الثورة السلمية في الفلبين (1984-1986)*

 

نورس مجيد

 

أطاحت مظاهرات شعبية سلمية بحكم الدكتاتور فرديناند ماركوس زعيم الفليبين في شباط/فبراير عام 1986، بعد أقل من عامين على انطلاق مظاهرات عارمة ضد حكمه. انطلقت المظاهرات بعد عملية اغتيال وسرقة للانتخابات من قبل نظام ماركوس، ونجحت في فرض الانتقال السلمي للسلطة. على الرغم من أن هذا التحول لم يكن دون صعوبات، إلا أن الحركة الشعبية في الفلبين تعتبر مثالاً متميزًا عن المقاومة السلمية الفعَّالة.

وصول ماركوس إلى الحكم

بعد استقلال الفلبين انتخب ماركوس رئيسًا عام 1965 وسرعان ما بدأ حملة واسعة لتعزيز سلطته على مفاصل الدولة، فأعاد هيكلة الجيش ووضع الأمن والشرطة تحت سلطة القوات المسلحة وأسس فرقة لمكافحة الشغب عزز بها حرسه الجمهوري ووضعها تحت قيادة ابن عمه "فابيان فير" الذي أصبح لاحقًا قائدًا للقوات المسلحة. في الوقت ذاته، ضمن ماركوس ولاء العسكريين له وأغدق عليهم المكافآت ومنحهم سلطات واسعة، وواصل تجميع الثروات بشكل فاحش وأنهك اقتصاد البلاد بالقروض من الدول والمؤسسات الدولية.

بروز المعارضة لنظام ماركوس

بدأت حملات الاحتجاج ضد نظام الحكم الجديد في أواخر الستينيات على شكل اعتصامات نظمها طلاب ومزارعون وعمال ضد سياسات الحكومة، وشرعت قوى طلابية تابعة للحزب الشيوعي، وقوى أخرى عمالية وفلاحية موالية للكنيسة، بتنظيم احتجاجات واسعة تحولت عام 1971 إلى مظاهرات مطالبة بإسقاط النظام. اصطدمت هذه المظاهرات بقوى الأمن ونتج عن ذلك مقتل 6 طلاب، فتوسع نطاقها وشمل معظم جامعات الدولة، ثم أعلن عمال النقل إضرابًا عامًّا تلته مسيرة مشتركة بين العمال والطلاب انتهت بأعمال عنف.

استغل ماركوس التخوف العالمي من الخطر الشيوعي وبدأ يصور نفسه على أنه في معركة حياة أو موت مع الشيوعيين، حتى أنه نظم هجمات وهمية ضد مسؤولي الدولة، ونفذ تفجيرات في العاصمة مانيلا لأجل حشد الدعم الداخلي والخارجي لإطلاق قانون الطوارئ في عام 1972. في ظلِّ قانون الطوارئ، حلَّ ماركوس المحكمة العليا، وأغلق الهيئة الدستورية ومعها عدد من المؤسسات الإعلامية، واعتقل الناشطين ومنع التظاهر، كما اعتقل القيادات الطلابية والنقابية بما فيهم زعيم الحزب المعارض "بينيجنو أكوينو" المرشح الأقوى لخلافة ماركوس، والذي بقي في السجن حتى 1980.

المعارضة المسلحة ضد حكم ماركوس

تشكلت المعارضة المسلحة في شقين أساسيين وهما حركة "الجيش الشعبي الجديد" في الشمال، وهي الجناح العسكري للحزب الشيوعي، والحركة الإسلامية المتمركزة في جزيرة ميندناو في الجنوب.

لم يكن الجيش الشعبي الجديد على تلك الدرجة من القوة ولكن نفوذه توسع مع إعلان قانون الطوارئ وإغلاق المؤسسات الدستورية مما حدا بالمئات من الطلاب للتطوع في صفوفه. لكن ماركوس كان أكثر بطشًا فعمل على قمع هذه الحركة وأرسل 7000 مجند إلى المقاطعات الشمالية، ونجحت عملياته في تقليص متطوعي الجيش الشعبي من 2500 إلى 500 مقاتل بحلول 1974.

الحركة الإسلامية المسلحة كانت أقوى من رديفتها الشيوعية وحصلت على دعم من دول مثل ليبيا وماليزيا، إلا أنها لم تكن أوفر حظًا من حيث فشلها في تقويض قوة النظام، فضلاً عن خلافاتها مع المسلحين الكاثوليك.

بدايات تشكل الحركات الشعبية السلمية

كانت الكنيسة الكاثوليكية هي الجهة الوحيدة التي حافظت دائمًا على استقلاليتها عن النظام، وإبان الإعلان عن قانون الطوارئ تحولت الكنيسة إلى قناة هامة من قنوات المعارضة. وخلال قداس العيد، وجه الكاردينال "جايمي سين" انتقادات حادة لانتهاكات النظام بحضور أكثر من 5 آلاف شخص فيما اعتبر أكبر تظاهرة من نوعها ضد ماركوس حتى ذلك الحين، لكن الكاردينال رفض بشدة استخدام العنف ضد النظام.

نجحت مساعي الكاردينال في جلب أطياف المعارضة إلى طاولة واحدة في عام 1980، وكان ذلك تحولاً محوريًا حال دون ميل الناس إلى الخيار المسلح. في الآن ذاته، بدأت حركة شعبية سلمية أخرى تنضج في السرِّ، وتعاون أعضاؤها مع الكنيسة على كسب الشريحة الصامتة من المجتمع، وأسَّسوا تنظيمات توجهت للشباب في المناطق النائية لتوعيتهم ضد الخيار المسلح. في عام 1980 تأسست أيضًا حركة (الأول من أيار) التي انفصلت عن النقابات العمالية الحكومية، وكان لها دور كبير في حشد المسيرات في العام ذاته.

انتخابات 1978 والانهيار الاقتصادي

أجبرت الضغوط ماركوس على إجراء انتخابات مبكرة ترشح لخوضها المعارض "بينيجنو أكوينو" من زنزانته وقاطعتها أطياف أخرى من المعارضة. وكما هو متوقع أعلن ماركوس عن فوزه فيما اعتبره المعارضون سرقة معلنة لصناديق الاقتراع فخرجت مظاهرات حاشدة وتعرض المئات للاعتقال والضرب.

في 1979 شهدت البلاد تراجعًا اقتصاديًا كبيرًا زاد من حدته سحب صندوق النقد الدولي دعمه للفلبين، مما أجبر كبار التجار على اتخاذ موقف معارض للحكومة، فاضطر ماركوس إلى الإعلان عن إصلاحات جديدة ورفع قانون الطوارئ، لكن فقط بعد أن واصل تنفيذ عمليات اغتيال منظمة ضد المعارضين.

اغتيال "بينيجنو أكوينو"

في آب/أغسطس 1980، لقي المعارض "بينيجنو أكوينو" حتفه في عملية اغتيال، فأشعل مقتله موجة عارمة من الاحتجاجات، وخرج مليونان من الأهالي للمشاركة في مراسم التشييع. بدأت المظاهرات تخرج أسبوعيًا، ونظم رجال الأعمال مظاهرات ضخمة خرج فيها مئات الآلاف من الموظفين من مكاتبهم، وألقى الشباب من أسطح الأبراج قصاصات الصفحات الصفراء ودليل الهاتف، نظم المتظاهرون مسيرة امتدت 75 ميلاً، بين منزل أكوينو والمطار الدولي. من جانبه لجأ ماركوس إلى استخدام مزيد من القوة، وفي يناير 1983، أطلقت قوات الأمن النار على المتظاهرين وقتلت قرابة 11 متظاهرًا وجرحت العشرات، وواصل النظام انتهاج هذا الأسلوب حتى منتصف 1984، لكن ذلك لم يؤد إلا إلى مزيد من المشاركة الشعبية الواسعة في الاحتجاجات.

انتخابات 1984 والإضرابات الشعبية

برز اسم المعارضة كورازون أكوينو، أرملة أكوينو، في انتخابات 1984، ونجحت في حصد 60 من أصل 183 مقعدًا في المجلس التشريعي، على الرغم من العنف وسرقة الانتخابات وموالاة وسائل الإعلام للسلطة. أسس المعارضون أيضًا جهازًا شعبيًا قويًا لمراقبة الانتخابات NAMREL أسهم في الحد من التزوير.

تزامنت الانتخابات مع مزيد من الحشد ضد النظام فنظمت حملات إضراب أغلقت فيها المحال التجارية وتوقفت المواصلات عن العمل بما في ذلك السيارات الخاصة، ثم ما لبث هذا الحدث أن انتشر بسرعة إلى بقية المدن، فأوقفت الإضرابات في مدينة (باتان) 80 بالمئة من المواصلات العامة، بينما بلغت فعاليتها 95 بالمئة في مدن أخرى. وفي 1985 شكلت المعارضة تحالفًا قويًا جمع عددًا من الأحزاب والحركات، ونجح في إطلاق مزيد من الإضرابات الكبرى منها إضراب شباط 1985 الذي شارك فيه 140 ألف عامل.

الانتخابات المبكرة وبرنامج (انتصار الشعب)

تحت الضغط الشعبي والدولي، أعلن ماركوس عن انتخابات رئاسية مبكرة في 1986 ظنًا منه بأنها ستؤدي إلى انقسام المعارضة مجددًا. وعلى الرغم من مقاطعة بعض أطياف المعارضة، ترشحت أكوينو لمنصب الرئاسة وطالبت الجميع بالالتزام بالسلمية وشددت الكنيسة على هذا المطلب. في الوقت ذاته، نجح جهاز NAMREL في حشد نصف مليون متطوع لمراقبة الانتخابات في 90 بالمئة من مناطق البلاد، إلا أن ذلك لم يمنع النظام من التزوير ومهاجمة المنتخبين من قبل بلطجيته. وبمجرد أن أعلن عن إغلاق صناديق الاقتراع، بدأت المظاهرات الغاضبة تخرج بأعداد كبيرة، وتزايدت أعدادها مع الإعلان عن المزيد من الفروقات بين النتائج الرسمية ونتائج NAMREL.

خطبت أكوينو في جمهور من مليوني متظاهر وأعلنت فوزها بالانتخابات، كما أعلنت عن إطلاق برنامج (انتصار الشعب) المؤلف من سبع مراحل من العصيان المدني الشامل، شمل إضرابات عامة، سحبًا للأرصدة من البنوك، مقاطعة الإعلام الحكومي والموالي، وإطلاق حملات الضجيج الليلية. قالت أكوينو:

إذا رفض "جالوت" التنحي، سوف نواصل تعزيز ترسانتنا اللاعنفية، ونواصل تصعيد كفاحنا السلمي.

أربعة أيام حاسمة - سقوط ماركوس

قبل دخول برنامج (انتصار الشعب) حيز التطبيق، وتحديدًا في 22 شباط، فوجئ ماركوس بتمرد عسكري خطط له وزير الدفاع، خوان إنريلي، ونائب رئيس الأركان فيديل راموس، مع مجموعة من الضباط. لكن مخطط الانقلاب تم فضحه، فجمع إنريلي 400 جندي وتحصنوا في معسكر قريب، وأعلن راموس في مؤتمر صحفي عن أدلة يملكها على سرقة الانتخابات من قبل ماركوس وأن الرئيس الحقيقي للبلاد هي أكوينو.

في الليلة ذاتها، أعلن الكاردينال سين دعمه للضباط المنشقين، فتوافد عشرات الآلاف من المواطنين العزل إلى المعسكر وقدموا الأطعمة والمواد للجنود، وأنشؤوا دروعًا بشرية لمنع الجيش من الهجوم على المنشقين. من جانبه، أرسل ماركوس وحدة بحرية مدعومة بالمدرعات والدبابات، لكن الشباب المدربين على اللاعنف جلسوا أمام الدبابات دون حراك، وهم يحيون رجال الجيش بالزهور ويصلون لهم ويدعونهم للانشقاق والانضمام إلى الناس. وبالنتيجة انسحبت الدبابات دون إطلاق رصاصة واحدة، وأعلن عن تمرد الجيش ضد الحكومة، وفي الوقت ذاته رفض طيارو سلاح الجو الأوامر الرئاسية بقصف مواقع المنشقين.

في 24 فبراير، صرح الجنرال "فابيان فير" عن نيته "سحق المنشقين"، فردَّ بعض المسلحين من المعارضة باقتحام القناة الرسمية الرابعة، واشتعل إطلاق النار بينهم وبين جنود النظام في وقت تدفق فيه عشرات الآلاف من المواطنين العزل ليمنعوا وحدات الجيش من السيطرة على القناة. مساء ذلك اليوم، زارت أكوينو مع عائلتها الحواجز التي أقامها الناس أمام المعسكر وشرعت تغني معهم أغاني ثورية، ثم قامت صباح اليوم التالي بتشكيل حكومة جديدة موازية، وبعد ساعتين فقط ردد ماركوس بدوره القسم في القصر الرئاسي.

تواصل احتشاد الناس سلميًا في معظم أنحاء البلاد، وتواصل انشقاق المسؤولين والجنود بسرعة كبيرة عن النظام، فأعلن ماركوس عن نيته مغادرة البلاد، وبالوساطة بين المعارضة والحكومة الأمريكية تم نقله مع ثلاثين من أفراد عائلته إلى قاعدة أمريكية ومنها إلى هاواي. بدأت الحشود تتوافد إلى القصر الرئاسي، وحدثت بعض الصدامات مع بقايا الموالين للنظام، لكن الحشود تمكنت من فتح أبواب القصر ولم تحدث عمليات سرقة أو تخريب واسعة، وكذلك لم يسجل وقوع أي ضحايا ونامت العاصمة بهدوء تام في تلك الليلة.

وصف أحد المعلقين انتهاء الأزمة في الفلبين قائلاً:

بعد المظاهرات العنيفة هناك دائمًا خطر من تصفية حسابات قديمة، وتغذية أحقاد دفينة، ولطالما كان ذلك سبب في استمرار دورة العنف، ولكن بما أن الشعب نجح في إحداث تغيير سياسي شامل دون استخدام العنف، لذلك بدت مسيرة المصالحة الوطنية أسهل بكثير.

*** *** ***


 

horizontal rule

* المصادر: A Force More Powerful- A Century of Nonviolent Conflict بيتر آكرمان وجاك دوفال؛Why Civil Resistance Works  إيركا تشنويث.

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني