حكمت وجليل... نهايات جيل اليسار

 

عباس بيضون

 

اثنان افترقت عنهما منذ سنين لم أحصِها. حجزني عنهما أو عن أحدهما على الأقل توانٍ طالما شلَّني أو أقعدني عن أمور وظل بعد أن تحوَّل إلى نوع من التذنيب يقعدني ويحبط حماستي التي تبدو في ساعتها جازمًا أمرًا وتتحوَّل في غير ساعتها إلى نسيان مديد ينتظر ساعة أخرى ليتحوَّل من جديد إلى حماسة آمرة. ظللت أتوانى أو أدافع الأيام على ما قال الجاحظ إلى أن جاءني خبرهما في أسبوع واحد، خبر من لبنان وآخر من استراليا سألني عصام العبدالله في جلسة إذا كنت أنوي أن أعزي بحكمت العيد وهمس لي بلال شرارة بأن جليل بيضون مات. هكذا فهمت أن التواني لم يعُد في أوانه. فمدافعة الأيام تعني تأجيلها إلى يوم لم يعُد ممكنًا أو حاضرًا. يعجِّلنا إليه خبر يأتي من هنا وهناك فنعلم أن لم يبق لنا إلا أن نعزِّي. نتعزَّى أولاً ونخفق في لوم أنفسنا وتذنيبها فإن في ذلك إيذانًا بأن قدرنا على الطريق ونذهب هكذا لنعزِّي الآخرين.

لم ألتق حكمت العيد من سنين، بل من دهر علمت أنه أصيب بمرض أبيه وأن ما ينتظره هو مصير أبيه وأنه مدرك لذلك وينتظر آبهًا أو غير أبه، إلا أنه وقد ألجأته الأيام إلى سريره ما زال همُّه السياسي قائمًا وما زال من سريره يعالج ويناقش. أستميحكم عذرًا فقد تأخرت عن القول إنني كنت رفيق حكمت في يوم كان فيه في زهرة حياته، شأننا جميعًا ذلك الحين. كان في زهرة حياته وكانت الحياة في زهرتها، لقد تجدَّد الحلم العربي بعد هزيمة 1967 وأخذنا نحن أيضًا ما يشبه سكرة الحلم وسهوه وسراه. يومئذ التقيت بحكمت في منظمة الاشتراكيين اللبنانيين، هو صاعد إليها من حركة القوميين العرب وأنا ملتحق بها من أجواء 1967. ثم اندمجت المنظمة مع لبنان الاشتراكي فتولدت من ذلك منظمة العمل الشيوعي في لبنان ووجدت نفسي وحكمت في المكتب السياسي للمنظمة الوليدة. أقول وجدت نفسي ووجدت حكمت لأننا حضرنا مؤتمر المنظمة ونحن في خلوٍّ من التفكير بأمر كهذا، لا نملك، أنا وأظن أن حكمت كذلك، إرادة له أو تأهبًا أو توقعًا. ما تمَّ قد تمَّ بإيعاز كما هو الحال في كثير من أمور المنظمة. كان الإيعاز هو الفاعل في وقت لم يكن فيه الأمر الحزبي قد ولد بعد، فالمنظمة الوليدة كانت تملك تراثًا من نقد الأحزاب الشيوعية، ولا شك في أن ثمة نفورًا أخلاقيًا من البيروقراطية كان سائدًا، وجدت نفسي وحكمت ورفعت النسر في المكتب السياسي للمنظمة؛ الأرجح أن تصديقنا لذلك احتاج إلى وقت، إن يكن حدث أصلاً لكننا بقينا نحن الثلاثة والمنظمة تتشقق من حولنا وتغادرها نتفٌ صغيرة أو كبيرة. وأنا، يغتلي بي عدم تصديقي لموقفي في المنظمة الذي استحال عدم تصديق لموقع المنظمة نفسها، خرجت منها. بقي حكمت في المنظمة التي وإن استقرت سياسيًا بقيت هذه المرة عرضة لتشققات من نوع آخر، خرج في أحدها حكمت. كنت ألتقي بحكمت الذي بقي كما يقول الفرنسيون حيوانًا سياسيًا، وبالطبع بقي العمل الجماعي أمامه وبقي الحزب دائمًا مستقبله ولا أعرف تمامًا ماذا حدث لحكمت بعد ذلك، أظنه مرض ذلك المرض الذي كان يعرف تمامًا مساره ونهاياته كما اختبرها عند أبيه، لكن المرض حتى بعد أن أحاله إلى السرير لم يبعده عن السياسة بل وعن الحزب فشارك مجددًا في تأسيس تنظيم لم يصمد طويلاً رغم الوعود التي حملها فبهت وبات صورة لا أكثر.

كان جليل صاخبًا وصاحب انفعال تخشى بوادره كما قال الشاعر العربي. كان في ذلك أقرب إلى الفنان منه إلى المناضل الحزبي لكن جليل كان، مع ذلك، من جيل لعبتُه السياسةُ وفنُّه السياسةُ، فهو حتى حين لم يكن يستظل بحزب كان دائمًا في أجواء العمل السياسي. لكنه حين هاجر إلى استراليا وجد في الحزب الشيوعي هناك ملاذًا ولما كنت بعيدًا عنه لم أعرف إذا كان انصاع للالتزام الحزبي أم غلب عليه طبعه الغضوب المنفعل. غير أن ما فاجأني هو أن الفنان الكامن في طبع جليل ما لبث ان ظهر هناك فحين التقيت بجليل في بيروت علمت منه أنه غدا نحاتًا وأراني قطعًا من نحته وصورًا لمنحوتات خلَّفها في استراليا. في إحدى زيارات جليل للبنان حدثني وهو دامع العينين عن وفاة ابنه. تلك هي المأساة التي قيل إنها أفضت به إلى نهايته المبكرة.

اثنان لا أعرف إذا كانا التقيا، وتعارفا، جاءني خبرهما في أسبوع واحد. لا أنكر أنني جفلت وشعرت بأن ثقوبًا جديدة تنضاف إلى ذاكرتي، كثيرة هي الأسماء الغائبة التي تتوارد إلى الذاكرة والتي يكاد يبدو أنها تحمل معها زمنًا ما، وأن عصرًا كاملاً يغادر معها. يمكننا أن نتكلم هنا عن الجيل اليساري الذي ينمُّ كل شيء الآن عن أنه سيكون فريدًا ووحيدًا، وأنه لا يجد استكمالاً له حتى في ما يطلق عليه الآن اسم اليسار. الذي يغيب أشبه بطاقة، بمخيلة، بتكوين عصبي، بقيم ومثالات، بلغة كلما ابتعدنا عنها كلما استطعنا أن نتجسَّمها واستطعنا أن نشعر بالفراغ الذي تخلفه وبالقطيعة التي يحدثها غيابها، الذي ما زال يحدث ويحدث بالمفرق طبعًا، لكن رقعة الفراغ صارت واسعة واسعة بحيث نقدر الآن أن نرى مداها وتشكيلها.

*** *** ***

السفير الثقافي

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني