أربع حروب أهلية ونظام جائر وقوى إقليمية ترسل مقاتليها

 

بدرخان علي

 

كنا نرفض حتى وقت قريب، نعت الثورة بـ "الحرب الأهلية" في سورية أو اقتران الاثنين. لاعتقادنا أنَّ الحرب الأهلية عبارة عن لوثة حضارية لا تليق بالشعب السوري، الذي قد نصفه بالعظيم أو الحضاري أو اللامثيل له، ولقناعتنا بأن الثورة شيء، والحرب الأهلية شيء مختلف تمامًا. وخضوعنا لهيمنة "النموذج السلميِّ" للانتفاضة السورية، حتَّى بعد تحوُّله إلى كفاح عسكري وميليشيات متكاثرة، بينها تنظيمات إرهابية صريحة تابعة لتنظيم "القاعدة"، وعدم اقتصار العنف على السلطة الحاكمة والميليشيات الرديفة وحدها. وهذا منظور رومانسي جدًا بالطبع، وغير موضوعيٍّ، وغير تاريخي. فكل الثورات الجذرية تأخذ طابع حرب أهلية في بعض مراحلها أو من البداية. لا بل إن كثيرًا من المراجع التاريخية التي تتناول الثورات المعروفة لا تميز كثيرًا بين الثورات والحروب الأهلية أساسًا، بل تردان في سياق واحد تقريبًا، وكمترادفين. لقد بيَّنت حنة أردنت في كتابها الشهير في الثورة الصادر في ستينات القرن الماضي، التلازمَ بين الثورات والحروب عمومًا والتشديد على دور العنف في الثورات. وهي تعمل على نزع السحر عن كلمة الثورة، إن جاز التعبير، ولم تعمل فقط على نزع الطابع الرومانسي عن الثورات بل ذهبت إلى إبراز تناقضاتها والتشكيك في رغباتها ومساراتها. وصفت العلاقة بين الثورة والحرب، وهي تجادل أن هناك أيضًا علاقة بين الثورة والحروب الخارجية كذلك. وتقرُّ بأن "الثورات والحروب لا يمكن تصورهما خارج ميدان العنف" (حنة أردنت، في الثورة، ترجمة عطا عبدالوهاب، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2008، ص 21 - 22 - 23) لكن الحرب الأهلية السورية تتسم بسمات مختلفة، يجب ذكرها:

فالنظام يستخدم "جهاز الدولة" في حربه ضدَّ الثورة. وهذه ليست حربًا أهلية "تقليدية". أي أن الحرب السورية لم تنجم بسبب غياب سلطة الدولة، كما جرى في الحرب الأهلية في لبنان (1975 - 1990) أو العراق بعد الاحتلال الأميركي وانهيار الدولة في 2003. أو في حالات كثيرة معروفة. على العكس إن الحرب الأهلية السورية، إن تم استخدام المصطلح بغير دلالته التقليدية، فهي تجري وأجهزة الدولة كافة (خصوصًا الجيش وأجهزة الأمن) تحت تصرُّف السلطة، في مقابل موارد محدودة لدى الطرف الآخر في "الحرب الأهلية". إذًا، الحرب الأهلية السورية بهذا المعنى ليست وصفية للحروب الأهلية المتعارف عليها. والمصطلح مُلتبَس على الأقل. أما إذا استخدم المصطلح دلالة على أن الحرب ليست نظامية، أي ليست بين دولتين - سلطتين وجيشين، أي بمعنى "الحرب الداخلية" التي تعني أن سوريين يقتلون سوريين، فهنا المصطلح صحيح. مع العلم أن الحرب الداخلية لا تنفي غياب العوامل المغذِّية من الخارج أو المداخلات الدولية الخارجية.

أي إذا انتزعنا من المصطلح دلالته "السيئة" على الأذهان – باللغة العربية على الأقل وفي أذهان السوريين تحديدًا الذي يرفضون تسمية الحرب الأهلية لما يجري في بلادهم، خصوصًا أنها تقال باللغات الأجنبية بسلاسة تامة ومن دون تحفُّظ - يجوز القول بالحرب الأهلية السورية التي تعني أنَّ قطاعًا سوريًا عريضًا ثائرًا لديه هدف وإرادة وبرنامج وتصوُّر وعمل مناهض تمامًا لما لدى قطاع اجتماعي آخر (وهو ليس علويَّ المذهب فقط بالضرورة) لأنه يشكل قاعدة السلطة-الدولة، وليس بسبب هويته المذهبية الطائفية فقط.

في الحقيقة لا يمكن تصور ثورة بهذه الجذرية ترمي إلى "إسقاط نظام" معقَّد البنية والوظيفة وليس معزولاً اجتماعيًا أو بلا قاعدة اجتماعية أو مفروضًا على السوريين عنوة، أو صمد طيلة السنتين الماضيتين بسبب الدعم الخارجي فقط، من دون أن يرافقها صراع أهلي حقيقي بل وعنف مادي مهول، من الطرفين (كلٌّ وفق موارده وإمكاناته المتاحة) واستقطاب اجتماعي وسياسي.

فالحرب الأهلية السورية ليست انحرافًا أصاب الثورة، بل هي مسارٌ موضوعيٌّ في الظروف السورية المشخَّصة. فبعيدًا عن الشعارات الرومانسية البسيطة عن تطمين الأقليات وترديد الشعارات عن أن سورية ستكون لجميع أبنائها بعد سقوط النظام، والكلام عن الدولة المدنية الديموقراطية القائمة على المواطنة والمساواة والديموقراطية، وأن المعركة هي فقط مع رجال السلطة، وليس مع فئة اجتماعية بعينها نتساءل: كيف يمكن إسقاط نظام يحظى بدعم واسع، مقارنة مع جمهور الثورة الجذرية، بعد طرح الأقلية (أو الأكثرية) الصامتة أو المحايدة، وهذا الجهاز السلطوي المتماسك والمندمج حول نواة عسكرية-أمنية، من دون صراع أهلي عميق؟

أما أن ليس في سورية حرب طائفية، سنية–علوية، فهذا قابل للنقاش وشيء مختلف. وأنا لا أنفي هذه الحرب الطائفية، بل أضعها في سياق عام للحرب الأهلية السورية، أو الأصح الحروب والصراعات الأهلية التي تنشط في سورية اليوم. وقد يصحُّ القول إن هناك حربًا أهلية سورية عامة كبرى، تلك التي وصفناها أعلاه والتي تتمثَّل بالصراع العسكري بين السلطة-النظام والمقاومة المسلَّحة، إلى جانب أربع حروب/صراعات أهلية في سورية، لا واحدة فقط، متفاوتة التأثير والمدى، متداخلة مع الحرب الكبرى وتتغذَّى منها، بعضها يجري فعلاً، وبعضها في طور الصراع الذي قد يتحول إلى حرب في أية لحظة:

1. حرب سنية-علوية-شيعية: يشترك فيها، ميليشيات النظام العسكرية والمدنية-الأهلية (الشبِّيحة) وحزب الله وميليشيات عراقية وإيرانية من جهة، وتنظيمات إسلامية وجهادية، وبعض كتائب «الجيش الحر» من طرف آخر. وكلما تضعضعت قوى النظام العسكرية والأمنية زاد اعتماده على الميليشيات الأهلية (العلوية) خصوصًا في المناطق المختلطة مذهبيًا، والميليشيات الموالية الأخرى من الخارج. ولكن، هناك في الوقت نفسه ميليشيات من جميع الطوائف موالية للنظام، وكان لها دور متفاوت في مناطق عدة في بداية الثورة على الأقل (مثل مدينة حلب). على أن هذه الحرب جزئية ليست شاملة. فهناك اليوم ما يقارب المليون مواطن «سنِّي» لجأوا إلى الساحل السوري، ذي الغالبية العلوية، هربًا من الحرب والعنف، ولا يعانون هناك بسبب انتمائهم المذهبيِّ.

2. حرب سنية-سنية: حَجَب الاحتقان الطائفي المتزايد في البلاد، والتشخيص الطائفي الوحيد للصراع السوري، وجود هذا النمط من "الحرب الأهلية" التي تعتمل في الواقع منذ أمد. وربما تسبق الحرب السنية-العلوية. منذ الاعتداء على موالي النظام "السنة" في حلب وغيرها من رجال أعمال وغيرهم. ومنذ إقحام مدينة حلب في الصراع المسلَّح من قبل المسلَّحين المقبلين من ريف المحافظة وجوارها. ومنذ دخول تجار الأسلحة والمهربين على خط الثورة، في زمن مبكر، وسط صمت المعارضة، بل وتشجيع المعارضة الراديكالية بناء على سياسة "كل شيء مشروع في سبيل إسقاط الأسد"، وإن كان ضدَّ مصالح السوريين أنفسهم! وباتت هذه الحرب أكثر بروزًا بعد سقوط المناطق السورية في يد المتمردين والثوار. حيث أعلام القاعدة ترفرف في هذه المناطق، وعمليات الاختطاف، والصراع على الموارد، وظاهرة أمراء الحرب واقتصاد الحرب، والصراع على النفوذ السياسي والاجتماعي. وستبرز وتشتد هذه الحرب مع ازدياد حالة الفوضى، وتدهور الوضع المعيشي اليومي للسكَّان، وتمزق النسيج الاجتماعي السوري نتيجة الحرب العامة وتداعياتها. وستزداد هذه الحرب وضوحًا بعد "سقوط النظام"، وخوض المجتمعات المحلية المعركة الحتمية مع التنظيمات الجهادية، خصوصًا مع الأجنبية منها. والفقر وحده كفيل بإشعال حرب أهلية في أي مجتمع حتى لو كان متجانسًا تجانسًا تامًا، في حالات غياب الدولة.

3. صراع كردي–عربي: تبعًا للرهانات المختلفة بين الجماعتين القوميتين، حيث الكرد يريدون الخروج من هذه الحرب الطاحنة الدائرة في سورية عمومًا بأقل الخسائر ومن دون صدام كبير مع النظام (وكسب أكثر للحقوق القومية في الوقت نفسه). بينما العرب، خصوصًا في الجزيرة السورية يظهرون تململاً كبيرًا من النفوذ الكردي المتزايد، ومن نبرة الخطابات القومية الكردية من جهة أخرى، من دون أن يعني أن العرب في محافظة الحسكة في موقع المعارضة للنظام أو مع إسقاطه. الصراع الكردي–العربي البارد، في منطقة الجزيرة السورية، ليس له علاقة بالموقف من النظام (مع أو ضد) أو من الديموقراطية وحقوق الإنسان. وعلى هذه الخلفية الإثنية-السياسية اشتد هذا الصراع أخيرًا في مناطق عدة، وإن كان الصراع حاليًا محدَّدًا بين التنظيمات الجهادية المتطرِّفة، وبعض فصائل "الجيش الحرِّ" من جهة، و"وحدات الحماية الشعبية" الكردية من جهة أخرى. لكن هناك صراعًا عربيًا-كرديًا يلوح في الأفق، على رغم تاريخ التعايش المشترك بين القوميتين، وعدم وجود صدامات مؤثِّرة في السابق. ثمَّة هنا أيضًا دور خارجي يتعلَّق بالسياسة التركية تجاه الأكراد. فهي تدعم التنظيمات الجهادية لوجيستيًا على الأقل. وستلعب دورًا في تأجيج هذا الصراع، كما ستتدخل في النمط الأخير (أدناه) من الصراع.

4. صراع كردي-كردي: يتعلَّق تحوُّل هذا الصراع إلى حرب، بالصراعات السابقة من جهة. وبعوامل كردية صرفة من جهة أخرى. والحرب الأهلية الكردية تبقى ملجومة ما دام خطر الصراع السابق (العربي-الكردي) قائمًا. لكن، لا ينقصها إلا القليل من ردِّ الفعل على الانتهاكات الخطيرة الممنهجة التي يقترفها المسلَّحون التابعون لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي pyd، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني pkk، ضدَّ الأكراد المخالفين أو المعارضين له منذ سنتين بغية السيطرة والهيمنة الأحادية على المنطقة الكردية من دون أية اعتبارات أخرى لديهم. وما يحدُّ من اندلاعها أيضًا، حتى الآن، هو وعي كردي عام بخطورة المرحلة، وتجنُّب الانجرار إلى ردود فعل، في هذه المرحلة التي تتراءى لهم كـ "فرصة تاريخية" من أجل انتزاع أكبر مقدار من الحقوق القومية، وهذا ما يحدُّ من اندلاع حرب كردية-كردية، التي هي حتى الآن مقتصرة على مبادرة من طرف واحد، هو الطرف المُهيمِن على الأرض عسكريًا. والطرف الآخر يتجنَّب وغير قادر في الوقت نفسه، ما يملي عليه ابتلاع المرارات المتتالية. وهناك أيضًا دور المحاور الكردستانية (خارج سورية) في التأثير في الصراع الكردي-الكردي السوري المحلي. وحاليًا ثمة تفاهم وتنسيق بينها، لكن ليس من دون توترات ومناوشات أحيانًا. وإذا حصل خلاف بينها، فسيؤدي ذلك إلى اشتداد الصراع الكردي المحلي.

القاسم المشترك بين هذه الحروب هو انهيار الدولة والطائفية والتدخلات الخارجية والرهانات المختلفة للجماعات السورية، ولا ترتد إلى عنف النظام فقط.

*** *** ***

الحياة، الجمعة 4 أكتوبر 2013

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني