الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

الواقعية المتقاربة والتقارب الانعكاسي 1 *

 

ميشيل بيتبول

 

كلما كنا أبعد عن العالم بدا لنا أكثر واقعية. وكلما اقتربنا منه أكثر تبدو لنا إمكانية رؤيته أقل، ويصبح بلا معالم مثل سراب.
ناغارجونا، الإكليل الثمين

 

إن هدفي في هذا الفصل هو أن أقترح تحت تسمية "التقارب الانعكاسي" مشروعًا بديلاً للتطور التاريخي للعلوم الفيزيائية. ولكن لا بدَّ قبل ذلك من عرض المشروع الأكثر قبولاً، وهو مشروع الواقعية العلمية، وتحديد بواعثه، وتفحُّص أساسه الجدلي، ثم إظهار الصعوبات التي يواجهها.

1. 1 الواقعية المتقاربة وتوفيقاتها

مما لا شكّ فيه كما يلاحظ فان فراسّن[1] Van Fraassen، أن المفكِّر الواقعيَّ كان يودُّ لو يستطيع التأكيد على أن النظريات العلمية المثبتة في عصره هي نظريات صحيحة، وأن الجواهر أو الكينونات التي تسلِّم بها موجودة في الطبيعة، وأنها تقدِّم بذلك تمثيلاً دقيقًا للعالم كما هو. مع ذلك، فإن تاريخ تقدُّم العلوم يجعل من هذا البيان المتزامن للعلاقة بين التمثيل العلمي والواقع بيانًا غير مقنع. لقد ارتدَّ بالتالي معظم المدافعين عن الواقعية العلمية إلى نسخة تطوُّرية لموقفهم الخاص. ووفقهم، فإنه من الصحَّة بلا شك القول إن أية نظرية علمية معطاة ليست صحيحة بشكل مطلق ولا دقيقة في كافة تفاصيلها بالنسبة للارتباطات المفترضة للواقع بالأفراد والأنواع الطبيعية؛ بل إن المتوالية التاريخية للنظريات تتلاقى على الأقل، بطريقة إما منتهية أو متقاربة فقط، باتجاه بيان صحيح حرفيًا لما يشبهه العالم. سمى لاري لودان Larry Laudan هذا الطرح بـ "الواقعية المتقاربة"، وقد وصفه من خلال المقترح الذي وفقه

تكون النظريات العلمية [...] عمومًا صحيحة بشكل تقريبي، وتكون النظريات الأحدث أقرب للحقيقة من النظريات السابقة في المجال نفسه[2].

إن أحد الرواد الأكثر شهرة لهذا التصوُّر الديناميكي للواقعية العلمية هو شارل ساندرز بيرس Charles Sanders Peirce، بحيث لم يتردَّد بعض الكتَّاب بتسمية هذا التصوُّر بـ "الواقعية البيرسية"[3] نسبة له. نلاحظ بالتالي نقطة هامة وهي أن الواقعية عند بيرس تترافق بالبقاء على مسافة واضحة من الواقعية الميتافيزيائية. ووفقًا لبيرس، فإن أبحاث البشر تجعلهم يميلون على المدى البعيد نحو رأي وحيد فيما يتعلق بموضوع أبحاثهم[4]؛ وهكذا فإن الرأي في هذه المسألة، على الرغم من أنه غير مستقل عن نشاط وفكر الإنسان، يتجاوز كل صلة مع ما يمكن أن يكون فيهذا النشاط وهذا الفكر من فردية وخصوصية وتعسُّف[5]. وبهذا المعنى إنما يمكننا القول حول الرأي النهائي المشار إليه بأنه يعبر عن الواقع، ويتحدَّد هذا الواقع نفسه بالاستناد على الرأي النهائي، بدلاً من التمسُّك بالأحرى بأي شيء في ذاته.

لم يغب عن بيرس صعوبة ربط المحتوى الحالي للنظريات العلمية مع هذا الإسناد البعيد (وربما الأسطوري) باتجاه المستقبل، وهو أحد الركائز الأساسية لمقاربة الواقعية العلمية المعاصرة. وقد تجلت هذه الصعوبة عنده من خلال التردُّد فيما يتعلق بمفهومه للـ "المحاكمة الاحتمالية، ونذكر هنا بأن المحاكمة الاحتمالية تتميز عن الاستنباط، الذي يُحدُّ باستخلاص النتائج الخاصة من فرضية عامة، كما عن الاستقراء الذي يزعم استخلاص مقترحات كونية انطلاقًا من وقائع فردية. وتهدف المحاكمة الاحتمالية التي تجمع بين وظيفة الاستقراء وتطبيق عملية الاستنتاج إلى تحديد المقترحات العالمية التي ابتداء منها يمكن استنتاج المقترحات الفردية الموافقة للوقائع المرصودة. وتتم المحاكمة الاحتمالية في ثلاث مراحل زمنية. في المرحلة الأولى، نلحظ الواقعة المفاجئة F؛ وفي المرحلة الثانية نلاحظ أنه إذا كانت الفرضية العالمية P صحيحة، فإن F ستكون لا بدَّ مرصودة وملاحظة؛ وفي المرحلة الثالثة نخلص إلى أنه توجد أسباب جيدة للاعتقاد بأن P صحيحة. ولكن ما هو المغزى الذي يمكن إعطاؤه لصيرورة المحاكمة الاحتمالية؟ وفقًا لما تشير له المرحلة الثالثة من المنطق المعروض أعلاه، فقد بدأ بيرس بإعطاء المحاكمة الاحتمالية مرتبة الصيرورة المستقلة لبرهان احتمالية المقترحات التي تؤدي إليها؛ وبعبارة أخرى، فإن المحاكمة الاحتمالية الراهنة أو الحالية تحاول سلفًا من خلال ذاتها تقريبنا من فكرة المستقبل النهائي. لكنه فيما بعد لم يعد يعتبر المحاكمة الاحتمالية إلا كمنهج لصياغة الفرضيات التي تحتاج إلى الاختبار[6]. وتشكل المحاكمة الاحتمالية فقط ضمن هذا المنظور الجديد "المستوى الأولى من البحث"، أي المستوى الذي يؤدي إلى تقديم مرشح افتراضي إلى صفِّ التفسير الصحيح لواقع مرصود. وهكذا لا تعود المرحلة الأخيرة من منطق المحاكمة الاحتمالية مندرجة في هذه الحالة والتي تقول: "لدينا أسباب جيدة للاعتقاد بأن P صحيحة"، بل تصبح على النحو التالي: "لدينا أسباب جيدة لاعتماد P كفرضية يجب اختبارها". وهكذا فإنه لا يمكن الخلط بين فعل اقتراح فرضية والقيام ببرهان ما لصحتها، أو حتى لاحتماليتها، الأمر الذي يضعنا في حالة ريبة كاملة فيما يتعلق بدرجة القرب بين النتيجة الحالية لصيرورة المحاكمة الاحتمالية والرأي المستقبلي النهائي.

لقد أيَّد أيضًا المفهومُ البوبري للعلم الميلَ إلى عدم الرؤية في ثنائية الحقيقة والواقع إلا نوعًا من نقطة ارتكاز للبحث العلمي. فبوبر يرى، مثل مفكري الواقعية المتقاربة، أن تطوُّر العلم يشبه صيرورة مقاربات متتالية[7]. مع ذلك، فإن العملية التي يُفترض أنها تدفع عجلة البحث العلمي، أي تتالي المخمَّنات ودحضها، تجعل وفق كارل بوبر من غير الموثوق تأكيد حقيقة أيٍّ من مراحلها. وهكذا يمكن لنظرية جديدة أن تبزَّ نظرية أخرى لأنها تملك درجة أعلى من العمومية ولأنها تشتمل أكثر على محتوى معزَّز ومؤيَّد (أي لم يتمّ دحضه)، غير أنه لن يكون بإمكان أيِّ عنصر من هذا المحتوى من البيانات العالمية أن يجد نفسه رغم ذلك موصوفًا بـ "الصحيح" دون مانع ما، بالمعنى الذي يكون فيه هذا الوصف متحقَّقًا منه. ويشير بوبر إلى أن "علمَنا ليس معرفة ("إبستمية")؛ فهو لا يمكن أن يزعم أبدًا بأنه بلغ الحقيقة [...]"[8]. وعلى عكس ما يحب أن يعتقد به معظم الواقعيين، فإن صيرورة تطور العلوم، على الرغم من أنها مماثلة شكليًا لصيرورة متتالية من التقاربات المتعاقبة، لا تتطابق مع "[...] منظومة تتقدم بانتظام نحو حالة نهائية"[9]. وما هو أسوأ من ذلك، فإن إحدى الخصائص الكبرى لنظرية علمية، وهي خاصية تحمل مخاطر استباقية في كل مرحلة، وتبسيط وتعميم محاورها بجعلها بذلك قابلة للنقد بواسطة مجموعة كبيرة من الردود والتفنيدات الممكنة، تقلِّص ما يسمِّيه أخصائيو المنطق الاستقرائي بـ "احتمال فرضيتها"[10]. وبالتالي فإنه ليس للتقدم المعمِّم للنظريات العلمية الحقيقة كمحصلة يمكن التنبؤ بها ولا الاحتمالية كبديل مؤقَّت. إن التصحيح الوحيد الذي يقدِّمه بوبر على هذه الملاحظة هو التالي:

على الرغم من أن [العلم] لا يستطيع بلوغ الحقيقة ولا الاحتمالية، فإن جهده لبلوغ المعرفة، وبحثه في سبيل الحقيقة، لا يزالان الدافعين الأقوى في الاكتشاف العلمي[11].

إننا ندرك أن هذه الصورة الساخرة لحقيقة لا يمكن الوصول إليها، والتي يظلُّ البحث عنها مع ذلك الدافع الذي لا غنى عنه للباحثين، كانت قد اعتبرت كعقبة لا بد من تجاوزها على يد فلاسفة موجة الواقعية في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، بدلاً من اعتبارها بالأحرى نتيجة مقبولة. فعلى سبيل المثال ركَّز نيوتن - سميث[12] W. H. Newton-Smith مقاربته على تطوير مفهوم غير تجاوزي لمقاربة الحقيقة. ووفقه، فإن ضعف البيان البوبري يكمن في تمييزه للعلم كنشاط عقلي هدفه الحقيقة، في حين لا يمكن للمنهج التجريبي الاعتراف بامتلاك أي حقيقة كانت[13]. ولكن كما يلاحظ بوبرفإنه سيكون من المنطقي محاولة الحصول على الحقيقة فقط في حال توفَّر لنا معيار لها. وبافتراض أننا نعزو لبوبر غياب معيار الحقيقة، فإنه من الضروري بالتالي أن ننسب لتطور العلوم هدفًا أكثر محدودية وفي الوقت نفسه يمكن الوصول إليه أكثر. إن هدف استبدال الواقعية المتقاربة هذا هو زيادة ما يوافق أن نسميه "احتمالية" النظريات.

وقد اقترح بوبر نفسه توجهًا استراتيجيًا قريبًا من ذلك في الكتابات التالية لمؤلفه منطق الاكتشاف العلمي، طالما أنه انتهى إلى اعتبار الإثبات التجريبي القوي لنظرية ما ليس أكيدًا مثل برهان الحقيقة، بل يعد كمؤشر لاحتمالية ظاهرة ضمن حالة معطاة للبحث العلمي[14]. وللأسف كما يلاحظ نيوتن - سميث فإن مثل هذا الامتياز جزئي جدًا بحيث لا يكون مفيدًا، ويتخذ هذا الفيلسوف علاوة على ذلك موقفًا معارضًا لموقف بوبر في معاكسة الاستقرائية. فلكي يكون من المنطقي متابعة الاحتمالية لا بد أن نستطيع الحصول على دليل نحو الاحتمالية العملية للنظريات وليس فقط نحو احتماليتها الظاهرية. من ناحية أخرى، فإن الاعتماد على درجة التأكيد التجريبي لنظرية ما، التي تعيدنا دائمًا إلى مجموعة من المعلومات الماضية، لكي نستنتج منها شيئًا حول موضوع "احتمالية" تميل، رغمًا عنها nolens volens، إلى توقُّع المقدرة المستقبلية لنظرية ما على مقاومة اختبارات تجريبية، يرجع إلى إعادة إدراج حجة استقرائية.

إن قضية الدفاع ما بعد البوبري عن الواقعية المتقاربة يقوم من الآن فصاعدًا على إعطاء مضمون لتعاريف الاحتمالية ولمقاربة الواقع، دون الوقوع مع ذلك في النهج المعتاد للتحقُّقية. يبدأ نيوتن - سميث[15] بتجنب إسناد الاحتمال لأي جسم قابل للرصد أو لمحتوى مؤيِّد. وهكذا فإنه يردُّ احتمالية كل نظرية جديدة إسقاطية ليس فقط إلى تجارب سابقة بل وأيضًا إلى نظرية أخرى إسقاطية كانت مقبولة سابقًا، متبعًا عن قرب الخطوط الموجِّهة لتصوُّر في الإسقاط يعود إلى نلسون غودمان[16] Nelson Goodman إنما دون التمسُّك بها. فنظرية جديدة أولى يمكن أن تعدَّ كنظرية أكثر احتمالية من نظرية جديدة ثانية، بالنسبة لنظرية مقبولة حتى الآن، إذا كان محتواها المؤكَّد مطابقًا أو أهمَّ من محتوى الثانية، وإذا كانت تتضمن عناصر وصفية أكثر للنظرية السابقة المقبولة من الثانية. وعلى عكس الطريقة الاستقرائية، فإن هذه المقاربة لا تحاول العودة من النتائج الواقعية بجملة من التنبؤات المنظّمَة؛ كذلك تستند هذه المقاربة على بنى نظرية موجودة سابقًا. وهي تَستخدم ضمن هذه البنى النظرية ليس فقط مؤدَّاها التنبؤي بل وأيضًا محتواها الوصفي. إنه المحتوى الوصفي الذي يريد الفيلسوف الواقعي الحفاظ عليه من نظرية إلى نظرية تالية، لأنه يعدُّه (أو يتمنى أن يعدَّه) كتمثيل مخلص تقريبًا للواقع. وهكذا يستطيع نيوتن - سميث على العكس، بعد أن تجنَّب على هذا النحو تعريف الاحتمالية لنظرية بواسطة النجاح الرصدي المثبت أو المتوقَّع، اعتبار احتمالية نظرية ما كتفسير مرضٍ لنجاحها الرصدي.

ونجد العنصرين الرئيسيين في طرح نيوتن - سميث، كما عرضناه لتوِّنا، تحت أشكال مختلفة في كافة النسخ المعروفة للواقعية المتقاربة.

العنصر الأول هو ما يمكننا تسميته درجة معينة من "المحافظة"، أكانت هذه المحافظة من رتبة بنائية أو قانونية أو أنطولوجية. إن درجة دنيا من المحافظة هي متلازمة لا يمكن تجنبها للواقعية المتقاربة. لأنه سيكون من الأقل صعوبة التمسُّك بأي تلاق تاريخي للنظريات المتتالية إذا كانت تلجأ بشكل منهجي لبنى أو أنطولوجيات منفصلة.

أما العنصر الثاني المشكِّل للواقعية العلمية، وبخاصة للواقعية المتقاربة، فهو التأكيد أنه وحدها فكرة الملاءمة مع الواقع، مهما كانت تقريبية، تفسِّر بطريقة مرضية النجاح التنبؤي للنظريات. نجد هذا التأكيد عمليًا، على شكل "استدلال نحو التفسير الأفضل" لنجاح النظريات، أو "استدلال باتجاه التفسير الوحيد المقبول"، عند جميع المدافعين عن الواقعية العلمية، منذ العصور القديمة[17] حتى أيامنا هذه.

إن العنصرين المشكِّلين للواقعية يتلاقيان في الملاحظة التالية: وبما أنه لا يمكن تفسير نجاح النظريات السابقة إلا لأن رموزها تستند بشكل تقريبي إلى كيانات حقيقية في الطبيعة ولأن بناها تنتج بشكل تقريبي قوانين الطبيعة، فإننا لا نستطيع تجنب الوصول إلى الأخذ بجزء كبير من أسسها المرجعية والبنيوية. وعندما لا نستطيع القيام بذلك علينا على الأقل تبيان أن الجوانب المتروكة من النظرية السابقة هي حالات محدودة من النظرية الجديدة، بل وتفسير سبب النجاح الجزئي للإطار المرجعي والقانوني القديم بمصطلحات المنظومة الجديدة من الكيانات والبنى. كتب بتنام على سبيل المثال عام 1978 أن مهمة الباحثين أثناء تغيير نظرية ما هي الحفاظ "[...] على الآليات في النظرية السابقة كلما كان ذلك ممكنًا، أو البرهان أنها حالات محدودة من الآليات الجديدة"[18]. يشير بويد R. Boyd في السياق نفسه إلى أن "[...] على النظريات الجديدة، في مقاربة أولية، مشابهة النظريات الحالية فيما يتعلق ببيانها للعلاقات السببية بين الكيانات النظرية"[19].

إن الهدف من تفسير نجاح النظريات في العمق هو التبرير المركزي للواقعية المتقاربة. كتب بتنام: "إن الحجة الإيجابية بالنسبة للواقعية هي أنها الفلسفة الوحيدة التي لا تجعل من نجاح العلوم معجزة"[20]. وبهذه الطريقة إنما تتجنب الواقعية العلمية اتهام العودة إلى نسخة ميتافيزيائية للواقعية. بل هي تقدم نفسها بالأحرى كنوع من نظرية النظريات، نظرية قابلة للدحض عند الاقتضاء، وتهدف إلى أن تأخذ بعين الاعتبار بأفضل صورة ممكنة ديناميكية تشكّل النظريات العلمية وإتمامها.

1. 2 التفسيرات الواقعية واللا-تفسيرات الداروينية المضادة لنجاح النظريات العلمية

تعرضت الواقعية المتقاربة، على الرغم من تجاوزها للارتهان الميتافيزيائي، لهجمات قاسية على جناحيها الرئيسين، ألا وهما "الفكر المحافظ" و"القدرة على التفسير".

ومن بين الانتقادات الموجهة لمسألة "المحافظة"، فإن أحد أكثرها شهرة هو الذي طرحه كوهن[21] T. Kuhn. إن مفهومه للثورة العلمية، وفكرته عن تغيُّر مفاجئ للجشطالت (للبنية) gestalt، بل و"للعالم"، من نموذج إلى آخر، لا يترك مكانًا كافيًا للسكونية الوصفية التي يطلبها الفلاسفة الواقعيون من أجل تجسيد فكرة تلاق تاريخي نحو بيان حقيقي للطبيعة. وقاد ذلك كوهن للتأكيد بأن العلوم لا تبدي أي تقدُّم آخر سوى التقدم الدائم لازدياد السعة العملياتية، لعدد المسائل المحلولة وللدقة التي نحلَّها بها. وبالنسبة له، فإن التلاقي نحو حقيقة ما بعد نظرية هو فخ في النطاق الذي "يمكن فيه لـ [كلمة] 'حقيقة'، كما هو الحال بالنسبة لكلمة 'برهان'، أن تكون مصطلحًا ليس له سوى تطبيقات ضمن النظريات"[22]. وتبدو له استقرارية القوانين غير ثابتة من نظرية إلى أخرى بشكل واضح؛ أما فيما يتعلق باستقرارية المرجع، فإنه يكفي وفق كوهن بضعة دراسات لحالات مأخوذة من الفيزياء للبرهان على عدم الثبات فيها. وبدلاً من ملاحظة تلاق أنطولوجي، نلحظ غالبًا كما يقول كوهن انقطاعات ونقاط انقلاب وتقهقر[23]. إن الكينونة المكانية - الزمانية للنسبية العامة هي على سبيل المثال أقرب في بعض النواحي من الكينونة المكانية في الفيزياء الديكارتية منها إلى منظومة الجسم الذي يجذب عن مسافة بعيدة في الفيزياء النيوتونية.

والأمر الأكثر إزعاجًا كما يلاحظ كل من كوهن ولودان[24] L. Laudan، ليس فقط أننا لا نلحظ أي تقدم في العلوم على مستوى غير المستوى البرغماتي البحت، بل ونستنتج أيضًا تراجعات حقيقية. فغالبًا ما يتم التخلِّي من نظرية إلى أخرى عن هدف تفسيري كان يعتبر في السابق كضرورة. فمن الميكانيك الديكارتي إلى الميكانيك النيوتوني تم التخلي عن مطلب تفسير التفاعل الجاذبي بواسطة أفعال اتصال. واستطاع كتاب كثيرون التأكيد، منشرحين لذلك أو متكدِّرين منه، أننا خسرنا من الميكانيك الكلاسيكي إلى الميكانيك الكمومي مثالية التفسير عمومًا لصالح تنظيم أهلية وجدارة التنبؤ الاحتمالي. يضاف إلى ذلك قائمة مدهشة من الحالات، معروفة لدى فلاسفة العلم باسم "قائمة لودان"، حيث ارتكزت نظريات عَرفت نجاحًا تجريبيًا معينًا على أنطولوجيات أو على صيرورات اختفت وفُقدت مع تطور العلوم. ومن الأمثلة عليها مدارات الأفلاك البطلميوسية، ومصدر اللهب (سائل تصوَّره القدماء لتفسير الاحتراق) والسيَّالة الحرارية (سائل افتراضي كان يُعتقد أنه يولِّد الحرارة والبرودة) والأثير.

المشكلة هي أن هذا السقوط الأنطولوجي في الانتقال من نظرية إلى أخرى يطعن أيضًا بالشق الثاني من النسخة الأكثر محدودية من الواقعية المتقاربة: أي تلك التي تشتمل على إرادة تفسير جزئي لنجاح النظريات الفيزيائية من خلال التقاطها لإشارات طبيعية.

ولكي ندرك أن استخدام المرجعيات المناسبة لها قدرة محدودة لتفسير نجاح النظريات فلا بد في الواقع من ملاحظة ما يلي. فقد وجدت نظريات نالت حصَّتها من النجاح رغم تعاملها مع بعض الكيانات، مثل الأثير في الكهرمغنطيسية، وهي كيانات لم تأخذ بها النظريات اللاحقة الأكثر فعالية. وعلى العكس فقد وجدت نظريات كانت تُدخل في بنيتها كيانات كرَّسها العلم اللاحق، إنما التي أخفقت جزئيًا لفترة من الزمن بمواجهة النظريات المعاصرة التي لا تستخدم هذه الكيانات. فالنظريات الذرية ظلت لفترة طويلة قابعة وراء غيرها من النظريات وعاجزة بالنسبة للترموديناميك الجهاري أو بالنسبة لنظريات الميكانيك الاستمرارية للحرارة[25].

تدخلنا الأمثلة التي جئنا على ذكرها أعلاه إلى أمثولة أوسع لنقد الواقعية المتقاربة. وتتمثل هذه الأمثولة في استحالة استخلاص النتائج نفسها من مجرد الاحتمالية أو من المطابقة التقريبية للواقع، ومن الحقيقة أو من التوافق الدقيق معها[26]. وفي الواقع ليس ثمة ما يمنع نظرية احتمالية، أو نظرية تتوافق تقريبيًا مع الواقعي بما هي تستخدم على سبيل المثال الكيانات "الجيدة"، من الإخفاق خلال مدة زمنية طويلة نسبيًا. وعلى العكس، لا شيء يمنع نظرية قليلة الاحتمال، أو لا تتوافق جيدًا مع الواقع، لأننا نستطيع القول بشكل استرجاعي أنها لم تكن تتضمن الاستناد إلى كيانات "جيدة"، من تحقيق النجاح. ومن المؤكد أن هذه الملاحظة لا تخلو من صلة مع دحض أكثر شيوعًا معارض للواقعية العلمية: وهو دحض التحديدية التحتية للنظريات بواسطة التجربة. ويمكن لنظريات مختلفة احتمالية تقريبًا أن "تنقذ" مجلدًا منتهيًا من الظاهرات؛ لكن هذا المجلد لا يسمح بالتعرف على أكثرها شبهًا بالصحيح في لحظة معطاة بالطريقة نفسها التي تسمح بها معرفة وافية مثالية للموضوع أن تتعرف بشكل مؤكد على النظرية الصحيحة.

ولنقبل حتى بأننا نعترف للواقعية المتقاربة بنوع من القدرة التفسيرية للنجاح المتزايد للنظريات العلمية، فهل يجبرنا ذلك على القبول بها؟ يجيب فان فراسّين B. Van Fraassen ولودان وبلاكبرن[27] S. Blackburn وغيرهم كثيرون بأن ذلك لا يعني القبول بها بأي شكل من الاشكال. ولما كانت الواقعية المتقاربة قد قُدِّمت من قبل الكثيرين من المدافعين الحديثين عنها كنظرية علمية من المرتبة الثانية، وكنظرية لـ "تقدم" النظريات، فإن قبولها يجب أن يخضع للمعايير التي يرى المفكرون الواقعيون أنفسهم بأنها ضرورية من أجل اعتماد نظرية علمية. والحال كذلك، كما يلاحظ لودان، فإن الواقعيين على خلاف الذرائعيين يتطلبون نظرية تقوم بما هو أكثر من إنقاذ الظاهرات التي صمِّمت من أجلها أصلاً. فهم يريدون منها أن تكشف من خلال تفسيراتها عن مجالات غير مسبوقة للاستكشاف، وأن تقدِّم تنبؤات جديدة ومؤكَّدة إذا أمكن لموضوعها. لكن للأسف لم يتم إثبات أي شيء من ذلك فيما يتعلَّق بنظريَّة النظريَّات التي يفترض أن تكون "الواقعيَّة المتقاربة". إن الواقعية المتقاربة تظل فرضيَّة خاصَّة قدرتها التفسيريَّة محدودة بالسبب الذي من أجله تمَّت صياغتها وإعدادها. ومن السهل فهم سبب هذه المحدودية: فالمجال الوحيد الذي يمكن للتفسير الواقعي لنجاح النظريات الخاص به اقتراح تنبؤات لا يمكن لأية مقاربة ابستمولوجية أخرى تقديمها يتعلق بمنفذ مباشر وهمي، دون وساطة نظرية أو تجريبية، إلى الواقعية التجاوزية. كان شرودنغر ليقول، مرتكزًا على هذا النوع من الملاحظات[28]، إن الواقعية العلمية لا تقوم سوى بمضاعفة اللغز بإعطائه اسمًا[29]. والسرُّ الذي يقصده شرودنغر هنا هو لغز الاتفاق البين - الذاتي، في حين أن مضاعفة اللغز هو التفسير الواقعي لهذا الاتفاق. يمكننا مع ذلك نقل الملاحظة إلى "السر" البتنامي لنجاح النظريات الفيزيائية، ولمضاعفتها بواسطة عبارة "التلاقي نحو توافقية النظريات مع الواقع".

وفي العمق، فإن للعملية التفسيرية كما يبدو التي تعتمد عليها الواقعية العلمية كافة الحظوظ بالاختصار إلى مصادرة. يُفترض أن الواقعية المتقاربة تفسِّر النجاح المتنامي للنظريات العلمية من خلال مقاربتها لوصف مخلص للواقع، بالطريقة نفسها التي تميل بها الواقعية بشكل عام لتفسير التوافق البين - الذاتي من خلال واقع أن هذا التوافق يتأسس بما يخص جسمًا وحيدًا خارجيًا. لكن علينا ألا ننسى أنه في لحظة معطاة من ممارسة العلوم، يظلُّ النجاح ناقصًا ويعاني التوافق البين - ذاتي من العديد من العقبات. وضمن هذا الوضع ليس ثمة ما يمنع متشكّكًا من الشكِّ بالإمكانية المستقبلية في توطيد الوصف والحصول على ما هو أفضل من التوافقات المحدودة أو الظرفية. عندها يجد الواقعي نفسه بمواجهة معضلة. فإما يسلِّم بأن مقصده الوحيد كان تفسير النجاحات الجزئية لنظريات الماضي من خلال احتماليتها، فيمكننا عندها الردُّ عليه، كما في السابق، بضعف الصلة بين النجاح الثابت والاحتمالية. وإما يؤكِّد بأنه أراد أن يفسِّر مقدَّمًا الميل إلى مدٍّ مستقبلي للتلاقي نحو منظومة من القوانين والمرجعيات الوحيدة، وعلينا بالتالي أن نسأله حول سبب ثقته الضمنية بمثل هذا التطوُّر القادم. فإذا لم يقتنع بحجة استقرائية من خلال تعميمٍ للتلاقي الماضي (المشكوك فيه)، فإنه يجازف عندها بالقبول أن الشيء الوحيد الذي يمكن أن يبرِّر إيمانه بتلاق مستقبلي هو أن على هذا التلاقي أن يتحقَّق بشكل إجباري، لأن البحث يخضع لقيود مشاركة لواقع خارجي سابق التشكُّل. وهكذا، لا تعمل أطروحة الواقعية المتقاربة سوى على الاستئثار بالنجاح المتنامي وبالتمكُّن الوصفي للنظريات؛ إنها تبرِّر بالمقابل وجودها. فالواقعية المتقاربة تقدِّم في آن معًا، وإن ليس دون بعض التبادلية، المبدأ التفسيري وضمان أنه يوجد شيء ما لتفسيره[30].

وفي الواقع، فإن هدوء الواقعيين بمواجهة هذه الانتقادات يتأتى ربما مما يعتقدون به بتعذر الوصول إلى تفسير آخر لنجاح وتطوُّر النظريات العلميَّة غير تفسيرهم. ويلومهم لودان فعلاً لأنهم لم يبرهنوا أنه تنقص إبستمولوجيا مضادة للواقعية مصادر طبيعية لكي يمكنها تقديم مثل هذا التفسير، لكن يجب الاعتراف أن مثل هذه الطريقة في ردِّ عبء الإثبات إلى الخصم ليست مقنعة. وكان الإبستمولوجيون اللاواقعيون سيدعمون بشكل كبير طرحهم لو قدَّموا فرضية مقابلة قابلة للتفسير الواقعي. فماذا لديهم إذن لتقديمه في هذا المجال؟

يلجأ معظم فلاسفة العلوم اللاواقعيين إلى مفهوم تطوُّري دارويني، وهو مفهوم حدِّد في إطار إبستمولوجي آخر عند بوبر.

هكذا، يبدأ كوهن بقبول فكرة تقدُّم تراكمي لكل علم خلال مراحل العلم المسمى بـ "العادي"، لكنه يعتبر أن الانتقال من نموذج (إرشادي) paradigme إلى آخر يخضع لقواعد منطقية بديهية مختلفة جدًا. فالثورة العلمية، بما أنها تقتضي "تغييرًا للعالم"، تقود إلى التخلي فورًا عن صيرورة مراكمة المعارف فيما يخص الكيانات والروابط القانونية للعالم القديم. ويرجع عمل الباحثين وفقها إلى قرارهم بزيادة القدرة التي يملكونها في حل المشاكل، وذلك على حساب هذا التخلي. وهكذا إنما يحفظ شيء من مفهوم تقدُّم العلوم، لكن الأمر لا يعود متعلقًا بتقدم نحو الهدف المحدد مسبقًا الذي هو "الحقيقة"؛ بل بالأحرى بصيرورة تأقلم وتخصص وانقراض غير موجَّه مماثل لتطور السلالات المعبر عنه في النظرية التطورية الداروينية. ويلاحظ فان فراسين[31] حول هذا الموضوع أن الداروينية، أكانت مطبقة على تطوُّر الأنواع أو على تطوُّر النظريات العلمية، تتميَّز بأنها لا تجيب على نوع الأسئلة التي يطرحها كل من القائلين بالغائية والقائلين بالواقعية المتقاربة. بل هي تقود بالأحرى إلى تبيان كيف يمكننا الإفلات من طرح هذه الأسئلة. إن أسئلة مثل "لماذا للنظرية العلمية المقبولة حاليًا البنية التي لها؟" تثير الانطباع بوجود سرٍّ وتدعو بالتالي بشكل لا يمكن تجنُّبه تقريبًا إلى إجابة "غائية" أو قصديَّة، من نوع الإجابة: "ذلك لأنها (أي النظريات العلمية) تميل إلى التوافق مع بنية الواقع". ويكفي وفق فان فراسين توسعة التساؤل إلى مجموعة من النظرات المتنافسة، وإلى ديناميكية إخضاعها للاختبار في إطار عمل تكيُّف النظريين والتجريبيين، من أجل إفقاد الجواب القصدي إغراءه وسحره، ومن أجل تيسير أجوبة يكون فيها معنى السرِّ قد انحلَّ في جزء كبير منه:

من بين كافة النظريات المتنافسة، وحدها النظريات التي كانت فعَّالة بدرجة كافية لكي تقود صفًا معينًا من التطبيقات هي التي استمرت؛ ثم جاءت نظريات أخرى، في المنظومة البيئية التجريبية المتوسِّعة التي حرَّضتها، أفضل تأقلمًا مع الشروط الجديدة، أو أكثر عالمية، وحلَّت محل النظريات الأولى.

وكما يشير لودان، فإن انطباع الاتجاهية الذي يعطيه أحيانًا تطوُّر العلوم، والذي يعارضه بعض الواقعيين مع التصور الدارويني لتطوُّر تأقلمي تعدُّدي و"أعمى" في آن واحد، يمكن أن ينسب إلى وهم مرتبط بالماضي. ويبدو أن التطوَّر الماضي يميل دائمًا، إذا ما نسينا فروعه الميتة، نحو الحالة الحاضرة؛ وهذه الحالة الحاضرة هي التي تحلُّ كبديل براغماتي عن الهدف télos المستحضر.

عند هذا المستوى نلحظ ظهور مسألتين تميزان الداروينية، وهما مسألتان لم يلحظهما دائمًا بشكل جيد فلاسفة العلم اللاواقعيين.

المسألة الأولى هي أن التطورية الحديثة، التي تابعها حتى آخر نتائجها مؤلفون مثل ستيفن جاي غولد Stephen Jay Gould أو فاريلا[32] F. Varela، تقود إلى إدراج عنصر طارئ نادر الحدوث كانت الأجيال الأولى من البيولوجيين الداروينيين تعتقد بإمكانية تجنُّبه. فأكثر من طريق تطوُّري يقود إلى تكيُّف كاف للاستمرار والبقاء يمكن تتبُّعه، وهذه الطرق تقود إلى أنواع ذات سويات تنظيم مختلفة بشكل عميق. وحدها الظروف العرضية والمفاجئة، من رتبة الأحداث الجيولوجية أو الفلكية، قادت إلى شجرة تطوُّر السلالات التي نعرفها. بعبارة أخرى، فإن شجرة تطوُّر السلالات هذه والأنواع التي تشكِّلها لا تمثِّل الـحلَّ الأمثلي لمسألة التأقلم، بل فقط حلَّ جملة الحلول تحت الأمثلية والمقبولة[33] الذي فضَّلته الأحداث الطارئة في تاريخ الكرة الأرضية. وقد استمرَّت حجة تعدُّدية النظريات الممكنة، كما سبق ورأينا، بعد نقلها إلى فلسفة العلوم، لتمثِّل فيها قلب النسخة المطابقة اللاواقعية للإشكالية الواقعية واللاهوتية للوحدانية. فاللاواقعي يصرُّ، بمواجهة تناقضه، على الاختلاف بين التوافقية التماثلية لنظرية مع الواقع، والتكيُّف البسيط للعالِم النظري مع الشروط التجريبية. فالأولى تتطلَّب الوحدانية أو على الأقل قصد الوحدانية. أما الثانية فتتكيَّف مع التعدُّدية، لأن أكثر من طريقة تحت - أمثلية للتوجُّه يمكن أن تكون موافقة، ضمن حقل من الشروط المعطاة، ومن أجل حاجة للدقة محدودة بالضرورة. وبشكل أعمق، فإن مفهوم التكيُّف يتطلب تعدُّدية الصيرورات الممكنة من التوافق إلى الشروط. ذلك أن التكيُّف، على عكس التوافقية التماثلية، ليس فيه شيء من العلاقة السكونية. وهو يتعلق ليس فقط بالوسط الذي يمارس الشروط (القيود)، بل بالمشروع (مشروع الحياة أو التنبؤ) الذي يجب إكماله مع الأخذ بعين الاعتبار للقيود. وليس لهذه الشروط أي سبب إضافي لكي لا تكون معتمدة بشكل جزئي على نمط النشاط المتضمن في المشروع المتوقع، بما هي إجابات اتجاهية على تطبيقات وممارسات هي نفسها اتجاهية. ترتبط مشاريع البحث بالتالي، بداهة، مع إنجازات تكيُّفية منفصلة عن بعضها بعضًا. ويرتبط كل مشروع بينها بنطاق من بنى وأنماط الفعل المتأقلمة والمميز عن النطاقات الأخرى. وهي تمثِّل ترتيبًا ثانيًا من التعدُّدية، إلى ما وراء الترتيب الأول الذي ينتج عن الأمثلية التحتية لصيرورة التكيف الخاصة بمشروع معطى. يلخص لنا فون غلاسرفلد E. Von Glaserfeld نتيجة هذا النمط من التحليل على النحو التالي:

لا يعطينا [النجاح] أي مؤشر على السمات المحتملة للعالم "الموضوعي"، بل يعني فقط أننا نعرف وسيلة قابلة للتطبيق لبلوغ هدف اخترناه[34].

كان يمكن لأهداف كثيرة أن تكون مختارة، وكان يتوفَّر في هذه الحالة لكل من هذه الأهداف وسائل قابلة للتطبيق. إن موقفنا اليوم في الوضع الحالي لتطور العلوم هو الاتفاق الجماعي على هدف واحد أو على مجموعة محدودة من الأهداف، وعلى توفير الوسائل القابلة بشكل مميّز للتطبيق (والموحدة بشكل منطقي) وتحقيق هذه الأهداف. إن السؤال المطروح على هذا المستوى، بنقل الإشكالية الداروينية الجديدة حول الفجائي أو العرضي، هو معرفة ما هو الحدث (ما هي الأحداث) التي قادتنا تاريخيًا لتفضيل هذا الهدف، هذا المشروع وهذا النموذج النظري من بين أنماط أخرى ممكنة للتكيُّف. إن كثيرين من الفلاسفة اللاواقعيين يحاولون تأكيد تحديدية تحتية مبدئية، دون التساؤل حول الظروف التي قادت إلى التحديدية الفعَّالة التي نحن شهود عليها[35].

المسألة الداروينية الثانية هي أننا نعتبر بشكل عام أن صيرورة التكيُّف والانتخاب الطبيعي هي صيرورة مشروطة بواسطة القيد الذي يطبقه وسط خارجي محدَّد مسبقًا. إن غالبية التطوُّريين يقبلون أن أحداثًا بيولوجية كبرى تغيِّر المنظومات البيئية، مدخلة عليها بالتالي تبادلية ما، بل ويمضون في افتراض أساس بيئي أدنى مستقرّ، هو على سبيل المثال المصادر المادية للكوكب. ووفق أكثر العلماء جرأة، مثل فاريلا، لا يجب التحدث عن تكيُّف بسيط للمتعضِّية مع وسطها بل بالأحرى عن علاقة "تضمُّن مشترك" بين المتعضِّية ووسطها البيئي؛ وهي علاقة "يحدد بواسطتها كل من المتعضية والوسط أحدهما الآخر"[36]. إن مسألة معرفة إلى أي مدى يمضي التمييز المتبادل، وإذا كان يعمل على كون ذي أشكال أولية محدَّدة مسبقًا أو إذا كان هذا التمييز نفسه محدِّدًا لهذه الأشكال ذاتها، تبقى مع ذلك مسألة تنتظر دراسة أكمل وأشمل.

يسمح لنا ذلك بأن نفهم، من خلال المشابهة، أن الأشكال المتتالية من اللاواقعية العلمية لم تدَّع التزوير دائمًا ضدَّ افتراض مميز للواقعية بشكل عام: ألا وهو افتراض "شيء ما" مستقل، ومتشكِّل مسبقًا بشكل جزئي، يواجه الباحث. شيء ما يتجلى في أبسط حالة من خلال وقائع بحيث تكون مهمة النظرية، وفق ماخ Mach أو دوهيم[37] Duhem، وصفها بأكثر الطرق الاقتصادية الممكنة بساطة. صحيح أن الأنطولوجيا القديمة الإيجابية للـ "معطى" الواقعي factuel قد تركت مكانها منذ بعض الوقت لإشكالية واقعية facticité الفعل، وللعبء النظري للفرضيات التجريبية، بل كما عند فان فراسين لنماذج معطيات مشكَّلة بواسطة النموذج الشامل للنظرية[38]. غير أنه يبدو لي أن معظم فلاسفة العلوم اللاواقعيين لم يتوصلوا إلى تحديد حتى أية نقطة سيظلون تابعين لفكرة وسط واقعي جبري ومسبق، على شكل محدَّث وعصري لخلفية من الترتيبات الواقعية أو لرابطة متعذَّر حلها بين العنصر الواقعي حصرًا وشبكة قراءته. من جهة أخرى، حتى الأكثر تقدُّمًا من بينهم، وحتى أولئك الذين يعرفون الفيزياء المعاصرة بشكل أفضل من غيرهم مثل فان فراسين، لم يأخذوا دون شك القسط الكامل مما كان بإمكانهم استنتاجه حول موضوع التفكُّر المعمَّق هذا حول الميكانيك الكمومي[39].

1. 3 الطرح الواقعي لنضج العلوم

قبل تناول ما يمكن أن يحمله لنا التفكُّر بالميكانيك الكمومي، فإنه من المفيد مع ذلك القيام بعرض سريع لردود الفعل والاعتراضات المضادة العامة للواقعيِّين العلميِّين بمواجهة الانتقادات الموجَّهة من اللاواقعيين. ذلك أن ردود الفعل هذه هي التي سوف تنبئنا، على مضض، حول الطريق الذي بقي علينا اجتيازه من أجل صياغة مفهوم لديناميكية العلوم، صياغة قابلة للتطبيق إنما منفصلة عن الواقعية المتقاربة.

إن التحدِّيين الرئيسيِّين اللذين حاول فلاسفة العلوم الواقعيِّين الإجابة عليهما هما تحدي اللاإستقرارية التاريخية للـ "عوالم" النموذجية لكوهن، وتحدي التحديدية التحتية. وقد جاء الجواب عليهما مستندًا على المركبة اللاهوتية التي لا غنى عنها في المشروع العلمي.

يتفق الواقعيون مقابل طرح كوهن في اللاقياسية incommensurabilité، على القول بأن جوانب كاملة من التفسيرات ومن الآليات ومن التقسيمات الأنطولوجية، تبقى من نظرية إلى النظرية التي تحل محلَّها. ومقابل قائمة لودان، التي تظهر كمية من الأطوار ما بين النظريات حيث من المؤكد نقص الاستمرارية التصوُّرية، لجأ كثيرون منهم إلى ما نسميه بالإنكليزية "افتراض النضج العلمي the mature science assumption"، ووفقه فإنه يمكن فقط في حالة نضج كاف للعلوم تأسيس استقرار معين في تمثيل العالم. وهكذا فقد أمكن استبعاد أجزاء كاملة من قائمة لودان، أجزاء اعتُبر أنها تستند على علم لا يزال غير ناضج في مفترضاته وفي مناهجه. والمشكلة أن فلاسفة العلم الواقعيين لا يتوصَّلون إلى التفاهم لا حول تعريف علم ناضج ولا حول امتداد ما يبقى من نظرية علمية ناضجة إلى نظرية علمية تحلُّ محلَّها.

إن المسألتين مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا إلى درجة أن التردُّد بينهما يصبح مضخَّمًا. وفي الواقع، كلَّما كان مجال العلوم الناضجة محدودًا في الجوار الحالي لحالتها الحاضرة، كلما قلَّ احتمال طرح مسألة اللاإستمرارية عبر – النموذجية (الإرشادية) trans-paradigmatique. ولكن من جهة أخرى، فإن مقاربة مفرطة لتعريف العلم الناضج ولتعريف العلم الحالي ستؤدي إلى الاتهام الذي وفقه يحاول الواقعيون تجاهل اللاإستمرارية عبر - النظريات بالاستناد على قصر النظر التاريخي.

لنفترض إذن أن الفيلسوف الواقعي اتخذ قرارًا ليس مقيِّدًا جدًا فيما يتعلَّق بما يفهمه بـ "العلم الناضج". فكيف سيجيب على وجود لاإستمرارية بين النماذج؟ إنه يبدأ عمومًا بعدم استبعاد أن درجة معينة من اللاإستمرارية يمكن أن توجد. ولا يحمل هذا التنازل أي معنى من الاعتراف بالفشل إذا قبلنا أن كل شيء في البنى النظرية ليس له ما يوافقه في الطبيعة، وأنه ليس من المنطقي البحث عن الاستقرارية إلا في بنى العناصر الشكلية التي لها روابط في العالم الفيزيائي[40]. مع ذلك لا يجب أن يذهب الواقعي بعيدًا جدًا في هذا الاتجاه، لأنه لو مضى تدريجيًا في ذلك، من تنازل إلى تنازل، في الحدِّ من روابط النظرية في العالم الفيزيائي إلى البيانات الرصدية وحدها المتعلقة بمجال صحة هذه النظرية، فإنه يجازف بعدم التميُّز عن اللاواقعي، بل عن الوضعيِّ المنطقي. فلا بدَّ بالتالي وفقه من بقاء أو استمرار شيء ما غير ذلك من نظرية إلى أخرى تليها: أي عنصر غير قابل للرصد بشكل مباشر؛ إنه أحد هذه العناصر الشكليَّة التي تقيم مع نتائج التجربة ليس علاقة إيزومورفية صارمة بل صلة ذات اتجاه وحيد من خلال إجراء افتراضي - استنتاجي. وهنا أيضًا ينشرخ مع ذلك التوافق بين فلاسفة العلوم الواقعيين ما أن يتعلَّق الأمر بتحديد طبيعة هذا العنصر غير القابل للرصد والمستقرِّ في آن معًا. إن المرشحين الثلاثة الرئيسيين للإستقرارية هم الأنطولوجية، والصيرورات أو الآليات، والقوانين أو البنى العامة. أما الأنطولوجيا، أي تقسيم العالم إلى صفوف وأفراد وفق "مفاصل" يراد لها أن تكون مسبقة الوجود، فهي لا شك كما سبق ورأينا أكثر هذه الترشيحات إثارة للجدل. فدون الرجوع حتى إلى أنطولوجيات مثل الأماكن الطبيعية، أو رباعيات العناصر، أو اللاهوب (سائل تصوره القدماء لتفسير الاحتراق)، أو السائل الحراري (سائل افتراضي يولد الحرارة والبرودة)، التي يمكن للواقعي الطعن فيها لأنها لا تنتمي إلى حالة ناضجة من العلوم المعنيَّة، يمكننا أن نتساءل فيما إذا كانت عناصر من أنطولوجيا الفيزياء المعاصرة، مثل الذرات والجسيمات الأولية، قد استمرَّت حقًا، إلى ما وراء الذرائع اللفظية والصور الإيحائية، وبقيت رغم التحولات النظرية في القرن العشرين (انظر الفصل الخامس). إن ظهور مقالات لمؤلفين جادين مؤخرًا، تحمل عناوين مثيرة للجدل مثل "الجسيمات غير موجودة"[41]، أو أيضًا "لا يوجد قفزات كمومية ولا جسيمات!"[42] ، يشير إلى أن القضية لا تزال مفتوحة. ويبيِّن استبدال تعداد N جسيم في نظرية الحقول الكمومية في حالة ما بمفهوم اهتزاز نمط نوسان للحقل في سويَّته الكمومية N، أن بديلاً أنطولوجيًا للذرية ليس أمرًا لا يمكن تصوُّره، وأنه يعمل منذ الآن بشكل ضمني في النظريات الأكثر تقدمًا[43]. يفسِّر ذلك أن هؤلاء من الفلاسفة الواقعيِّين، الذين هم متلقون في الوضع الراهن للفيزياء، لا يصرِّون كثيرًا على الاستقرار العبر - نظري للأنطولوجيات، أو على الأقل أنهم يقومون بذلك بطريقة متباينة. ويشير شيموني[44] A. Shimony على سبيل المثال أنه فقط إذا تم نسخ أو نقل المسائل الأنطولوجية على المستوى السببي والبنيوي فإنه يمكن إثبات استمرارية تاريخية جزئية للأنطولوجيات. ويصر دسبانيا[45] B. d'Espagnat وريدهد[46] M. Redhead فيما يخصهما على درجة معينة من استمرارية البنى القانونية الكبرى، التي تتعارض وفقهما مع هشاشة وتحلُّلية الروابط الأنطولوجية. وضمن هذه الشروط، يمكن لبعضهم أن يعتقد أن استمرارية واحدة على الأقل لـ وصف "الآليات" السببية، أو للـ تفسيرات التي تستخدم روابط قانونية بين الظاهرات، تظلُّ قائمة بحيث يمكن حمايتها. لكن ذلك سيعني الخلط بين البنى والتوصيفات، وسيعني أيضًا اعتبار أن القوانين لا تستطيع تعيين وضبط سوى تتالي الظاهرات مسألة مؤكدة لا لبس فيها. والحال، فإن الحالة الفردية إنما التي تحمل معنى رفيعًا للنظريات الكمومية تقدِّم لنا مثالاً معاكسًا يناقض هذين الفرضين. فمن جهة، يطرح تفسير بنى النظريات الكمومية بمصطلحات وصفية، وبعبارة أخرى بمصطلحات غير تنبؤية بشكل بحت، صعوبات لا يستهان بها. ومن جهة أخرى، فإن قوانين تطوُّر هذه النظريات تقوم على رموز تسمح بتقدير احتمال الظاهرات، ولا تتعلق بشكل مباشر بالظاهرات.

نجد أنفسنا عند هذه المرحلة في وضع دقيق. وكما يلاحظ ذلك كل من دسبانيا وريدهد بشكل محق، فإن بعض عناصر الاستمرارية البنيوية موجودة بين الميكانيك الكلاسيكي والميكانيك الكمومي. لكن هذه العناصر لا يمكن إعادة توجهيها لا باتجاه ثبات أنطولوجي ولا باتجاه استقرارية للروابط القانونية بين الظاهرات. فما هو مغزاها إذن؟ يحيلها شيموني إلى ما كان نيلز بور N. Bohr يسميه "مبدأ التوافق". وباستعارة مصطلح بور، يشير شيموني إلى أن مبدأ التوافق يبدي شكلاً من الاستقرارية "التصوُّرية" من نظرية إلى أخرى. ويستنتج من ذلك حجة لصالح تقارب للنظريات باتجاه منظومة مفاهيم تعكس شكل الواقع. ولكن قبل الوصول إلى مثل هذه الاستنتاجات كان لا بد لشيموني أن يتساءل حول استخدام بور للفظة "تصوُّر"، وحول الأسباب التي جعلته يعتبر هذه الاستقرارية "التصورية" كاستقرارية لا بدَّ منها. إن التصوُّرات وفق بور لا تنطبق بشكل غير ملتبس إلا على مجال مكاني - زماني مستمر من الظاهرات[47] التي يعطينا عليها محيطنا المباشر المثال النموذجي الأوَّلي. إن ديمومة التصورات المعرَّفة على هذا النحو لا تفرض نفسها بحق إلا لكي تؤمِّن غياب اللُّبس في اتصالية النتائج التجريبية التي تظهر على مستوانا وفي بيئتنا المباشرة. ويكشف بالتالي شكل الاستمرارية العبر - نظرية التي أدخلها مبدأ التوافق لبور عن قيود إبستمولوجية - عملياتية. ويتصل هذا الشكل باللزوم المسبق للاتصال البين - ذاتي وبقيود صلتــ نا بالعالم، بالأحرى منه بظهور مباشر للبنى الافتراضية للعالم. يصبح من الصعب بالتالي أن يتم استحضار "مبدأ التوافق" كحجة لصالح الواقعية المتقاربة. بل هو يرسم على العكس شكلاً لتبرير غير مفارق لعناصر الاستقرارية البنيوية التي تشهد عليها النظريات الفيزيائية؛ تبرير من رتبة تجاوزية بمعنى مطابقة لشروط إمكانية تحقق هذه النظريات. ومن هنا، فإن "مبدأ التوافق"، عبر قدرته على إفقاد التفسير الواقعي لعناصر الاستقرارية العبر - نموذجية المستنتجة بين الفيزياء الكلاسيكية والفيزياء الكمومية حصريته، فإنه يحرم في الحقيقة هذا التفسير من جزء كبير من جاذبيته وسحره. وسيكون علينا العودة إلى هذه النقطة لاحقًا[48].

تتعلَّق المجموعة الثانية من الأجوبة الواقعية بضعف بيانات اللاواقعيين لديناميكية العلوم. إن الفكرة التي طورها كوهن لتقدُّم عبر - نموذجي من خلال زيادة عدد المسائل القابلة لحل ما تواجه عقبة كونها فكرة كمية بحتة. فهي لا تقول لنا شيئًا، بشكل خاص، عن الظروف التي يحق فيها للباحثين اعتبار أن مسألة ما تُطرح بشكل مشروع عليهم. وكما يلاحظ محقًا نيوتن - سميث[49]، فإننا لا نعدُّ كنظرية علمية نظرية تحل مسائل لا معنى لها. فلا بدَّ بالتالي من معيار لانتقاء المسائل. والحال، يتابع نيوتن - سميث، فإن المعيار الوحيد الجدير بالتصديق يتصل بشكل ما مع الحقيقة: فالمسائل الجيدة هي المسائل التي تكون لمقدماتها فرص بأن تكون صحيحة[50]. إن المشروع العلمي، دون توجيه نحو الحقيقة مصمَّم بحدِّه الأدنى كمثال ناظم، يجازف بالوقوع في اللامعنى. وفي إطار فكر قريب من هذا الفكر، يلاحظ فيراباند[51] P. Feyerabend، في الوقت الذي كان يضع نفسه كمدافع عن الواقعية العلمية، أن الأداة اللسانية، التي نستخدمها من أجل التعبير عن قضايا قابلة للرصد، مشروطة بقضايا مسبقة فيما يتعلق بوجود مواد التجربة. الأمر الذي يمكن التعبير عنه على النحو التالي، من خلال التشابه مع حجة نيوتن - سميث: فإذا أردنا أم لم نرد، وإذا قبلنا بالموروث الميتافيزيائي أم لم نقبل، فإن المشروع العلمي يستخدم كمرجع وكدليل بنية مرجعية ذات تابع ناظم.

تشير هذه الحجج الأخيرة إلى انعطاف هام في دفاع الواقعية المتقاربة. فبدلاً من محاولة إنشاء الصحة والشرعية من وجهة نظر خارجية لنظرية في المعرفة، تتمُّ الإشارة إلى قيمتها الداخلية، من وجهة نظر العامل في تقدم العلوم. كان فيراباند الأول في عدم التردُّد باعتبار أن هجومًا ضد الواقعية المتقاربة هو في الوقت نفسه هجوم ضد المنهج العلمي بكامله[52]، لأن هذا المنهج يتضمَّنها وله تدين بنجاحها. أما بوتنام Putnam فكان يؤكد من جهته في السبعينيات (من القرن الماضي) أن الواقعية، إذا جاز القول، "هي فلسفة علوم العلم"، أو أيضًا أن "العلم، مأخوذًا بشكل حرفي، يتضمَّن الواقعية"[53]. وفي نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، أدَّت هذه الملاحظات التي نظَّمها ودرسها بوتنام إلى ولادة "الواقعية الداخلية".

تحاول هذه المحاججة في العمق الإمساك بالفيلسوف اللاواقعي متلبِّسًا بنقص المتانة اتجاه تصوُّره الدارويني الخاص لتطور العلوم. إن تقارب السلسلة التاريخية للنظريات العلمية نحو حقيقة وحيدة، عبر - نموذجية، ربما يكون وهمًا (علمًا أننا لا نملك في كل الأحوال أية وسيلة للتأكد من ذلك، على حدِّ قول اللاواقعي نفسه). غير أن لا شيء يمنع مثل هذا الوهم أن يكون خصبًا، بسبب قدرته على ردِّ كل من الإخفاقات التي تعرَّض لها إلى مسيرات جديدة موجهة نحو مستقبل العلوم. فلا بدَّ في أبسط الأحوال من اعتبار الواقعية المتقاربة كطريقة لتأمين حاضر البحث العلمي بجعله يرتكز على المستقبل المفتوح عبر مشروعه الخاص. وهذا وحده سيكون كافيًا لفهم أنه أمكن لها، مثلها مثل النظريات نفسها، أن تكون "منتخبة" من خلال إجراء مواجهتها مع التجربة. إن افتراضًا مسبقًا عالميًا مسهّلاً للإبداع، والثقة تجاه التطورات المستقبلية والبحث عن تكيُّف أمثلي للنظريات، كان ولا بدَّ أحد العناصر المقدمة في سبيل ضغط عملية الانتخاب خلال إعداد العلوم. وكما يعرف جيدًا التطوُّريون منذ نهاية القرن التاسع عشر[54]، فإن سلوكًا موجَّهًا، يمكن أن يفترض مسبقًا معتقدات، يميل إلى دفع المتعضية باتجاه بيئة يصبح فيها هذا السلوك فعالاً، بل ويوسع المحيط المقبول. يقود ذلك إلى تركيز ضغط الانتخاب، وإلى تضخيم أثره من خلال انحرافات المفاعيل الرجعية. يمكن أن يكون تطوُّر العلوم قد اتبع الدرب نفسه، باستثناء أنه استبدلت في هذا الدرب التوترات السلوكية نحو أهداف ملموسة بتوتر إبستمولوجي باتجاه الهدف المجرَّد للوصف المخلص لواقع سابق التشكل. وبالطريقة نفسها التي انتهى فيها البيولوجي إلى الاعتراف بأن تطوَّر الأنواع لا ينطوي فقط على لزوم انتخاب طبيعي أعمى بل وأيضًا على التجاوز الذاتي لسلوك موجَّه، كذلك أليس على الفيلسوف اللاواقعي أن يأخذ بعين الاعتبار أن تطور النظريات لا يتم تحت الضغط المتأصل في الظاهرات وحده، بل كذلك في إطار التجاوز - الذاتي لموقف البحث عن الحقيقة؟ ذلكم هو، أيًا كان الحال، التنازل الأقل الذي ينتظره الواقعي العلمي من محاوره اللاواقعي.

1. 4 تجريبية بنائية أم واقعية كسياسة بحث؟

ذلك هو أيضًا التنازل الذي لا يستبعد على اللاواقعي الحديث أن يكون قد قام به، الأمر الذي أتاح، إذا أخذنا بعين الاعتبار اعتدال بعض الواقعيين، إمكانية حقيقية للحوار حيث كانت تتواجه سابقًا خيارات متعارضة في أساسها.

إن اللاواقعية العلمية الحديثة ليست سوى "التجريبية البنائية" لفان فراسين، والواقعية العلمية المعتدلة التي توافقها بكافة تفاصيلها هي ما سماه روم هاري[55] Rom Harré بـ "الواقعية السياسية"، وهو تعبير أترجمه بـ "الواقعية كسياسة للبحث".

وفق التجريبية البنَّاءة، بداية، فإن كل نظرية ترتبط دائمًا بنموذج للمجال الذي يفترض أن تطبق فيه. وضمن إطار الوصف الذي يسمح به هذا النموذج إنما يتم تقدير ملاءمة النظرية للظاهرات. وبدلاً عن المواجهة المنطقية بين الصورية المفَسَّرة والبيانات الرصدية، عبر قواعد التوافق التجريبي، فإنه يحلُّ محلَّها تقييم لتماثلية (إيزومورفية) جزئية بين نموذج نظري كامل والنموذج التحتي من البيانات المرتبطة به. ويتجاوز هذا الاستبدال بداية تفسير القوانين وبنى النظرية كانعكاسات للطبيعة، أو كعمليات تسمح بتنظيم معطيات خام مصدرها هذه الطبيعة. ذلك أن القوانين التي نتكلم عنها ليست بالدرجة الأولى شيئًا آخر سوى قوانين النموذج[56] الذي يساهم في تشكيل "المعطيات" في الوقت نفسه الذي يأخذها فيه بعين الاعتبار.

إن هذا النقل لمركز جاذبية اللاواقعية العلمية، وهذا الإلحاح على النموذج بدلاً بالأحرى من الإلحاح على "الوقائع"، هو طريقة للمضي حتى نهاية النقد ما بعد الوضعي للتبرير التجريبي للمعتقدات. فإن لم يكن بالإمكان التحقُّق من زعم ما، أو تبرير معتقد بواسطة التجربة، فإنه يكون لدينا عندها الخيار بين موقفين فقط: التشكُّكية الكاملة أو الإيمان الغيبي. ويشير فان فراسين إلى أن الحالة الثانية هي المشكلة لحياتنا اليومية وللمسيرة العلمية. وفي الواقع، فإن غياب التبرير كما يلاحظ لاعتقاد ما لا يعني أنه من غير العقلانية الحفاظ على هذا الإيمان. بل على العكس، فإنه من غير العقلاني تغيير هذا الإيمان طالما أن شيئًا لم يزعزعه وأن عقيدة بديلة لم تحلّ محله. "إن كامل ثقل العقلانية قد انقلب من تبرير أحكامنا إلى عقلانية تغيير أحكامنا وآرائنا"[57]. فمن جهة، يعتبر فان فراسين بالنتيجة، وفقًا لتوجهه اللاعقلاني ولتأكيده على التحديدية التحتية للنظريات بواسطة التجربة، أننا لا نستطيع أبدًا تبرير التأكيد الذي وفقه يترجم انتظام للظاهرات، تم إثباته في إطار مشروع بحث معين، بنية طبيعية. ولكن من جهة أخرى، فإن فان فراسين ليس بعيدًا عن الاعتقاد بأن مشروع البحث هذا عندما يقترن مع نموذج، وأن الانتظامات الملاحَظة تندرج في هذا النموذج، وأنه ليس ثمة أسباب جيدة من أجل رفضه ولا من أجل اعتماد نموذج تبديل، فإنه سيكون من اللاعقلانية بالنسبة للباحث العلمي ألا يستمر في التصرُّف كما لو كان يؤمن ويعتقد بحقيقته.

إن "الواقعية السياسية" لروم هاري لا تتميز عمليًا عن التجريبية البنائية لفان فراسين إلا من خلال سمتين اثنتين. السمة الأولى هي استبعاد التقييد العقلي الذي يستتبعه الاستخدام الجلي أو الضمني لـ "كما لو"، حيث يتبدى الاعتقاد هنا مثل قيمة ليست فقط إدراكية بل وكذلك أخلاقية. أما السمة الثانية فهي إعداد معيار غير تجريبي يشرِّع نزعة التحديدية التحتية للنماذج.

في البداية، ظهرت "الواقعية السياسية" مثل نسخة ضعيفة جدًا للواقعية العلمية، طالما كانت تحدُّ نفسها باليقين الذي وفقه "[...] تكون قراءة النظريات بحسب التفسير الواقعي أكثر عقلانية [...]" من القراءات اللاواقعية[58]. وضمن هذه الشروط، لا يمكن لإخفاق محتمل للبحث عن كيانات تسلِّم بها النماذج النظرية أن يستحضر ضدَّ "الواقعية السياسية". ذلك أن هذه الأخيرة تتطلَّب فقط أنه من الواقعي الالتزام دون فكر مسبق في البحث عن هذه الكيانات، وليس أن يكون علينا إيجادها والبرهان على وجودها. لكن هذه المتطلبات المتواضعة، التي بالكاد تميُّز للوهلة الأولى "الواقعية السياسية" عن التجريبية البنائية، إنما تعطيها الوسائل للمضي إلى ما وراء هذه الأخيرة لتلتقي وتصبَّ مع التيار الأكبر للواقعية العلمية. ويؤكد هاري في الواقع أن مبدأ الواقعية كسياسة للبحث يحقِّق قيمته بطريقة عبر - نظرية. ويكتب هاري، بقدر ما يكون الأمر منطقيًا أن نبحث عن كيانات تسلِّم بها نظرية ما، بقدر ما يكون الأمر كذلك أيضًا فيما يتعلَّق بمتابعة البحث في المجال الذي تحكمه النظرية التالية عن أنماط كيانات معروفة مسبقًا، مثل الأجسام المادية، والأوساط المستمرة السائلة والهيئات. وهكذا فإنه يتوفَّر لدينا معيار غير تجريبي لاختيار النماذج والنظريات المتتابعة: وهو يتمثل في انتماء كياناتها إلى تراتبية وحيدة من الأنماط الأنطولوجية.

وفي النهاية لا تكون نظرية ما مقبولة وفق هاري إلا بشرطين: (1) أن تكون ملائمة تجريبيًا، و(2) أن تكون "معقولة"، بمعنى أن تتضمَّن آليات وكيانات تنتمي إلى التراتبية الوحيدة من الأنماط الأنطولوجية التي تكمن وراء تاريخ المشروع العلمي بكامله. إن الشرط الأول هو شرط تحت - تحديدي، في حين أن الشرط الثاني قابل لإتمام التحديدية.

هكذا نرى كيف تبرِّر "الواقعية السياسية" انتماءها إلى عائلة التصوُّرات الواقعية للعلوم. فالواقعية السياسية تأخذ اثنين من تصوُّرات واقعية العلوم الأساسية، وهما الغياب الحالي أو المستقبلي لتحت - التحديدية، واستقرارية نواة أنطولوجية أو بنيوية، مستشفَّة على هذا النحو تلاقيًا نحو التقابلية isomorphisme مع الواقع. لكنها بدلاً من اعتماد التأكيد على تحديدية صارمة واستقرارية عبر - نموذجية كبيان وصفي خارجي لحالة العلوم (الحاضرة أو التي ستكون)، فإنها تعطي للاستقرارية حالة متقادمة داخلية بالنسبة لتطبيق العلوم، وتجعل من نزعة تحت - التحديدية نتيجة لهذا التقادم. وبإدخالها للبعد التقادمي فإنها تتوصَّل إلى تغيير البرهان والتدليل اللاواقعي الذي قامت بالكثير من التنازلات لصالحه في البداية، وتعطيه كافة السمات الداخلية لواقعية علمية. ونلاحظ في الواقع أن التجريبية البنائية ترى في التحديدية الفعلية للنظريات حادثًا تاريخيًا، يعود إلى اعتماد حادث طارئ ذي توجُّه أولي وإلى لاعقلانية التغيرات المفرطة اللاحقة. وبهذه الروح نفسها تعتبر البنائية أن "[...] إمكانيات بناء [نظام ضمن دفق التجربة] هي إمكانيات محدَّدة، ولا تنفكُّ تُحدَّ بالمراحل السابقة من البناء"[59]. أما "الواقعية السياسية" فإن تحوِّل من جهتها معاينات الهيئة الواقعية هذه لفلسفات العلوم اللاواقعية إلى حتمية استقرار في توجُّه الأبحاث. وبذلك فإنها تقدِّم بديلاً مميزًا لمعاينة أخرى ذات مظهر واقعي، معاينة خاصة هذه المرة بالواقعيين العلميين: إنها المعاينة التي يقوم بها هؤلاء الأخيرين عندما يؤكِّدون بدعم من طرحهم الاستقرارية عبر - النظرية لبعض العناصر الشرعية والأنطولوجية. وبالإجمال، تقدم "الواقعية السياسية مقابل الحتميَّتين المتواجهتين، الحتمية اللاواقعية لإشراط تاريخي لصيرورة تكيُّف وتلاؤم النظريات والحتمية الواقعية لاستقرارية الكيانات النظرية العائدة لتوافقها المتدرج مع الكيانات الموجودة، فكرة قرار استراتيجي يربط بين هاتين الحتميَّتين. إن مظهر الحتميَّة الثانية (المتَّجه نحو المستقبل) ينتج هنا عن خيار التوافق قدر الإمكان مع نتائج الحتمية الأولى (النتائج المتجذرة في الماضي). وسوف نرى مثالاً على هذه الصلة بين هدف البحث وتاريخه في الفصل الخامس، المخصص للرؤية الذرية.

ترجمة: موسى الخوري

*** *** ***


 

horizontal rule

* عُرضت نسخة سابقة من هذا النص في 20 شباط من عام 1997 في إطار الندوة التي عقدت تحت عنوان "العوالم الممكنة"، في المدرسة العادية العليا Ecole normale supérieure. [الفصل الأول من كتاب القرب المُعْمي من الواقع، ميشيل بيتبول، ترجمة موسى الخوري، معابر للنشر، دمشق، 2014]

[1] B. Van Fraassen, The scientific image, Oxford University Press, 1980, p. 7.

L. Laudan, "A confutation of convergent realism", Philosophy of science, 48, p. 19-49, 1981. [2]

وانظر أيضًا L. Laudan, Progress and its problems, University of California Press, 1977. ويمكننا هنا أن نعتبر أن "الواقعية المتقاربة" باتت تشكل منذ الآن فصاعدًا جزءًا من الحكمة الإبستمولوجية المشتركة للفيزيائيين. يشهد على ذلك بين شواهد أخرى المواقف المتخذة من قبل آلان سوكال Alain Sokal (في مقالة له بعنوان لماذا كتبت محاكاتي الساخرة "pourquoij'aiécrit ma parodie", Le Monde, vendredi 31 janvier 1997) حيث يقول: "يصف الميكانيك النيوتوني حركة الكواكب [...] بدقة مدهشة، وهذا فعل موضوعي؛ لكنه مع ذلك غير صحيح. أما الميكانيك الكمومي والنسبية العامة فهما مقاربتان أفضل للحقيقة، وهذا أيضًا هو فعل موضوعي". نشير مباشرة إلى اقتران مصطلحات - قيم في هذه الجمل القصيرة مثل "فعل"، و"موضوعية"، و"حقيقة" مع ألفاظ مخفِّفة مثل "غير صحيحة" أو "مقاربة"، ذلك أنه في فضاء يسمح بالتعرُّف على عدم اكتمال بعض القيم الإبستمولوجية إنما يتحقق مصير "الواقعية المتقاربة".

[3] P. Hoyningen-Huene, Reconstructing scientific revolution, The University of Chicago Press, 1993.

[4] لا يجب بالطبع أن نعتبر على هذا المستوى أطروحة وحدانية الرأي النهائي إلا كرأي من الدرجة الثانية عبَّر عنه بيرس. وسنناقش هذا الرأي المطروح هنا لاحقًا، عندما نناقش مسألة التحديدية التحتية للنظريات بواسطة التجربة.

[5] C. S. Peirce, "Critical review of Berkeley's idealism", 1871, in Selected writings, Dover, 1958, p. 82.

[6] K. T. Fann, Peirce' theory of abduction, MartinusNiihoff, 1970; H. de Regt, Representing the world by scientifique theories, Tilburg University Press, 1994.

[7] K. Popper, La logique de la découverte scientifique, Payot, 1973, p. 273.

[8] المرجع السابق، ص 284.

[9] المرجع السابق.

[10] المرجع السابق، ص 277.

[11] المرجع السابق، ص 284.

[12] W. H. Newton-Smith, The rationality of science, Routledge, 1981.

[13] المرجع السابق، ص 54.

[14] K. Popper, Objective knowledge, Oxford University Press, 1972, p. 103.

[15] راجع المرجع السابق لنيوتن ـ سميث W. H. Newton-Smith, The rationality of science، ص 204 - 205.

[16] N. Goodman, Faits, fictions et prédictions, Minuit, 1984.

[17] لا شك أن لوقريسيوس Lucrèce كان من أوائل الذين استخدموا هذا النوع من الحجج، عندما دافع عن النظرية الذرية بذكره لـ "[...] أجسام [...] لا بد من الاعتراف بوجودها على الرغم من عدم قدرتنا على رؤيتها"، راجع De naturarerum, I, v. 266-275. ويجعل الإلحاح على ضرورة الأجسام غير المرئية من هذا المقطع النموذج البدئي لـ "استدلال نحو التفسير الوحيد المقبول".

[18] H. Putnam, Meaning and the moral sciences, Routledge&Kegan Paul, 1987.

R. Boyd, "Realism, underdetermination, and a causual theory of evidence", Noûs, 7, p. 1-12, 1973 [19]؛ وانظر أيضًا: R. Boyd, "The current status of scientific realism", in J. Leplin (ed.), Scientific realism, University of California Press, 1984, p. 41-82.

H. Putnam, Mathematics, matter and method, Cambridge University Press, 1975, p. 73 [20 وانظر أيضًا: E. Mac Mullin, "The history and philosophy of science: a taxonomy", in H. Feigl& G. Maxwell (eds.), Minnesota Studies in the history of science V, University of Minnesota Press, 1970, p. 13-67: "[إن] تأكيد أنطولوجيا واقعية للعلوم هو أن الطريقة الوحيدة لتفسير لماذا تعمل نماذج العلم بمثل هذا النجاح لتجاوز الشذوذات تكمن في أنها تقارب بطريقة من الطرق بنية الموضوع".

[21] T. Kuhn, la structure des révolutions scientifiques, Flammarion, 1972.

[22] T. Kuhn, "Logic of discovery or psychology of research?", in I. Lakatos& A. Musgrave (eds.), Criticism and the growth of knowledge, Cambridge University Press, 1970.

[23] ضمن المرجع السابق، ص 263 P. Hoyningen-Huene, Reconstructing scientific revolutions .

[24] L. Laudan, Progress and its problems, ، المرجع السابق، وراجع أيضًا:

 L. Laudan, "A confutation of convergent realism", Philosophy of science, 48, p. 19-49, 1981.

[25] راجع B. Diu, Les atoms existent-ilsvraiment?,Odile Jacob, 1997.

[26] المرجع السابق ذكره. L. Laudan, Progress and its problems.

[27] S. Blackburn, Essays in quasi-realism, Oxford University Press, 1993.

[28] يقول شرودنغر في كتابه تصوري للعالم (E. Schrodinger, Ma conception du monde, Mercure de France, 1982, p. 108): "لا أحد يدرك عالمين، عالم مرصود وعالم حقيقي".

[29] المرجع السابق.

[30] المرجع السابق، ص. 33 S. Blackburn, Essays in quasi-realism,.

[31] المرجع السابق، ص 39 B. Van Fraassen, The scientific image.

[32] S. J. Gould, La vie est belle, Seuil, 1991. وانظر أيضًا

 F. Varela, E. Thompson & E. Rosch, L'inscriptioncorporelle de l'esprit, Seuil, 1993.

[33] F. Varela, E. Thompson & E. Rosch, L'inscription corporelle de l'esprit, Seuil, 1993, p. 265.

[34] E. Von Glaserfeld, "Introduction à un constructivisme radical", in P. Watzawick, L'invention de la réalité, Seuil, 1988, p. 26.

[35] راجع المقطع 1. 4 من أجل اقتراحات لإجابة على هذا السؤال.

[36] المرجع السابق ذكره، ص. 266. F. Varela, E. Thompson, & E. Rosch, L'inscription corporelle de l'esprit

[37] P. Duhem, La théorie physique; Vrin, 1989, p. 26.

[38] المرجع السابق ذكره، ص. 41. B. Van Fraassen, The scientific image,

[39] راجع الفقرة 1 ـ 6 من أجل تصور موجز لمثل هذا التفكّر.

[40] M. Redhead, From physics to metaphysics, Cambridge University Press, 1996.

[41] P. C. W. Davies, "Particles do not exist", in S. M. Christensen (ed.), Quantum theory of gravity, A. Hilger, 1984.

[42] H. D. Zeh, "There are no quantum jumps, nor are there particles!",physics letters, A172, p. 189-192, 1993.

[43] سوف نشير إلى ذلك في الفصلين الخامس والسادس من هذا الكتاب.

[44] A. Shimony, Search for a naturalistic world view, I, Cambridge University Press, 1993, p. 53.

[45] B. d'Espagnat, Le réel voilé, Fayard, 1994؛ و

M. Bitbol& S. Laugier (eds.), Physique et réalité, un débat avec B. d'Espagnat, Frontières-Diderot, 1997.

[46] المصدر السابق ذكره، ص. 18. M. Redhead, From physics to metaphysics

[47] C. Chevalley, "Glossaire", in N. Bohr, Pysique atomique et connaissance humaine, Gallimard, 1991, p. 411

[48] راجع الفقرتين 1. 6 و1. 7.

[49] المرجع السابق ذكره، ص. 185-189. W. H. Newton-Smith, The rationality of science

[50] إن مسألة مثل: "لماذا جميع البجع لونه أخضر؟" لا يمكن أن تُطرح، لسبب بسيط هو أن مقدمته المنطقية ("كافة البجع لونه أخضر") هي مقدمة خاطئة.

[51] P. K. Feyerabend, Realism, rationalism, & scientific method, I, Cambridge University Press, 1981, p. 20.

[52] المرجع السابق، ص 15.

[53] المرجع السابق ذكره. H. Putnam, Meaning and the moral sciences

[54] J. M. Baldwin, "Organic selection", Nature, 55, 558, 1897؛ و J. Piaget, Le comportementmoteur de l'évolution, Gallimard, 1976.

[55] R. Harré, Varieties of realism, Basil Blackwell, 1986.

[56] B. Van Fraassen, Laws and symmetry, Oxford University Press, 1989, p. 188؛ والترجمة الفرنسية له C. Chevalley, Lois et symétrie, Vrin, 1994.

[57] المرجع السابق، ص 171.

[58] R. Harré, "Three varieties of realism", in A. A. Derksen (ed.), The scientific realism of Rom Harré, Tilburg University Press, 1994.

[59] المرجع السابق للمؤلف ص. 41. E. Von Glaserfeld, ''Introduction à un constructivisme rqdical'', in P. Watzlawick, L'invention de la réalité.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني