاري، الذي يحدِّده الاقتلاعُ قبل كل شيء، على مهمة تكوين إنتاج صناعي وتثقيف للفكر بحيث يكون العمالُ ويشعرون بأنهم في بيوتهم.

من المفترض طبعًا أنْ يكونَ للعمالِ أنفسِهم مشاركةٌ واسعةٌ في مثل هذا البناء. ولكنْ بطبيعة الحال ستكبر هذه المشاركةُ كلما تحقَّقَ تحرُّرُهم الفعلي. وستكون حتمًا في أدنى درجاتها مادام العمالُ يستولي عليهم الشقاء.

هذه المشكلة الخاصة ببناء ظرف عمالي جديد فعلاً هي مشكلة عاجلة ويجب النظرُ فيها دون تأخير. يجب البتُّ في التوجُّه من الآن. لأنه ما إنْ تضعِ الحربُ أوزارَها حتى يبدأَ البِناءُ بالمعنى الحرفي للكلمة. فتُبنى البيوتُ والعمارات. وما سيكون قد بُنِيَ لن يُهدَمَ، إلاَّ بحرب جديدة، وستتناغم الحياة فيها. من المفارَقة على ما يبدو أنْ تُترَكَ الحجارةُ تجتمعُ كيفما اتَّفَق، تلك الحجارةُ التي لا بد لها أنْ تَحسُمَ الحياةَ الاجتماعيةَ كلَّها وربما لكثير من الأجيال. لذلك يجب مسبقًا امتلاكُ فكرةٍ واضحة بشأن تنظيم المشاريع الصناعية في المستقبل القريب.

لو أننا مصادفةً تهرَّبْنا من هذه الضرورة خشيةَ الانقسامات المحتملة لكان ذلك يعني ببساطةٍ أننا لسنا مؤهَّلين للتدخُّل في مصائر فرنسا.

من المُلِحِّ إذًا دراسةُ خطةِ إعادةِ تجذيرِ العمال، وإليكم باختصار لمحةً موجزة عنها.

تُلْغَى المصانعُ الكبيرة. وتتكوَّنُ المؤسسةُ الكبيرة من ورشة تجميع مرتبطة بعدد كبير من الورشات الصغيرة تضمُّ كلُّ واحدةٍ عاملاً أو عدةَ عمال وتنتشر عبر الريف. هؤلاء العمال، وليس المختصون، هم الذين يذهبون بالتناوب، وخلال فترات، للعمل في ورشة التجميع الرئيسية، وتكون هذه الفتراتُ أيامَ عُطَلة. وتكون مدةُ العمل فيها نصفَ نهار فقط، بحيث يخصَّصُ باقي النهارِ لروابط الرُّفقة [الزمالة] ولتفتُّحِ وطنيةٍ مؤسساتية ولحضور محاضرات تقنية تجعل كلَّ عاملٍ يدرك الوظيفةَ الدقيقةَ للقِطَع التي ينتجها والصعوباتِ التي يذلِّلُها عملُ الآخرين، ولحضور محاضرات جغرافية تعلِّمهم أين تذهب المنتجاتُ التي يساهمون في تصنيعها ومن هم الناسُ الذين يستخدمونها وفي أي وسط وفي أية حياة يومية وفي أية بيئة إنسانية تأخذ هذه المنتجاتُ مكانًا لها وما هو المكان الذي تشغله. ويكون إلى جانب كلِّ ورشةِ تجميعٍ مركزيةٍ جامعةٌ عماليةٌ يكون لها روابطُ وثيقةٌ بإدارة المؤسسة، ولكنْ لا تعود ملكيةُ هذه الجامعة للمؤسسة.

لا تعود ملكيةُ الآلات للمؤسسة. تعود ملكيتُها للورشات الصغيرة المنتشرة في كل مكان، وهذه الورشاتُ بدَورِها تعود ملكيتُها إلى العمال بصورة فردية أو جماعية. فضلاً عن ذلك، يمتلك كلُّ عامل منزلاً وقطعةَ أرض صغيرة.

هذه الملكية الثلاثية – آلة ومنزل وأرض – تقدِّمها له الدولةُ منحةً عند الزواج وبشرط أنْ ينجزَ بنجاحٍ تجربةً تقنيةً صعبةً يرافقها اختبار لمعرفة الذكاء والثقافة العامة.

من المفروض أنْ يلبِّيَ اختيارُ الآلة ميولَ العامل ومعارفَه من جهةٍ وحاجاتِ الإنتاج العامة جدًا من جهة أخرى. يجب بالطبع أنْ تكونَ قدرَ الإمكان آلةً أوتوماتيكية قابلة للضبط وذات استخدامات متعددة.

لا يجوز لهذه الملكية الثلاثية أنْ تُوَرَّثَ ولا أنْ تُباعَ ولا أنْ تُنْقَلَ بأية طريقة كانت. (يجوز تَبادُلُ الآلة وحدَها في بعض الحالات.) ولا يمتلك من يتمتَّع بهذه الملكية إلاَّ حقَّ التنازل عنها بلا قيد ولا شرط. وفي هذه الحالة، لا بد أنْ يصبحَ من الصعب عليه بل من المستحيل أنْ يحصلَ فيما بعد على ملكية مساوية في مكان آخر.

عندما يموت العاملُ تؤولُ هذه الملكيةُ إلى الدولة التي يجب عليها طبعًا عند اللزوم تأمينُ الراحة نفسِها للمرأة والأولاد. وإذا كانت المرأةُ قادرةً على القيام بالعمل فإنها تحتفظ بالملكية.

تموَّلُ جميعُ هذه الهِبات من الضرائب، إمَّا المباشرة، من أرباح المؤسسات، وإمَّا غير المباشرة، من بيع المنتجات. وتديرها إدارةٌ تتألَّف من موظَّفين وأربابِ عملٍ ونقابيين ونوَّاب.

يمكن بقرار محكمةٍ سحبُ حق الملكية هذا بسبب عدم الأهلية المهنية. وهذا يَفترِض طبعًا أنْ تُتَّخَذَ تدابيرُ جزائيةٌ مماثلة للمعاقبة على عدم الأهلية المهنية لرب العمل عند اللزوم.

إنَّ العامل الذي يرغب أنْ يصبحَ ربَّ عملٍ لورشة صغيرة يجب عليه أنْ يحصلَ على إذْنٍ بذلك من هيئة مهنية مكلَّفةٍ بمنح الإذن بطريقة مدروسة، ويحصل عندئذٍ على تسهيلات لشراء آلتين أو ثلاث آلات أخرى لا أكثر.

ويبقى العاملُ الذي يعجز عن اجتياز الاختبار في وضع الأجير. ولكنْ يمكنه، خلال حياته كلِّها، وبدون تحديد سنٍّ قصوى، أنْ يَقوْمَ بمحاولات جديدة. يمكنه في أي عمر أنْ يطلبَ مرارًا القيامَ بتدريب مجَّاني لعدة أشهُر في مَدْرسة مهنية.

هؤلاء الأُجَراءُ، ونظرًا لعدم أهليتهم، يعملون إمَّا في الورشات الصغيرة اللاتعاونية وإمَّا كمساعدي عاملٍ يعمل لحسابه الخاص وإمَّا كعمال يدويين في ورشات التجميع. لكنْ يجب عدم السماح إلاَّ لقليل منهم بالعمل في المصنع. يجب زجُّ الأغلبية في أشغال العمال اليدويين أو الكاتبين المستخدمين [موظَّفِي المكاتب] الذين لا غنى عنهم للخدمات العامة والتجارة.

حتى سن الزواج والاستقرار في بيت مستقل مدى الحياة – أيْ حتى سن الثانية والعشرين أو الخامسة والعشرين أو الثلاثين، حسب طباع كل شخص –، يعامَلُ العاملُ الشابُّ كمتعلم صنعة لا يزال يتعلم.

في الطفولة، من المفروض أنْ تَترِكَ المَدْرسةُ للأطفال ما يكفي من الفراغ لكي يتمكنوا من قضاء ساعات وساعات يزاولون عِدةَ حِرَف حول عمل آبائهم. ثم يجب على الدوام المَدْرسي – عدة ساعات دراسية وعدة ساعات عمل – أنْ يمتدَّ لفترة طويلة. ومن ثم يلزم وجود طريقة حياة متنوعة جدًا – رحلات من طراز "سباق طَواف فرنسا" [دورة فرنسا الدولية للدرَّاجات] Tour de France، إقامة وعمل تارةً عند عمال يعملون بصورة فردية وطورًا في ورشات صغيرة وتارةً أخرى في ورشات تجميع في مختلف المؤسسات وتارةً في تجمعات شبابية من نمط "المشاغل" أو "رفاق الحِرْفة" compagnons؛ إقامات يمكنها، بحسب الميول والقدرات، أنْ تتكرَّرَ مرارًا وتمتد لفترات تتراوح بين عدة أسابيع وسنتين، في معاهدَ عماليةٍ. ومن المفروض من جهةٍ أخرى أنْ تكونَ هذه الإقاماتُ ممكنةً في أي عمر وبشروط معيَّنة. ويجب أنْ تكون مجانيةً بكاملها وألاَّ تؤدِّيَ إلى أي نوع من أنواع الامتياز الاجتماعي.

عندما يفكر العاملُ الشاب، بعدَ أنْ شبِعَ وأُتخِمَ بالتنوع، في الاستقرار فسيكون ناضجًا من أجل التجذُّر. يكفي لتحقيق السعادة الدنيوية لأي كائن إنساني أنْ تقدِّمَ له المرأةُ والأولادُ والمنزلُ والحديقةُ جزءًا كبيرًا من غِذائه وأنْ يربطَه العملُ بمؤسسة يحبُّها ويفتخر بها فتكون بالنسبة له نافذةً مفتوحة على العالَم.

مثلُ هذا التصور عن الشبيبة العاملة يتطلَّب إعادةَ صياغة كاملة للحياة التي يسودها نظامٌ صارم.

أمَّا الأجور فلا بد بصورة خاصة من أنْ نتجنَّبَ قبل كل شيء طبعًا أنْ تكونَ متدنِّيةً إلى حد أنْ تُلْقيَ بالعمال في البؤس – ولكنْ قد يكون من غير المحتمل أنْ يَحْدثَ ذلك في مثل هذه الظروف – ثم لا بد من أنْ نتجنَّبَ أنْ تشغلَ هذه الأجورُ البالَ وتعيق تمسُّكَ العامل بالمؤسسة.

من المفروض أنْ يتمَّ إنشاءُ الهيئات النقابية والتحكيمية وغيرها لهذا الغرض فقط – وأنْ تسيرَ بحيث لا يفكر أيُّ عامل بالمسائل المالية إلاَّ ما ندر.

يجب أنْ تكونَ مهنةُ رئيس المؤسسة، شأنُها شأنُ مهنة الطبيب، من بين المهن التي من أجل المصلحة العامة ترخِّصُ الدولةُ ممارستَها بشرط توافُرِ بعض الضمانات حصرًا. ويجب أنْ تكون لهذه الضمانات علاقةٌ ليس فقط بالكفاءة بل بالرقي الأخلاقي أيضًا.

وستُقلَّصُ رؤوسُ الأموال الموظَّفةُ أكثر من اليوم. ويمكن لنظامِ تسليفٍ أنْ يتيحَ بسهولةٍ لشابٍّ فقير يمتلك الكفاءةَ والموهبةَ ليكونَ رئيسَ مؤسسة أنْ يصبحَ رئيسًا لمؤسسة.

وهكذا يمكنُ للمؤسسة أنْ تصبحَ من جديد فرديةً. أمَّا بالنسبة للشركات المغفَلة فلن يكونَ هناك ربما أي ضرر في إلغائها ومنعها، مع مراعاة توفير نظام انتقالي.

يتطلَّب تنوُّعُ المؤسسات بالطبع دراسةَ طرق متنوعة جدًا. لا يمكن أنْ يكون المخططُ الأوليُّ هنا سوى نهايةٍ لجهود طويلة تتضمن جهودَ ابتكار تقني ضروريةً جدًا.

على أية حال، لن تكون مثلُ هذه الطريقة في الحياة الاجتماعية لا رأسماليةً ولا اشتراكية.

فمن شأنها أنْ تلغيَ الظرفَ البروليتاريَّ، في حين أنَّ ما نسمِّيه اشتراكيةً ينزِع في الواقع إلى إيقاع جميع الناس فيه.

ويمكن أنْ يكون توجُّهُها نحو كرامة الإنسان في العمل، وهي قيمة إنسانية، وليس نحو مصلحة المستهلك بحسب الصيغة التي تتَّجِهُ اليومَ لأنْ تصبحَ دارجةً – هذه المصلحة التي لا يمكن أنْ تكون إلاَّ ماديةً بحتة.

سيِّئةُ مثلِ هذا التصور الاجتماعي هي أنه لا يمتلك أيةَ فرصة للخروج من نطاق الكلمات بدون وجود عدد لا بأسَ به من الناس الأحرار الذين يمتلكون في صميم قلوبهم إرادةً متأجِّجةً وراسخة لإخراج هذا التصور من رِبْقةِ الكلمات. ومن غير المؤكَّد إمكانيةُ وجودهم أو إثارتهم.

غيرَ أنه يبدو جليًّا، عدا عن ذلك، أنْ لا خيارَ إلاَّ بين إشكالِ شقاءٍ مختلفةٍ وفظيعةٍ بالمقدار ذاته تقريبًا.

وعلى الرغم من أنَّ مثلَ هذا التصور يتحقق على المدى الطويل فإنَّ إعادة البناء بعد الحرب يجب أنْ تتبنَّى مباشرةً قاعدةَ توزيع العمل الصناعي.

الترجمة عن الفرنسية: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ الفصل الثاني من كتاب التجذُّر، سيمون ڤايل، ترجمة محمد علي عبد الجليل، معابر للنشر، قيد الطباعة.

[1] أوقيانوسيا Océanie: أصغر قارات العالَم الخمس، وتضم القارة الأسترالية مع بعض الجُزُر، وتضم: ميلانيزيا [ميلانيسيا] la Mélanésie وميكرونيزيا la Micronésie وﭙولينيزيا [بولينيسيا] la Polynésie، نيوزيلاندا La Nouvelle-Zélande، بابوا غينيا الجديدة La Papouasie-Nouvelle-Guinée (المترجِم)

[2] ﭙـول غوغان Paul Gauguin (1848 – 1903): رسَّام ونحَّات فرنسي من المَدْرسة الانطباعية، استقرَّ في ﭙولينيزيا Polynésie وأثَّر تأثيراً قوياً في حركة الناهبي nabi [النُّبَهاء أو الملهَمين، من الكلمة العبرية Nebiim وتعني: المفكِّر والنبي] (وهي حركة فنية بعد-انطباعية postimpressionniste)، كما أثَّر في المَدْرسة الوحشية fauvisme. (المترجِـم)

[3] آلان جيربو Alain Gerbault (1893 – 1941): مَلاَّح فرنسي قام منفرداً بجولة حول العالَم على قَطَّاع (أو قاطع) cotre، وهو مركب شراعي صغير وحيد الصاري يقطع الماء بسرعة. (المترجِـم)

[4] جورج برنانوسُ Georges Bernanos (1888 – 1948): كاتب فرنسي وأحد مُلْهِمي المقاومة. وهو والد الكاتب ميشيل برنانوس (1923 – 1946).

[5] هنري فورد Henry Ford (1863 – 1947): رجل أعمال أمريكي مؤسس شركة فورد لصناعة السيارات. أسَّسَ طريقةَ التصنيع المعروفة بالفوردية fordisme نسبةً إليه في العشرينيات من القرن العشرين وتتمثل هذه الطريقة بعمل مسارات للتصنيع بحيث أن العامل الواحد يبقى في مكانه ويقوم بعمل شيء واحد طوال الوقت. تحوَّلَت الفوردية إلى حركة صناعية عامة انتقلَت إلى معظم الصناعات. (المترجِـم)

[6] مَدْرسة الأساتذة العليا École Normale Supérieure مؤسسة تعليم عالٍ تأسست أثناء الثورة الفرنسية سنة 1794 وتخرّج منها أشهر العلماء فرنسا في كافة مجالات المعرفة. فلا يلتحق بها إلا نخبة معدودة من التلاميذ بعد أن ينجحوا في مسابقة تُمتحَن من خلالها ثقافتُهم العامة ومدى تضلُّعهم في الاختصاص الذي اختاروه. فالناجحون في هذه المسابقة يمضون 4 سنوات في المَدْرسة يتاقضَون أثناءها أجراً شهرياً. وخرِّيجو هذه المَدْرسة يُدَرِّسون في جامعات فرنسا، بيد أن فئة غير قليلة منهم تغريهم الرواتبُ الضخمةُ التي تَعرِضها الشركاتُ الخاصة ويلتحقون بها. (المترجم)

[7] الكامة came: هي انبعاج أو حدَبة أو سِنّ على شكل دائري يدور. الوظيفة الرئيسية للكامة هي ظبط التوقيت لتشغيل الأجزاء الميكانيكية عن طريق تحويل الحركة الدائرية إلى حركة خطية. (المترجم)

[8] استخدَمَتْ الكاتبةُ تعبيرَ un bouillon de culture وتعني: حُـسْـوَة أو مَرَق زَرْعي، وهو سائل لاستـنبات الجراثيم أو بيئة ملائمة لزرع الميكروبات. (المترجِـم)

[9] الشبيبة العاملة المسيحية la Jeunesse ouvrière chrétienne، واختصارها JOC: هي منظمة من الشباب المسيحيين العمال، أسَّسها عام 1925 الأبُ البلجيكي جوزيف كاردين Joseph Cardijn. (المترجِم)

[10] اتحاد نقابات عمال فرنسا la Confédération Générale du Travail، اختصارها: CGT: هي نقابة العمال الفرنسيين، أنشئت بتاريخ 23 أيلول/سبتمبر 1895 في ليموج. (المترجِم)

[11] النَّوى: جمع "نواة". كما تُجمَع النواةُ أيضاً على "نَوَيات". (المترجِم)

[12] كلمة vulgarisation الفرنسية [وتعني: التعميم أو التبسيط] تحمل معنى التدنِّي وتنزيل المستوى [أيْ: تبسيطه] ليصبح في متناول أفهام العامة، وهي مشتقة من الكلمة vulgaire المشتقة بدَورِها من اللاتينية vulgaris المشتقة من vulgus وتعني جمهور أو حشد أو عدد غفير. وكلمة vulgaire الفرنسية تعني: عامِّيّ، سوقيّ، فظّ، خشِن، مبتذَل، بذيء، خاص بالرَّعاع، جلف. (المترجِم)

[13] نيوبي Niobé هي شخصية أسطورية، ابنة تانتالوس Tantale مَلِك فريجيا وأخت بيلوبس مَلِك البيلوبونيز وزوجة أمفيون Amphion الطيبي مَلِك طيبة Thèbes، أنجبَتْ منه سبعَ إناث وسبعَ ذكور قتلَهم أﭙـولو Apollon وأرتميسُ Artémis جميعاً باستثناء كلوريس Chloris. ذلك أنها كانت تفتخر بجمالهم وسخِرَتْ من ليتو لأنَّ لديها ابن واحد هو أﭙـولو وابنة واحدة هي أرتميس، فانتقم أﭙـولو بأنْ قتلَ أبناءها وانتـقمَت أرتميسُ بأنْ قتلَت بناتِها وظلَّتْ جثَـثُهم غيرَ مدفونة حتى دفنتْهم الآلهةُ. وعادت نيوبي إلى وطنها وظلَّت تبكي حتى تحوَّلَت إلى حجر. (المترجِم)

[14] إليكترا [إلِكترا] Électre (باليونانية: Êléktra): هي من عائلة الأتريديين Atrides، ابنة أغاميمنون (مَلِك ميكيناي Mycènes، وهي بالإنكليزية Mycenae وباليونانية القديمة: Μυκναι [Mykễnai]) وكليتيمنسترا Clytemnestre. (المترجم)

[15] سلسلة بوديه Collection Budé أو Collection des Universités de France [سلسلة جامعات فرنسا]: مجلَّدات من الكتب حول مواضيع يونانية ولاتينية كلاسيكية ترعاها مؤسسةُ غيُّوم بوديه Guillaume Budé (على اسم الكاتب الفرنسي الإنسانوي humaniste غيُّوم بوديه Guillaume Budé المعروف أيضاً بالاسم اللاتيني بودايوس Budaeus (وُلِدَ في باريس 1468 – توفِّيَ في باريس 1540). وقد نشرَت مجلَّدها الأول عام 1920. (المترجِم)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود