ردًا على امرأة بولونية*

 

ليف تولستوي

 

لقد تلقَّيت رسالتك التي تعاتبينني فيها على أني، حين عبَّرت عن رأيي حول الوحدة بين البوسنة والهرسك، لم أقل شيئًا بخصوص الأعمال القاسية والظالمة التي ارتُكبت، وما زالت تُرتكب، في حقِّ بولونيا، بالإضافة إلى أنَّك تشجبينني على فكرة وفلسفة عدم مقاومة الشرِّ، التي كأني أنا من ابتدعها، قائلةً إنَّ هذه العقيدة أهلكت، وتهلك، روسيا. وكتبتِ أنَّ سكارغا وكوخانوفسكي وكوستيوشكو وسلوفاتسكي وميتسكيفيج كانوا يُعلِّمون شيئًا مختلفًا، وأنهم علَّموا النضال؛ النضال الذي يمكنه إنقاذ بولونيا.

منذ أيام وصلتني رسالة من أحد الهنود، والذي عبَّر، بكلماتٍ أخرى، عن الفكرة ذاتها، وعن ذات الخوف والاشمئزاز من عقيدة اللامقاومة. وقد أرسل لي هذا الهندي، مع رسالته، مجلة هندستان الحرة The free Hindustan، التي يتصدَّر غلافها عبارة تقول إنَّ الصراع ضدَّ العنف بالعنف ليس فقط مسموحًا به بل هو واجب، بينما اللامقاومة تتعارض مع متطلبات الغَيرية، والأنانية كذلك: «Non-resistance hurts both Altruism and Egoism». وفي المجلة هناك أفكار مماثلة تمامًا لما تقولين. ويُصرِّح بهذه الأفكار أيضًا جميع المناضلين الذين لا يناضلون فقط ضدَّ اضطهاد الشعوب فحسب بل وضدَّ اضطهاد الطبقات كذلك. وجميعهم يتعاملون بغضبٍ بالغ مع العقيدة المتعلقة بعدم مقاومة الشرِّ بالعنف، وكأنَّ العائق الرئيس لتحرير الشعوب يكمن في هذه العقيدة. رغم أنَّ تحرُّر البشر، سواء الشعوب أم الطبقات المستعبَدة - مهما بدا ذلك غريبًا - يكمن فقط فيما يتمُّ رفضه، بهذا الحرص والعناد، من قِبلكِ، ومن قِبل صديقي الهندي، وحتى من قِبل جميع قوَّاد الشعوب المقهورة والطبقات العاملة المضطهَدة. وفضلاً عن أنه يُرفض؛ فإنه يحرِّض أشدَّ المشاعر خُبثًا وحقدًا تجاه الذين يقترحون ذلك، مما يذكِّر بكلبٍ يعضُّ بشراسة من يريد حلَّ وثاقه.

إنَّ تحرُّر كافة البشر والطبقات والشعوب المستعبَدة، بما في ذلك البولونيين، لا يتحقَّق على الإطلاق عبر الصراع ضدَّ الحكومتين الروسية والنمساوية البغيضتين، والتحرُّر منهما بالقوة، بل يكمن فيما هو عكس ذلك تمامًا: في الكفِّ عن النظر إلى البولونيين على أنهم إخواننا المضطهَدون، المميَّزون والمحبوبون، والاعتراف بالبشر جميعًا، سواء البولونيين أم الروس أم الألمان، الغرباء والأعداء، على أنهم، بصورة متماثلة، أقرباؤنا وإخواننا الذين، مهما كانوا، لا تجوز معاملتهم سوى معاملة ودودة تنبذ إمكانية ممارسة شتى أشكال العنف ضدَّ أيٍّ كان. إذ يكمن التحرر في الاعتراف بقانون المحبة بكافة معانيه، أي في الاعتراف بقانون اللامقاومة الوثيق الارتباط به.

أعلم أنَّ الفكرة القائلة بأنَّ عدم مقاومة الشرِّ بالعنف يمكنها وحدها تحرير المستعبَدين من الاستعباد، تبدو للبشر في زماننا سخيفة وغير قابلة للتطبيق إلى درجة أنَّ البشر لا يبذلون أي جهد للتفكير فيها، وإنما فقط يهزُّون رؤوسهم باحتقار، أو يبتسمون عند تذكيرهم بهذه الوسيلة الفنطازية وغير العملية لمكافحة الشرِّ. أعلم هذا، ومع ذلك أؤكِّد أنَّ تحرُّر البشر جميعًا، وليس البولونيين فقط، من المظالم والعذابات التي يشتكون منها كثيرًا الآن، يمكن أن يتحقق فقط عبر إقرار البشر إلزامية قانون المحبة لهم، القانون الذي لا يتعايش مع استخدام أيٍّ من أشكال العنف تجاه القريب: أي اللامقاومة.

«E pursi mouve»، (رغم ذلك، هي تدور). لا أعتقد أنَّ غاليليه كان مقتنعًا بيقينية الحقيقة التي اكتشفها أكثر من اقتناعي بيقينية الحقيقة المكتَشفة ليس من قِبلي ومن قِبل المسيح فقط، بل ومن قِبل جميع الحكماء العظماء في الدنيا، بغضِّ النظر عن الرفض العام لها، حقيقة أنَّ الشرَّ لا يُهزم عن طريق الشرِّ، وإنما يُهزَّم عن طريق الخير فقط.

أجل! يا له من أمرٍ مدهش: الوسيلة الوحيدة للخلاص من الشرِّ، الذي تعاني منه كلُّ الشعوب والطبقات المستعبَدة، لا تُرفض فحسب من قِبل هذه الشعوب والطبقات وإنما، على العكس من ذلك، تبذل هذه الشعوب والطبقات كلَّ ما بوسعها للقيام بأفعال - من المفروض أن يكون هذا واضحًا - لا يمكن أن تكون لها أية عواقب سوى تعزيز وتقوية الاستعباد الذي تشكو منه.

وفي الواقع، وبغضِّ النظر عن المعنى الديني الداخلي لقانون المحبة الذي يمنح تطبيقه الخير الأسمى، سواء للفرد أم لاتحاد البشر الذين يُطبِّقون هذا القانون، صغيرًا كان هذا الاتحاد أم كبيرًا؛ وبغضِّ النظر عن أنَّ البشر، الذين يعتنقون قانون محبَّة القريب المسيحي، أي محبة البشر أجمعين، يكرهون شعوبًا بأكملها، مرتدِّين صراحةً عن العقيدة التي يعتنقونها؛ وبغضِّ النظر عن أنَّ الفكر السليم البسيط يجب أن يُري البشر أنَّ العنف، وخاصةً عنف الضعفاء في مواجهة عنف الأقوياء الذي لا مثيل له، يمكنه فقط أن يجعل وضع المستعبَدين أسوأ، وأنه لا يحررهم على الإطلاق؛ ورغم ذلك تحرِّض كل القيادات الثورية على صراع الضعيف ضدَّ القوي بالتحديد.

المفروض أنَّ الأمر من البساطة والوضوح بمكان، بحيث أنَّ من المخجل توضيح ما هو واضح إلى هذه الدرجة. فإذا كان الشعب البولوني مستعبَدًا ويتمُّ اضطهاده، وكذلك تمامًا الشعب الهندي والشعوب المستعبدة الأخرى، وإذا كان يتمُّ استرقاق الطبقات العاملة كذلك تمامًا من قِبل حفنة من الأغنياء؛ فإنَّ هذه الاسترقاقات كلها لا يرتكبها على الإطلاق الأباطرة والملوك والوزراء والجنرالات والإقطاعيين والتجار الأغنياء والصيارفة، حيث إنَّ بضع عشرات من الناس، ولنقل بضعة آلاف، ليس في مقدورهم استعباد الملايين. إذ إنَّ الاستعباد يحدث فقط بسبب أنَّ المستعبَدين لا يستسلمون للاستعباد فحسب بل ويشاركون فيه عبر دفع الضرائب للمستعبِدين، والالتحاق بالوظائف الإدارية والمصرفية والشُّرطية العائدة لهم، والالتحاق بالبرلمانات الموجودة فقط للمحافظة على النظام القائم، والأكثر أهميةً هو أنهم يتحولون إلى وسائل عديمة الإرادة للقتل عبر الالتحاق بالقوات المسلَّحة.

وبالتالي؛ فإنَّ الروس والنمساويين والبروس، الذين يستعبدون البولونيين في الوقت الراهن، لا يتسلَّطون على البولونيين، على الإطلاق، بسبب حدوث التقسيم الأول والثاني والثالث والرابع لبولونيا، وإنما فقط لأنَّ البولونيين، إذ لا يعترفون بقانون المحبة الذي يشتمل على اللامقاومة، يوافقون على ممارسة، وهم مستعدون لممارسة، ذاك العنف ذاته، الذي يشتكي ويعاني منه، في حقِّ إخوانهم، ويخدعون أنفسهم فينتسبون إلى البرلمانات التي تبرِّر هذا العنف.

الأمر بسيط جدًا. فمنذ الأزمنة القديمة قام بعض البشر باستعباد آخرين، وقامت بعض الشعوب باستعباد شعوبٍ أخرى. ولاستعباد البشر استثمر المستعبِدين نزوع البشر جميعهم إلى استخدام العنف ضدَّ بعضهم بعضًا من أجل المصلحة الشخصية، وأقاموا نظامًا، أو بالأحرى قام هذا النظام من تلقاء ذاته، بحيث ساند وعزَّز المستعبَدين، في ظلِّه، سلطة المستعبِدين.

هذا ما فعلته كل الشعوب التي استعبدت بعضها بعضًا. هذا ما حدث ويحدث في بولونيا، وهذا ما يحدث بمهارةٍ مميَّزة في الهند، حيث يستعبد بضع عشرات من الباعة التجار شعبًا متطورًا ومثقفًا، يبلغ تعداده مائتي مليون نسمة، ويستمرون في إبقائه في العبودية. وهذا ما يحدث عند استعباد الطبقات العاملة من قِبل الذين لا يعملون. وهذا الاستعباد يتمُّ فقط لأنَّ كل فرد من المستعبَدين، إذ لا يلتزم بقانون المحبة الذي ما كان ليسمح له بالمشاركة في الاستعباد، يقول: «إن لم أفعل أنا؛ فسيقوم شخص آخر بذلك»، ويشارك في العنف. وهذا ما يفعله ثانٍ وثالث، وينتهي الأمر بمليارات المال في أيدي المستعبِدين، ويهيمنون على الجيوش المؤلَّفة من المستعبَدين. وفي ظلِّ نظام اجتماعي كهذا، حيث، من جهة، لدى المستعبِدين مليارات المال، وملايين الجنود، وقوة العطالة؛ أي اعتياد البشر على الخضوع للسلطات، ومن الجهة الأخرى قروشٌ تمَّ جمعها بطريقة ما، تُشكِّل 0.0001 من الموارد المالية المتوفِّرة لدى الخصوم، يمتلكها بضع مئات، وليكن بضعة آلاف، من الناس العُزَّل غير المدرَّبين؛ في ظلِّ نظامٍ اجتماعي كهذا يريد المستعبَدين، دون أن يتحولوا عن مبدأ العنف الذي كان سببًا لاستعبادهم، وعن طريق العنف بالذات، أو ما هو مضحك أكثر، عبر خُطب الخطباء في البرلمانات الواقعة كليًا تحت هيمنة الحكومات، أن يناضلوا ضد المستعبِدين، وكشيءٍ غريب وسخيف وغير لازم، يتخلُّون عن الوسيلة الوحيدة التي تحرِّرهم مثلما يُحرِّر بابٌ مفتوح السجناء.

وإنَّ وسيلة التحرر بمنتهى البساطة:

يجب أن يقول الذين يعرفون هذه الوسيلة ويرغبون في استخدامها: «إنكم تطلبون منَّا المشاركة المباشرة في أعمال الشرِّ والعنف الخاصة بكم. إنكم تطلبون أن نعطيكم جزءًا من نتاج عملنا من أجل عنفكم تجاه الآخرين، وتجاهنا نحن أنفسنا. نأسف جدًا لأننا لا نستطيع تحقيق رغبتكم، ليس لأننا لا نريد بل لأننا، إذ نعتنق قانون المحبة الذي لا يُجيز العنف على الإطلاق، لا نستطيع القيام بذلك. يمكنكم سلبنا ممتلكاتنا بالقوة؛ يمكنكم حتى سلبنا حياتنا، لكنَّنا لا نستطيع المشاركة طوعًا في عملكم الذي يناقض إدراكنا وعقيدتنا ومصلحتنا، ليس لأننا لا نريد وإنما لأننا لا نستطيع على الإطلاق. أما فيما يتعلق بموافقتنا على قتل كل الذين تريدوننا أن نقتلهم؛ فلا يمكن أن يجري أي حديث».

يكفي أن يثبت البشر على هذا الرأي، ولا يمكن لبشر العالم المسيحي وبشر عصرنا ألا يثبتوا على هذا الرأي المتوافق مع شعور البشر وإدراكهم، حتى تنهار مملكة العنف، التي تبدو بهذه العظمة والجبروت، مثل منزلٍ من ورق.

أجل! إنَّ خلاص مستعبَدي زماننا، وليس الشعب البولوني فقط بل كل الشعوب والطبقات المستعبَدة، لا يكمن مطلقًا في إلهاب الروح الوطنية البولونية أو الهندية أو السلافية، أو في المقاومة الثورية، ولا يكمن أكثر في أنماط الحياة الجديدة المبتدعة التي يتوجب فيها على الشعوب والبشر أن تحتشد فيما يسمَّى النضال البرلماني، وفي التدرُّب على الخطب النارية، وإنما يكمن في أمرٍ واحد: في تخلِّي البشر عن قانون الصراع والعنف البالي الذي لم يعد يلائمهم، وإقرار قانون المحبة؛ القانون الأساسي للحياة، والمشترك بين جميع البشر؛ المحبة النافية لإمكانية المشاركة في أيٍّ من أشكال العنف. إنَّ استبدال قانون العنف البالي بقانون المحبة تدعو إليه، منذ زمنٍ بعيد، كافة التعاليم الدينية في العالم، وخاصةً العقيدة التي تعتنقها الشعوب المسيحية. وإنَّ التعارض بين وعي البشر في العالم المسيحي وبين شروط حياة هذه الشعوب بات من الوضوح بحيث أنَّ الوضع الذي تعيشه هذه الشعوب لم يعد قابلاً للاستمرار. وإني واثق تمامًا من أنَّ هذا الاستبدال سوف يحدث، بل حتى من أنه سيحدث قريبًا جدًا، وبالإضافة إلى هذه الثقة، لدي حلم أيضًا.

أحلم أنَّ هذا التحوُّل الهائل في الحياة سوف يبدأ لدينا بالتحديد، لدى الشعوب السلافية الأقل حربيَّةً من الشعوب الأخرى، والأكثر مسيحيةً بالمعنى الحقيقي للمسيحية، وبالتالي الأكثر أهليةً لاستيعاء قانون المحبة الجديد، الذي يجب أن يحلَّ محلَّ العنف، بشكل حيٍّ.

لماذا قد لا تنطلق هذه الحركة الحاسمة لمصير البشرية في بولونيا المعذَّبة؟ وإن ليس في بولونيا؛ ففي روسيا المعذَّبة أكثر داخليًا؟ فما إن تبدأ هذه الحركة لدى أحد الشعوب السلافية حتى تلحق به الشعوب الأخرى، المسمَّمة عبر أضلولات الدولة في الوقت الحالي. وما إن تستولي هذه الحركة على السلاف حتى تعدي، لا مناص، الشعوب المسيحية كلها.

هكذا هي أحلامي. أما الجواب على رسالتك فقد أوردته سابقًا: الجواب هو أنَّ تحرُّر بولونيا، وكل الشعوب المستعبَدة والبشر المستعبَدين، يكمن في أمر واحد: في إقرار البشر قانون المحبة قانونًا للحياة، المحبة التي تشتمل على اللامقاومة، وبالتالي لا تُجيز، لا العنف ولا المشاركة فيه.

كريشينو

8 أيلول 1909

ترجمة: هفال يوسف

*** *** ***


 

horizontal rule

* فصل من كتاب ليف تولستوي: مختارات من كتاباته الفكرية والفلسفية، ترجمة هفال يوسف، معابر للنشر، دمشق، 2009.

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني