الـصـديـق

 

جورج خضر

 

قال أرسطو: "يا أصدقائي، ليس من أصدقاء". لن أناقش المعلم الأول في ما ذهب إليه مغاليًا. فالبشرية لا تخلو من محبين صادقين كما لا تخلو من مبغضين كثر. في اللغة صادقته أي خاللته. ومعنى صديق فلان أنه صدقه المودة والنصيحة. هناك إذًا نأي عن الكذب. هناك مبيت في الإخلاص: "أحبب صديقك كنفسك”. بذا تجعله قريبًا وكأنكما واحد. لعل كل سر الصداقة أنه يكمن كليًا في المحبة التي يصير فيها المحبوب واحدًا مع المحب.

مرة خاطب أحد قياصرة روسيا الرئيس الفرنسي في رسالة إليه قائلاً: صديقي العزيز، فأراد الرئيس الفرنسي أن ينقح له العبارة قائلاً: في العرف الديبلوماسي يقال يا أخي العزيز. أجابه الروسي: أخوك مفروض عليك (بالطبيعة) أما صديقك فتختاره.

كيف تتلاقى القلوب هذا سر الوجود. ما أجرؤ على قوله إن هذا سر إلهي. الله عاقد القلوب وفيه وبه تتوحد بحيث تنطق نطقًا واحدًا فلا يبقى محل للخلاف في الوجدان ولو بقي محل للاختلاف العقلي. ولا ينثلم القلب بذا ولا يخشى الاختلاف ولو بمباينة قليلة إذ المصدر واحد وهو الحقيقة الوجدانية العميقة التي تتبلور واحدة فيك وفيه. وتطمئن إلى الآخر لعلمك بإخلاصه للحق صدر منك أو صدر من الآخر. لم يجعلكما التماهي واحدًا لكن الحق أنشأ فيكما التماهي لأنكما ثمرته الواحدة. للإنسان قلب رحب بالحق أو هو ليس بشيء.

فيها حركة شبيهة بالتنزيل والرب يختار لإلهامه آنية مختلفة في ما يبدو منها وكأنها واحدة لأنها قادرة على تقبل كلمة منه واحدة فإذا استوعبت تجعل من الاثنين واحدًا. الباقي فروق في التعبير أو النبرة او الصيغة. واحدكما أقوى منطقًا أو حدة ذكاء. وحدتكما ليست بهذه ولكن بما استلمته من فوق. التصرف الواحد يمكن أن يكون لغة الله إذا ظهرت.

لغة الله تصير لغة الناس سلوكًا وكأنهم مرآة ربهم. قول الله نفسه نسميه اللاهوت وقول الإنسان نفسه نسميه الناسوت. والقول والكيان واحد. ويقترب الإنسان من الله أحيانًا بقوة بحيث لا تقدر أن تميز على مستوى الكلام ما هو للخالق وما هو للمخلوق. إذا كنت مع أهل التجلي لا تقدر بسهولة أن تؤكد أن قول الإنسان هو له وحده. الرؤية إذا انكشفت تجعلك تميل إلى أنها سقطت عليك من المحل الأرفع.

***

ما المقولة الوجدانية التي فيها تنوجد الصداقة؟ هي الشركة أو المشاركة أي ذلك الاتحاد الذي لا يلغي الإثنينية الكيانية ولكن يحول طاقتها إلى وحدة عطاء، إلى تكامل بمعنى أن الشخصية لا تتحقق إلا بالآخر. الذات ليست الفردية التي هي تأكيد الأنا بالانعزال عن الآخر. الآخر ليس آخر بمعنى ضد أناك ولكن بمعنى أنكما بتما حركة واحدة لا إقصاء فيها لصوت واحد منكما ولا ذوبان.

الوحدة تفترض دائمًا وجهًا آخر ليس مرآة لوجهك ولكنه نحوه أو إليه. ما سميناه مشاركة يمكن تسميته المعية والمعية تفرض سيرًا جنبًا إلى جنب في التآزر في حالة سلامة المشي أو صعوبة المشي عند أحدكما. أنت تعطي صديقك نفسك إذا رأيته يعرج فيحس أنه قد بلغ السلامة.

غير أنه يتعذَّر عليك الذهاب إن لم يمسك الله بيدك. ما من تجاوز للثنائية الخطرة إلا بالثالوثية التي الله مبدؤها وغايتها. الصداقة لا تنتهي إلا إذا خان أحدكما ربه فيخون منطقيًا صديقه. ما من لقاء بشري محتوم مهما تأججت العاطفة. إنها تسقط عند نتوء الأنا. فإذا غاب وجه الله عنكما تذبل أنت أو هو أو كلاكما وكأن شيئًا من صفاء القربى لم يكن. في عالم القصة وضع فرنسوا مورياك كتابًا عنونه صحراء الحب. أيًا كانت فلسفة المؤلف احتسب أن الصداقة الجامعة هي التي تلغي جفاف الوجود فإذا زرعت المحبة تتفجر من تحتها الجنات التي تروي كل العطشى.

***

انتقدني بعض الأصدقاء لأني تجرأت في لو حكيت مسرى الطفولة على قول ما مفاده أن الصداقة أصفى عاطفة أو أجمل. قد لا أكون متمسكًا بهذه الصياغة ولكني أردت أنها العاطفة الوحيدة على مستوى الطبيعة التي لا تتضمن تبادلاً لأن التبادل يسري من نفسه. فإذا علاك المحب تعلو وتعليه بدورك ولا تطلب شيئًا خارج نطاق الصداقة من متاع هذه الدنيا.

أجل عندك مشاعر أخرى طبيعية أيضًا كتلك التي تربط الرجل بالمرأة وقد تصل هذه إلى التجرد الكبير وإلى الصفاء. ولكن تضاف إليها مكونات أخرى كالمال والبيت وذوي القربى التي تهدد أحيانًا الصفاء الكامل. قلت أحيانًا لأني لا أشك في إمكان الإخلاص الكامل في الحياة الزوجية. جل ما أردته في موقفي القديم في لو حكيت مسرى الطفولة أن الصداقة في طبيعتها الحالية كالماء العذب الذي لا لوثة فيه وأنها في أحايين كثيرة طريقنا إلى الحياة الزوجية العظيمة. أنت تأخذ رفقاءك أمام وجه الله فيستضيئون به ويقتربون.

في طاعة الله لا تستطيع أن تحب الله كما أحبك لأن قلبه أوسع من قلبك. ولكن على صورة حبه لك تقدر أن تحب الآخر لأن الرب يوسع قلبك في كل حين ويجعل قلبك مثل قلبه على قدر ما تستطيع البشرة أن تكون متقبلة.

إذا مات الأصدقاء تبقى متشبهًا بفضائلهم فتحيا. الذين في الفردوس ومن استبقوا على الأرض يظلُّون واحدًا لأن الوجوه تظل إلى الوجوه إذ الرب هو الجامع. اخرجوا من الصحراء.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود