في سمات الخطاب الثوري السوري

 

نورس مجيد

 

الخطاب هو ترمومتر الحدث، هو الميزان الذي يقيس حدة الأزمة وانقلاب المفاهيم وتحول الآراء الجمعية. عادة ما يكون الخطاب الثوري غاضبًا، ومنفعلاً، يعتمد على تهييج العاطفة وتحفيز الهمم من خلال إعادة تصوير ونشر وتكرار مشاهد الصراخ والألم، ومن خلال إبراز ضعف الحيلة تجاه الظلم، وفي حالات أخرى، إظهار انعدام إنسانية الخصم والمبالغة في توصيف جرائمه وعرض صورها وأحيانًا تلفيقها. في البدء إذًا كانت الكلمة، وعادة ما تنتهي الأعمال أيضًا بكلمات تبررها أو تسوق لها أو تنتقدها أو تحاول تجميلها؛ الخطاب هو في جوهر الصراع، ولا يمكن لطرف أن يتمتع بشرعية ما لم يملك خطابًا علنيًا يبرز الموقف ويتحدث عن التوجه ويصوغ الإستراتيجية.

إن فهم طبيعة الخطاب الثوري خطوة ضرورية لفهم الحالة السورية اليوم، ولتوقع منحى تطور أحداثها في المستقبل، وإذ تبقى الثقافة الشعبية جزءًا من الخطاب الثقافي والسياسي، يبدو على العكس بأن صوت المثقف السوري الذي كان مجبرًا على الصمت لعقود طويلة، يبدو مذعنًا وخاضعًا لما يعتقد بأنه ثقافة شعبية، خصوصًا تلك التي تملك الصوت الأعلى والأكثر حدة وغضبًا.

من الطبيعي أن يستخدم الناس كل ما في جعبتهم من صور لتوصيف الجرم واستجداء النصرة ضده، وقد شكلت صور الجرائم والاعتداءات السمة الأبرز للخطاب الثوري في سورية، مثلها ذلك الخطاب الغاضب الحاد الذي جرى تداوله على طرفي الصراع منذ الأيام الأولى دون أي احتساب لدرجة الغليان التي يصنعها في الشارع المحتقن أصلاً. إن اعتبار المجرم ومن معه، ومن حوله، ومن والاه، فاقدين للإنسانية كان الخطوة الأولى لتكريس القطيعة مع أي عمل أو جهة تنتهج السياسة والتروي والتفاوض والبحث عن حلول سلمية للوضع في سورية، وقد مهد ذلك  لكل الخطوات التي شجعت لاحقًا على رفض العمل المدني ونسخه بالعمل المسلح، ثم برر لتلك النزعة المتزايدة التي ترى في الطرف الآخر مهما اتسعت الشريحة التي يمثلها عدوًا يجدر التخلص منه كخطوة أولى "للتحرر". هذه الشريحة التي تعد مجرمة ويجدر القصاص منها وفقًا للخطاب الشعبي والثقافي، ما لبثت منذ أشهر طويلة تتوسع وتمتد على الخارطة السورية ليس انطلاقًا من جرمها بل انتمائها، وليس ارتكازًا على قصاص عادل بل على تصاعد للجرائم والسخط وغياب العدالة التي تستطيع التفريق بين الادعاء والجرم. إن توقع التهدئة بعد هذا الغليان المحموم وهمٌ لا يكترث لقوانين الفيزياء، فلا يمكن أن تجني من الشوك عنبًا، ومن العوسج تينًا، وليس من المحتمل أن نتوقع لهذا الغليان الممتد على الساحة السورية أن ينتج مجتمعًا ينعم بالسلام قريبًا ما لم يتم تعديل الخطاب المغرق في الدموية، والبدء، مباشرة، في ترميم العقد الاجتماعي المنفرط بشدة.

خطاب السياسيين وطبول الحرب

إن الذاكرة السياسية في العالم قصيرة جدًا بل يمكن وصفها بالمرضية، فالعالم لا يهتم بأسباب اندلاع الحدث بقدر اهتمامه بشكل الصراع اليوم واليوم فقط. الجميع يغضب لمشاهدة صور الضحايا الأبرياء لكن قلة فقط يتابعون حالات الحرب المتواصلة حتى ولو كانت غير متكافئة. هناك ما يكفي من الظلم القائم يوميًا في كل مكان في العالم لملء ساعة الصباح الإخبارية، وهكذا كانت الحال لفترة طويلة من الزمن، لدرجة أن الوعي الإنساني تكيف وبرع في غض الطرف ومواصلة الحياة والاستهلاك وكأن ما يحدث جزءٌ من طبيعة الأشياء.

ليست الحالة السورية استثناء لهذه الصورة التاريخية المؤلمة، وجيلنا عايش تمامًا هذه المشاهد، ووقف مثل غيره متفرجًا على المجازر والقتل الجماعي والصراعات الدامية التي انتشرت في كل مكان في فلسطين والعراق ولبنان والسودان والصومال والبلقان ورواندة وأفغانستان وغيرها. لم يكن الغرب في معظم هذه الحالات متفرجًا بل لاعبًا يغذي طرفي الصراع مثلما فعل في حرب إيران والعراق. خلال الأشهر الماضية تحول الخطاب الشعبي والثقافي في سورية من خطاب يملك بعض مقومات الثقة والفاعلية إلى خطاب ينغلق أكثر فأكثر في منطق الضحية، يوازيه ويرسخ له خطاب سياسي سلبي يتهم العالم بالتواطؤ والخذلان والتفرج. يأتي ذلك مع الميل الواسع لقبول العنف المنفلت أمرًا واقعًا والتلويح بانتصارات صغيرة غير واضحة المعالم توهم الناس تارة باقتراب النصر، ثم تعيدهم تارة أخرى إلى حفرة اليأس وهكذا دواليك بما يضمن استمرارية دورة الصراع أو رتابتها بأقل تقدير. هذه الدائرة المغلقة عززها أيضًا خطاب النخبة المثقفة التي كررت كما فعلت في بداية الثورة بأن النظام هو الذي يجبرنا على الحرب، واكتفت بالبحث عن مبررات الحرب دون الخوض في سبل التخلص من هذه الجبرية، ودون التفكير أو التخوف من تبعات الحرب وآثارها، والتي قد تكون أخطر بكثير على السوريين من حيث زمن الصراع وعدد الضحايا ناهيك عن احتمال فشلها في إسقاط النظام أصلاً، وتكفي الإشارة هنا إلى صراعات الشرق الأوسط وخارجه التي لم تفلح في إزاحة الطاغية أو المحتل، أو انتهت جزئيًا على طاولة تفاوض كان يترأسها أمراء الحرب أنفسهم، ومثالاً السودان ولبنان، على التوالي، هما من أقرب الأمثلة إلينا حول نتائج كهذه.

بمجرد أن كانت أسباب العنف والاحتقان مفهومة بات من السهل تبرير تبعاتها والقبول بها أمرًا واقعًا، بل والاستماتة في الدفاع عنها. لقد استبدل المثقف السوري واجبه المتمثل في كشف الحقيقة مهما خالفت تيار العموم، والبحث المتواصل عن مخارج مهما بدت أفقها مغلقة، وتوضيح نتائج الخيارات التي نقوم بها مهما بدت مؤلمة، استبدلها ببثِّ الأمل، الواهم أحيانًا كثيرة، وانجذب نحو الخطاب الأعلى صوتًا، ذلك المتمثل في صرخات الألم والانتقام القوية التي أطلقها كثيرون، وليس الكل، وتجاهل جميع الأصوات الأخرى، التي بدت خافتة مترددة، وفي أحيان كثيرة خائفة ومتأذية وباحثة عن خلاصها في خطاب المثقفين أنفسهم. بدلاً من السعي لتخفيف آلام الناس واحتوائها وتوجيهها. انخرط المثقف السوري منذ اليوم الأول في تضخيم هذه الآلام وتوصيفها ونشرها، ولهذا السبب تحديدًا، وفي الجهة المقابلة تمامًا، لم تكن الدعوات السلمية التي أطلقها الكثيرون في بداية الثورة دعوات لاعنفية أخلاقية بقدر ما كانت صرخة تعبر عن خوفها من الحرب ونتائجها، وخوف أكثر من التحول التدريجي المؤلم للثائر الناشط إلى ضحية. مهما بدت هذه الصرخة مثالية إلا أنها لم تكن تسعى لتحميل الناس ما هو فوق طاقتهم، بل على العكس تسعى لتذكيرهم بما هو فوق طاقة كل الشعوب، أي الحرب ذاتها. نحن مجددًا نتحدث عن الخطاب الثقافي والسياسي لأننا لا نتوقع أن يتمتع من هم تحت القصف اليوم برفاهية التفكير في الأشهر القادمة ناهيك عن التفكير في ما سيحدث اليوم أو في هذه الساعة. إن تخلي المثقف عن عباءة البحث والتفكير والتحليل، وارتدائه لكوفية الثائر يعد الارتكاس الأكبر لمجتمع أوشك أن يفقد عقله لصالح "الثورة".

ثنائية "التفاوض" و"الحوار" والأفق السياسي للحل

بمعزل عن احتمالات التدخل الخارجي العسكري، يبدو أن ثمة بوابتين فقط لإنهاء الأزمة في سورية، الأولى بانتصار طرف على آخر، والثانية بالتفاوض بينهما. وفيما يبدو انتصار الثورة على النظام مراهنة كبيرة يبالغ الكثير من المعارضين في الترويج لها، تبقى فرضية الحل السياسي التفاوضي على الطاولة. لكن هناك خلطًا كبيرًا بين السياسيين بين مسألتي التفاوض والحوار، وقلة من الأطراف تعتبر التفاوض سبيلاً من السبل المطروحة للخروج من الأزمة بل وتخلطه بالحوار مع النظام وترفضه تباعًا. تعريفًا يكون الحوار مع (الإخوة) والتفاوض مع (الخصوم). إن مصطلحي "الحوار" و"التفاوض" متقاربان، لكنهما متمايزان أيضًا، وهما معًا جوهريان لحل الأزمة السورية.

إن دعوات التفاوض مع النظام تستحق التقدير كونها بدأت تتلمس بشيء من الخجل طريقًا للخروج من الحرب وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن كثيرًا من هذه الدعوات، تستبق الفشل والرفض من قبل المعارضة قبل النظام نفسه، ومازالت تعتبر التفاوض دعوة محدودة الوقت لا هدفًا، وترى الحل العسكري خيارًا نهائيًا يمكن العودة له عند فشل التفاوض دون اعتبار للفشل الذي واجه وما يزال الخيار العسكري حتى اليوم. بمعنى أن العمل العسكري كعادته لا يخضع لأي تقييم بالنجاح أو الفشل كما سيخضع له مسعى التفاوض ذاته في حال رفضه أو فشله.

يتبع معارضونا السوريون المنطق القديم لكلاوزيتز الذي قال: (الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى)، بمعنى أن الحرب أداة من أدوات السياسة، لكنهم في الواقع يبحثون عن الحرب حتى في السياسة نفسها، بمعنى أنهم يأملون في فرض أجندتهم التفاوضية كاملةً على النظام وإجباره على التنحي لأنهم يعتبرون هذه الأجندة نابعة من إرادة شعب بأكمله، فهي بذلك منزهة غير قابلة للانتقاص. لكن الإصرار على رحيل النظام كشرط لنجاح التفاوض هو استمرار للحرب بوسائل سياسية فحسب، وكأنه إعلان استباقي لنصر لا يملك أي مقومات حقيقية لوجوده، وأعتقد شخصيًا أن ذلك مرده ليس سوء نية بقدر ما هو ضياع البوصلة الحقيقية حيث لم تعد حماية المدنيين الأولوية التي لطالما تذرع بها الجميع لتبرير المقاومة المسلحة. إن الحقيقة المؤلمة بلا شك هي أننا منذ لجأنا إلى الخيار المسلح فقدنا الكثير من أدوات ضغطنا وعناصر قوتنا، تلك القوة التي كانت قوة مدنية إنسانية بامتياز، ولذلك فإن جميع الحلول الموجودة اليوم لن تكون سريعة أو سهلة ومعظمها لا يمكن أن ينطلق من القضاء على النظام بشكل نهائي وبسرعة. أما البقية المتبقية من الحلول فهي تعتمد على توحيد الصفوف والعودة للمدنية وهو ما يبدو شبه مستحيل حاليًا.

ثمة نظرة أخرى ترى قطيعة كاملة بين الحرب والسياسة، حيث يرى جان-ماري مولر على سبيل المثال بأن السياسة والحرب متناقضتان تبدأ الثانية عندما تنتهي الأولى، وبأن الحرب تعني إفلاس السياسة وصمتها بشكل كامل، فالسياسة هدفها التسوية والحصول على مكاسب على طاولة تفاوض وإلا فلا شيء إلا صمت السياسيين، ولا شيء إلا الإكراه، ولا منطق إلا منطق الغاب. في الحالة السورية تحديدًا تبدو كلمات مولر مناسبة تمامًا لتوصيف الواقع كونها تكشف صمت السياسة المطبق في ضجيج الحرب المتصاعد، فلا تملك المعارضة السياسية القدرة على إدارة الحرب والتحكم بمجرياتها ولم تكن يومًا كذلك، ولا قيمة تذكر لتبني المعارضة السياسية للخيار المسلح إلا الجعجعة الإعلامية والشعبية، من هذا المنطلق نتلمس لدى المثقفين والمعارضين سوء فهم مخل تجاه مفهوم السياسة برمته حيث يرون الصراع والعدوان حائلاً أمام البحث عن حل سياسي، وما هي في الحقيقة إلا دوافع إضافية للبحث عن هذا الحل.

يجب على العكس النظر إلى التفاوض على أنه هدف بحد ذاته، بحيث يكون دور المعتدلين الدفع في كل مرة باتجاه تفاوض يرفضه الآخر بشدة، والعودة له بعد أن يفشل، حتى لو لم يستوف كل شروطه، ليس بهدف الجلوس بأي ثمن، بل بهدف نقل الصراع من ساحة العضل إلى ساحة العقل، ولو مؤقتًا، وبشكل متكرر قدر الإمكان، مع كل ما قد يعنيه هذا الانتقال من حقن محتمل للدماء.

لكن أفق التفاوض ما تزال بعيدة جدًا في غياب تمثيل سياسي حقيقي للمعارضة، ولن يكون التفاوض مع النظام ممكنًا إلا ببناء جهة تملك شرعية التفاوض، ولو كان مؤقتًا، باسم "الشعب". إذًا يحتاج بناء التفاوض قبلاً إلى بناء التوافق، أي إلى الجلوس إلى طاولة "حوار" بين مكونات المعارضة السورية دون شروط مسبقة، لبناء شرعية غائبة تعطي صاحبها قوة تمثيل لا يملكها حاليًا، وتنقل له مسؤولية القيادة وتمهد لمرحلة انتقالية حقيقية.

إن ثنائية "الحوار" و"التفاوض" قد تشكل المكون الأساسي للحل السياسي. قد يحتاج بدء البناء هذا إلى الشروع في الهدم، أي هدم التحالفات القديمة التي أمعنت في تعزيز الشرخ بين أطياف المعارضة نفسها، والبدء ببناء عقد بين المعارضين على تمثيل قائم على حوار ديمقراطي، وفي هذا السياق، تبدو المبادرة الشخصية للأستاذ معاذ الخطيب، ومبادرة جنيف، وقبلها نداء روما وكأنها تصب في موقف سياسي متقارب أكثر من أي وقت مضى من شأنه، أو هكذا نأمل، أن يسهم في تشكيل تيار سياسي لا يهمه النصر بقدر اهتمامه بوضع حد للواقع المتأزم، وتحجيم الأصوات المتطرفة التي ما زالت تصب الزيت على نار الحرب الأهلية.

دفاعًا عن النفس!

تقول هانا أرنت، في المعركة بين السلاح والسلاح، لطالما كانت الحكومات تتمتع بالهيمنة على الشعب. لكني لست هنا بصدد الدفاع من جديد عن جدوى العمل المدني ومقارنته بالعمل العسكري، وإنما أبتغي إعادة تسليط الضوء على الخطاب الثقافي السوري الذي أمعن منذ البداية في التشكيك في العمل السلمي، وبالغ في تصيد أخطائه وطالب تجاهه بمبررات لم يطالب بها مع العمل العسكري. بعد مرور أشهر على العمل السلمي انتشرت خطابات كثيرة دعت للانتقال إلى السلاح تحت مبرر الدفاع عن النفس، وحماية المدنيين، وحماية المظاهرة السلمية، لكن هذه المطالب ذاتها لم تظهر بعد أشهر طويلة من فشل العمل المسلح وبعد سقوط أعداد ضخمة من الضحايا فاقت بعشرة أضعاف أعداد الذين سقطوا في "المرحلة السلمية"، لكي تقيم الوضع بناء على نفس المعايير التي قيمت عبرها العمل السلمي. بعد مرور عام ونصف على العمل المسلح، وفشله في تحقيق هدفه المعلن وهو إسقاط النظام، لا يبدو منهج (السلاح للدفاع عن النفس) الذي أشادت به أقلام الكتاب والسياسيين السوريين قادرًا على حماية الناس من البطش والقتل، ناهيك عن الضحايا الذين يسقطون على الطرف المقابل، والذين يضعهم النظام في معركة لم يخترها الكثير منهم بالضرورة. لقد انتقل كثير من المثقفين والسياسيين السوريين من مرحلة التبرير للخطأ الإستراتيجي المتمثل في التسليح المنفلت، إلى مرحلة العدمية التي لم تعد تكترث أو ترى مخرجًا من الأزمة إلا في تكرار خطاب المستضعفين والضحايا حول المؤامرة الدولية والعالم المتخاذل. لقد انتقلنا بسلاسة إلى هذا الخطاب القديم البائس الذي اعتاد جيلنا على سماعه منذ زمن طويل جدًا دون المرور الضروري بمرحلة تقييم الذات. لا شك بأن تقييم الواقع مسألة عصيبة في خضم هذا الصراع الدموي، ولذلك لا نستطيع أن نأمل إلا ممن يتمتع بالقدرة والخبرة والتفكير المستقل الحر أن يضطلع بها، ومن ثم يتمتع بالجرأة الكافية لإطلاع الناس ونصحهم حول نتائج التقييم.

ومن هنا أقول: لقد تحولت الأوضاع تمامًا عما كانت عليه في بداية الثورة، فلا يمكننا تسمية الهجوم على الأرتال العسكرية والحواجز والمخافر ومراكز الأمن والتفجيرات واحتلال المناطق، بما فيها الهجمة المنسقة في دمشق وحلب وما تلاها من ارتدادات ومعارك وقتال شوارع، لا نستطيع تسميتها "دفاعًا عن النفس"، بغض النظر عن مبررات هذه الهجمات وجدواها وشرعيتها. أقول هذا من باب تسمية الأمور بمسمياتها، ومن باب فهم حالة الحرب التي دخلنا فيها حتى نستطيع رؤية الصورة الكاملة. هذه الهجمات هدفها إسقاط النظام بقوة السلاح، إذًا هي حرب ومعركة أعلنها النظام ودفع باتجاهها، ثم لبتها بعض أطياف المعارضة ودعمها طيف كبير من الناس، وصاغ إطارها الفكري الشريحة الأوسع من المثقفين والكتاب السوريين، وستفرض على الطرفين الهجوم والرد على التوالي لتدور دائرة الحرب بين الكر والفر في مطاردة لن تنتهي قريبًا لسراب النصر المرتقب على الآخر.

علينا أن نتذكر ونذكر دائمًا بأنه ليس هناك من ضحية أكثر من أولئك المدنيين الذين يسقطون بجريرة العمل العسكري والعمل العسكري المضاد، ولا بد من فهم ذلك حتى نقيس المعاناة الحقيقية للناس بالمقياس الصحيح. إن أكثر من ثلثي ضحايا النزاع هم المدنيون العزل، وقد تصل أعدادهم في الحروب الحديثة إلى تسعين في المئة، هؤلاء لم يختاروا الموت في سبيل قضيتهم، بل هناك دائمًا من يختار موتهم في سبيل قضيته. لا يملك أي طرف حق فرض الحرب والقتال على مدني لم يختر معركته أو اختارها ولم تكن معركة سلاح.

إن الخطوة الأولى لإيقاف هذا الدم تكون بالحيادية تجاهه، وأقصد بذلك الوقوف بشكل صارم ضد أي عمل من شأنه أن يودي بحياة مدني مهما بدا هذا العمل "وطنيًا"، ومهما كانت أهدافه "إنسانية". هذه الوقفة قد تفرض على البعض في طرفي الصراع التخلي عن انتماءٍ جرى بناؤه لأشهر طويلة: الانتماء لنظام أمعن في ظلمه، أو لحيادية سلبية لا تأبه لطرفي الصراع، أو لثورة ارتكست لحرب أهلية. هذا التخلي هو الخطوة النفسية الأولى التي يجدر القيام بها حتى يتسنى لنا بناء قاعدة شعبية تبني توافقها أولاً على أساس اعتبار الدم السوري خطًا أحمر.

17 آذار 2013

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني