مفهوم الحرية في فلسفة روسو السياسية

 

يحيى بوافي

 

الحرية! هذه الفاتنة التي خلبت الأفئدة على مدار التاريخ والألباب على السواء، واحتلت الركن الأساسي في تحديد ماهية الإنسان حتى أنها رادفتها لدى العديدين، وجعلت بذلك عمادًا لإنسانية الإنسان، وأداته لأنسنة الحياة وجعلها تتسربل بمعان تتجاوز مجرد ما هو كائن، ومحض الخضوع لحتميات الفطرة والانصياع لناموس الطبيعة.

ومع أنها كذلك فقد بانت ونأت عن ربوع الوطن العربي من الخليج الزاخر إلى المحيط الهادر، حتى دنا اليأس من استنباتها من أن يكون هرمًا لا يرتفع، مما دفع البعض إلى اعتبار هذا الوطن موطنًا قاحلاً سدت حدوده وتلبدت سماؤه دون آفاق الحرية المشرعة. إلا أن التاريخ المفصح عن إرادة الشعوب أبى إلا أن يفند مزاعم كهذه، خالقًا المفاجأة التي تجاوزت يأس النخبة وآمالها في الآن ذاته؛ فتسارع الأحداث تجاوز أفق انتظارها وتنظيرها معًا، فكان أن ولج هواء الحرية الرئة العربية التي سرطنها الردح الطويل للاستبداد الذي ما انفك يتوالد من انقلاب عسكري إلى آخر، محجمًا الآمال ومجهضًا الأحلام، متمخضًا عن المزيد من الخيبات وعن غير قليل من النكبات، دون أن تحدث الثورة الشعبية مثلما هو حاصل الآن. ولأن النظر إلى الحاضر لا يستقيم إلا بالالتفات إلى الماضي والانفتاح على الآخر، دون الإرتهان للأول ولا الوقوع في شرك أسر الثاني، تمامًا مثلما أن السياقة لا تستوي ولا تكتمل عملية إدراك فضائها إلا بما تعكسه المرايا، فإنه من اللازم، ولو في عجالة، الالتفات إلى الشكل الذي ارتسمت به الحرية كمفهوم في فكر أبرز منظري الثورة الفرنسية لسنة 1789، الذي اعتبر كتابه في العقد الاجتماعي إنجيلاً لها، فكيف تتحدد الحرية داخل فلسفة جان جاك روسو كواحد من فلاسفة الأنوار الذين غذوا التقليد الجمهوري؟

لإبراز المكانة المركزية التي يحتلها مفهوم الحرية ضمن فلسفة جان جاك روسو السياسية، يكفي تأمل هذا المقطع الوارد في كتابه العمدة في العقد الاجتماعي أو مبادئ الحق السياسي:

ولد الإنسان حرًا وهو في الأغلال حيثما كان. ذاك يظن نفسه سيد الآخرين وهو ما انفك أكثرهم عبودية. ترى كيف حدث هذا التغيير؟ ذاك أمر أجهله. ما الذي يمكن أن يجعله مشروعًا؟ أظن أنه بإمكاني حل هذه المشكلة[1].

فأول ما يستفاد من هذا القول لروسو، هو أن الحرية معطى أول بالنسبة للإنسان فالحرية لا تبارح الماهية الإنسانية، بل هي وثيقة الصلة بها بشكل طبيعي، ففي التمثل الافتراضي لحالة الطبيعة يصور الإنسان في وضع يتوافق مع ماهيته، إذ ينعم بمفرده بإحساس الوجود، فـ"في هذا الوضع، كأنما الإنسان إله"[2]، فالشخص يلتذ بذاته دونما حاجة إلى العلاقة، ويستقل بذاته بلا قسر ويشعر بالرضا حين يحس حياته الخاصة في ذاته، ففي حالة الطبيعة الحرية هي في المقام الأول ولا حاجة لأن تؤسس، إذ هي ملازمة لطبيعة الإنسان ذاتها، حتى أنه يمكننا اعتبارها صفته الجوهرية. وإن كان من الواجب إرساء الحرية من جديد فمعنى ذلك أنها فقدت. كيف حصل ذلك، روسو يدعونا إلى عدم انتظار جواب منه بهذا الخصوص، لكنه بالمقابل، يؤكد إمكانية جعل التغير الذي حدث في الإنسان مشروعًا؛ أي العمل على وضع مبادئ تقوم عليها الحرية في حالة المدنية بالشكل الذي ينمي ويطور الحرية الطبيعية، والعقد الاجتماعي ما جاء إلا لحل هذا المشكل؛ أي

إيجاد شكل للتجمع يحمي ويحفظ بمجموع القوة المشتركة شخص كل واحد وممتلكاته، ويظل بواسطته كل واحد، وإن اتحد مع الجميع، لا يطيع سوى نفسه، ويبقى حرًا بنفس الدرجة التي كان عليها سابقًا[3].

فالعقد الاجتماعي هو الذي يضمن للإنسان الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة التمدن، وهو انتقال يحدث فيه تغيرًا بارزًا باستبداله الغريزة في مسلكه بالعدالة، وإضفاء الأخلاقية اللازمة على أفعاله. أي أن أعظم ما يكسبه الإنسان بالعقد الاجتماعي هو الحرية الأخلاقية والمدنية، وكما يقول روسو:

إن ما يفقده الإنسان بالعقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية وحقًا لامحدودًا في كل ما يغريه وما يستطيع بلوغه، أما ما يكسبه فهو الحرية المدنية... التي وحدها تجعل الإنسان سيد نفسه حقيقة، إذ إن نزوة الشهوة وحدها عبودية، وطاعة القانون الذي نسنه لأنفسنا حرية[4].

وبهذا المعنى تكون الحرية هي الصفة الإنسانية ذاتها لدى روسو، ولذلك فإن

تخلي المرء عن حريته، إنما هو تخل عن صفته كإنسان، وعن حقوق الإنسانية وحتى عن واجباتها. وليس من تعويض ممكن لأي يتخلى عن كل شيء. إن مثل هذا التخلي يتنافر مع طبيعة الإنسان، فتجريد إرادته من كل حرية إنما هو تجريد لأفعاله من كل صفة أخلاقية[5].

لذلك كانت كل اتفاقية

تنص على السلطة المطلقة من طرف وعلى الطاعة اللامحدودة من الطرف المقابل، لهي اتفاقية متناقضة وواهية[6].

كما يقول روسو، فأن يتخلى الإنسان عن حريته، إنما هو ضرب من اللامعقول الذي يستحيل تصوره عقليًا، لأن

الزعم الذي يفترض القول بأن إنسانًا ما يهب نفسه مجانًا هو ضرب من اللامعقول ويستحيل تصوره. فمثل هذا الفعل لا شرعي ولاغ لمجرد أن الذي يقوم به يفتقد الحس السليم. وإذا قيل نفس الشيء عن شعب برمته، فالأمر يفترض شعبًا من المجانين. وما كان الجنون يومًا أساسًا للحق[7].

كل ما سبق يبرز مدى الأولوية التي تحتلها الحرية في فكر جان جاك روسو، حتى أن التعاقد السياسي يبقى في جوهره إفصاحًا عن الحرية وقانونًا لها، وهنا الوجه الحداثي اللامع لروسو، فبخضوع الرعايا لمقتضيات العقد، هم في الواقع

لا يخضعون لأحد، وإنما يخضعون فقط لمحض إرادتهم. فالتساؤل عن مدى امتداد حقوق السيادة وحقوق المواطنين على التوالي، إنما يعني التساؤل عن مدى ما يمكن للمواطنين أن يلتزموا به إزاء أنفسهم، كل واحد إزاء الجميع والجميع إزاء كل واحد[8].

ولذلك كانت الإرادة العامة التي تنجم عن مقتضيات العقد الاجتماعي والموجهة للسلطة التي تسمى سيادة، إرادة ثابتة لمجموع أفراد الدولة فعبرها يصبحون أحرارًا، وهم يعبِّرون عن هذه الحرية من خلال القوانين، لذلك جعل روسو السلطة التشريعية في يد الشعب دون غيره، وكل قانون لا يقره الشعب هو قانون لاغ. ولهذا السبب كان التشريع هو الذي ينتج الحركية الديمقراطية في فكر روسو، وهي الحركية التي تحدد مفهوم المواطن لديه؛ فهذا الأخير لا يمتلك سلطة انتخابية، وإنما سلطة تشريعية. فنفس الفرد بالنسبة له هو في نفس الوقت، وبشكل غير متمايز، واحد من الرعايا ومشرع، وذاك هو الملمح المميز لديمقراطية الهيئة السياسية، حيث مصطلح المواطن يجمع بين مفهوم الطاعة والسلطة التشريعية؛

لأن جوهر الهيئة السياسية هو في التوافق بين الطاعة والحرية، وأن كلمتي رعية وسيادة، إنما هما كلمتان متلازمتان لهما نفس المعنى ويتلخص في لفظة المواطن[9].

ومن هذا التأكيد يستخلص روسو التعريف الآتي للديمقراطية:

بداخل الديمقراطية الرعايا والسيد ما هم إلا نفس الأشخاص معتبرين تحت علاقات مختلفة[10]،

فالديمقراطية هي هذه الهيئة، حيث يعرف المواطنون، في ذات الوقت وبشكل غير متمايز، كرعايا ومشرعين، وبذلك سيغدو في مقدورنا فهم العلة التي لأجلها تضمن القانون لدى روسو تحديدًا للمواطن وللديمقراطية، والحال أن القانون يحتوي من جانب أول علاقة بين الإلزام والطاعة، كما يحتوي من جانب ثان على الإحالة إلى مشرع، والديمقراطية هي النظام الوحيد الذي يحقق هذا التأليف والتركيب فيما بين الطاعة والحرية، والمواطن هو الجمع الفعلي فيما بين هاذين المفهومين، ذلك أن المواطن لا يختزل في مجرد الطاعة بالنسبة لروسو لأن "اللاشيء لا ينتج شيئًا"[11]، ومن ثم فالمواطن لا يكون كائنًا سياسيًا سوى لأنه يسهم في إنتاج القانون، كما أن مصطلح المواطن لدى روسو ينطوي على الصفتين معًا: التشريع والطاعة، ليكون المواطن بذلك ليس هو من له حقوق وعليه واجبات فحسب، بل هو من يمتلك القدرة على سن القانون، ومن هنا ينبع العمق الدلالي للحرية التي تفيد الخضوع للقانون الذي "أنتجه الشعب ووافق عليه"[12]، لذلك كان الأهم بالنسبة لفيلسوف جنيف هو إيضاح العلاقة فيما بين القانون والحرية، فبداخل الديمقراطية الحقيقية، يمتلك المواطنون قرارًا بشأن القانون، لأن العلاقة بين القانون والحرية، وقد تحققت من خلال المشاركة المتساوية للمواطنين في السلطة التشريعية، تجعل الشعب هو واضع القانون، وكما يقول روسو "السلطة التشريعية تعود إلى الشعب ولا يمكن أن تعود إلا إليه"[13]، وغاية كل نظام تشريعي هي "الحرية والمساواة، أما الحرية فلأن كل تبعية خاصة تعني تجريد الدولة من قوة بنفس المقدار، وأما المساواة فلأن الحرية لا تدوم بدونها"[14]. ولالتقاط بعد الحرية في فكر روسو، نشير إلى أنه يميز بين زمنين في السياسي؛ يرتبط الأول بالقرار، أما الثاني فيتعلق بالنقد، فالمواطن لا تعود له فقط القدرة على التشريع ولكن كذلك القدرة على ممارسة النقد، نقد ما يعتبره شروطًا مولدة لما سيحد من حريته، وبالتالي فالمواطن من المنظور الروسوي يتدخل في مدينته ويجعل من تدخله هذا واحدًا من شروط حريته السياسية.

وعليه فإذا كانت الديمقراطية مستندة إلى الوجود الفعلي للحرية، فإن هذا الوجود لا يتحقق فقط بإنتاج القوانين التي تخدم هذه الحرية. لأن الديمقراطية لا تبلغ امتلاءها الواقعي عند روسو، إلا إذا كان للمواطنين إمكانية التعبير ومواجهة الأسباب التي تهدد حريتهم. لقد اعتقد روسو أنه بهذا قد أكمل مجهود الفكر السياسي الحديث بغية تأسيس الدولة على الحرية، لأن الأمر بالنسبة له، لا يتعلق بقدرة كل واحد على أن يعيش متحررًا من كل إكراه فقط، بل يرتبط قبل كل شيء بإدراك أن مؤسسة الجماعة السياسية يجب أن تقوم على الرضا الشخصي لأعضائها. فـ

ليست الالتزامات التي تربطنا بالجسد السياسي إجبارية إلا لأنها متبادلة، ومن طبيعتها أنه لا يمكن للمرء وهو يضطلع بها أن يعمل لصالح غيره دون أن يعمل لصالحه هو بالذات...، لماذا يسعى الجميع إلى تحقيق سعادة كل أحد سوى أن ليس من أحد إلا ويتشبث بصفته هذه المتمثلة بالتحديد في كونه أحدًا، ويفكر في مصلحته هو بالذات وهو يصوت فيما يهم الجميع؟ وهو ما يثبت أن المساواة على مستوى الحق وفكرة العدالة المتولدة عنها صادرة عن حب الذات الموجودة لدى كل إنسان، وبالتالي عن الطبيعة الإنسانية[15].

ويضيف روسو في نفس الفصل، أي الفصل الرابع من الكتاب الثاني

أن في استطاعة كل إنسان أن يتصرف بحرية في ما تركت له هذه الاتفاقيات من ممتلكاته وحريته بحيث أنه لا يحق للسيادة أن تحمل مواطنًا عبئًا أثقل مما تحمل مواطنًا آخر، إذ لو حصل ذلك لأصبحت سلطتها غير كفئة لأن القضية تصبح خاصة[16].

ومن هنا التمييز الذي يقيمه روسو بين ما يسميه "الحقوق الخاصة للمواطنين" وبين "حقوق صاحب السيادة" أي الشعب بمرجعيته السياسية، وكذا بين "الواجبات التي على المواطنين القيام بها بوصفهم رعايا" وبين "الحق الطبيعي الذي ينبغي أن يتمتعوا به بوصفهم بشرًا". فالانتماء للإرادة العمومية انتماء لسيادة الشعب السياسية وهي سيادة غير قابلة للتجزؤ ولا يمكن أن يستأثر بها شخص واحد لأن ماهية الإرادة العامة للشعب أن تكون عمومية وكلية[17] وطبيعتها العامة هي التي تجعلها لا تنصب على موضع خاص، أي هذه المصلحة الشخصية أو تلك، وذات الطبيعة هي التي تمنع نقلها.

قد نستمر في التقاط الشواهد النصية التي تؤكد المكانة المركزية لمفهوم الحرية في فكر روسو، وهي المكانة التي لا تحتاج إلى مزيد تدليل، مادام الهدف الذي وجَّه الفكر السياسي لدى روسو هو إقامة وضع سياسي جديد تتحقق فيه الحرية والمساواة، وهذه الغاية يمكن استنباطها حتى من الكيفية التي عالج بها مشكلة الملكية؛ فحتى إن هو اعتبر حق التملك حقًا مقدسًا، فإن فهمه له جعل منه حقًا محدودًا بكمية الملكية الكافية لتلبية حاجة الفرد إلى الأمن المادي والاستقلال العقلي، وذلك تحريرًا للمواطنين من التبعية الاقتصادية، بحيث يصدروا أحكامهم بشكل مستقل، إذ بذلك يتم ضمان إمكانية أن يطور المواطن آراءه ويعبر عنها، دون أن يعرض أسباب حياته للمخاطر، بمعنى أن روسو كان يرغب في إقامة وضع "لا يكون فيه أي مواطن على قدر من الغنى يكفي لشراء مواطن آخر، ولا يكون فيه أي مواطن على قدر من الفقر يضطره لبيع نفسه"[18] كما يؤكد ديفيد هيلد.

لكن على الرغم من نفس الحرية الذي يسكن الفكر السياسي لروسو، فإن مفهوم الإرادة العامة، قد جر الكثير من الشكوك والانتقادات على فهم روسو للحرية، أي موقع حرية الأفراد إزاء الشعب برمته، فإن كان الشعب سيدًا، فإن أعضاءه ما أن يجتمعوا "حتى تسود كيمياء غريبة. فمن الإرادة الفردية للجميع تنبثق إرادة عامة هي شيء مختلف نوعيًا عن إرادة الجميع، وتمتلك خصائص خارقة"[19]. فالمشكل الذي يطرح هاهنا هو التمييز الدقيق بين الواجبات التي يجب أداؤها أولاً بوصفنا رعايا وبين الحق الطبيعي الذي يجب أن نتمتع به بوصفنا كائنات إنسانية، وهو المشكل الذي يتجاوز الطبيعة التقنية، لأنه يرتبط في عمقه بمنطق النزعة التعاقدية الحديثة ذاتها، والذي استعاده روسو واشتغل داخله، فإذا كانت العلاقة بالحق تفترض المؤسسة المدنية، وقيام هذه الأخيرة على الاتفاق والتواضع لا على الطبيعة، فإن الناس ليس لهم حقوق إلا تلك التي تمنحهم إياها الجماعة التي ينتمون إليها، وهو ما كان واضحًا لدى هوبز، فاللفيتان ليس لحقه حدود، اللهم تلك التي تقتضيها قوته، لكن مع روسو تقوم النزعة الاتفاقية على مطابقة الإرادة العامة مع رأي الأكثرية "ففيما عدا العقد البدئي، فإن رأي الأكثرية ملزم دومًا لكل الآخرين وذلك نتيجة للعقد نفسه"[20]، والحال أنه بمقدورنا أن نرى في الأفضلية الكمية المحضة التي منحت للعدد هنا صورة أخرى لقانون الأقوى، وقد اتخذت صفة حق، وكما يتساءل روسو نفسه "ولسائل أن يسأل كيف يمكن لإنسان أن يكون حرًا ومرغمًا على الامتثال لإرادات غير إرادته؟ كيف يكون المعارضون أحرارًا وخاضعين لقوانين لم يرضوا بها؟"[21].

وعن هذا السؤال يجيب قائلاً:

أجيب أن المسألة مطروحة بشكل سيء. فالمواطن يرضى بكل القوانين حتى تلك التي توضع بالرغم عنه وحتى تلك التي تنزل عليه عقابًا حين يتجاسر على خرق واحد منها. فالإرادة الثابتة لكل أعضاء الدولة هي الإرادة العامة وبفضلها هي يكونون مواطنين أحرارًا[22].

ويضيف موضحًا في الهامش:

يقرأ المرء في جنوة، على واجهات السجون وعلى قيود المحكوم عليهم هذه الكلمة: حرية، إن هذا التطبيق للشعار جميل وصائب، فعلاً لا أحد سوى المجرمين في كل الدول يمنع المواطن من أن يكون حرًا. ولو تم في بلد من البلدان الحكم على جميع هؤلاء الناس بالأشغال الشاقة لأمكن التمتع بأكمل الحرية[23].

وهذا البعد الإكراهي للمرء على أن يكون حرًا، هو الذي جعل البعض يقف عند تناقضه اللفظي الظاهري، إذ كيف يمكن للمرء أن يكون متبعًا لإرادته الخاصة وفي نفس الوقت مكرهًا؟ الجواب هو أن الأفراد يجب أن يلقنوا كيف يريدون ما اتفقوا على أن يقوموا به ضمن العقد الاجتماعي، والأكيد هو أنه حتى الحرية الفردية يوجد عليها قيد هو ذاك المتعلق بما هو مفيد للفاعل، وكما يقول روسو في كتاب إميل أو في التربية:

من دون شك، أنا لست حرًا في ألا أريد خيري الخاص، وأنا لست حرًا في أن أريد شري، ولكن حريتي تكمن في هذا بالذات وهو أني لا أقدر على أن أريد إلا ما هو مناسب لي، أو ما أعتقد أنه كذلك[24].

والتقرير في الملائم وغير الملائم وما هو خير وما هو شر في الحياة الاجتماعية داخل الدولة الناجمة عن العقد يعود أمره إلى القانون الذي وضعه الشعب. لكن بالعودة إلى الاستشهاد السابق يطرح السؤال: ماذا بمقدور المعارض أن يقول؟ ليس له إلا أن يردد:

عندما يتغلب الرأي المضاد لرأيي، لا يثبت ذلك شيئًا آخر غير أني أخطأت، وأن ما كنت اعتبره الإرادة العامة ليس كذلك[25].

ومع ذلك فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: بأي معنى يكون التواجد مع الأغلبية وحده كافيًا لضمان حقيقية رأي ما؟ فالدولة لا ينبغي أن تعتبر مبدأ لكل الحقوق، والاتفاقيات المدنية غايتها هي مأسسة وضمان شروط ممارسة الحقوق التي تسبقها، والتي لا يتبع تحديدها لأية إرادة إنسانية، حتى ولو كانت إرادة الأكثرية، لأنها بأكثر العبارات إيجازًا؛ نابعة من حق طبيعي، وهو ما ظل روسو نفسه غير قادر على التملص منه، وهو ما يدل عليه قوله في الفصل السادس من الكتاب الثاني:

إن ما هو خير ومطابق للنظام، إنما هو كذلك بحكم طبيعة الأشياء، وباستقلال عن الاتفاقيات البشرية[26].

إن المفهوم الملتبس للإرادة العامة لدى روسو هو الذي ولد العديد من التأويلات كانت لها آثار سياسية فعلية، كما كان الحال مع ديكتاتورية اليعاقبة، وهو الذي جعل الليبراليين يتهمون روسو بغرزه طعمًا شموليًا في أرومة ديمقراطية. لقد جاء روسو في مرحلة مفصلية ليجسد، كما يقول إرنست باركر،

شخصية جانوسjanus ملتفتًا في آن واحد إلى الماضي – الحق الطبيعي (الحديث)، ونحو المستقبل – المدرسة التاريخية الألمانية والتجميل الرومنطيقي للدولة القومية، وأيضًا كمبتدئ مع لوك ومنته مع أفلاطون. لقد عانى روسو من أجل التوفيق بين الحق الطبيعي الحديث والقديم لكي يعيد دمج فرد الفلاسفة في مجتمع حقيقي... لقد واجه روسو المهمة العظمى والمستحيلة المتمثلة في أن يتناول بلغة الوعي والحرية لا السياسة فحسب بل المجتمع برمته، وأن يركب المجتمع SOCIETAS مع ما أمكنه أن ينقده من الكل UNIVERSITAS كالأم المرضعة لكل الكائنات المفكرة[27].

إن ما يمكن استخلاصه مما سبق هو أن فكرة الحرية شكلت ركنًا أساسيًا لفلسفة روسو السياسية، والغاية التي أشرطت ميلادها، لكن معناها الذي يرتبط بالقانون والذي يجعل الشعب يكره ذاته بذاته تلقائيًا من خلال السلطة التي تصدر عنه ويمارسها على ذاته، تبقى في حاجة إلى تطهير إن جاز القول من خلال تأصيلها ضمن ميتافيزيقا الحق، كمكون من مكونات المجال العملي، وتلك هي المهمة التي ستضطلع بها ميتافزيقا الحق لدى كانط.

*** *** ***

الأوان، الجمعة 23 أيلول (سبتمبر) 2011


 

horizontal rule

[1]  ج. ج. روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ الحق السياسي، تعريب عمار الجلاصي وعلي الأجنف، دار المعرفة للنشر، ط2 تونس، ابريل 2004، ص11.

[2]  قول لروسو من rêveries du promeneur solitaire ,cinquième promenade أورده فريدريك لوبياس في كتابه: الحرية، تعريب محمود بن جماعة، ط1، دار محمد علي للنشر، تونس، 2009، ص 31.

[3]  ج. ج. روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ الحق السياسي، مرجع سابق، ص 22.

[4]  المرجع السابق، ص 28.

[5]  المرجع السابق، ص 17.

[6]  المرجع السابق، ص 17.

[7]  المرجع السابق، ص 17.

[8]  المرجع السابق، ص 41.

[9]  المرجع السابق، ص 102.

[10] [10]" Dans une démocratie، les sujets et le souverain ne sont que les mêmes hommes considérés sous différents rapport" J.J.Rousseau، Lettre à D’Alembert، Paris، Garnier Flammarion 1967، p. 218

[11]  ج. ج. روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ الحق السياسي، مرجع سابق، ص 26.

[12]  المرجع السابق، ص 106.

[13]  المرجع السابق، ص 65.

[14]  المرجع السابق، ص 61.

[15]  المرجع السابق، ص 39.

[16]  المرجع السابق، ص 41.

[17]  د. عبد الحق منصف، الأخلاق والسياسة: كانط في مواجهة الحداثة؛ بين الشرعية الأخلاقية والشرعية السياسية، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ص 300.

[18]  ديفيد هيلد، نماذج الديموقراطية، الجزء الأول والثاني، ترجمة فاضل حتكر، ط1، معهد الدراسات الاستراتيجية، بغداد، بيروت، 2006، ص 109.

[19]  لويس دومون، مقالات في النزعة الفردانية، منظور أنتروبولوجي للإيديولوجيا الحديثة، ترجمة د. بدر الدين عردوكي، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت يوليو 2006، ص 135.

[20]  ج. ج. روسو، في العقد الاجتماعي، مرجع سابق، ص 119.

[21]  المرجع السابق، ص 119.

[22]  المرجع السابق، ص 119.

[23]  المرجع السابق، هامش، ص 119.

[24] « Sans doute je ne suis pas libre de ne pas vouloir mon propre bien، je ne suis pas libre de vouloir mon mal ; mais ma liberté consiste en cela même que je ne puis vouloir que ce qui m’est convenable ou que j’estime tel » (Emile OC IV : 586)

مقال متاح على الرابط: Jimena Hurtado Prieto. Liberté، égalité et indépendance : Constant,Rousseau et Tocqueville: cournot.u-strasbg.fr/users/…/HurtadoA.

[25]  ج. ج. روسو، في العقد الاجتماعي، مرجع سابق، ص 119.

[26]  المرجع السابق، ص 44.

[27]  لويس دومون، مرجع سابق، ص ص 140-141.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود