ملاحظات في مفهوم الجهاد

 

محمد علي عبد الجليل

 

يُعَدُّ مفهومُ الجهاد واحدًا من أخطر المفاهيم التي أساء فهْمَها كثيرٌ من المسلمين على وجه الخصوص، فظنُّوا أنَّ الجهاد يقتصرُ في معظمه على قتال "عدوٍّ" من أمم أخرى لا تدين بدينهم بهدف "نشر كلمة الله" أو بالأصح بهدف فَرْض تصوُّرِهم للألوهة؛ بل ذهبَ بعضُهم أبعدَ من ذلك فاعتبرَ، على سبيل المثال، أنَّ مقاطعة البضائع الدانماركية جهادًا، بحجة أنَّ الدانمارك "تسيء" إلى الإسلام، واعتبروا عملياتِ التفجير في الأحياء العامة جهادًا! وأصبحَ الجهادُ، في نظرهم، قَتْلَ الآخرِ المختلف أو إخضاعَه من أجل "إعلاء كلمة الله وقهر أعدائه". وكأنَّ اللهَ "العليَّ" "القهَّارَ" يحتاج إلى مَنْ يُعلي "كلمتَه" ويقهرُ "أعداءه". ثم ما هي "كلمتُه"؟ ومن هم "أعداؤه"؟ هاتان الكلمتان فضفاضتان عامَّتان غامضتان بحيث يمكن لأية جماعة أنْ تستخدمَهما سياسيًا ضِدَّ غيرِها فتَعتبِرَ "كلمتَه" هي تصوُّر هذه الجماعة للألوهة وتَعتبِرَ "عدوَّه" هو كلُّ من يخالف هذا التصوُّرَ. لقد سبقَ للكنيسة أنِ ارتكبَتْ أفظعَ الجرائم بحق المخالفين لتصوُّرِها مُدَّعيةً فهْمَها المستقيمَ لـ"كلمتِه".

وقد نسيَ كثيرٌ من المسلمين أو تناسَوا أنَّ النبيَّ محمدًا أكَّد على أنَّ أعظمَ الجهادِ وأكبرَه هو جهاد النفْس وأهوائها وهو الجهاد الحقيقي. كما نسوا أو تناسَوا أنَّ العدوَّ الأكبر والأخطر ليس أمريكا ولا إسرائيل، بل هو النفْس، "نفْسُكَ التي بين جَنْبَيكَ". لقد وردَ في الأثر أنَّ الحسن كان يقول: "ليس عدوُّكَ الذي إنْ قتلْتَه استرَحْتَ منه، ولكنَّ عدوَّك نفسُكَ التي بين جَنْبَيكَ." (عن كتاب تهذيب الآثار للطبري وكتاب كنز العمال)

من الناحية النظرية، يؤكد الكثيرُ من المسلمين، مفكِّرين وعامةً، على أنَّ الجهاد الحقيقي هو مجاهدة أهواء النفسِ، أيْ: النفْسِ الدنيا، النفسِ الأمَّارةِ بالسوء. على الرغم من ذلك فإنَّ الإسلام موصوم حاليًا بالإرهاب ومرتبط بالجهاد الذي يعني بذْلَ الجهد في قتْل الآخر أو إلغائه. لا شكَّ في أنَّ الرُّهابَ من الإسلام (الإسلاموفوبيا islamophobie) له أسبابُه ومبرِّراتُه. الإسلام في الواقع دين دعَوي [تبشيري] توسُّعي لا يَقْبلُ الآخرَ إلاَّ تحت جناحِه، شأنُه في ذلك شأنُ المسيحية، على الرغم من أنَّ المعنى الاشتقاقي للإسلام هو السلام وأنَّ السلام هو اسم من أسماء الله الحسنى وعلى الرغم مِن أنَّ كلَّ المسلمين تقريبًا يحفظون آخرَ كلامٍ قاله النبيُّ في حجة الوداع عندما عرَّفَ بإيجازٍ رسالةَ الإسلام ووضعَ النقاطَ على الحروف، فعرَّفَ المسلمَ بأنه من سلِمَ الناسُ (وفي رواية: المسلمون) من لسانه ويدِه وعرَّفَ المؤمنَ بأنه من أمِنَه الناسُ على أنفسهم وأموالهم وعرَّفَ المهاجرَ بأنه من هجرَ السيئاتِ أو ما نهى اللهُ عنه.

الجهادُ، لغةً، هو المُبَالَغة واسْتِفْراغ ما في الوُسْع والطَّاقة من قول أو فعْل من أجل تحقيق غاية ما. يقال: جَهَد الرجُل في الشَّيء وجَاهَد مُجاهَدَة وجهادًا: أيْ جَدَّ فيه وبالَغ. جاء في كتاب تاج العروس من جواهر القاموس:

وحقيقة الجِهاد كما قال الرّاغب: استفراغُ الوُسْع والجُهْد فيما لا يُرْتَضَى وهو ثلاثةُ أَضْرُبٍ: مُجاهدةُ العَدُوِّ الظاهِرِ والشيطانِ والنَفْسِ. وتدخل الثلاثةُ في قوله تعالى: "وجَاهِدُوا في اللّهِ حَقّ جِهَاده".

الجهادُ إذًا هو مقاوَمةٌ، هو مقاومةُ موضوع داخلي أو خارجي أو داخلي وخارجي معًا من أجل عدم السماح له بالتمادي والأذى. فمقاومةُ الإنسان لرغبةٍ (موضوع داخلي) ربما تُدَمِّرُه فيما لو حقَّقَها، هذه المقاومةُ (اللاعنفية طبعًا) هي جهاد. ومقاوَمةُ الإنسان لغضبِه هو جهادٌ عظيم يحتاج إلى قوة إرادة، مما حدا بالنبي إلى التأكيد على أنه "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّما الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ". (رواه البخاري ومسلم). ومقاومةُ الإنسان لغضبِ قوةٍ طبيعيةٍ مدمِّرةٍ أو لغازٍ أو معتدٍ أو لصٍّ (موضوع خارجي) ربما يقتله أو يُهينُ كرامتَه الإنسانيةَ فيما لو سمحَ له بذلك، هذه المقاومةُ (اللاعنفيةُ بِنِيَّةِ صدِّ الأذى لا بِنيِّة إلحاقه) هي أيضًا جهاد. الجِهادُ هو مقاوَمةُ الأذى. والعنفُ أذىً. فالجهاد، إذَنْ، هو مقاومةُ العنف. إنه مقاومة لاعنفية. وبما أنَّ الحربَ عنْفٌ، فهي ليست جهادًا، لأنَّ كلا الطرفين المتحاربَين يريد قتْلَ الآخر لا مقاوَمةَ أذاه. يُذْكَرُ أنه أُتِيَ بِرَجُلٍ قَتَلَ قَتِيلاً، فَدُفِعَ القاتِلُ إلى وَلِيِّ المَقْتُولِ لِيَقْتُلَهُ، فَلَمَّا انْطَلَقَ بِهِ، وفي عُنُقِهِ نِسْعَةٌ [قطعةٌ من الجِلْد مضفورةٌ عريضةٌ تُجعَلُ على صدر البعير، أو هي سَيْرٌ [جمعُه سُيُور] مضفورٌ يُجعَلُ زمامًا للبعير]، قَالَ النَّبِيُّ لِجُلَسَائِهِ: "القاتِلُ والمَقْتُولُ فِي النَّارِ"، فانْطَلَقَ إلَيْهِ رَجُلٌ وذَكَرَ لَهُ مَا قَالَ رَسُولُ الله، فَخَلَّى سَبِيلَهُ". (المعجم الكبير للطبراني وصحيح مسلم)، وفي رواية أخرى: "القاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ". قالُوا: "يا رَسُولَ اللهِ هَذَا القاتِلُ. فما بَالُ المقْتُولِ؟" قالَ: "إنَّهُ كانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ أَخِيهِ". (كتاب طرح التثريب)

لقد قسَّم المسلمون النفسَ إلى نفْسٍ أمَّارةٍ [بالسوء] (وتُقابِل في التقسيم الثيوصوفي الجسمَ الرغائبيَّ والجسمَ النجمي اللذَينِ هما مكمنُ الرغبات والشهوات الحيوانية ومستودَعها) وإلى نفْسٍ لوَّامة، أي تلوم وتُحاكِم وتُفكِّر (وتُقابِل في التقسيم الثيوصوفي الجسمَ العقليَّ الأعلى) وإلى نفسٍ مطمئنة راضية مرضية (وتُقابِل في التقسيم الثيوصوفي الجسمَ الإشراقي والجسمَ الأتمي). فإذا تُرِكَ العنانُ لطاقات النفس الأمَّارة فإنها ستُلقي بالنفس اللوامة في التهلكة. ولذلك فإنَّ على النفس اللوامة أنْ تعملَ كلَّ جهدِها كي تكبحَ جِماحَ النفس الأمَّارة وتسيطرَ على طاقاتها وتُوجِّهَها مِن دونِ أنْ تقمعَها، أيْ من دون أنْ تعنفَ بها. بتعبير آخر، يجب على النفس اللوامة أنْ تُجاهدَ النفسَ الأمَّارة التي إنْ أُهمِلَت تعاظمَ خطرُها فقتلَتْ صاحبَها. وإلى ذلك يذهب البوصيري صاحبُ البردة:

والنفْسُ كالطفل إنْ تُهمِلْه شبَّ على               حُبِّ الرضاع وإنْ تفطِمْه ينفطِمِ.

يَعتبِرُ التراثُ العربيٌّ والإسلاميُّ النفْسَ مَطِيَّةَ الروح، أيْ مَرْكبةً للروح، والبَدَنَ مطِيَّةَ النفْس، أيْ هو مركبةٌ وهيكلٌ لها. "فالنفسُ مطيةٌ، والدنيا مضمارٌ، والسابقون السابقون أولئك المقرَّبون". (كتاب تفسير حقي). فعلى النفْس أنْ تتحكَّمَ بالجسد، وعلى الروح أنْ تتحكَّمَ بالنفْس؛ هذا التحكُّمُ يتمُّ بالجِهاد. أيْ إنَّ تحَكُّمَ كلِّ مستوىً مِنْ مستويات الإنسان السبعة (الأتمي والإشراقي والعِلِّي والرغائبي والنجمي والأثيري والفيزيقي) بالمستوى الأدنى هو الجهاد.

يزخر القرآنُ الكريمُ والحديثُ النبوي والتراثُ العربي والإسلامي بشواهدَ كثيرةٍ تؤكد على أنَّ الجهادَ الحقيقي ليس إلاَّ جهادَ النفْس. ومن هذه الشواهد:

-       "اركعوا واسجدوا واعبدوا ربَّكم وافعلوا الخيرَ لعلَّكم تُفلِحون. وجاهِدوا في الله حقَّ جهادِه" (سورة الحج، 78) والجهادُ في الله لا يكون بقتل خَلْقِ الله أيًا كانت الأسباب. الجهاد في الله يكون بحب خَلْق الله لا بحَرْبِهم وبالإحسان إليهم. وقد أكَّد الحديثُ النبوي على أنَّ "الخَلْق كلّهم عيالُ الله [أي أبناء الله بحسب تعبير الإنجيل] فأَحَبُّ الخَلْق إلى الله أنفَعُهم لعيالِه". (رواه الطبراني في المعجم الأوسط والكبير ورواه البيهقي في شُعَب الإيمان). الجهادُ في الله لا يكون إلاَّ بالحُب أو المحبة، لأنَّ الله هو المحبة المطلقة. ومؤدَّى الآية هو: جاهِدوا بالرياضات الروحية والعبادات وفعلِ الخير وابذلوا قصارى جهدكم بذلاً حقيقيًا وبصورة عملية في فعل المحبة.

-       "أمْ حسبْتُم أنْ تدخلوا الجَنَّةَ [بدون اختبار] ولمَّا يعلَمِ اللهُ [عِلْمَ الظهور] الذين جاهَدوا منكم ويَعْلَمَ الصابرين." (آل عمران، 142) هنا، جاهَدوا بمعنى: عبَّروا عن حسن نواياهم وأظهروا إرادتَهم ببذل الجهد للحصول على مبتغاهم.

-       "ثم إنَّ ربكَ للذين هاجَروا من بعدِ ما فُتِنوا ثم جاهَدوا وصبروا إنَّ ربك من بعدِها لغفور رحيم." (النحل، 110). هذه الآيةُ تطرح أربعةَ مفاهيمَ للخلاص هي: الفتنة [الرغبةُ وإغراء الشهوات] والجِهاد [مقاومة الشهوات] والهجرة [ترْكُ الشهوات] والصبر [الثبات والاستمرار في مقاومة الشهوات]. هذه المفاهيمُ تُقابِلُ إلى حد ما الحقائقَ النبيلة الأربع في البوذية (المعاناة وأصل المعاناة وإيقاف المعاناة والطريق الوسط المثمَّن النبيل).

-       "والذين جاهَدوا فينا [في حقنا] لنهديَنَّهم سُبُلَنا وإنَّ الله لمعَ المحسنين." (العنكبوت، 96) إيْ إنَّ الذين اجتهدوا من أجل الله، أي من أجل المحبة، تهديهم المحبةُ إلى طُرُقها.

-       "ليس عدوُّكَ الذي إنْ قتلَكَ أدخلَكَ اللهُ الجنةَ وإنْ قتلْتَه كان لك نورًا، ولكنَّ عدوَّكَ نفسُكَ التي بين جنبيك وامرأتُكَ التي تُضاجعكَ على فراشك وولدُكَ الذي مِنْ صُلْبِكَ. فهؤلاء أعدى عدوٍّ هو لك." (كتاب كنز العمال)

-       رُوي عن النبي أنه حين قفلَ [رجعَ] من غزوة تبوك قال لأصحابه: "رجَعْنا من الجِهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". وفسَّره لهم بمجاهدة العبد هواه. وفي روايةٍ للديلمي: "قدِمْتُم مِن الجهاد الاصغر إلى الجهاد الاكبرِ مجاهدةِ العبد هواه". وهو المعنى نفسُه الذي أشار إليه النبيُّ في قوله: "موتوا قبلَ أنْ تموتوا". وهو المعنى الذي أشار إليه الحلاَّجُ بقوله:

اقتلوني يا ثقـاتي          إنَّ في قتلي حياتي
وحياتي في مماتي          ومماتي في حياتي.

-       ووردَ في القاموس الفقهي: "الجهاد: مصدر جاهدَ: استفراغ الوسع في مدافعة العدو. [أي في صد هجوم العدو لا في مهاجمته]. [...] وفي الشرع: يُطلَق [الجهادُ] أيضًا على مجاهدة النفس والشيطان والفُسَّاق".

فإذا كان الجهادُ هو بذلٌ كبير للطاقة فإنَّ كلَّ عملٍ إرادي مُجهِد يهدف إلى مقاومة أذىً أو جلْب منفعةٍ لا تضرُّ بالغير هو جهاد. حتى إنَّ الجِماعَ أو الوطء أو المضاجعة هي جهاد. فالعربُ كانت تستخدمُ الفعلَ جَهَدَ بمعنى جامَعَ أو ضاجَعَ أو نَكَحَ. "وقيلَ: الجَهْدُ مِنْ أسماء النِّكاح". (لسان العرب وتاج العروس). قال النبي في حديث الغسل: "إذا جلسَ [الرَّجُلُ] بين شُعَبِها الأربع [يدَيْ المرأةِ ورِجْلَيها] ثمَّ جهَدَها [جامَعَها] فقد وجبَ الغسلُ". (رواه البخاري ومسلم وابن ماجه والبيهقي وأحمد). ومعنى جَهَدَها: بلَغَ طاقتَه ووسْعَه فيها ودفَعَها وحفَزَها، وهو كناية عن الجماع.

لقد أخذَت كلمةُ الجهاد معناها الشرعي الحالي وهو "قتالُ عدو الله وقهرُه" عندما كانت الدولة الإسلامية في مرحلة توسُّعها فكانت في حاجة إلى غطاء إيديولوجي فخصَّصَتْ وضيَّقَت المعنى العام للجهاد ليصبحَ مقتصرًا على المعنى السياسي والعسكري والحربي وهو قتال العدو. وبقي الجهاد يعني حتى وقتنا الحاضر قتالَ العدو "الكافر" بمعنى "المختلف في العقيدة". لذلك يجب وضعُ الآيات القليلة التي تتكلَّم عن الجهاد الذي بمعنى الغزو في إطارها التاريخي، مثل: "فلا تُطِعِ الكافرين [في هواهم] وجاهِدْهم به [بالقرآن] جهادًا كبيرًا" (الفرقان، 52)، "فرِحَ المخلَّفون [عن غزوة تبوك] بمقعدِهم خلافَ رسولِ الله [بقعودِهم بعدَ رسول الله] وكرِهوا أنْ يجاهِدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا: لا تَنْفِروا في الحَرِّ، قل: نارُ جهنَّمَ أشدُّ حرًا لو كانوا يفقهون" (التوبة، 81)، "لا يستئذنُكَ الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر [في التخلُّف عن] أنْ يجاهِدوا بأموالهم وأنفسهم واللهُ عليم بالمتَّقين. إنما يستئذنُكَ الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر" (التوبة، 44)، "أمْ حسِبْتُم أنْ تُترَكوا [بدون امتحان] ولمَّا يَعْلَمِ اللهُ الذين جاهَدوا منكم ولم يتَّخِذوا مِن دونِ الله ولا رسولِه ولا المؤمنين وليجةً [بطانة]، واللهُ خبير بما تعملون" (التوبة، 16)، "كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وهو كُرْهٌ لكم" (البقرة، 216)، "انْفِرُوا خِفافًا وَثِقالاً وجاهِدُوا بِأمْوالِكُمْ وأنفُسِكُمْ في سَبيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ" (التوبة، 41)، "وقاتِلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا" (البقرة، 190)، "وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافَّةً" (التوبة، 36)، "واقتلوهم حيثُ ثقِفْتموهم وأخرِجوهم من حيث أخرجوكم" (البقرة، 191)، "واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ ولا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا ولا نَصِيرًا" (النساء، 89). فهذه الآيات جميعًا هي حالات استثنائية فرضَتْها ظروفٌ سياسية خاصة.

ولكنَّ مسلمي اليوم بصورة خاصة عكسوا الفهمَ فجعلوا جِهادَ القتل هو المعنى الأساسي للجهاد وجعلوه هو الجهاد الأكبر بينما جعلوا جهادَ النفس هو المعنى الاستثنائي وجعلوه هو الجهاد الأصغر. فالتهَوا بالعالَم عن أنفسِهم وشغلَتْهم عيوبُ الآخرين عن عيوبهم إلاَّ من رحمَ الله.

ليس العدوُّ الخارجي في الحقيقة إلاَّ نتيجةً وسببًا وانعكاسًا لعدو داخلي. وهذا ما يذهب إليه الحديثُ:

ما ظهر الغُلول [الخيانة في المال عمومًا وفي المغنم خصوصًا] في قوم قطّ إلا ألقى اللهُ في قلوبهم الرعبَ، ولا فشا الزنى في قوم إلا كثُرَ فيهم الموتُ، ولا نقصَ قومٌ المكيالَ والميزان إلا قُطِعَ عنهم الرزقُ، ولا حَكَمَ قومٌ بغير الحق إلا فشا فيهم الدمُ، ولا ختر [غدر] قومٌ بالعهد إلا سلَّط اللهُ عليهم العدوَّ. (رواه الطبراني عن ابن عباس)

الخلاصةُ، إنَّ المعنى الحقيقي للجهاد والذي يجب التأكيد عليه هو بَـذْلُ أقصى جهدٍ في سبيل تحقيق أنبل غاية. وبذلك تكون ممارسةُ الحُبِّ faire l'amour/making love (وليس ممارسةَ الجنس faire [avoir] du sexe/having sex) جهادًا. ويكونُ كلُّ عملٍ فيه عطاءٌ ومشاركةٌ ومحبةٌ جهادًا. يكونُ كلُّ عطاءٍ لا إسرافَ فيه ولا أذىً جهادًا. وتكون مساعدةُ الآخر جهادًا. ويكون من الجهاد الكدحُ في سبيل الحصول على لقمة العيش للزوجة والأولاد والأبوين. وقد أشار نبيُّ الإسلام إلى ذلك عندما جاءَ رَجُلٌ إليه فاسْتَأْذَنَه في الجِهادِ فَقالَ: "أَحَيٌّ وَالِداكَ؟" قالَ: "نَعَمْ." قالَ [النبيُّ]: "فَفِيهِما فَجَاهِدْ." (رواه البخاري) وتكون مجاهدةُ النفس ومنعُها من الاعتداء على الآخر أو إيذائه جهادًا. وتكون مقاومةُ إغراءات المال والسلطة جهادًا وأيَّ جهاد. إنَّ محبة الآخرِ المختلفِ جهاد.

العطاءُ جهاد. وكظْمُ الغيظ جهاد. والعفو عند المقدرة جهاد أعظم. والإحسان إلى المسيء جهادٌ أعظمُ وأرفع. باختصار، الجهادُ هو التقوى. والمتَّقون هم المجاهدون حقًا. وقد وصفَ القرآنُ المتَّقين بأنهم هُمُ "الذين يُنفِقون في السرَّاء والضرَّاء، والكاظمين الغيظَ، والعافين عن الناسِ، واللهُ يحبُّ المحسنين" (آل عمران، 134) أليست كلُّ هذه الصفات تحتاج إلى جهاد؟

الجهادُ إذًا هو القيام بأيِّ شيء ثقيلٍ على النفس الأمَّارة أو بأي شيء لا ترغبه النفسُ وذلك من أجل تحقيق هدف نبيل. الجهادُ هو العملُ النافع لصاحبه، فمَنْ يعملْ لا يعمل إلاَّ لنفسِه ولمصلحته الفردية أو لمصلحة جماعته وليس لإعلاء كلمة الله أو الدفاع عن مقدَّساته أو قتال أعدائه، فاللهُ غنيٌّ عن العالَمين كما تؤكِّد الآيةُ: "وَمَنْ جاهَدَ فَإنَّما يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ. إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ" (العنكبوت، 6). الجهاد هو فعلُ أيِّ عملٍ فيه مشقَّةٌ على النفس بِنِيَّة الخيرِ للنفس و/أو للآخر (ولا فَرْق). فما الآخرُ إلاَّ مرآة للنفس؛ وما تراه أنتَ في الآخر ليس إلاَّ انعكاسًا لِما في داخلِكَ أنتَ. ومِنَ الحمقِ أنْ تَنظرَ في المرآةِ فتوجِّهَ لكمةً إلى الشخص الذي تراه فيها لأنه لا يُعجبكَ، إذْ إنكَ بذلك تكسرُ المرآةَ وتكسرُ صورتَكَ فيها وقد تُهشِّم يدَك ولا تُصلح العيبَ. الأجدى بك أنْ تنظرَ إلى نفسِك فترى عيوبَها وتصلحَها؛ وإذا ما أردْتَ النظرَ إلى المرآة فلسبب واحد هو مِنْ أجْلِ اكتشافِ ذاتك. لكنَّ تحويلَ النظر من الآخرِ إلى الذات أمرٌ ليس بالسهل؛ إنه جهاد حقيقي، جهاد أكبر. لأنَّ ذهنَ الإنسان تعوَّدَ على إلقاء اللوم على غيره. فمِنَ الجِهادِ أيضًا تغييرُ عادات الذهن. الجهادُ هو الحُبُّ، هو المحبة. الحبُّ هو جهاد. وإنَّ الجهادَ في الحُبِّ أعظمُ وأنبلُ وأفضلُ وأنفعُ وأرفعُ وأثقل على النفس من الجهاد في الحرب. وحتى إنْ كان الجهاد في حب العدوِّ أصعبُ من الجهاد في محاربته فإنَّ الجهادَ في حبِّه هو الطريق الوحيد لكسبِه. الجهاد هو عدمُ الأذى، هو اللاعنف. الجهاد إذًا هو "أحِبُّوا أعداءكم" (إنجيل متى 5: 44؛ إنجيل لوقا 6: 27، 28). فمَن مِنَّا يُجاهد؟

إكس-أون-ﭘـرﭬـانس، 11 أيلول/سبتمبر 2011

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود