الــهــاويــة

 

عبد الغني عبده

 

-       أنا؟!! إشمعنى؟!!... الحكاية دي عمرها ما خطرت على بالي... وبتأكد كمان إنكم ضامنين نجاحي؟! إنتوا مين أصلاً؟!

ظلت الأسئلة تنساب مختلطة بلعابه، بينما يقطع الغرفة ذهابًا وجيئة ملتفتًا – عند كل سؤال - إلى الرجل القابع على الكنبة الكبيرة التي تحتل الحائط الشرقي، وقد زاد تسارع أنفاسه من اتساع فتحتي أنفه الضخم؛ ولكن ذلك لم يخفف من حدة جحوظ عينيه الضيقتين.

صمتُ "رَجُلِ الكنبة" وابتسامته الماكرة يزيدان من عصبيته، فيندفع إلى الباب خارجًا من الغرفة دون هدف ليفاجئ بزوجته بين يديه! سألها متعجبًا: "مش عادتك يا سوسن تتنصتي علي؟!". كأنه لم يسألها قالت وعلامات البهجة تنطلق من داخلها وتنعكس على كل ملامحها: "ها اتفقتوا؟!". جحظت عيناه الضيقتان مجددًا ورد: "على إيه؟!... إنتي إيش عرفك بالموضوع أصلاً؟!!".

لطالما كانت سوسن أكثر تطلعًا منه، وهو يردد في كل مكان العبارة المعروفة "وراء كل رجل عظيم امرأة"... فهي التي دفعته إلى اقتناص كل الفرص التي لم تكن لتخطر على باله. ثقته مطلقة في ذكائها.

ولكنه الآن في حيرة كبيرة؛ كيف عرفت "العرض" الذي جاء به "رجل الكنبة"؟! إنه أكثر من كل تطلعاتها التي عبرت له عنها يومًا. هل يا ترى هناك اتفاق تم بينها وبين صاحب العرض؟ وكيف وصل إليها قبل أن يفاتحه؟

سَرَّبَ السؤال الأخير قلقًا وخوفًا إلى نفسه المضطربة. منصب خطير كمنصب "رئيس الجمهورية" بما يستلزمه من قوة في الشخصية وقدرة على القيادة لا يجب أن يكون شاغله مجروحًا من أحد، ولا أن تكون جوانب الضعف في شخصيته ملقاة على الطريق العام. ستكون معرفة صاحب العرض بقوة شخصية زوجته وسيطرتها على ما يتخذ من قرارات "كعب أخيل" الذي يؤتى منه!

ولكن لأنه اكتسب (عبر تجارب حياته المليئة بالاقتناص والصعود الوظيفي غير المبرر) نوعًا من الذكاء لم تحرم منه الطبيعة حتى الحيوانات، فقد نفض "الفأر" الذي بدأ يلعب في "عبه" وقال لنفسه: تذكر أنك سوف تصبح الرئيس، صاحب الكلمة الفاصلة في كل الأمور، وعندها لن يستعصي عليك التخلص من كل الذين "يعرفون أكثر مما ينبغي"!!

-       سوسن مراتي.

قدمها للرجل الذي كان قد وقف من جلسته المسترخية على الكنبة الوثيرة منذ لحظة ارتطامها بزوجها، مدت يدها فرفعها الرجل بيده إلى فمه وطبع عليها قبلة تتسق مع قواعد "البروتوكول" والاتيكيت الغربي، ثم انحنى قليلاً أمامها (لتنعكس الأضواء على شعره المصبوغ الناعم الملمع كنجوم سينما الأربعينات) وخرجت من فمه كلمات إطراء تليق بالسيدة الأولى المنتظرة... وردت هي باقتضاب عبر ابتسامة أقرب للضحك: "ميرسي يا افندم. شرفتنا. تشرب إيه حضرتك؟".

دخلت الخادمة، فبادر بتناول فنجان القهوة من الصينية وقدمه للرجل... ثم تبعها ليتأكد من غلق الباب.

-       ممكن أفهم؟ أنت مين؟ ومين اللي باعتينك؟ وضامنين منين إني لو ترشحت للانتخابات الرئاسية أنجح؟ وليه أنا تحديدًا اللي اختارتوه؟!

احتسى الرجل قهوته سريعًا ثم أخرج "لاب توب" من حقيبته السوداء، وفتح أحد ملفات الميديا ودعا "المرشح المحتمل" لمشاهدته.

-       يا نهار منيل!!... ويا واقعة مهببة!! ... يا دي المصيبة السودة!!... إيه ده؟! الله الله الله الله!... إيه ده؟! إزاي؟! ... أمتى؟!... مش ممكن؟! إلى هذه الدرجة أنا مراقب... إزاي حصلت على كل المشاهد دي؟ دا أنت مخلتش وضع مخجل مارسته في حياتي إلا سجلته!!... إزاي كده؟ ومن أمتى وأنت بتراقبي؟!.. وأزاي في كل الأماكن دي... الله الله الله!! وصلت كمان لمشاهد معاكستي للشغالة؟!... يعني أنا متراقب حتى في بيتي؟! يا دي البلوى... يا وقعتي المنيلة؟ ودي طريقتك في المساومة؟ وعلى إيه؟ آه كده بدأت أفهم أنتم عاوزين "طرطور" مش كده؟

-       حاشا لله يا افندم؛ هو حضرتك ليه ركزت على المشاهد دي؟ الفيلم كمان فيه كل المشاهد اللي بتبين الأعمال الكبيرة اللي أنت عملتها ودي هي اللي هانفكر بيها اللي عارفينها ونعرف بيها الشعب اللي مش عارفها؛ وأظن من حقنا نبقى عارفين كل المعلومات عن سيادتك؛ أحنا مش "مؤسسة خيرية" لأ... أنا بمثل هنا عدد كبير من دوائر المصالح في البلد دي واللي يهمهم يكون في منصب الرئيس حد يحافظ على مصالحهم ويضمنها برقبته، وده يفسر إحنا ليه حرصنا على المشاهد اللي أزعجت سعادتك واللي كان للسيدة "سوسن" فضل كبير في توفير معظمها. على فكرة الغرفة دي مافيهاش كاميرات؛ لكن الهانم شايفانا وسمعانا دلوقتي "أون لاين" من خلال "اللاب"! وعلشان أجيب لحضرتك من الآخر؛ العرض بتاعنا مافيهوش خيارات؛ إحنا اخترناك رئيس خلاص؛ ألف مبروك يا افندم.

قال عبارته الأخيرة وهو يدخل اللاب توب في حقيبته ويهم بالانصراف.

عند باب الفيلا الخارجي لفت نظره إلى أن الحملة الانتخابية الخاصة به بدأت بإعلان تلفزيوني سوف يذاع بعد نصف ساعة على القناة الثانية متضمنًا مشاهد "إنجازاته" التي رآها منذ قليل.

على أحر من الجمر جلس على ذات الكنبة ينتظر الإعلان. بعد أن بدأ البث بخمس دقائق كان قد أغشي عليه!

أفاق في المستشفى على خبر إقالة مدير القناة الثانية واعتذار رسمي من القناة عن المشاهدة "الإباحية" التي بثت خطأ في الإعلان. تلاه خبر إلقاء القبض على عدة شخصيات نافذة كان ضمنها صاحب العرض. شعر بحبات عرق تغطي جبينه لكنه لم يتمكن مسحها؛ فقد كانت كلتا يديه مكبلتين في السرير.

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني