توفيق الحكيم ومحور المقاومة والممانعة

 

نشوان الأتاسي

 

أرني الله مجموعة قصصية للمفكر والأديب المصري الراحل توفيق الحكيم، وقد جعل من "إبليس" بطلاً للقصة الثانية من هذه المجموعة، واختار لهذه القصة اسم الشهيد.

تروي القصة – بإيجاز وببعض التصرف – أن بطلها "إبليس" أبصر الحق ذات يوم وعاد إلى الصواب وهجر الإصرار والعناد وعاف مائدة الشر وتاق إلى مائدة الخير؛ وبما أن ذلك حصل في فترة أعياد الميلاد، فقد توجه إلى بابا الفاتيكان طالبًا التوبة ومستجديًا قبوله في عداد المؤمنين من المسيحيين.

اهتز البابا في عرشه لنبرة إبليس الحارة الصادقة ووقع في حيرة من أمره وارتعد للفكرة: إذا آمن إبليس ففيم إذن بعد اليوم مجد الكنيسة وما مصير الفاتيكان ومتاحفه وتحفه ومخلفاته الدينية الكبرى وماذا عن غواية حواء ويوم الحساب الأخير والخروج من الفردوس وتعميد المسيح؟

إن إبليس هو محور الكتاب المقدس بعهديه "القديم والجديد" فكيف يُمحى من الوجود إبليس دون أن تُمحى كل تلك الصور والأساطير والمعاني والمغازي التي تعمر قلوب المؤمنين وتفجر خيالهم؟

ما معنى يوم الحساب إذا مُحي الشر من الأرض؟ وهل يحاسب أتباع الشيطان الذين تبعوه قبل إيمانه، أم تُمحى سيئاتهم ما دامت توبة إبليس قد قُبلت؟ ثم ما مصير العالم وقد خلا من الشر؟

إن الأمر خطير... وليس من حق البابا أن يفصل به لأن تحطيم الشر وفصله من الدنيا سيحدثان انفجارًا لن يدرك الذهن له مدى!

بوصوله إلى هذه النتيجة، التفت البابا إلى إبليس قائلاً: إصغ إلي يا... لست أدري بم أناديك؟ أرأيت؟... حتى اسمك بعد توبتك سيثير إشكالاً!... إن الكنيسة ترفض طلبك... إذهب إذا شئت إلى دين آخر.

خرج الشيطان خائبًا... لكنه لم يفقد الأمل... إن أبواب الله كثيرة... فيمم وجهه شطر حاخام اليهود الذي استمع طويلاً إلى أمنيته ورغبته الصادقة في التوبة وبأن يغدو يهوديًا مؤمنًا، ثم تأمل بما قاله مليًا:

إذا عفا الله عن إبليس ومُحي الشر ففيم إذن التمييز بين شعب وشعب؟ لن يكون بعد اليوم مبررٌ لاختيار بني إسرائيل كشعب الله المختار... إيمان إبليس سيدكُّ صرح التفوق اليهودي ومجد بني إسرائيل... وزوال الجشع وموت الطمع سينهي سيطرتهم المالية القائمة منذ أجيال بذهاب الشر عن النفوس...

وكان أن رد الحاخام على طلبه بالقول: ليس من عادتنا التبشير والاهتمام بأن يدخل في ديننا الغير... حتى لو كان إبليس!

للمرة الثانية، خرج إبليس من عنده مطرودًا مرذولاً، لكنه لم يقنط، فما زال أمامه دين الإسلام، فاتجه من فوره إلى شيخ الأزهر الذي استمع إلى رغبته الصادقة في أن يُسلم ويَحسُنَ إسلامه ويكون نعم القدوة للمهتدين!

تفكر شيخ الأزهر في العواقب: لو أسلم الشيطان، فكيف يتلى القرآن؟... هل يمضي الناس في قولهم "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"؟... لو تقرر غير ذلك لاستتبع الأمر إلغاء أكثر آيات القرآن..! كيف يستطيع شيخ الأزهر أن يقبل إسلام الشيطان دون أن يمس بذلك كيان الإسلام كله؟

بعد كل هذا التفكر، رفع رأسه ونظر إلى إبليس قائلاً: لقد جئتني في أمر لا قبل لي به وهو فوق سلطتي... نيَّتك طيبة ولا ريب!... لكن اختصاصي هو إعلاء كلمة الإسلام والمحافظة على مجد الأزهر... لكن ليس من اختصاصي أن أضع يدي في يدك.

خرج إبليس من عنده هذه المرة واليأس يملأ قلبه، ومن شدة قنوطه تجرأ وصعد إلى الأعالي ودق أبواب السماء بقوة وعنف فظهر له الملاك جبريل وسأله عما يريد فردَّ بأنه عازم على التوبة والإيمان وسأل إن كان قد جاء متأخرًا، فأجابه الملاك: بل جئت قبل الأوان! إذ ليس لك الآن أن تغير النظام الموضوع وليس للرحمة والمغفرة أن تمسَّا نظام الخليقة... لا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة... ولا للحق بغير الباطل... ولا للأبيض بغير الأسود... ولا للخير بغير الشر... إن الناس لا يرون نور الله إلا من خلال ظلامك... يجب أن تظل ملعونًا إلى آخر الزمان... إذا زالت اللعنة عنك زال كل شيء...

ولطَّف جبريل من لهجته قائلاً: تحمَّل مصيرك وقم بواجبك وامض في مهمتك... لا تتململ ولا تتوجع ولا تثُر... اهبط إلى الأرض وتحمَّل.... من يحب فليتحمَّل!

أدرك عندها إبليس أن حبه لله وإيمانه به هو وحده سر تماسك الكون وسر التناسق في قوانينه ونظمه!

ترك السماء مذعنًا لقدره وهبط الأرض ليتابع عمله بعد أن تيقن بأنه أكثر المخلوقات إيمانًا وحبًا بالله وتضحية في سبيله... وأنه هو فقط، دونًا عن الجميع، من يمنحه مبرر وجوده.

وختم الحكيم قصته بترداد إبليس لصرخته الداوية والدامية: "إني شهيد... إني شهيد".

*

تتشابه، بكمٍّ مدهش من الأوجه، ثنائية (الله – إبليس) التي أبدع الحكيم في وصفها وسرد تشابكاتها وتعقيداتها مع ثنائية أخرى، أحدث نسبيًا، هي (محور المقاومة والممانعة – إسرائيل)!

فكما بيَّن الحكيم الحاجة الوجودية لكل من قطبي ثنائيته (الله – إبليس) إلى بعضهما البعض، بمعنى أن وجود أحد قطبي هذه الثنائية يمنح القطب الآخر المبرر العملي والوجداني والمعنوي لوجوده، مهما بلغت درجة العداء والتناقض المعلن فيما بينهما... والعكس صحيح: أي أن اختفاء أحدهما يلغي مبرر وجود الآخر... بالقدر ذاته من الترابط العضوي الموصوف أعلاه، نجد العلاقة نفسها قائمةً بين قطبي ثنائية (محور المقاومة والممانعة – إسرائيل).

هذا الارتباط العضوي والمتشابك بين كل من قطبي الثنائيتين المذكورتين يفسر ذلك التهويل الانفعالي والتشنج والاضطراب واللاعقلانية في علاقتهما البينية، لأن كل قطب منهما محكوم بالتعامل مع الآخر عبر نقيضين في آن: حال العداء المعلن مع الآخر ورغبته في القضاء عليه... وفي المقابل حرصه عليه وعلى وجوده كمبرر لوجود ذاته.

ضمن هذا الإطار فقط يمكن فهم وتحليل كل أوجه الصراع القائمة والمحتدمة بين الحليفين اللدودين ضمن ثنائية (محور المقاومة والممانعة – إسرائيل).

الفارق الجوهري بين الثنائيتين هو أن أحد قطبي الثنائية الأولى (الله – إبليس) يجسِّد الخير المطلق فيما يمثل القطب الآخر الشر المطلق، بينما يكمن الشر المطلق في كلا قطبي الثنائية الأخرى.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود