العالم الذي نعيش فيه

 

دارين أحمد

 

آه، أيتها الشمس الغاربة، اشرقي في القلوب الدامية التي تتفتح زهرًا في الصباح، ولتنقلب شعلات الكبرياء الزاهية إلى رماد.
طاغور

 

في أحد الأفلام تُروى القصة التالية: في إحدى القبائل عندما يرتكب أحدهم جريمةَ قتل وبعد أن يُلقى القبض عليه يوثق بحضور عائلة المقتول ويُرمى به في النهر أمام هذه العائلة. ولعائلة الضحية أن تختار بين أن تتركه يغرق عقابًا على جريمته وبهذا تتحقق العدالة الصغرى، وبين أن يقوم أحد أفرادها بإنقاذه من الغرق وبهذا تتحقق العدالة الكبرى. تفتح هذه القصة أبوابًا مختلفة للتأمل في معنى الثأر وعدالة "العين بالعين" التي يقوم عليها نظامنا الاجتماعي إجمالاً من جهة وفي معنى الغفران والرحمة من جهة أخرى، هذا الغفران الذي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان خيارًا "حرًّا" يقدم عليه من وقع عليه الظلم أو العدوان. في الثقافة الدينية الشعبية دعاء جميل يعبر عن هذه الفكرة أيضًا وهو: "يا رب عفوك ورضاك"، فالربط بين مفردتي "العفو" و"الرضا" ربط لازم لتحقق الأولى، لا يمكن للعفو أن يحدث إن لم يكن متزامنًا مع الرضا، هذا الرضا الذي لا يمكن أن يشع في القلب بدوره إلا ضمن ثقافة مختلفة تعتمد منظورًا أوسع، رؤية أبعد، لما يحدث وللعلاقات المتشابكة بين ما يفعله المرء وما يجنيه.

يقول تولستوي في رسالته ردًا على امرأة بولونية:

أجل! إنَّ خلاص مستعبَدي زماننا، وليس الشعب البولوني فقط بل كل الشعوب والطبقات المستعبَدة، لا يكمن مطلقًا في إلهاب الروح الوطنية البولونية أو الهندية أو السلافية، أو في المقاومة الثورية، ولا يكمن أكثر في أنماط الحياة الجديدة المبتدعة التي يتوجب فيها على الشعوب والبشر أن تحتشد فيما يسمَّى النضال البرلماني، وفي التدرُّب على الخطب النارية، وإنما يكمن في أمرٍ واحد: في تخلِّي البشر عن قانون الصراع والعنف البالي الذي لم يعد يلائمهم، وإقرار قانون المحبة؛ القانون الأساسي للحياة، والمشترك بين جميع البشر؛ المحبة النافية لإمكانية المشاركة في أيٍّ من أشكال العنف.

كيف يمكن للبشر أن يتخلوا عن قانون الصراع والعنف؟! كيف يمكن لهذا التثوير اللازم والملِّح أن يحدث في وقت يعلى فيه من شأن الصراع والعنف دون أية وقفات قصيرة لإلقاء نظرة حولنا، لرؤية ماذا جرَّ علينا هذا من ويلات وكيف يقودنا إلى المزيد والمزيد من الصراع والعنف؟! كل ما يحدث يثبت بوضوح أن حلبة الصراع الرومانية هي قاعدة هذا النوع من "العيش" وأننا شعوب البلاد الموبوءة بالإفقار والتجهيل دُماها المصرَّة على التشبث بكل حجر فيها، وإغلاق أية ثغرة يمكن أن يدخل منها ضوء مغاير. لقد كان الأمر على هذا الشكل دائمًا، ولكن دائمًا كان هناك من يصرخ في وجه الملك العاري. وهذا الملك لم يكن عاريًا كما هو اليوم. لم يكن الألم، الذي لم يتغير حتمًا، مُعمَّمًا كما هو اليوم. لقد اختبرت البشرية حروبها كلها، الحروب المتطابقة والمنسوخة من قالب واحد لم يتغير رغم تغيُّر أشكاله، إلا أن القرية الصغيرة لم تغرق إعلاميًا بالدم كما هي غارقة الآن، لم يحدث أن يتنفس سكان هذا الكوكب الرعبَ كلَّ يوم سواء أكانوا يواجهونه وجهًا لوجه كما هو الحال في سوريا أو العراق وغيرها من بلاد جذور الثقافة والحضارة الإنسانيين، أو كانوا يعيشونه في خيالهم الجمعي الذي يُبنى منذ عقود على إيقاع رعب مفردة "الإرهاب". هذه المفردة التي لم يتم تعريفها بعد؛ الوحش الذي يمكن أن يأخذ أي شكل يختاره قادة العالم الخَرِب هذا، قادة هذا الخراب.

الإرهاب هو العنف، هو القوة بمفهومها المادي المباشر، هو استخدام هذه القوة تحت عناوين أخرى متناقضة تمامًا معها، إذ لا يوجد ما يسمى "القتل للقتل"، القتل وسيلة والغاية دائمًا من نوع مغاير كما يعودنا سياق تبرير هذا التعارض بين الغاية والوسيلة. كلنا يعرف هذا حتى كُتَّاب مواثيق وأوراق عمل المنظمات الدولية الذين لم يتمكنوا من تعريف هذا الشيء الذي اخترعته الدول المتحكمة بهذه المنظمات! ولكن ما يتم تجاهله تمامًا وخاصة إعلاميًا وسياسيًا هو أن اللاعنف وحده، كفعل مقاومة اجتماعية سياسية ضد الاستبداد بدرجاته المختلفة المعلنة والمستترة، قد تحرر من ربقة الإرهاب عبر الدمج بين الغاية والوسيلة. النتيجة من نوع العمل. إنه قانون طبيعي لا يحتاج إلى براهين كما لا يحتاج إثبات أن إطفاء النار بالنار مستحيل.

لقد تم تعميم الإرهاب بدعاوى مكافحته، كلنا يرى ذلك واضحًا أتم الوضوح، يرى أن قادة العالم "الحر" وعلى رأسهم صانعة هذه الإرهاب المعمم - الإدارة الإمريكية - لم يفعلوا شيئًا، بقصد أو بجهل، سوى تعميق الهوة بين عالمين: عالم غارق بالعنف المباشر حتى رأسه وعالم مرفَّه يدافع عن نفسه ضد فقراء العالم الأول وجهلته؛ عالم تُستخدم لتجهيله وإفقاره كل طاقات العالم المرفَّه ثمَّ يحاسب وفق معايير الرفاهية والتعليم الممنوعة عنه!

تقول سيمون فايل في مقال الإلياذة أو قصيدة القوة:

القوة التي تقتل هي شكْلٌ مختصر وبدائي من القوة. فكم تتنوع القوة الأخرى في طرائقها وكم تُفاجئ في آثارها، إنها القوة التي لا تقتل؛ أي القوة التي لم تقتلْ بعد. ستقتل بالتأكيد، أو ربما ستقتل، أو هي معلَّقة فقط بالكائن بحيث يمكن أنْ تقتلَ في أية لحظة؛ وفي جميع الأحوال تُحوِّل الإنسانَ إلى حجر. ومن سلطة تحويل الإنسان إلى شيء بجعله يموت تنبثق سلطةٌ أخرى مدهشة أكثر مما ينبغي ألا وهي سلطة صنع شيء من إنسان مازال في قيد الحياة. إنه حي، فيه روح؛ مع ذلك فهو شيء. غريب أنْ يكون لشيء روح؛ حالة غريبة للروح. من يقول كم يلزمها في كل لحظة لكي تتكيف معه وتلتوي وتنطوي على نفسها؟ فهي لم تُخْلَقْ لتسكنَ شيئًا؛ وعندما تُرغَم على ذلك لا يعود هناك شيء فيها إلاَّ يعاني من العنف.

هذا وجه إضافي للرعب المُعمَّم، وما المثال الذي تقدمه داعش كنتيجة حتمية للنهج السياسي والاقتصادي والاقصائي العالمي إلا الصورة الأوضح لكيفية تحوُّل إنسان حيٌّ إلى شيء، أبعد حتى من المعنى الذي تذكره فايل هنا والذي يتحدث عن الإنسان الضحية الواضحة وليس عن الضحية الملتبسة التي يتم تصنيعها الآن من أطفال يعيشون في معسكرات شبيهة بصورة من فيلم الماتريكس عن حقول الأجنة، حقول الطاقة. نعم يجد مثل هذا التطرف الأقصى قاعدته الأيديولوجية في الإسلام كما يمكن أن يجدها في أية منظومة دينية أخرى، ولكن هذا ليس كل شيء. ليس الإسلام منعزلاً عن سياق ديني عام بدأ باليهودية ومرَّ – مع انحراف هام - عبر الكنيسة وصولاً إلى الدين المحمدي، هو المسؤول الأوحد عما آلت إليه الأمور؛ المنظومة الفكرية الدينية الكلية مسؤولة، والمنظومة السياسية التي تستثمر في الخوف الإنساني من المجهول المعبر عنه بالدين مسؤولة، والمنظومة الاقتصادية التي تشيئ المرء وتميز بين شعب وآخر فقط على أساس مستهلك ومنتج مسؤولة، وكل من يروج للنجاة بالقتل من القتل مسؤول.

إذًا، مرة أخرى، كيف السبيل إلى إيجاد بيئة يمكن أن ينبت فيها حلٌّ ما لهذا الرعب، بيئة نتمكن فيها من تجاوز العدالة الثأرية واعلاء شأن العنف والإرهاب للوصول إلى غايات نبيلة إلى عدالة كبرى ووسيلة نبيلة تتحقق من خلال استخدامها الغايةُ المرادة؟ كيف السبيل إلى إيصال صوت الآلاف من الناس الذين وفي وسط الخراب الذي يعيشون فيه يعملون دون اصطفافات أيديولوجية تميز بين إنسان وآخر وفق معايير منقرضة، الناس الذين يَقْتلون ويُقتلون مع كل إنسان يغادر هذا العالم دون أن يرى منه سوى الدمِّ طريقًا لله أو للوطن أو للكرامة؟

الإرهابي هو وجه البطل الآخر، هو الرجل الذي لا يهاب القتل، هو صنو الله في قدرته على سلب الحياة من الآخرين إنما عبر إفناء ذاته وجسده في القتل الذي يتطابق في هذه المنظومة مع الموت. في كتاب عاشق الشيطان تتحدث روبن مورغان عن هذا التماثل بين الإرهابي والبطل، عن الإرهابي كتجسيد واضح لمفهوم البطولة والقوة الذكورية. لا بد أن نبدأ من هنا، من محاكمة أسس ثقافتنا وأدياننا كلها دون تمييز، من رفض القتل وإدانته بشكل قاطع ومن أي طرف جاء، من رفض التراتبية الهرمية لقيمة الإنسان بدءًا من تراتبية قيمة الرجل والمرأة التي تؤسس لتراتبية الذكر والذكر وفق معيار التملك والجبروت، من رفض الهيمنة والبحث عن الاتساق؛ الاتساق بين الغاية والوسيلة، الاتساق بين الواقع والفكر في العالم الصغير لكل واحد وواحدة منا، فمن عالم كل واحدة وواحد منا يتشكل العالم الذي نعيش فيه.

*** *** ***

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني