نشأة الكون بين الخلق والتجلي والأزلية

 

محمد علي عبد الجليل

 

قدَّمت الأساطيرُ والأديانُ والفلسفاتُ عدةَ نظريات لتفسير نشأة الكون، ومنها: نظرية "الخَـــلْق" création (التي تبنَّــــتْها الأديانُ الإبراهيمية، اليهودية والمسيحية والإسلام، المعروفة بتوجُّها النقلي لا العقلي والأسطوري لا العلمي)، ونظرية "التجلِّي" manifestation (التي تُـــفهَم أحيانًا كمرادِف لنظرية "الصُّدور" ["الخُروج" أو "الانبثاق"] procession)، ونظرية "الفيض" émanation (خاصةً عند الفارابي وإخوان الصفا)، ونظرية "الواحدية" أو "الحلولية" ["الحلول"] ["الكل هو الله"] panthéisme، ونظرية "وحدة الوجود" ["الكل في الله"]panenthéisme  (أو بترجمة أدق: unité de lÊtre) (عند ابن عربي بصورة خاصة)، ونظرية "الأزلية" ["قِــدَم العالَم" أو "الدهرية"] éternité.

ولكنْ يرى رونيه غينون René Guénon [عبد الواحد يحيى] (1886 – 1951) أنَّ فكرة التجلِّي لا تتعارض مع فكرة الخَـــلْق، بل إنَّ الفكرتين تعودان إلى مستويين مختلفين (راجِعْ: لمحات حول الباطنية الإسلامية والطاوية، باب "الخَلق والتجلِّي" [Aperçus sur l’ésotérisme islamique et le Taoïsme, chapitre « Création et manifestation »]، غاليمار، 1973، ص 88 - 101).

يشير "الخَـــلْق" إلى معنى "الإيجاد من العدم". ولكنَّ رصْد الواقع يشير إلى استحالةِ "خروجِ" (أو "إخراجِ") شيءٍ من العدم. وبالتالي فإنَّ الواقع لا يُـــثبِت فكرةَ الخَلْق كإخراج من العدم بل فكرةَ الفيلسوف أناكساكوراس Anaxagore (500 ق. م. – 428 ق. م.) التي تقول بأنْ "لا شيء يولد ولا شيء يفنى ولكنَّ الأشياء الموجودة سلفًا تتركَّب مع بعضها ثم تنفصل عن بعضها من جديد"، هذه الفكرة التي تبنَّاها الكيميائيُّ الفرنسي أنطوان لافوازييه Antoine de Lavoisier (1743 – 1794) ("لا شيء يضيع ولا شيء يُخلَق، كلُّ شيء يتحوَّل"). بالمقابل، فإنَّ فكرة "الإيجاد من العدم" فكرة غامضة. وحتى مفهومُ "العدم" مفهومٌ ميتافيزيقي غيرُ واضح. ولكنَّ الاعتراض ليس على فكرة "الخَـــلْق" كـــ"ظهور تلقائي من عدم" (أو بالأصح كتحوُّل من حال إلى حال) ولا على فكرة "العدم" بحد ذاتها، بل اعتراضنا هو على فكرة "الإيجاد من العدم"، وتحديدًا على فكرة "الإيجاد" ("الإخراج") التي تشير إلى وجوبِ وجودِ كائنٍ موجِـــدٍ يقوم بـــ"إخراج" الشيء من العدم، كائنٍ "إذا أرادَ شيئًا أنْ يقولَ له كُــنْ فيَكونُ" (سورة يس، 82). إذْ لا داعي من الناحية العِلْمية لوجود موجِد يحوِّل المادةَ من حال إلى حال أو يُخرِجها من عدمٍ ما (فـتَـحوُّلُها أو خروجُها من حالة إلى حالة تلقائي) مثلما أنه لا داعي لوجود كائن يجعل ناتجَ جمْعِ اثنين زائد اثنين يساوي أربعة (المثال لستيفن هوكينغ).

إنَّ فكرة الخَلْق يَـــنتج عنها فكرةُ العبودية التي تسيطر من خلالها الأديانُ الإبراهيمية. ولكنَّ الإنسان الحاضر المنتبه (كالصوفي مثلاً) يتجاوز بوعيه مستوى الخَلْق ("الصوفي غير مخلوق لأنه معدوم"، كما ذكر العطَّارُ عن أبي الحسن الخرقاني). وكأنَّ فكرةَ الخَــلْق، كما يؤكد رونيه غينون، تعود إلى مستوى رؤية مختلف، ربما أدنى وأكثر مادية. فإذا غيَّرْنا زاويةَ الرؤية يتغيَّرُ المَـــشهدُ فلا نعود نرى خَــلْـــقًا بل تَـــجَـــلٍّ أو حُلولٌ أو دورةٌ أزليةٌ أو غير ذلك.

وبينما يرى الفيلسوفُ الحاخام موسى بن ميمون Moïse Maïmonide (1135/1138 – 1204)، في كتابه دلالة الحائرين، أنَّ نظريتَيْ الخَلْقِ والأزليةِ لا يمكن إثباتُـهما (راجِعْ: جورج هانسِل Georges Hansel [جامعة روان Rouenخَــلْقُ العالَم وقِدَمُــه عند ابن ميمون [« Création et éternité du monde selon Maïmonide »]، محاضرة في مركز إِدمون فليغ centre Edmond Fleg، http://ghansel.free.fr/creation.html)، تميل الفيزياءُ الحديثة بقوةٍ إلى نفي فكرة "الخَــلْق". إذْ يشير ستيفن هوكينغ Stephen Hawking (1942-)، على سبيل المثال، إلى أنَّ العِلم قادرٌ على تفسير الكون مِن دُونِ الحاجة إلى خالق وأنَّ قانونَ الجاذبية (الناتج عن "نظرية-إم" [نظريات الأوتار]) ونظريةَ الكَم يؤدِّيان إلى نشوء الأكوان تَلقائيًا من العدم.

إنَّ فكرةَ أزليةِ المادة (قِدَم العالَم) التي كان مِن أنصارِها أرسطو وابنُ سينا وابنُ رشد ومعظَمُ الفلاسفة والفيزيائيين لا تتعارض مع فكرة وجود بداية لكوننا، أيْ لا تتعارض مع نظرية "الانفجار العظيم" ("البيغ بانغ") في علم الكون (الكوسمولوجيا). كلُّ ما في الأمر هو أنَّ المادة تتحوَّل من حال إلى حال وتختفي لتظهرَ من جديد. وما يسمَّى ببداية الكون أو بالانفجار العظيم قد يشير إلى مرحلة جديدة وحالة جديدة من المادة الأزلية تعطي كونًا جديدًا ذا قوانينَ جديدة دُونَ الحاجةِ إلى افتراض وجود خالق؛ فالمادة موجودة وأزلية وفي تغير مستمر.

لقد ظهرَتْ فكرةُ "الخَـــلْـــق من العدم"، على ما يبدو، كانعكاس لفكرة التناسل والإنجاب والولادة، فعكسَتْ صورةَ الأب وسلطةَ الذَّكَـــر. إنَّ فكرةَ "الإله-الخالق" تنبثق على ما يبدو من فكرة "الأب-الوالد". وبالتالي تــمَّ إضفاءُ صفاتِ "الميكروكوسموس" (الكون الصغير، الإنسان في وجهه الذكوري) على "الماكروكوسموس" (الكون الكبير) ومِن ثَـــمَّ على الله الخالق-الصانع. فصورةُ "خالق الكون" ليست إلَّا تكبيرًا وتوسيعًا وتعميمًا لصورة "الأب-الوالد" لتشملَ كلَّ الوجود. كما أنَّ الخِـبرةَ اليوميةَ ورَصْــــدَ الظواهرِ الطبيعية دفعَــتا الإنسانَ إلى تبَـــنِّي فكرةِ السببية (العِـــلِّـــيَّة)، ثم إلى سَـحْـبِ هذه الفكرة على كلِّ شيء، فيقولُ الإنسانُ: "بما أنَّ لكلِّ شيءٍ مُـــسبِّــبًا مهما كان هذا الشيءُ صغيرًا فحَرِيٌّ بهذا الكون الكبير العظيم المنظَّم أنْ يكونَ له مسبِّب". ولمَّا أرادَ الإنسانُ أنْ يبحثَ عن مسبِّب لهذا الكون فكان من الطبيعي أنْ يَــخلقَ تصوُّرَه أو تصوُّراتِه عن هذه المسبِّب انطلاقًا من خبرته اليومية، فكانت الصورةُ النفسيةُ والدينيةُ والفكريةُ لهذا المسبِّب انعكاسًا لصفات الإنسان نفسِه ولصفاتِ عناصرَ من بيئته. وبذلك كان اللهُ الخالقُ-الصانعُ، كصورةٍ ذهنيةٍ، ابنَ الإنسان وابنَ بيئته. ولكنْ لم يُــطَــبِّــقِ الإنسانُ مبدأَ السببية هذا على الله مسبِّب الكون معتبرًا إياه المسبِّبَ الأول حتى لا يَدخلَ في فكرةِ لانهائيةِ المسبِّبات ربما لأنَّ اللانهاية فكرةٌ تفوق التصوُّرَ أو ربما لأنها غيرُ مريحةٍ ومشوِّشةٌ للإنسان ككائن متعيِّن متحدِّد بزمانٍ ومكان فيبحث عن جواب محدَّد وعن صورةٍ متعيِّنة لإلهٍ-مسبِّبٍ يَـــسنُـــد إليها ظَـــهرَه. عِلمًا أنَّ الفيزياء الحديثة قالت هي الأخرى بمسبِّب للكون وهذا المسبِّبُ يتمثَّلُ في قانون الجاذبية ونظرية الكَم.

ولكنَّ الميثولوجيا الهندوسيةَ والثيوصوفيا اللَّتَينِ تَـــقْـــبلان فكرةَ الخَـــلق كظهورٍ جديد للمادة الأزلية توضحانِ هذه الفكرةَ على مستوى الكون، مُـــشيرتَـــينِ إلى عَصرَينِ كوسمولوجِـــيَّــينِ [كَـــونـيَّـــينِ]: (1)-المَــــنْــــفَــــنْــــتَــــرَى [المَـنْـــوَنْـتَــــرَى] Manvantara [فترة التجلِّي الكوني أو نهار براهما] (الذي قد يساوي أكثرَ من ثلاثمِئة مليون سنة)، (2)-والبْــــرَلَـــيَى [الاِبْــرَلَــيَى] Pralaya [فترة الراحة الكونية أو الانحلال أو الفناء الكوني أو ليل براهما] (الذي قد يساوي أكثر من أربعة مليارات سنة). حيثُ يُشكِّـــل كونُنا الحاليُّ أحدَ نهاراتِ براهما الدورية، أيْ منفنترى واحد كان قد سبَـــقَـــه ليلٌ براهمي (ابْـــرَلَيَى) وسوف يَلِيه ابْـــرَلَيَى آخر، وهكذا ضمن دَورة أزلية. أي أنَّ المادةَ والأكوانَ تَظهَر وتختفي تَــلقائيًا كَوَمَضانٍ أو تلألؤٍ أزلي لا أولَ له ولا آخر. فبعدَ راحةٍ كونية، بدأ (أو ظَهَرَ) كونُنا هذا بانفجار هائل من نقطة ثم أخذَ يتمدَّد حتى يتلاشى ثم سيموت لتبدأَ فترةُ فناء كوني جديدة سوف يليها كونٌ جديد بقوانينَ جديدةٍ وهكذا إلى ما لا نهاية.

وما براهما الخالقُ-الصانعُ إلَّا رمزٌ لعمليةِ التلألؤِ التلقائي الأزلي للمادة، عمليةِ الظهور والاختفاء الدوريةِ الأزلية. لكنَّ الأديان الإبراهيمية (السامِيَّة) لم تأخذْ بعين الاعتبار المراحل التي سبقَتْ كونَنا ولم تطرحِ السؤالَ جدِّيًا عمَّا إذا كان هناك شيءٌ أو لاشيءٌ قبل كونِنا. فاقتطعَتْ كونَـــنا الذي هو حلقةٌ من سلسلة لانهائية اقتطعتْه مِن الأزليةِ ونظرَتْ إليه كوحدة منفصلة مستقلة متكاملة. ولذلك افترضَتْ وجودَ صانعٍ حقيقي له، كنملةٍ ترى سقوطَ ورقةِ شجرٍ على الأرض باعتبارها حدثًا مستقلاً وكونًا منفصلاً دُونَ أنْ تنظرَ إلى تاريخ الشجرة ولا إلى تعاقُــبِ الفصول فتضطرُّ إلى افتراض وجود كائن رماها مِنْ عَـــلُ. فمِنَ الطبيعيِّ للمؤمن بالأديان الذي اتَّخذَ زاويةَ نظرِ النملة ووعيَها أنْ يتشبَّثَ بفكرة الخالق. يبدو أنَّ الأديان حاولَـتْ وَصْفَ مرحلةٍ واحدة فقط من مراحل الوجود المادي الأزلي وهي مرحلة المَــــنْــــفَــــنْــــتَــــرَى الحالية، لا بل وصفَتْ جزءًا قصيرًا منها وبطريقة الأمثال والقصص والأساطير.

أمَّا على مستوى الذَّرَّة فإنَّ فيزياء الكَـــمِّ تؤيِّد فكرةَ تحوُّلِ جُسيم من حال إلى حال في شروط معيَّنة دُونَ الاضطرارِ إلى افتراضِ وجودِ كائنٍ خفيٍّ يقوم بأصابعه الخفيَّة بعملية تحويل هذا الجُسيم أو خَــلْقِه من لاشيء. فمبدأ الريبة (اللايقين) الذي صاغَه الفيزيائيُّ الألماني فرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg (1901 – 1976) يؤكِّد إمكانيةَ ظهور فوتون بصورة مفاجئة في موضع ما واختفائِه بعدَ ذلك بسرعة كبيرة ليظهرَ في موضع آخر (أي تحوُّله) دُونَ التمكُّن من معرفة كل شيء عنه بدقة، على غِرار "ظهور" الكون ليس من العدم و"تحوُّلِه" إلى حال أخرى، إنْ صحَّ التعبير. فمبدأ الريبة يشير إلى استحالة اليقين في معرفة شيء بدقة تامة، بينما تقوم الأديانُ على يقينيات. فالعِلم يقوم على الشك في كل شيء في حين أنَّ الدين يقوم على اليقين بامتلاك الحقيقة المطلقة، خاصة في حدوث قصص خيالية لها مغزى رمزي. إنَّ الحركة أو التلألؤ أو التموُج الدَّوريَّ السريع والقصير المتمثِّــل في ظهور الفوتون واختفائه (ليس انعدامه) يُـحاكي على ما يبدو التلألؤَ الدَّوريَّ البطيءَ والطويلَ المتمثِّلَ في ظهور الكون واختفائه. فـقانونُ التماثل أو التوافق يشير إلى أنه "كما في السماء كذلك على الأرض" [الصلاة الرَّبِّـــيَّــة]، و"كما في الأعلى كذلك في الأدنى" (“As above, so below”)، وبالتالي، كما في الكون كذلك في الذَّرَّةِ[1].

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] راجِعْ: ثيودور روجاك Theodore Roszak، صوت الأرض: استكشاف الأنا الإيكولوجي، مجلة معابر، ترجمة معين رومية، http://www.maaber.org/tenth_issue/deep_ecology_1a.htm. راجع أيضًا: فيليكس إيشباخر Felix Aishekhar، الفِراسة وقوة الحدس، تعريب: كامل محمد إسماعيل، 2004، ص 213

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني