حربان٭

 

ليف تولستوي

 

تجري في العالم المسيحي، في الوقت الراهن، حربان. صحيح أنَّ إحداهما قد انتهت، وأنَّ الأخرى لمَّا تنتهِ بعد، لكنهما اندلعتا في الوقت نفسه، وكان التضادُّ بينهما مذهلاً.

إحداهما، التي انتهت الآن، كانت حربًا قديمةً ومتغطرسةً وغبيةً وعنيفةً وغير عصريةً ومتخلِّفةً ووثنية. إنها الحرب الإسبانية-الأمريكية التي، عبر قتل البشر وحسب، حلَّت مسألة: من سيحكم الآخرين، وكيف؟

أما الحرب الأخرى، التي مازالت مستمرة، والتي لن تنتهي إلا بانتهاء كل الحروب، فهي حرب حديثة، متفانية، قائمة فقط على المحبة والوعي، حربٌ مقدَّسة. إنها حربٌ على الحروب، أعلنها منذ زمنٍ بعيد (كما قال فيكتور هوغو في أحد المؤتمرات) القسم التقدمي الأفضل للعالم المسيحي ضد القسم الآخر، العنيف والمتوحش، لهذا العالم نفسه، والتي يخوضها بقوة ونجاح استثنائيين، في الآونة الأخيرة، ثلَّة من المسيحيين الدوخوبوريين[1] القوقاز ضدَّ الحكومة الروسية الطاغية.

في الأيام الأخيرة، تلقَّيت رسالة من كولورادو، من سيدٍ اسمه جيسي غولدوين، يطلب أن أرسل له: «... بضع كلمات أو أفكار تعبِّر عن مشاعري بخصوص العمل النبيل الذي تقوم به الأمة الأمريكية، وعن بطولة جنودها وبحَّارتها». هذا السيد، ومعه معظم الشعب الأمريكي، واثقٌ كليًا من أنَّ قيام الأمريكيين بقتل عدة آلاف من البشر العُزَّل (كان الإسبان عُزَّلاً تقريبًا مقارنةً بتسلُّح الأمريكيين) هو، بلا شكٍّ، عملٌ نبيل noble work، وأنَّ الذين ظلُّوا على قيد الحياة، وسليمي الجسم، بعد قتل عدد كبير من أقربائهم، قد أشادوا لأنفسهم مكانة مربحة: إنهم أبطال.

الحرب الإسبانو-أمريكية، بغضِّ النظر عن الأهوال التي ارتكبها الإسبان في كوبا، الأمر الذي استُخدم ذريعةً للحرب، تشبه ما يلي: عجوزٌ خَرِفٌ واهن القوى، ترعرع على تقاليد الشرف الكاذب، لكي يحلَّ سوء تفاهم حاصل بينه وبين شاب، يدعو هذا الشاب، المتمتع بكل ما يمكن لإنسان أن يتمتع به من قوة، إلى الملاكمة. والشاب، الذي يجب أن يسمو، بما لا يُقاس، على حلٍّ كهذا للمسألة، يقبل التحدِّي، وهو مسلَّح بقبضة حديدية[2] ينقضُّ على العجوز الضعيف الخرف، فيحطِّم أسنانه، ويكسر أضلاعه، وبعد ذلك يتحدَّث بحماس عن مأثرته لجمهورٍ كبير من أمثاله من الشبان الذي يبتهجون ويثنون على البطل الذي لقَّن العجوز درسًا.

هكذا هي إحدى الحربين، والتي تشغل كلَّ عقول العالم المسيحي. وما من أحد يقول شيئًا عن الحرب الأخرى، بل ما من أحد يعرف عنها شيئًا تقريبًا. الحرب الأخرى، هاكم كيف هي:

كل الحكومات تكذب على البشر، وتقول: جميعكم، المحكومين من قبلي، معرَّضون لخطر الإحتلال من قِبل الشعوب الأخرى. وأنا أسهر على رفاهيتكم وأمنكم، ولهذا أطلب منكم أن تعطوني، كل سنة، ملايين الروبلات من ثمار جهودكم، والتي سوف أستخدمها لشراء الأسلحة والمدافع والبارود والسفن، من أجل حمايتكم. وعدا عن ذلك، أطلب منكم أن تنخرطوا في المؤسسات التي أقمتها لكي تجعل منكم أجزاءَ بلهاء في آلة هائلة واحدة: الجيش، الذي أقوده أنا. وبتواجدكم في هذا الجيش ستكفُّون عن أن تكونوا بشرًا، وأن تكون لكم إرادة، بل ستفعلون كل ما أريد. وأنا أريد، قبل أي شيء آخر، أن أهيمن، أما الوسيلة التي سوف أستخدمها في الهيمنة فهي القتل، ولهذا فسوف أعلِّمكم القتل.

بغضِّ النظر عن سخف تأكيد أنَّ البشر معرَّضون لخطر هجوم حكومات الدول الأخرى التي تؤكِّد، بغضِّ النظر عن عمق تمنِّي السلام، أنها معرَّضة لذاك الخطر نفسه. ورغم ذلِّ العبودية التي يتعرَّض لها الناس عند انخراطهم في الجيش، ورغم قسوة الأمر الذي يُدعَون إليه، فإنَّ البشر يُصدِّقون الكذبة، ويُقدِّمون أموالهم لكي يُستَعبَدوا، ولكي يَستعبِدوا بعضهم بعضًا.

وفجأةً يظهر أناسٌ يقولون: ما تقولونه عن الخطر الذي يُهدِّدنا، وعن اهتمامكم بحمايتنا منه، كذب. فكل الحكومات تؤكِّد على أنها تريد السلام، ومع ذلك تتسلَّح ضدَّ بعضها بعضًا. ناهيكم عن أنَّ البشر جميعًا إخوة، بحسب القانون الذي تعترفون به، ولا يوجد أي فرق في الانتماء إلى هذه الدولة أو تلك، وبالتالي فهجوم الدول الأخرى عليكم، والذي تخوِّفوننا به، لا يخيفنا، وليس له أي معنى. أما الأهم فهو أنَّ، بحسب القانون المعطى لنا من عند الله، والذي تعترفون به أيضًا أنتم الذين تطلبون منا المشاركة في القتل، من الجلي أنْ ليس القتل فقط ممنوع بل كافة أشكال العنف، ولذا لا نستطيع أن، ولن، نشارك في تحضيراتكم للقتل، ولن نقدِّم المال في هذا السبيل، ولن ننخرط في الحشود المنظمَّة من قِبلكم، حيث يتمُّ إفساد عقول الناس وضمائرهم عبر تحويلهم إلى أدواتٍ للعنف الذي يفتن كل إنسان شرير تكون هذه الأداة في متناول يده.

هذا هو فحوى الحرب الأخرى التي يقودها أفضل الناس في العالم ضدَّ ممثلي القوة الشرسة، والتي اندلع أوارها بقوةٍ استثنائية في الآونة الأخيرة بين الدوخوبوريين والحكومة الروسية. وقد جنَّدت الحكومة الروسية ضدَّ الدوخوبوريين كلَّ الوسائل التي يمكنها استخدامها في القتال، وهذه الوسائل هي: إجراءات الاعتقال البوليسية، منع مغادرة مكان الإقامة، منع الاختلاط فيما بينهم، اعتراض الرسائل، التجسس، منع نشر الأخبار المتعلقة بالدوخوبوريين في الصحف، نشر الافتراءات بحقهم في المجلاَّت، شراء الذمم، الجلد، السجون، النفي، تدمير العائلات. والدوخوبوريون، من جهتهم، جنَّدوا وسيلتهم الدينية الوحيدة: العقلانية الحكيمة، الصمود الصبور، ويقولون: لا ينبغي للبشر الخضوع لغير الله، ومهما فعلتم بنا لا يمكننا أن نخضع لكم، ولن نفعل ذلك.

يتمُّ تمجيد أبطال تلك الحرب الوحشية من الإسبان والأمريكيين الذين، رغبةً منهم في التميُّز عن الآخرين، والحصول على المكافآت والمجد، قاموا بقتل الكثير الكثير من البشر، أو قُتِلوا هم أنفسهم أثناء قتالهم أقربائهم. لكنْ لا أحد يتحدث عن، ولا يعرف حتى، أبطال الحرب على الحروب الذين ماتوا، ويموتون، في منأى عن الأنظار والأسماع، تحت الضرب بالقضبان أو في الزنازين الانفرادية النتنة، أو تحت التعذيب الشديد، ورغم ذلك ظلُّوا مخلصين للخير والحقِّ حتى النَّفَس الأخير.

أعرف العشرات من هؤلاء الشهداء الذين لقوا حتفهم، وحتى المئات المنتشرين في شتَّى أرجاء العالم، ويواصلون هذه الدعوة الاستشهادية للحقِّ.

أعرف دروجين، المعلِّم-الفلاح، الذي عُذِّب حتى الموت في كتيبة تأديب، وأعرف شخصًا آخر، هو إيزيومجنكو، رفيق دروجين، والذي حُبس في كتيبة تأديب، ثمَّ نُفي إلى أقصى الأرض. وأعرف أولخوفيك، الفلاح الذي رفض أداء الخدمة العسكرية، فحوكم في كتيبة تأديب، والذي هدى العسكري الخفير سيريدا على الباخرة. سيريدا، وقد فهم ما قاله أولخوفيك عن أنَّ الخدمة العسكرية خطيئة، رجع إلى القيادة وقال، كما قال الشهداء في القِدم: «لا أريد أن أكون مع المضطهِدين، اجمعوني بالشهداء»، فراحوا يُعذِّبونه، وأرسلوه إلى كتيبة التأديب، وبعد ذلك إلى منطقة ياقوتيا [المنفى]. أعرف عشرات الدوخوبوريين الذي مات منهم الكثير، أو أصيبوا بالعمى، ورغم ذلك لم يخضعوا للأوامر التي تناقض شرع الله.

منذ أيام قرأتُ رسالةً عن دوخوبوريٍّ شاب، أُرسل بمفرده، دون رفاق، إلى فوجٍ متمركزٍ في سمرقند. ومن جديد، الأوامر نفسها من طرف القيادة، والأجوبة البسيطة الدامغة:

-       «لا يمكنني أن أفعل ما يناقض إيماني بالله».

-       «سوف نعذِّبك».

-       «هذا شأنكم. أنتم تقومون بعملكم، وأنا أقوم بعملي».

وهذا الفتى العشريني، المقذوف به إلى إقليمٍ غريب، وسط أناسٍ معادين له؛ أناس أقوياء، أثرياء، متعلِّمين، يبذلون قصارى جهدهم لإخضاعه، لا يخضع، ويقوم بعمله العظيم.

يقولون: «هذه تضحيات غير مجدية. وهؤلاء الناس سيُقتلون ونظام الحياة سيبقى على حاله». أعتقد أنَّ البشر قالوا الشيء ذاته عن لاجدوى تضحية المسيح وكلِّ الشهداء في سبيل الحقِّ. أناس زماننا، وخصوصًا المتعلِّمون، أصبحوا من الفظاظة بمكان بحيث لا يفهمون، ولا يستطيعون لفظاظتهم أن يفهموا، معنى فعَّالية القوة الروحية. إنهم يفهمون قصف حشد من البشر بشحنة قدرها 250 "بُودًا"[3] من الديناميت، ويرون القوة في هذا؛ لكنَّ الجوهر الحقَّ والمتحقق، والذي يصل بالحياة إلى الشهادة، وبات في متناول الملايين، حسب رأيهم، ليست قوة لأنها لا تُفرقع، ولا تُرى عظامٌ مكسورة وبِرك دماء. العلماء (بالحري، العلماء السيئون) يستخدمون كل قدرات التبحُّر المعرفي لإثبات أنَّ البشرية تعيش كقطيع مَقود بالشروط الاقتصادية فقط، وأنها أُعطيت العقل فقط لأجل اللهو، لكنَّ الحكومات تعرف ما الذي يحرِّك العالم، ولهذا، دونما خطأ، وتبعًا لغريزة البقاء، وبحرص تتعامل، أكثر من أي شيء آخر، مع بروز القوى الروحية التي تتوقَّف عليها الحياة والموت. ولهذا السبب، تمَّ توجيه كلِّ قدرات الحكومة الروسية، ومازالت موجَّهة، لدرء خطر الدوخوبوريين، وعزلهم، ونفيهم خارج الحدود. لكن، ورغم كل الجهود، فتح نضال الدوخوبوريين عيون الملايين.

أعرف مئات الأشخاص من العسكر الشباب وكبار السن الذين، بفضل اضطهاد الدوخوبوريين الوديعين الكادحين، باتوا يرتابون في شرعية عملهم. أعرف أشخاصًا راحوا يتفكَّرون، لأول مرة في حياتهم، في معنى المسيحية، وهم يرون ويسمعون، من خلال حياة هؤلاء الناس، الاضطهاد الذي يتعرَّضون له. والحكومة، التي تحكم ملايين الناس، تعلم هذا، وتشعر بأنها قد أُصيبت في قلبها.

هكذا هي الحرب الثانية المندلعة في عصرنا، وهكذا هي تبعاتها. وتبعاتها هامَّة، ليس على الحكومة الروسية وحدها؛ فكل حكومة تقوم على الجيوش، وعلى العنف، تندحر كذلك بهذا السلاح. قال المسيح: «أنا غلبت العالم»، وقد غلب العالم حقًا، لو أنَّ البشر فقط آمنوا بقدرة السلاح الذي منحه. وهذا السلاح هو أن يتَّبع كلُّ إنسان بصيرته وضميره.

إنَّ هذا من البساطة بمكان، من اليقين والإلزام لكلِّ إنسان بمكان: «تريدون جعلي شريكًا في القتل. تطلبون مني الآن تجهيز أدوات القتل، وتريدون أن أشارك بنفسي في حشد القتلة المنظَّم – يقول الإنسان العاقل الذي لم يبع ضميره، ولم تغشي الظلمة على بصيرته – لكني أَدين بالقانون نفسه الذي تَدينون به، والذي يُحرِّم، منذ زمنٍ بعيد، ليس القتل فقط بل شتَّى أشكال العدوان، ولهذا لا يمكنني طاعتكم». هذه هي الوسيلة، البسيطة إلى هذا الحدِّ، التي تغلب العالم.

ياسنايا بوليانا، 15 آب 1898

ترجمة: هفال يوسف

*** *** ***


 

horizontal rule

٭  فصل من كتاب ليف تولستوي: مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية، ترجمة هفال يوسف، معابر للنشر، دمشق، 2009.

[1]  الدوخوبوريون: فرقة من "المسيحيين الروحيين" ظهرت في روسيا، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. تنكر الطقوس والأسرار الأرثوذكسية والإلكيروس والرهبنة، وتؤلِّه زعماءها. هاجر أعضاؤها، في أواخر القرن التاسع عشر، إلى كندا بسبب القمع الذي تعرَّضوا له في روسيا.

[2]  بالفرنسية casse-tete: سلاح معدني له ثقوب للأصابع يستخدم في قتال الشوارع.

[3]  البود: وحدة وزن تساوي 16.38 كغ.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود