علينا تفكيك أساطير الديانات التوحيدية

 

حوار مع ميشال أونفراي

 

لا يكتفي ميشال أونفراي في مؤلفه بحث في علم الإلحاد (بِيعَت منه أزيد من 200000 نسخة) بفضح الأصولية وشتى تمظهراتها فحسب، بل يوضح كيف تدعونا النصوص المقدسة الثلاثة إلى التقاتل وإراقة الدماء وإشعال فتيل الحرب؛ لأن الديانات التوحيدية مسكونة بغريزة الموت حتى النخاع. فبدءًا بالسيف الدموي اليهودي الذي استأصل الكنعانيين حتى استعمال الطائرات كقنابل طيارة في نيويورك، مرورًا بالقنبلة الذرية الملقاة على هيروشيما وناكازاكي، كل ذلك تَمَّ باسم الله وجرى بمباركته، كما بمباركة الذين لا يَكُفُّون يُنادون باسمه. وللذكر، فهتلر زعيم النازية مثلاً كان أشد إيمانًا بالإنجيل ولم يَثْبُت يومًا ما أن كان ملحدًا. لقد كان مُحبًا للفاتيكان الذي بادله نفس الحب. وعلى مقاسه كان ويكون كل زعماء اللاهوت الذين لا يرتاح لهم بال، إلا بعد أن ينتهوا إلى قسمة العالم صنفين: الأصدقاء والأعداء؛ أهل دار السلم وأهل دار الحرب. لذلك وغيره يخلص أونفراي إلى ضرورة التصدي للأديان مادامت هي أكبر عائق ضد قيام حياة الرفاه والتقدم العلمي، سيما حينما تَكُفّ عن أن تضحى شأنًا خاصًا.

ح. أ.

***

مجلة علم النفس: لماذا كِتاب بحث في علم الإلحاد؟

مشيال أونفراي: لأن مسألة عودة الديني، لم تكن أبدًا في نظري، مسألة طبيعية. والحال أن كل ما قامت به الثورة الفرنسية سواء منه، نزعها الطابع المسيحي عن الحياة العامة أو الحريات المكتسبة إبان ماي 1968؛ كل ذلك بات يظهر كما لو أنه لم يكن إطلاقًا، لنجد أنفسنا فجأة واحدة بين عدد لا يُستهان به من الأشخاص، يؤمنون بالأساطير والخرافات وسلسلة من حكايات الأطفال من قبيل: الحياة ما بعد الموت والعقاب الإلهي والجنة و النار فضلاً عن ترسانة من الأوامر الغير منطقية... من ثمة الحاجة الماسة إلى علم الإلحاد - وهي لفظة استعَرْتُها من جورج باطاي – كمنهج يَصْلُح لتفكيك الأساطير الثلاثة العائدة لأديان التوحيد.

سؤال: لكن الكنائس بدأت تعاني الفراغ وعندما حرَّم يوحنا بولس الثاني استعمال العازل الطبي، لا أحد تبعه... ألم تفقد المسيحية بخاصة، سلطة تأثيرها على حَيَوَاتنا؟

م. أ.: فعلاً، بوسعنا أن نعتقد بأن الكنائس تعاني الفراغ وبأن ما من أحد يؤمن حقًا، وبأن الناس ما عادوا يعملون بنصائح البابا وبأن المسيحيين أنفسهم تحرَّروا من دينهم – الذي لا يعرفونه حق المعرفة ويتعاطون معه بشكل انتقائي - لكنه مع ذلك، القليلُ من الناس هُمُ الذين يتزوَّجون ويَدْفنُون مَوْتاهم دونما طلب عون الكنيسة. أكيد أن ثمة بقايا فكر خرافي، لكن ثمة أيضًا استمرارًا لنوع من آليات التنميط اليهودي-المسيحي ما يزال يشتغل بداخل الأذهان؛ إننا نفكر ونفهم ونتخيل ونحلم ونتألم ونستمتع بواسطة جسد خُلِق من لدن ولأجل حضارة مسيحية ليس إلا. فالجنس المرغوب فيه والمُمارَس، ناهيك عن تَعامُل المريض مع الألم وكذا ترسانة القانون التأديبي الفرنسي والممارسات البيداغوجية على سبيل الذكر لا الحصر، كُلُّها تقبع تحت تأثير الأخلاق المسيحية والدين الكاثوليكي منذ أكثر من خمسة عشر قرنًا من العنف والقهر والهمجية واللاتسامح.

سؤال: كيف تفسِّرون قولكم بأن الأديان الثلاثة هِيَّ في خدمة غريزة الموت؟

م. أ.: إن القاسم المشترك ما بين التوراة والأناجيل والقرآن هو الكراهية التي تعود في أصلها الجنيالوجي الثقافي إلى سفر التكوين: حيث فضلاً عن الحقد على الجسد والنساء والجنس والملذات والأهواء والغرائز، ثمة الحقد، أيضًا على العقل والفكر الحر والتفكير المُستَقِّل والحياة والمادة والرغبة والهُنَا؛ بل هناك الحقد كذلك على الحياة الحرة والكُتُب، عدا بطبيعة الحال ذلك الكِتَاب الذي هُمُ المؤمنون، في صلة مطلقة به. وإلى جانب هذه الأحقاد ثمة بالمقابل احترامًا كليًّا لكل ما يقوم على غريزة الموت: احترام الجسد اللامادي للملائكة التي يقترحونها علينا كنماذج وفُرَص تستحق التقليد؛ احترام الجسد اللاجنسي أي الجسد الخالي من كل رغبة حقيقية والذي يكون دونما بُعْدٍ مادي وبلا لحم، أي الجسد الغير المجَسَّد من قبيل: جسد الأم والزوجة إذا أردتُم، بخلاف جسد المرأة المتخلصة تماما من كل هذه الإكراهات؛ أضِفْ إلى ذلك أيضًا الدعوة إلى التقليد والخضوع والاستسلام والتخلي عن إعمال العقل النقدي والكف عن حب العلم. والحال أن أشكال الحرمان هاته التي لا تني تطال الكائن الحي، هي كلُّها ما يُوَلِّد فيه، حالما يَكْبُر، نوعًا من النزوع نحو غريزة الموت الواضح المعالم على طول ثلاثين قرنًا من عُمْر الأديان التوحيدية.

سؤال: كيف يمكن لـعلم الإلحاد كما لتصَوُّركم لأخلاق مقطوعة الصلة كليًّا بالمسيحية، أن تُسعفنا على العيش جماعة وعلى نحو أفضل؟

م. أ.: إن الأخلاق منذ نشأتها هي ما ينهض على مسلمات دينية. بل حتى اللائكية غالبًا ما تَقْبَلُ بإقحام افتراضات يهودية-مسيحية داخل الخطاب العلماني-الفلسفي الجديد... أما الأخلاق اللامسيحية واللاتيولوجية، أي الأخلاق ذات الطابع الإلحادي، فهي ما يفترض أن نَعْتبر الأخلاق مثلما هي عليه: وبمعنى آخر أن نتعامل معها كما لو كانت قانون لعبة، ضروري، بالنسبة للأطراف المَعْنِية وكل المتعاقِدِين، حتى تقوم علاقة أخلاقية ما بينهم (أنتم وأنا والآخرون). مما يُفيد مرة أخرى، أن نَعْتبرَها أخلاقًا محايثة، صِيغَت من لدن الناس (ذكورًا وإناثًا بالطبع)، ومن أجل الناس وبمحض إرادتهم لا بمحض إرادة إله مُفترض. أي باعتبارها أخلاقًا قابلة للتطبيق وليس كأخلاق فوإنسانية ولا إنسانية.

سؤال: كيف نتعامل مع أشخاص تَشرَّبوا الغرائز الهدَّامة اللاشعورية؛ أشخاص يرفضون اعتبار الآخر؟

م. أ.: لديكم الحق، إنه المشكل الحقيقي. إذ كيف يُمْكننا أن نتعامل مع أشخاص منحرفين علائقيًا؟ أشخاص عاجزين عن التعاقد مع الغير، لا لشيء إلا لأنهم تفَكَّكوا وتَحَطَّموا وانكسروا ولم يَنْضجوا بعد؛ ومن كُثر ما عَشَّشَت فيهم الرذيلة والخُبث، أصبحوا لا يستطيعون الدخول في أية علاقة أخلاقية. والأدهى من ذلك، هو كون كل محاولة للاقتراب منهم، سرعان ما تُلَوِّث العلاقة وتَزُجُّ بها في مستنقعات السلبية التي هُمْ في حاجة إليها كيما يَكُونُوا. فالسادي شأنه شأن المازوخي، لا يستطيع أن يندمج في علاقة أخلاقية إلا بمشقَّة الأنفس؛ لكن كذلك الحال أيضا بالنسبة لكل أولئك الذين يُصنِّفُهم الطب العقلي كأشخاص عاجزين عن العيش والتواجد بشكل سليم مع الآخرين: فالحل الأمثل إذن إنما هو تفاديهم وعدم الارتباط بهم؛ لكن الواقع عمومًا لا يسمح بذلك، مما يقتضي منا أن نتعامل معهم على مستوى حد أدنى، مدركين أنهم يقبعون كأشخاص بالمحاذاة للأخلاق أو على هامشها إن لم نقل بصراحة أنهم خارجها، ويصعب علينا من ثمة أن نُقِيمَ معهم ولمدة طويلة أية علاقة سليمة.

سؤال: كيف نُصالح إذن ما بين الإلحاد والروحانية؟

م. أ.: حذاري من مَغبَّة الاعتقاد بأن الملحد لا يمكنه أن يكون فاضلاً أو أنه لن يعرف أن يحيا دونما روحانية؛ فالروحانية ليست حِكرًا في شيء على الروحانيين: ذلك أن ثمة روحانية مادية - وهي التي أطمحُ إليها. فالروحانية مرتبطة أيما ارتباط بالحياة كما بأنشطة الروح. فأنا لستُ أنكر وجود الروح بل اتِّسَاقها فحسب، ولقد آن الأوان للقول بأن ميتافيزيقا ما، وأنطولوجيا ما، وروحانية ما، بل وفلسفة ما، كلُّها بوسعها أن تكون مادية؛ وبواسطتها نستطيع أن نعيش حقًا كفلاسفة وليس كمؤمنين يعتقدون بإله غير مرئي.

ترجمة وتقديم: حسن أوزال

*** *** ***

المرجع: عن موقع أونفراي الإلكتروني.
عن الأوان

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني